(1)
إنه الصراخ يقتلع حيطانَ الغرفةِ الكالحةَ. في تلك الزاوية من الحلم يبدأ المنفى بكاءه حنيناً إلى ذاكرة صارت مَنفى. كل أجزاء صوتها يتداخل في جليد المنافي، والنسوة حولها يحاولن التخفيف من ألمها.
- استعيني بالله يا أم بسام، لستِ أول واحدة تلد في هذا العالَم، وهذه ليست أول مرة، فقد صرتِ خبيرة في الولادة.. لقد صارت نسوان هذا الجبل مثل الأرانب، الواحدة لا تعرف إلا الحمل والولادة.
قالت الحاجة سعدية وهي تتأفف بصوت عالٍ ممزوج بمشاعر متضاربة، فهي تنام في الجلسة ثم تستيقظ على صراخ أم بسام.
وتدخلت إحدى النسوة في هذه المعركة لتثبت أن لها وزناً في جلسة الولادة هذه، فقالت وقد أخفت العلكةَ في قلعة حصينة في فمها الواسع:
- لا وقت لهذا الكلام، المرأة تموت أمام عيوننا، وتضيع من بين أيدينا. وحتى الآن لم يأت ابنها، أرسلناه لإحضار الداية عواطف لكي تُوَلِّد هذه المسكينة، فلم يأت بسام ولا عواطف.
لم تقدر أم بسام على الرد، ودخلتْ في صراخ أشد من ذي قبل، فجسدها شعلة نار في الصحاري الجليدية. جِلْدها يتمزق كمداخن أكواخ الخنجر الدائم. بطنها أضحت معقلاً لكل الانقلابات العسكرية في العالَم. إن ناراً تريد الخروج من رحمها. اشتدت عليها الآلام بصورة دَفَعَتْهَا إلى الدخول في غيبوبة سريعة، ثم أفاقت وهي لا تكاد تميِّز وجوه النسوة المحيطات بها. إن أحشاءها في تلك اللحظات كرة نارٍ في ذاكرة منجنيق وُلِدَ في المعركة، وعاش في المعركة، ومات في المعركة.
وحينما تمالكت أم بسام نفسَها، ركَّزت في وجوه النسوة الجالسات حولها.
بدت وكأنها تريد افتراس الملامح النسائية لكي تميِّزها بشكل دقيق. مدَّت يدها تحت الوسادة بتثاقل رهيب، وبدا أنها تسحب شيئاً ما كأنها تنزع جثةً ثقيلة من بئر سحيقة.
وبعد أن فرغت من رحلة الاستكشاف تلك، ارتسمت على محياها ابتسامة عريضة وهي تمسك علبة دُخان مع القداحة.
نظرت النسوة إلى بعضهن البعض في استغراب، وقالت إحداهن - وأظنها الحاجة سعدية-:
- ليس وقت الدخان الآن يا أم بسام. أنتِ بين الحياة والموت. لا تُدمِّري صحتك، وتضيِّعي نَفْسَكِ يا حُرْمة.
تدخلت زليخة الأرملة بعد أن قَطعت أفكارها الشاردة مع ابنها يونس الذي يعمل ميكانيكي دبابات في الجيش، ولم يأخذ إجازة منذ مدة طويلة:
- اتركيها تُدخِّن يا سعدية. سيجارة واحدة لن تقضيَ عليها، اتركي كلام الأطباء، هؤلاء دجالون يبيعون الكلام في الهواء من أجل الفلوس، ولا يفهمون شيئاً.. اذهبي إلى أية مستشفى، ستجدين الأطباء يغازلون الممرضات في غرف العمليات، والناس يموتون مثل الفئران.
انقطع نَفَسُها من كثرة الكلام. وبعد أن تنفَّست بعمق، قالت:
- أنا زليخة على سِن ورُمح، أفهم أكثر من كل الأطباء الذين درسوا في بلاد الأجانب. لي عشرون سنة أُربِّي الأرانبَ على سطح الدار، وأُجري لها عمليات ولادة وعمليات جراحية. ولم يمت أيُّ أرنب في أي عملية. هذا هو الشغلُ على أصوله.
كانت زليخة امرأة أُمِّية تلقي الكلام ثم تفكر فيه. وهي تعيش حياتها ببساطة ساذجة. وقد كرهت الأطباء وعلم الطب وكل ما يتعلق به منذ أن طردها أحد الأطباء من باب المستشفى لأنها لا تملك ثمن العلاج.
ربما كانت هذه الحادثة قبل أربع سنوات أو أكثر. لستُ متأكداً بالضبط. فقد كُسِرت رِجْلها على سطح بيتها عندما حاولت وضع الذُّرة للحمَام فسقطت على الأرض. وذهبت إلى المستشفى بالعكازة، وبمساعدة الحاجة سعدية، ولم تكونا تملكان أجرة سيارة التاكسي، فكان الطريقُ قطعةً من الجحيم، وحينما وصلت إلى باب المستشفى طردوها، فوقعت على الأرض، ووقعت عليها العكازة. ومنذ تلك اللحظة أعلنت الحرب على الأطباء كلهم، وكرهت المستشفيات.
كان بسام يتبختر في مشيته كأن شيئاً لم يكن. اشترى قطعة شوكولاتة من النوعية الرخيصة من بقالة الخيَّامي، ومضى إلى بيت الداية عواطف، والأزقةُ القذرة تقتل رائحةَ ظلالها مثلما تخرج جثامين أسماك القِرش من كتابات الأولاد على الحيطان البائسة. صارت الأزقة تضيق وتضيق، وكلما ضاقت أكثر عَرف أن البيت المقصود صار أقرب.
ففي جبل النظيف، ذلك المكان المنسي في حِبر الخرائط، والبُقعة المنبوذة في تاريخ أحزان الشوارع غير المعبَّدة. ذلك المستودع من أسرار النساء المسحوقات والرجال العائشين على الهامش بلا مستقبل أو أحلام، حيث وجوه الناس مُصادَرة، وأحلامهم موؤدة قبل أن تُولَد. كلُّ عجوزٍ تَجلس على درج بيتها تنتظر ما لا يأتي، وكلُّ أرملةٍ تخيط أحزانَها في ليالي الشتاء.
في هذا المكان الموحل، لا يصل ضوء الشمس إلى نخاع الأزقة الضيقة، فالمنازل العشوائية مبنية بصورة متلاصقة إلى حد التزاوج مع جنون الأسمنت المغشوش، فلا الشمسُ تدخل في شرايين جغرافيا الحلم الواقعي، ولا البشر ينتظرون قدومَ ضوء الشمس.
