عن دار “الغاوون" ستصدرُ قريباً رواية فاطمة الحسّاني الجديدة (لمَ يسرقون أحلامنا؟) والحلمُ في روايتها حياة ٌ، تُقمعُ وتُقبر في ظلّ تقاليد بالية لا تنتمي الى الزمن الجديد، تتكيءُ على هيمنة الأبُ، فهو سجّانٌ يُقصي الآُنثى عن مستلزمات الحياة التي هي حقُّ من حقوق أفراد العائلة، ويظلّ خارج أنوار الزمن يتعكّز على ثقافة ماضوية، يلوبُ في دروبها المنسية، وتستحيلُ كائنات العائلة تحت هيمنته الصارمة الى مومياوات تُدفن في جنبات الحياة وهي تتمتع بألاء الزمن الجديدة. روايةُ فاطمة تمرّدٌ وخروجٌ على الفكر الظلامي يتلفعُ به أبٌ ما زال يرتدي جلباب آبائه الآفلين سلوكاً وفكراً. فاُخته، وقد هدّها الكبر، لم تزل عانساً حُرمت من الزواج، بل هي عالة ٌعليه، ويريدُ لبناته، على الرغم من حصولهن على شهادات جامعية، أن يجري بهن العمرُ في مجاري العنوسة، فمَنْ يتقدّمون الى زواجهن لا يُلبّون قناعاته الأجتماعية. وحين يفورُ البيتُ ويتورمُ لا بدّ من الآنفجار. والانفجار تحقق من لدن “كنز”الابنة ُ التي تهيّأ لها ظرفٌ استثنائي للدراسة على حساب الدولة في لندن بعد نقاشات وتعهدات صارمة. ثمة َ انغمست في خضم المجتمع اللندني، ورفّ قلبُها لأول بارقة حبّ صادقة. كان عليها أن تعود بعد اكمال الدراسة، إلاّ أنّ مصادفة رمتها في طريق شابٍ عراقي وتحابّا، فتغيّرت حياتُها، وتزوجتُه، على الرغم من إعتراض الأب وحده وليس كلّ العائلة، فآزرتْه الأُخوانُ الخمسة والاُختان والاُم. واذا ومضت شرارة في مكان ما فسيعم الحريقُ. ثمّ لحقت بها اختاها وهما أكبر سنّاً منها. فاحتوتهن الحياة ُ اللندنية بتقاليدها الحضارية الأوربية.
ثلاثُ بنات هربنَ من السجن، حطّمنَ اسارهن، وعشن في الغربة اللندنية بلا تعقيدات ولا رقباء، كما لو كنَّ من بناتها. واذا كان الأبُ في رواية الحسّاني صنماً مُتجلبباً ثوب ماضيه الخلق، الا أنّ الأبناء الثمانية كانوا منفلتين خارج قناعاته المُندرسة بعيداً عن بؤر الظلام , الرواية ُ لا تُفصحُ بصريح القول كي نقطع دابر التقاليد التي تكتم أنفاسنا، لكنّها تُشيرالى الخطأ وكيف نتخلّصُ منه، ونخرج على واقع الجهل والتخلف الذي سوّرنا وكبّلنا بأغلال الماضي .
وفي لندن فرصٌ جديدة لحياة مُغايرة تعيشها الأخوات الثلاث، كنز متزوجة ولها زوج يُحبّها وولدان. فيما تتغيّر حياة ُ الاُختين. الوسطى تعود الى العراق لايجاد طفل تتبناه، ثمّ تجد اثنين، ياسر واُخته فلّة، وحين تختار "ياسر “وحدَه يرفض الا اذا صحبته اخته التي ليس لها من أحد سواه، هنا تجهش بالبكاء، فيتمرأى لها معدنُ العراقيين الأصيل الذين يضحون من أجل غيرهم، وفلة ُ ليست غيراً، بل اُخته، وفُجعاً معاً بفقد ابويهما في حادث تفجير ارهابي عشوائي. فكيف يتركها وينعم بالحياة الآمنة من دونها. بينما تقع الاُخت الكبيرة في حبّ رجل ستيني فقد زوجته، واحبّها كذلك، وله ولدان تركاه لينصرفا الى حياتهما الجديدة. وتنتهي الرواية ُ هنا. لكن بايّة ايقاع كتبت فاطمة ُ روايتها هذه ؟ ففي ظني أنها اغترفت من كلّ فن. ففيها أنفاسُ الواقعية لكن بوتيرة حداثية، وفيها محاكمة جدلية للفهم العراقي بمستوياته الماضوية والحضارية، انها تعرّي مَنْ لا يزالون يعيشون في دياجير أمسهم فيقطعون الطريق على غيرهم لئلا يتصلوا بالمستقبل. وكذا توميء الى شرائح، وهي الأكثرية أو ستكون الأكثرية، تُمزّق الشرنقة لتُصافحَ الزمن بآفاقه الحداثية التي لا بدّ أن تجيء وتكتسح القديم الذي ما زال يعشعشُ فينا ليكون نسياً منسيّاً .
في الرواية تسلسلٌ جدلي لا يتعثرُ بمطبات تداعيات مكانية وزمانية تعرقلُ جريان الحدث ومسلماته. فالناس في هذه الرواية متعددون، وأفكارهم متباينة لكنّهم لا يتصادمُون و لايتقاطعُون، سوى الأب الذي تسوّر بثوابته البالية لا يتزحزحُ ولا يتخلّى عنها. ولدى فاطمة في روايتها هذه معادلاتٌ وأسئلة، فلا يمرُّ القارئ بجريانها وتناميها بعشوائية، وانّما يُعايشُ الحياة العراقية، مجتمعاً وفكراً وعواطف وبشراً، في أوضاع مختلفة ومن بيئات متباينة .الحسّاني لاتخوض في متاهات التقعر والتماهيات اللامجدية، لكنّ وتائر سرديتها تتصاعدُ مسكونة بنسيج الحداثة. لغة ً وإنسياباً ملتزمة الزمن الروائي بكلّ ثوابته التي تجعل منها حياة ًأخرى تجري الى جوارنا ومع كينونتنا المنغمسة في العمل والعلم والتعليم والفرح والمتع التي تزيح أحزاننا أو تطوفُ فوقها وتحجبها عن الرؤية .
شاعر وفنان تشكيلي عراقي