أعجبني في أيام دراستي الفنية لأجهزة الطيران آلية عمل تسمى منظومة تصحيح الارتفاع، ومهمتها ببساطة هي حفظ مستوى إرتفاع الطائرة عن سطح البحر أثناء طيرانها بطريقة آلية وبصفة مستمرة في مدار منتظم، وفي حال عطل هذه المنظومة ربما تخرج الطائرة إلى مدار أعلى من المقرر لها من سلطة الطيران المختصة، ويعرضها ذلك للخطر أو ربما يعرضها لما هو أخطر، وهو الخروج من المجال الجوي للأرض كلها، لأن الطائرة يجب أن تأخذ درجة ميل معينة كل فترة زمنية معينة بطريقة آلية، حتى تستطيع أن تطير فوق سطح الأرض الكروي في مدار موازي له وعلى ارتفاع محدد سلفاً، تقرره وترصده السلطة المختصة على شاشات الرادار وتنبه وتحذر في حال تجاوزه. أو الخروج عليه.
وكذلك يحتاج الإنسان كل فترة أن يصحح مقاييسه في الحياة ودرجة توازي مداراته ومساراته مع مدارات، ومسارت المجتمع الذي يعيش فيه (والمحددة سلفاً بواسطة القانون)، وإلا وجد نفسه فجأه خارج الإطار أو خارج المجال أو خارج المدار. فتطبيق المثالية الزائدة والتطرف والغلو في تطبيق مبادئ ومعايير السلوك البشري بدءآ من النظافة الشخصية وحتى العقيدة الدينية دونما الرجوع إلى آلية التصحيح الذاتي للإنسان المرتبطة بتغير الزمان والمكان والبيئة، قد يدفع هذا الغلو والتطرف الإنسان أحياناً دون وعي إلى الخروج من المجال، ومن ثم يبدأ الصدام مع النفس ومع المجتمع.
وكأنواع الطائرات وقدراتها وقوة محركاتها يختلف البشر في القدرة على التحليق في المدارات القريبة أو البعيدة من سطح الارض، كل حسب إمكاناته اللغة والثقافة والطموح وبيئة المجتمع وحتى المناخ، وعلى سبيل المثال فالمدار الفكري للشخص الأمي بلا شك مختلف في مستواه عن مدار فكري لشخص يعرف ثقافة ثلاث لغات.
وآلية التصحيح الذاتي موجودة داخل كل إنسان مكوناتها العقل والثقافة والضمير، والإنسان حر الإرادة في تعيين القياس النسبي له في الحياه بما يتناسب مع مكوناته وإمكاناته وطموحة وربما يخضع الإنسان لمؤثرات خارجية كالإعلام والموروث الديني أو الثقافي أو المستوى الاجتماعي فتلك المؤثرات تحدد مساره في الحياة إما متناغماً مع المجتمع متاثراً ومؤثراً أو معتزلاً ناقماً حانقاً أو ربما رائداً مجدداً متحدياً الناموس السائد متطلعاً إلى تغييره وترقية المجتمع كله إلى مدارات أعلى وأرقي.
وما هؤلاء الذين ندعوهم مرضى النفوس أو العقول ماهم إلا أناس أصاب آلية تصحيح مساراتهم الذاتية خطأ ما في مرحلة ما من حياتهم، أخرجهم ذلك الخطأ إلى مدارات غريبة، حياه أخرى في مدارات وعوالم أخرى من صنع خيالاتهم لا تطبق فيها قوانين الطبيعة السائدة.
وطبقاً لنسبية الأشياء لا يمكن الحكم المطلق على أناس بأنهم خارج المدارات فلكل زمن مداره ولكل زمن رواد اقتحموا فيه مدارات جديدة، فبينما حلق ابن رشد وغاليليو وأينشتاين في مدارات اعتبرت في عصورهم شططاً، في الوقت الذي لم يعد مستغرباً فيه اليوم أن يخرج الانسان من مجال الارض كله إلى مدارات انعدام الوزن ويسبح في فضاء الكون ويصل إلى كواكب أخرى، والمفارقه أن ما يحدث اليوم هو بفضل هؤلاء الذين غامروا في الأمس بارتياد مدارات جديدة متحدين مخاطر ومحاذير جمه ولا يزال أمثال هؤلاء في كل العصور هم رواد تقدم الإنسانية.
ورقي المعارف في المجتمعات هو الذي يرفع سقف الحرية للإنسان، ويجعله مؤهلاً لإرتقاء مدارات جديدة أعلى وأرقى ولا حظر على ارتيادها والتجوال فيها بحرية، والآلية الوحيدة المخول لها مراقبته هي آلية ضميره الحي، أما في المجتمعات التي يسودها انحطاط الفكر وسيطرة الخرافة تستطيل فيها كل يوم قائمة الهرطوقيين، هؤلاء الذين لا يملون محاولة اختراق التابوهات المقدسة أو المدارات المقدسة المحدد سقف ارتفاعها سلفاً، وهؤلاء يتم إبادتهم نفسياً أو جسدياً بواسطة فرق مدربة وممولة فرق تفتيش منشأه خصيصاً لفحص القلوب والعقول والكلي وتفتيشها بدقة بحثاً عن أي آثار لإجتياز المدار المقدس إلى مدارات غريبة، ولم يمل هؤلاء (الهراطقة) في كل العصور محاولات اجتياز تلك الأسلاك الشائكة التي تحيط بتلك المجتمعات البائسة المرتجفة في محاولات بعث مضنية ينتهي معظمها بالفشل.
والمجتمعات التي تعتقد أنها في مأمن متدرعة بهذه الأنظمة الفاشية للحفاظ على هذا المدار المنحط الذي يسبح فيه عقل مكونها البشري مرغماً، ليسهل اقتياده بنظام القطيع هي مجتمعات عمياء فاقدة للبصر والبصيرة فيوماً ستتمرد هذه العقول إن عاجلاً أو آجلاً عندما تضيق علىهم بقعة الظلام الدامس وتزداد حلكة يوماً بعد يوم ويحلّ يوم الانفجار العظيم.
وعندما ثار الهرطيق الكبير لوثر على نظام العبودية المتجذر وخرج من المدار (المقدس) لم يكن وارداً على الإطلاق هذه النتيجة المذهلة بعد أكثر من نصف قرن أن يحكم العبيد أمريكا وتندثر كل فرق ومحاكم الإرهاب والتفتيش. صحيح أن لوثر دفع حياته، لكن ما قيمة حياة شخص أمام حياة شعب.
والذين يظنون أن ثورة ابن خلدون وابن رشد وابن عربي تم قمعها إلى الأبد هم واهمون، فبعد قرون لايزال تلاميذهم سائرون على نفس الدرب محمد عبده، وطه حسين، والجابري، وابن أركون وغيرهم كثيرون، ولهؤلاء أيضاً تلاميذهم وهم في انتظار الفرصة السانحة لاختراق سقف الحرية الذي أجبروهم على المشي تحته، منحنين لقرون طويلة في انتظار الفرصة للارتقاء إلى مدارات أعلى، عندئذ سيثبت علىهم ارتكاب أم الكبائر خطيئة الهراطقة، خطيئة الخروج من المدارات المقدسة.