في هذا المكان كلما اقتربتَ من الأشياء ابتعدتَ عن نَفْسك، وكلما ابتعدتَ عن الأشياء اقتربتَ من حزنكَ. لن تقع عيناك في هذا المحيط الشاسع من أكواخ الصفيح والأوحال والروائحِ الكريهة وأكياسِ القمامة المبعثرة على طول المدى والتي مزَّقتها القططُ العمياء، إلا على عيون مكسورة للبشر والحيوانات التي انتخبت المنفى الاختياري في هذا الجبل الذي ليس له من اسمه نصيب.
ولن تجد سلال قمامة أمام أبواب البيوت لأن السكان يُوفِّرون بقايا النقود لشراء ما هو أهم من سلال القمامة، لكي يظلوا على قيد الحياة لا أكثر. الحياة من أجل الحياة، حيث التاريخ متروكٌ للقادرين على الدفع، وحيث المستقبل لم يعرف طريقَ هذا الجبل المنسي في انكسار الروح. هنا يصير الهدفُ من الحياة أن تظل على قيد الحياة أطول فترة ممكنة هارباً من تاريخ الصراصير المقتولة تحت الأحذية الممزَّقة.
وبعد أن تعب بسام من اللعب في الشارع، ورمي الحجارة على القطط المغضوب عليها في هذه القذارة الشاسعة، وأنهى امتصاص قطعة الشوكولاتة حتى الرمق الأخير، فقد لا يقدر على شراء قطعة ثانية في المدى المنظور، ذهب إلى بيت الداية، وقرع الجرس بشكل هستيري متواصل.
كانت الداية في قميص النوم برفقة زوجها محمود بائع الخضار، وقد كانا شبه عاريَيْن على السرير المكسور، وهما يخترعان نظرياتٍ جديدة في الغزل على ألحان رائحة المجاري الفائضة في الأزقة المحيطة، وحينما سمعا قرع الجرس بهذا الشكل المرعب، وقعا على الأرض، وهبَّ الرجل واقفاً، وهو لا يعرف ماذا يفعل، وأين يذهب، لكنه قال بصوت متذبذب نتيجة القلق البالغ:
- استري على حالك يا امرأة، ضَعِي اللحاف عليك. يا فرحة ما تمَّت، كل يوم يصير نفس القصة، لا أعرف متى سننجب الأطفال إن بقينا على هذه الحال.
قالت عواطف وهي في غاية الارتباك، ولا تعرف كيف تستر نفسها:
- اترك هذا الكلام.. اذهب وافتح الباب.
وطيلة هذه المدة لم يتوقف الرنين المجنون، فقد غرس بسام أصابعه كلها في الجرس كأن لديه ثأراً شخصياً معه.
ارتدى ثيابه على عَجَل، وانطلق كالملسوع لكي يفتح الباب. وعلى الرغم من أن بيتهم عبارة عن غرفة واحدة ضيقة وحَمَّام ومطبخ صغيرين، إلا أنه أحس المسافة بين السرير وباب البيت كأنها مسافة بين كوكبَيْن.
فَتح البابَ، والعرقُ يكتسح وجهَه، وبسبب ارتباكه لم ينتبه إلى الصغير بسام بسبب قصر قامته. فصار بسام يرفع نفسه ليجذب الانتباه.
فلما انتبه محمود إلى هذا المشهد الذي بدا فصلاً من مسرحية كوميدية، قال بصوت مستسلم، وعلامات الخيبة تقتلع ملامحَه، والكلام يخرج من جوفه بصعوبة:
- ماذا تريد يا بسام ؟.
- أريد خالتي عواطف لأني أمي سوف تلد.
- حاضر يا سيدي.
وقد استمعت عواطف إلى الحوار كاملاً، فارتدت كامل ثيابها، وهي تقول في نفسها:
- أنا أُوَلِّد النسوان، وأظل بلا ولادة. صدق من قال: باب النجار مخلَّع.
ثم قالت لزوجها وهي تهم بمغادرة بيتها:
- ضع الماء على النار، وانتظرني في السرير، ولا تلمس قميص النوم لأني استأجرته من جارتنا.
وانطلقت الداية برفقة الصغير بسام بسرعة كبيرة، يقتحمان الرائحةَ الكريهة في أزقة الوباء. وفي أثناء سيرهما المتماهي مع الركض، كُسر كعب حذائها، فوقعت على الأرض، وقد التوى كاحلها بصورة طفيفة، لكنها واصلت السير ببطء شديد وهي تعرج، والألم ينهش رِجلها، ويسري كالرماد الحارق في شرايينها.
وما إن وصلت إلى بيت أم بسام حتى سمعت صراخ طفل يُفجِّر المكانَ، لكنها لم تقدر على تمييزه هل هو ذَكر أم أنثى. وحينما دخلت إلى جلسة الولادة تلك، نسيت النسوةُ الجالسات موضوع الولادة، وصِرْنَ يحدقن في هذه المرأة التي وصلت بعد فوات الأوان، وكان العَرقُ يأكل وجهَها، والقاذورات عالقة بثيابها.
شعرت عواطف في تلك اللحظة بأنها وحيدة في هذا العالَم، وأنها غريبة عن هذا المكان. أحست برغبة شديدة في البكاء، لكنها قاومت الدموعَ بشراسة جندي محشور في الزاوية، ولم تعرف ماذا تقول في ساعة الولادة تلك المصبوغة بالصراخ الذي يدهن حيطانَ الغرفة البائسة. لكنها ألقتْ نظرها إلى الأرض، وقالت:
- مبروك يا أم بسام.
وغادرت تلك البقعة المشتعلة بالأحاسيس المتضاربة. وبدأت الدموع تسيل من عينيها بحرقة في الطريق، لدرجة أن سخونة الدمع أنستها وجع قدمها.
وحينما وصلت إلى بيتها ذُهِل زوجها حينما رآها في هذه الهيئة التعيسة، فقد بدت كالمتسولة. ولم تقدر على النظر في عيون زوجها، وإنما دخلت إلى الاستحمام بالماء الذي تم تسخينه لأمرٍ آخَر.
وزَّع الرجلُ نظراته في أنحاء الغرفة، ورمى مشاعره في سقفها المصنوع من الصفيح المتهالك، وراح يتحسس نعومةَ قميص النوم الملقى على السرير، ثم اختبأ تحت اللحاف، والنعاس والبكاء يتصارعان في جسده المنهَك.
وعلى الضفة الأخرى للحلم المشتعل كان بكاء المولودة الجديدة يملأ المكان، ويزرع الخناجر في حلوق النساء المبتسمات حول هذا الكائن الحي الجديد القادم إلى هذه الأسرة. أما أم بسام فتشعر أن جسدها قد غادر مدارَه، وانفصل عن الحياة برمتها. فالألم ينهش جسدها نقطةً نقطة، وهي تمارس الألم لكي تنسى الألم في بقعة أخرى.
وزَّعت النسوةُ الأعمالَ فيما بينهن. فواحدةٌ تجهز الماءَ الساخن، ورفيقتها تحاول إيقاف سيلان الدم بطرق بدائية مضحكة، وأخرى تحاول تنظيف المولودة. وقد بدت أفعالهن ارتجالية غارقة في الفوضى، لكن هذا هو أسلوب الولادة المتوارث في هذا الجبل المنسي. وكلُّ واحدة تريد إثبات نفسها كقائدة لفريق العمل.
وفي زحمة هذه الفوضى العارمة المختلطة بطقوس الولادة المتوارثة، والبكاء الصادم، والارتباك، وضوضاء النساء الأميات، جاء بسام كالرصاصة، وهو يلهث، ووقف أمام تلك الجلسة النسائية المخيفة، والتي تبرق في عينيه كرؤوس الرماح، وقال:
- لقد ماتت جدتي سارة.
ألقى هذه الكلمة الحارقة، وأصابع الموت تزحف على جِلده، والدموعُ تصعد إلى جفونه، وغادر المكان هارباً كشخص يلقي قنبلة على مجموعة بشر، ويهرب قبل أن يمسكه أحد.
كان الموتُ ينثر معناه في أرجاء الفضاء. لقد سيطرت النهايةُ على مشاعر النسوة الغارقات في فوضى طقوس الولادة. أما بسام فكان يركض إلى اللامكان. فالموتُ يحمل معنى جديداً في نفسه الطفولية. وهو الطفل المحصور في العاشرة من عمره.
ظهر المشهد كخليط شرس من الأضداد، حيث المشاعر تقتل المشاعر، ولا يعرف الإنسان أين يذهب. لقد شعر بسام في تلك اللحظة الرهيبة أنه نقل بحوراً من المتفجرات، ولم ينقل خبراً عادياً. لم يفهم بدقة ماهية الموت. لكنه متأكد أن الغياب هو الذي سيفرض شروطَه، وأنه لن يرى جدته سارة بعد اليوم.
كانت الحاجة سارة كبيرة العائلة. وهي أشبه بشيخ قبيلة، فكلمتها مسموعة، وسارية على الصغير والكبير. وبعض الناس يقولون إنها وُلِدت في عام 1900م، والبعض الآخر يؤكد أنها وُلدت عندما أُلغيت الخلافة العثمانية. وآخرون يقولون إن تاريخ ميلادها نفس تاريخ ميلاد هتلر. وصار تحديد تاريخ ميلادها قضية أمن قومي، وكل واحد يخترع تاريخاً من بنات أفكاره، والجميع مشغولون بهذا، ويحاولون ترك بصماتهم في هذه المسألة التي تمس ثقافة هذه البقعة الجغرافية البائسة.
والحاجة سارة نفسها لم تعد تعرف كم عمرها من كثرة السنوات التي عاشتها والأمراض التي حاصرتها. لكن الشيء الذي بقي عالقاً في ذهنها طيلة عمرها هو محاولة أبيها أن يُسمِّيَها " رعد " رغم أنها أنثى. وقد قال حينها إنه يرى في عينيها اللامعتين صفات زعماء العشائر، وإن اسم " رعد" يناسب الزعامة. لكن أمها أقامت الدنيا ولم تقعدها، وقالت له إنك ستفضحنا في العائلة، وتسبِّب عقدةً نفسية للبنت. وقد تراجع عن فكرته بعد تدخل عدد من كبار العائلة.
لكنَّ حكاياتٍ كثيرة مرتبطة بهذه العجوز الأسطورية، لكن الحكاية الأكثر غرابة، والتي يتناقلها الناس بكثافة هي أنها حاولت عقد مصالحة بين الفلسطينيين والأردنيين في حرب أيلول 1970م، وقد رفعتْ عَلَمَي فلسطين والأردن على سطح بيتها، وأقامت بمساعدة طبيب محلي عيادةً لعلاج الجرحى من الجانبين، وقالت إن أهل جبل النظيف لن يرفعوا بنادقهم في نار الفتنة، على الرغم من عدم وجود بنادق مع السكان، ولا يملكون ثمن الرصاصات !. فهم بالكاد يجدون ما يأكلونه، لكن الأمر آنذاك بدا جزءاً من خطبة حماسية.
والناس شبه متفقين على هذا الأمر، وما زال بعض السكان يضعون صورة ذلك الطبيب في منازلهم احتراماً له. وهم يعتقدون أن الموساد قام باغتياله في باريس التي هاجر إليها فيما بعد، لأنه كان أحد أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأحد المقرَّبين من وديع حداد. لكن الجميع يعرف أنه كان يؤدي الصلوات الخمس في المسجد، كما أن زوجته كانت محجَّبة !.
وبصراحة لا يوجد شيء موثَّق في كلام أهل هذا الجبل الضائع. وكلام الناس خليط من الحق والباطل، فهم يرددون ما يسمعونه بدون تدقيق، ويقولونه بحسن نية، فلم يتخرجوا من الجامعات لكي يعرفوا المنهجَ العلمي، كما أن لهاثهم وراء كسرة الخبز جعل تفكيرهم لا يتعدى حدود الراتب الشهري إلا في حالات نادرة.
ولا شك أن وفاة مثل هذه المرأة التي تُعتبَر شيخة جبل النظيف سوف يترك أثراً سلبياً. وعلى أية حال سوف تستمر حياكة الأساطير حولها، لأنها ليست مجرد امرأة منسية في هذا الجبل المنسي، بل هي مادة غنية بالتراث والفلكلور والرموز الشعبية، لدرجة أن السائحات كنَّ يلتقطن الصور التذكارية معها. فهي مَعْلم أثري وتاريخي، وقد صارت مثل كليوبترا، إلا أن قَدَرها أحضرها إلى هذا البقعة المنبوذة في تاريخ الحضارات.
كانت الأحداث تتسارع بصورة مرعبة. يتَّحد الميلادُ والموت في لحظةٍ واحدة. ويمشي الفرحُ إلى جانب الحزن في مدارات النسيان. كلُّ طريقٍ سيخلعُ وجهَه ويلبس قناعه هرباً من الشمس. لكن الشمس الكامنة في داخل الإنسان لا يمكن الهرب منها أبداً.
أقبل أبو بسام وهو لا يَعلم بولادة ابنته أو وفاة أُمِّه. فمهنته تفرض عليه طَوقاً من العزلة. فهو يعمل في إحدى الكسَّارات المجاورة. غارقٌ في الجبال المعانقة للغيوم يقوم بتكسير الحجارة، وزرع المتفجرات في باطن الأرض، وتحويل هذه الجبالُ العالية الحاملة لذكريات العمَّال إلى حجارة بناء أو رُخام.
وفي طريق عودته كان الوجومُ يخيِّم على الأزقة، والانطفاء يكشط أحلامَ البيوت. ورغم أنه عاش كل حياته في هذا الجبل إلا أنه أحس بشعور غريب في تلك اللحظات الخشنة. شعر أنه دخيلٌ أو منفيٌّ، وأن الزمان والمكان لم يعودا يتقبلان وجودَه. وقد أدرك أن أمراً كارثياً قد حدث. فالطرقاتُ شبه فارغة، ولا أثر للضجيج الذي كان يملأ الفضاء. وقد واصل المسير بخطى مثقلة متوقعاً أن يسمع خبراً مؤلماً في أية لحظة.
لمح يوسفُ صاحب بقالة الخيَّامي خطواتِ أبي بسام المتعَبة، فقفز إليه كالمجنون قائلاً:
- عَظَّمَ اللهُ أجركم، واللهُ يغفر لها. لقد كانت امرأة تساوي ألف رَجُل. كلنا على هذا الطريق. صَدِّقْني كنتُ سأغلق الدكانَ قبل قليل، لكنَّ هؤلاء القرود [ وأشار إلى بعض الأطفال ] أصروا على شراء عصير وشوكولاتة.
أدرك أبو بسام أن أُمَّه قد ماتت. وأن الدائرة قد اكتملت. والذاكرةُ أُغلقت فلم تعد تتسع للذكريات. سيتحول البشرُ إلى براويز خرساء على الحيطان. والنهايةُ التي كانت تبدو بعيدةً صارت واقعاً ملموساً. تجمَّد الدمعُ في عينيه، وأسرع إلى بيته بخطى ميكانيكية لا شعور فيها، كأنه رَجل آلي يمشي ولا يعرف لماذا يمشي. وكلما رآه أحد المارَّة صافحه وعَزَّاه، وأثنى على الحاجة سارة خيراً. وكلهم مُجْمِعون على عبارة " تساوي ألف رَجل "، وكأنهم اتفقوا على قولها، وجعلها شعاراً للمرحلة.
وصل أبو بسام إلى بيته. والصورُ تتشابك في ذهنه، بحيث شَكَّ في بداية الأمر
هل هذا بيته أم لا. لكنه تأكد حينما سمع ضجيجَ الرجال وبكاءَ النساء. وما إن دخل إلى البيت حتى هُرع الجميعُ إليه كأنه كان مسافراً منذ سنوات. لكنه واصل المشي إلى غرفة أُمِّه لذا ابتعد الجميعُ عنه وخلُّوا طريقه. ولَمَّا دخل إلى الغرفة خرج منها كلُّ مَن كان فيها. لقد أراد أن يختليَ بأُمِّه، تلك المرأة التي سَيْطرت على جبل النظيف بحكمتها، وكان الرجال لا يجرؤون على كسر كلمتها. وها هي الآن جثة هامدة لا تتكلم ولا تتحرك، مُسجَّاة على حصيرٍ خشن، ومغطاة بقطعة قماش بيضاء.
تقدَّم أبو بسام من أُمِّه، ورفع الغطاء عن وجهها، وقَبَّلها على جبينها، ثم غطَّى وجهها. غروبٌ أبدي لا شروق بعده، ووداعٌ نهائي لا يمكن التراجع عنه. وراح يُكلِّم أُمَّه كما لو كانت على قيد الحياة.
وخارج الغرفة كان يقف عمران وزهدي وسليم أبناء الحاجة سارة. وهُم يحترقون بنار الانتظار. ماذا يفعل خميس في الداخل طيلة هذه المدة ؟!. المرأةُ ماتت وارتاحت من هذا القرف. والحيُّ أبقى من الميت. كانت هذه الأفكار تجول في ضمائرهم.
اقترب عمران (الأخ الأكبر) من زهدي، وقال له بصوت منخفض يُشبِه صوتَ النوارس المذبوحة:
- أخوك خميس ليس سهلاً. أنا متأكد أنه يبحث عن الذهب تحت البلاط، أو يفتِّش في ثياب أُمِّنا بحثاً عن المال.
تفاجأ زهدي من هذا الكلام، وارتبك في البداية، لكنه قال:
- يا رَجُل، حرام عليك. بلا ذهب بلا بطيخ. المرأة ماتت، وأنتَ تحلم بالذهب والمال.
بدت علاماتُ الخيبة والاستياء على وجه عمران، وقال لأخيه:
- ستظل طيلة عمرك أهبل. أخوك آخر العنقود سيأخذ كلَّ شيء، وستظل شحاذاً مثل أخيك سليم.
ولم يكد عمران ينهي كلامَه حتى خرج خميس من غرفة أمِّه، ووجهه كتلة من الأسمنت، وشَعره رصاصةٌ مطاطية، وعيناه وردتان ذابلتان.
تقدَّم عمران من أخيه خميس، ورَبَت على كتفه، وقال له:
- ارحم نَفْسَكَ يا خميس. الحاجَّةُ ذهبت إلى رحمة ربِّها. وعلينا أن نحافظ على ذِكرى أُمِّنا.
وأردف قائلاً:
- كنتُ قبل قليل أقول لزهدي إن خميس أفضل واحد بين إخوته، فهو أكثرهم حناناً وأقربهم إلى المرحومة. ولم يفارقها في حياتها ولا موتها. وأكيد هُوَ في الغرفة يتذكر أيامه مع المرحومة ويُوَدِّعها بكل محبة.
ونظر عمران إلى وجه أخيه زهدي، وحدَّق فيه بقسوة قائلاً:
- ألم يَحدث هذا يا زهدي ؟.
اكتفى زهدي بهز رأسه تصديقاً لكل ما قاله عمران.
قال خميس مخاطباً إخوته:
- سندفن المرحومة اليوم بعد صلاة العِشاء. سيكون الناسُ قد عادوا من أعمالهم، وسوف يصلِّي عليها جميع سكان الجبل.
استغرب باقي إخوته هذا الكلام. وقال عمران:
- لماذا لا ننتظر إلى غدٍ وندفنها في النهار ؟.
- إكرامُ الميت دفنه، ولن أُؤخِّر دفن أمِّي. سندفنُ جثمانها الطاهر وهو ساخن. أم هل تنتظرون خروج رائحة من جثمانها وتصبح فضيحة في كُلِّ الجبل ؟!.
ألقى خميس هذه الكلمات وغادر المكان بسرعة من أجل تجهيز أمور الجنازة والدفن. ومع أنه أصغر إخوته إلا أن كلماته في تلك الساعة كانت حاسمة، ولا تقبل النقاش.
وبعد أن ذهب، قال عمران لأخوَيْه:
- سأقطعُ يَدِي إن لم تكن هناك وصيَّة للمرحومة. لا يمكن أن يقرر خميس دفنها ليلاً إلا تنفيذاً لوصية. ولا أحد يَعرف ماذا في الوصية من الذهب والأموال التي كانت تخزِّنها المرحومة. على أية حالٍ لا نقدر إلا أن نقول: اللهُ يرحمها.
وهنا تدخَّل سليم قائلاً:
- يا جَماعة، المرحومة كانت أُمِّيةً لا تقرأ ولا تكتب، لا يوجد مالٌ ولا وصية.
ردَّ عليه عمران قائلاً:
- أنتَ وأخوك زهدي نَفْس النُّسخة. مسكينان، القط يأكل عَشاءكما. فِعلاً، هذه عائلة فاشلة تتوارث الفقرَ والغباء. اللهُ يُخلِّصني منها بأسرع وقتٍ.
كان الصغير بسام يركض باتجاه المقبرة المقابلة لمسجد طارق بن زياد. تسلَّق سورَها مثل الأفعى، وقفز إلى داخلها باحثاً عن شيءٍ ما. وفي إحدى الزوايا وَجد فايز ابنَ عمِّه، فأسرع إليه وهو يَلهث، وعندما وصل عنده وقف هُنيهة يلتقط أنفاسه. نظر إليه فايز باستغراب شديد، وخبَّأ زجاجةَ الويسكي خلف ظَهره. ماذا يَفعل هذا الطفل هنا ؟.
قال بسام ونبضات قلبه تكاد تخلع ألواحَ صدره:
- جَدَّتي سارة ماتت.
ألقى هذه القنبلة، وعاد أدراجه مثل جنيٍّ لا يمكن الإمساك به.
وقف فايز كالأبله، والذهول يحتل قسماتِ وجهه. وراح يضحك بشكل هستيري، ثم أمسك بزجاجة الويسكي المغلقة وأطلقها على الحائط كالرصاصة، فانكسرت، وانتشر الخمرُ على حشائش المقبرة. كان المشهدُ أشبه بسدٍّ ضربته صاعقة فانهار وأغرقت المياهُ كل القرى المحيطة به. لقد غابت الذكرياتُ من ذهنه كأن إعصاراً ابتلعها، ولكنْ ذكرى واحدة برزت في تلك اللحظة القاسية، وهي كيف كانت جَدَّته توقظه من النوم بعُكَّازها بعد أن يفشل أهل الدار في إيقاظه !. كان توقظه رغمَ أنفه لئلا تفوته مواعيد الامتحانات في المدرسة.
كان فايز عمران شاباً في نهاية المرحلة الثانوية، وقد كان معروفاً بأنه سِكِّير من الدرجة الأولى. ومن هنا جاء لقبه " خمراوي " نسبةً إلى الخمر التي كان يعبُّها بصورة جنونية. وكثيرٌ من الناس لا يعرفون أن اسمه " فايز "، فقد تفوَّق لقبُه على اسمه. وقد ذاع صيته بعد حادثة شهيرة. فقد زار مدرستَه مديرُ التعليم في المنطقة برفقة وفد من المعلِّمين القُدامى. وأثناء تجواله في المدرسة للاطمئنان على سير العملية التعليمية، سأل بعض الطلاب عن مشكلاتهم وأحلامهم. وقد سأل المديرُ فايز بدون معرفة مسبقة:
- ما الذي تغيَّر في حياتك عندما انتقلتَ من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية ؟.
ابتسم فايز كالأحمق، وسأل:
- هل تريد الصراحة ؟.
- يا ابني، المدرسة بيتك الثاني، وهي تُعلِّمنا الصدق والتعبير عن الرأي.
- بصراحة، لقد تغيَّر مزاجي، فصرت أشرب الويسكي بدلاً من البِيرة !.
وقعت هذه الكلمات على رأس المدير كالمطرقة، واحمرَّ وجهُه، وارتفع الزبدُ فوق شفتَيْه، ونظر إلى مَن حَوْله كالطفل الخائف الذي يبحث عن أُمِّه. وقال بأعلى صوتٍ:
- هل أنا في خَمَّارة أم مدرسة محترمة ؟!. هذا الولدُ مكانه في الشارع وليس في المدرسة. سوف أُرَبِّيه مثل كل الزعران الذين رَبَّيْتُهم في المنطقة.
وغادر مسرعاً، وخلفه الوفد التعليمي يحاول اللحاق به.
وحصلت ضجة هائلة، ليس في جبل النظيف وحده، بل في البلد كلِّه. فقد فُصل فايز من المدرسة فصلاً تأديبياً، ومُنع من إكمال دراسته. وكاد والده يُطلِّق أُمَّه لأنه اتهمها بأنها أفسدت الولدَ بالدلع والمال. وتبرَّأ منه أبوه، وقال إنه سيقتله ويعتبره كلباً ميتاً. وتدخَّل بعضُ الوجهاء للإصلاح بين الأب وابنه. واستغرب الناسُ حين علموا أن فايز السِّكير هو شقيق الشيخ عبد الرحيم عمران. فالشيخ عبد الرحيم يحفظ القرآنَ الكريم، وهو من الدُّعاة الذين لهم وزن، كما أنه يُلقي درساً أسبوعياً في المسجد. ولكنْ هذه حال الدنيا !.
وتناقلت قصةَ فايز وسائلُ الإعلام المحلية والعالمية. وقال البعض إنه فاسق يجب جَلْده، وتطبيق حَد شرب الخمر عليه. والبعض الآخر اعتبر الأمر حرية شخصية. وتدخَّلت منظمات حقوق الإنسان في القضية. واختلط الحابلُ بالنابل. حتى إن إحدى المجلات الأمريكية أجرت مقابلةً مع فايز باعتباره مثالاً للشباب المتمرد في دول العالم الثالث، وسألوه أسئلة عديدة لكشف شخصيته أمام الرأي العام، لكن أكثر الأسئلة إحراجاً: هل أقام علاقاتٍ جنسية مع النساء ؟. وعندما يتذكر فايز هذا السؤال يضحك من كُلِّ قلبه، فهؤلاء جاؤوا من آخر الدنيا ليعرفوا هل له علاقات جنسية أم لا.
وقد أجاب بأنه لم يمارس الجنسَ مع أية امرأة، لكنه حاولَ الاختباء في حفر المجاري ليرى النساءَ اللواتي يَمشين على الشارع، خصوصاً اللواتي يَرتدين تنانير !. لكن محاولته باءت بالفشل. وقد كان يَذهب إلى وسط البلد ليلةَ العيد للتحرش جنسياً بالنساء بسبب الازدحام الهائل. فالجميعُ يريدون شراءَ ملابس العيد، وهو كان يستغل هذه الفرصة التي لا تأتي كل يوم !.
ومنذ ذلك الحين صار فايز شخصيةً معروفة. وقد تلقى العُروض من الملاهي الليلية للاستفادة من خبرته وشهرته. لكنه أخبر أصحابَها أنه يُفكِّر حالياً في دراسته، وكيفية العودة إلى المدرسة، والملاهي الليلية لن تطير !. وقد عاد إلى مدرسته بسبب ضغط منظمات حقوق الإنسان.
انتشر خبرُ وفاة الحاجَّة سارة في أنحاء جبل النظيف والمناطقِ المحيطة كانتشار النار في الهشيم، كما انتشر موعدُ صلاة الجنازة، وصار الناسُ يتوافدون على الجبل بكثافة من كل ناحيةٍ. ومن المضحك المبكي أن نقول إن موتها قد ساهم في دعم الاقتصاد، فقد ازدادت حركة سيارات الأجرة، وازداد الإقبال على المحلات التجارية، وقامت محلات الأقمشة بعَرْض أنواع أجنبية من ثياب الحِداد، حتى إن الصيدليات باعت كمياتٍ هائلة من المهدِّئات النفسية. ويقال إن بعض السُّياح الذين كانوا يتجولون في وسط البلد قد جاؤوا إلى جبل النظيف للاطلاع على هذا الحدث الكبير، ومعرفة الفلكلور الشعبي، ورؤية ماذا يحدث في الجنازات في هذه الأماكن البدائية. لقد كانت بالنسبة إليهم فرصةً لا يمكن تعويضها. وبالطبع سيعودون إلى بلادهم حاملين الكثير من الحكايات والصور التذكارية. وربما يقومون بكتابة خواطر فلسفية أو اجتماعية عن حياة الناس في هذه البُقعة الضائعة. وقد يلتقطُ بعض العلماء هذه الأفكار، ويصوغون منها نظرياتٍ في العلوم الإنسانية.
تجمَّع الناسُ في صلاةِ العِشاء، وبعد انتهاء الصلاة. قام حفيدها الشيخ عبد الرحيم عمران بالصلاة عليها وخلفه جموع المصلِّين. ثم حُملت على الأكتاف، والناسُ يرددون عِبارة " لا إله إلا الله ". وعندما خرج المصلون من المسجد حدث ما لم يكن بالحسبان، فقد انقطع التيارُ الكهربائي عن الجبل، وصار الناسُ غارقين في الظلام، وعمَّت الفوضى، وارتفعت الأصوات. وهنا تدخَّل عمران (ابنها البِكر)، وقال:
- يا ناسُ، لِيُحْضر كلُّ واحد مصباحاً أو شمعة. نريد أن تمضيَ هذه الليلة على خيرٍ.
وانتشرت المصابيحُ والشموعُ. وكان ضوءُ القمر يُظلِّل الناسَ السائرين إلى المقبرة.
وعلى الرغم من أن المقبرة كانت مغلقة منذ سنواتٍ، ولا مكان فيها لقبرٍ جديد، إلا أن سكان الجبل رَفضوا أن تُدفن الحاجَّة سارة إلا في تلك البُقعة. فهي من وجهة نظرهم تراثٌ قَوْمي يجب أن يظل موجوداً في جبل النظيف بأي ثمن.
وأظن أن حارس المقبرة قد تدخَّل حينها، فَقُلِعت إحدى شجرات الصنوبر، ليحل مكانها القبرُ الجديد والأخير. وبصراحة لا أدري هل تقاضى حارس المقبرة مبلغاً نظير هذا العمل، أم أنه فعله مجاناً. وفي كلا الحالتين فإن حارس المقبرة قَد تصرَّف فيما لا يَملك. ولكنْ في هذا المكان لا أحد يُحاسِب أحداً.
وقفَ عمران عند قبر أُمِّه، وراح يُلقي بعض الكلمات التي بدت وكأنها جزء من خُطبة مُعدَّة سابقاً:
- يا سُكَّان جبل النظيف، إن المرحومة كانت من أولياء الله تعالى. وما انقطاع الكهرباء إلا دليل على أن نور وجهها هو الذي يضيءُ المكان. ولأول مرةٍ في تاريخ جبل النظيف تَسير جنازة على ضوء المصابيح، وهذا يدل على تميُّز المرحومة عن باقي الأموات. كما أنها دُفنت في مكانِ شجرة صنوبر، وهذا لم يحصل مسبقاً، فالمرحومة عاشت مثل الشجرة، وماتت مثل الشجرة. ويوم غَد سَيَظهر نَعْيُها في أكبر جريدة في البلد. صفحةٌ كاملة في صفحة الوفيات باسم الحاجَّة سارة.
لقد جمعَ عمران مالاً من كل أفراد العائلة لنشر النعي في الجريدة. فهو يعتقد أن هذا الأمر سيُبرِز مكانةَ العائلة، ويَرفع اسمَ العشيرة بين باقي العشائر.
بدا كلام عمران وكأنه خُطبة حماسية أو إعلان تجاري. وربما أراد استغلال هذه اللحظة من أجل إبراز عائلته، واختراع مكانة خاصة لها. وأدرك الكثيرون أن هذا الكلام لا يتلاءم مع موضوع الموت، وطبيعة المكان. لذلك لَمَّا سمع الشيخُ نايف
رَيَّان إمام مسجد طارق بن زياد هذا الكلام، قال:
- إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وسبحان الذي قَهر عبادَه بالموت. والموتُ قد سَوَّى بين الناس، فقد تساوى الغنيُّ مع الفقير، والعالِمُ مع الجاهل، والذَّكر مع الأنثى.
دُفنت الحاجة سارة، وأُهيل التراب عليها، ووُضع شاهد القبر. وكان مكتوباً عليه: «الفاتحة على روح الحاجَّة سارة محمد عبد اللطيف أرملة المرحوم لطفي سعيد المخلوسي. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون».
تفرَّق الناسُ وعادوا إلى بيوتهم. وفي مساء ذلك اليوم جَمع خميس إخوته عمران وزهدي وسليم وأختهم الوحيدة رسمية. وقال لهم بالحرف الواحد:
- أُمُّنا تَركت خاتِماً وعِقداً من الذهب، وثلاث أساور فضة، ومبلغ مئة وخمسة وعشرين ديناراً.
لم تَقدر رسمية أن تسيطر على نفسها حينما سَمعت هذا الكلمات، وراحت تبكي بحُرقة، وقالت بصوتٍ مختلط بالأسى:
- أُمُّنا دُفنت قبل قليلٍ، ونحن نريد أن نَرِثَها.
قال خميس:
- الدنيا فيها حياة وموت. وأنا جمعتُكم لكيلا تقولوا إن خميس ضَحك على أُمِّنا في حياتها، وبَلع كلَّ شيء قبل وفاتها.
وفي تلك اللحظة قال عمران واللهفة تقتلع عينيه:
- حاشاكَ يا " أبو بسام ". لكنْ بصراحة أنا أعرف أن أُمَّنا تملك أكثر مما قلتَ.
- يعني أنا كذَّاب يا " أبو عبد الرحيم " ؟!.
- يا سيدي، لا أنتَ كذاب ولا أنا كذاب. وحقكَ عليَّ. وبالنسبة إِلَيَّ لا أريد شيئاً منكَ ولا من أُمِّي. سامحتكما في الدنيا والآخرة.
وخرج عمران غاضباً، وأغلق الباب خلفه بقسوة واضحة، بحيث أزعج صوتُ الباب جميعَ مَن كان في البيت.
وعندئذٍ قال سليم:
- باللهِ عليك يا " أبو بسام " غَيِّر الموضوعَ. لا نريد أن نخسر بعضَنا من أجل قِرْشين.
وانفضَّ المجلسُ، وذهب كل واحد إلى حال سبيله.
كان عمران يَسرد على زوجته مديحة تفاصيل ما جرى في بيت خميس بشأن الميراث. فما كان منها إلا أن قالت:
- يا عيب !، أخوك الأصغر ضَحك عليك، وخرجتَ من المولِد بلا حُمَّص. غداً سيبني أكبر فيلا في عَمَّان الغربية بأموالك أنتَ وإخوتك. الحق عليَّ أني رضيتُ بزوجٍ مِثلك. ضيعتُ شبابي من أجلك بلا نتيجة. ولكنْ لا يفيد الندم. بقي أبي - الله يرحمه - يقول لي: ظِلُّ رَجل ولا ظِل حائط. ولم يَعرف أني تزوجتُ رَجلاً مثلَ الحائط.
- يا امرأة، كل يوم أسمع نَفْس الموَّال. لقد مضى العمر. الذي ضَرب ضربته ضربها زمان، ولا يمكن أن يرجع الزمان. الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة، إمَّا أن تستغلها أو راحت عليك.
- يا عيني على هذه الحِكَم !، لا آخذ منك إلا الكلام. قضيتَ حياتك بيَّاعَ كلام يا فالح !.
ثم ذهبت إلى تغيير ملابسها، وارتدت قميص نوم أحمر يبرز مفاتنها، وجاءت تتمايل أمام زوجها المرهَق. وعندما رآها زوجُها قال:
- أستغفر اللهَ العظيم وأتوب إليه. يا حُرمة استري على حالك. نحن في حالة وفاةٍ. خلِّي هذه الليلة تمر على خيرٍ.
- ومَن أين سيأتي الخير ؟!. تريد مني أن أدفن نفسي في الحياة ؟. الذي يموت مع السلامة.
تأفَّف زوجُها بصوتٍ عالٍ، وقال بعد أن أتعبه الجِدال:
- أنا حمار لأني أناقش امرأة جاهلة مِثلك.
واستلقى على السرير، وغطَّى جسمه المنهَك باللحاف، وراح في سُباتٍ عميق.
أمَّا زوجته فذهبت لكي تشاهد التلفاز، وهي تكيل الشتائم في سِرِّها، وتندب حظَّها.
وفي البيت المجاور كان خميس يطمئن على صحة زوجته، ويحدِّق في طفلته الجديدة. فهو لم يجد وقتاً في هذا اليوم لممارسة دوره كأبٍ. حَمل طفلته بين يَدَيْه، وشعر - لأول مرة في حياته - أنه يحب إنجابَ البنات، وقال:
- هذه سارة الجديدة. لقد ماتت سارة ووُلدت سارة. لا أريد أن يختفيَ هذا الاسم من حياتنا.
وهكذا صار لخميس ثلاث بنات: سارة وحورية وهند. بالإضافة إلى ابنه الوحيد بسام.
كان هذا اليوم من أطول الأيام في حياة هذه العائلة. ويبدو أن هذا الليل لا يريد الانتهاءَ. فعند الساعة الرابعة فجراً قُرع باب منزل عمران قرعاً عنيفاً. قام عمران من نومه كالمصروع، وزوجته هبَّت من نومها غير قادرة على تمييز ما يجري.
فَتح عمران الباب فإذا به أحد المسؤولين عن شبكة الكهرباء في المنطقة. تأفَّف عمران، وراح يلتقط أنفاسه بعد هذا الفيلم المرعِب.
وقال عمران وهو بين الحياة والموت، وعيناه مزروعتان بالقذى:
- يخرب بيتك، ألم تقدر على الانتظار حتى الصباح ؟.
أطلق المسؤول ضحكةً صفراء كَشفت عن أسنانه التالفة، وقال:
- أنا أنتظر أي شيء إلا المال. يجب أن أذهب إليه بسرعة لأنه يطير مثل الدخان.
ودخل عمران إلى منزله، وقال لزوجته التي كانت واقفة تسترق السمعَ:
- أحضري عشرين ديناراً بسرعة.
- لن أحضر شيئاً حتى تخبرني بقصة هذا الرَّجل.
- هاتي المال الآن قبل أن يفضحنا. فهو مستعد أن يبيع أباه من أجل رُبع دينارٍ، وسأخبرك بالقصة بعد أن يغور في ستين داهية.
أخذ المسؤولُ المالَ وعاد أدراجه. وتنفس عمران الصعداء لأن الموضوع انتهى على هذا النحو بدون انتباه الجيران. لكن زوجته حاصرته بالأسئلة ولم تتركه. فما كان منه إلا أن قال:
- لقد اتفقتُ مع هذا المسؤول أن يقطع الكهرباء أثناء جنازة أُمِّي، وذلك ليبدوَ المشهد غريباً يتناسب مع مكانة عائلتنا، فيتحدث الناسُ عن هذه الحادثة في كل مكان. وهكذا يصبح لنا وزن بين العائلات، وتشتهر قصتنا على كل لسان.
ومضى إلى النوم كأن شيئاً لم يكن، في حين أن زوجته بقيت واقفة غير مصدِّقة لما سمعتْه، وقد طار النومُ من عينيها، ومضت تقول:
- أنا متأكدة الآن أنني أعيش مع رَجل مجنون !.
(2)
حلماً قاسياً كان الصدى الكُحلي. زهرةً مسمومة كان الجرحُ. نادت على ابنتها الصغيرةِ:
- أسرعي، نريد أن نحجز مكاناً.
كَوَّمَتْ البنتُ صُرَّةً بعد أن وضعت فيها مجموعةً من الأحذية الملمَّعة بصورة عشوائية. وقد كانت الصرةُ ثقيلةً بعض الشيء فلم تتمكن الصغيرة من حملها. فهبت الأم المصابةُ بالسُّكري إلى مساعدتها. وراحت خطواتُ الطفلةِ تتهادى على رقعة اللهب، وتتقدمُ الأحزانُ كما لو أن نورساً يزحفُ على بطنه.
أنثى ضئيلة الحجم تمسك بثوبِ والدتها البدينة ليس من كثرة الأكل، وإنما من كثرة الأمراضِ، وتسيران محمَّلتَيْن بآثار الوقتِ القاسية. عليهما اجتيازُ الأزقة المتداخلة في الحارات الضيقة كي تصلا إلى السوق.
- يا إلهي. الطريقُ طويلٌ.
قالت الصغيرةُ وعلامات التعب تنهشها. وما تلقَّت أي جوابٍ سوى صمتٍ مغلَّفٍ بالدهشة.
الدروب تتكرر كل مرةٍ. لا جديد غير أوحالٍ ونفاياتٍ مكدَّسةٍ تناساها عمالُ النظافة ليعودوا إلى جحورهم تحت الأرضِ مُبكرين. لو مشتا في الشارع الرئيسي فهذا يعني إمكانية السقوط ضحية إغراءات سيارات التاكسي، وبالتالي عجزٌ في الميزانية، وعودةٌ بأيدٍ فارغة. إنهما تمشيان نحو اللاهدف تحت شمسِ الاحتضار.
كان هذا المشهدُ بالضبط ما رأته رسمية في منامها، أو ربما كانت أحلام يقظة. هي نفسها لم تعد تعرف طبيعة الأفكار التي تراودها. لكنها تأكدت أنها شَاهدت حُلماً. العَرَقُ يخنقها ويفيضُ على تضاريس جسمها المتآكل، والقشعريرة تبتلع أعضاءها حجراً حجراً. وقد صار ريقُها مستنقعاً جافاً. وفي تلك اللحظات الرهيبة شَعرت بأنها وحيدة في الفراغ رغم أن زوجها كان نائماً إلى جانبها، لكن شخيره المرعب زاد من وحدتها ووحشتها.
ومنذ وفاة الحاجَّة سارة لم تذق ابنتها رسمية طَعم النوم. صارت حياتها أقرب إلى الهلوسة. تقتحم ذهنَها أفكارٌ لا منطقية، وأحلامٌ مختلطة بذكريات قديمة. هجم عليها الأرقُ والكوابيس دون إنذار مسبق. كأنها قَد وَضعت قَدَمَها على طريق الجنون الطويل.
أحياناً تتفقد جسمَها لتتأكد هل هي موجودة في هذا العالَم أم لا. تتحسس أعضاءها لتطمئن أن جسدها كامل لا ينقصه شيء !. وهي تقاتل نفسَها من أجل إخفاء هذه الحالة عن زوجها، فقد يظن أنها مجنونة فيبحث عن زوجة أخرى. وفي هذه الحالة تكون رسمية قد خَسرت أُمَّها وزوجها معاً. وهذا ما لا تريده، ولا تحب أن يخطر في بالها. والحيُّ أبقى من الميت !.
(3)
في الصباح، بدت الأشياء غريبةً. كُسر الروتين الحياتي. انتهى الملل. مذاقُ الضوضاء جديد هذه المرة. ما الذي حصل؟. باعةُ الخضار في ساحة المسجد تركوا صناديق الخِيار والبندورة مصفوفةً كالتوابيت. والناسُ يتجمهرون كأنهم في عُرس أو في خيمة سيرك.
كان هناك سيارة مرسيدس تشقُّ أجفانَ الأكسجين. تجمَّع الناسُ حولها كالجوعى الذي اكتشفوا كِسرةَ خبز. وراح الأطفالُ يهتفون ويُصفِّقون كأنهم في عُرس. وفي الواقع إن مرور سيارة مرسيدس في هذا المكان يُعتبر عُرساً يصعب تكراره.
وَجد قَيْس زهدي صعوبةً بالغة في النزول من السيارة. ولولا مساعدة الناس لبقيَ سجيناً في سيارته الفارهة. أخذ الناسُ يُسلِّمون عليه ويُقبِّلونه بعنف. وهو يحاول جاهداً أن يمسح عن خدوده آثارَ القُبلات الممتلئة برائحة بقايا الطعام والتبغ الرخيص. وبدأ الأطفال يتسلقون إطاراتِ السيارة التي كانت في عيونهم لعبةٌ كبيرة بحاجة إلى تفكيك. وقد تسابق الحضور إلى حمل حقائبه إلى بيت والده الحاج زهدي المخلوسي.
وقف محمود بائع الخضار على الرصيف مراقِباً هذا المشهد، ومبتسماً بسخرية، وقال لأحد الواقفين بجانبه:
- سُبحان مُغيِّر الأحوال. هذا الأزعر قَيس قضى حياته مثل الكلب المسعور في شوارع جبل النظيف. صَدِّقْني لم يكن يملك مالاً لِيَحْلِق. والآن صار فوق الريح مثل أولاد الوزراء.
- يا محمود، الدنيا حظوظ، وكل شيء نصيب. أنا أعرف قيس منذ كان ولداً على أبواب مدارس البنات، ويتعاطى حبوب هلوسة. لكنْ كل شيء تغيَّر بعد ذهابه إلى أمريكا. أكيد أخذ الجَملَ بما حَمَل.
- هذا الولدُ حظه يفلق الصخرَ. وسأقطع يَدِي إن لم يكن لصاً سَرَق الأمريكان وجاء يُمثِّل دورَ الشريف. الذي ما له حظ لا يتعب ولا يشقى.
وصل قيس إلى البيت. قرع الجرسَ بعنفٍ يدل على شدة حماسه، وشوقه إلى لقاء أهله. ذهبت أُمُّه لكي تفتح البابَ منزعجةً من صوت الجرس. وكانت تصرخ في طريقها إلى الباب:
- يَخرب بيتك.. خَرَّبْتَ الجرسَ.. انتظر قليلاً.. لن تطير الدنيا !.
وعندما فَتحت البابَ، ورأت ابنها الذي كان مسافراً وراء البِحار، ذاب غضبُها في بحر المفاجأة، ووقفت مكانها كالصنم لا تَعرف ماذا تفعل. وواصلت التحديقَ في عيون ابنها. وفي تلك اللحظة الخاطفة تحوَّلت حياتها إلى شريط سينمائي يتحرَّك في ذهنها المشوَّش الغارق في الصدمة. ارتمى ابنها في أحضانها، وأخذ الاثنان يبكيان بحرقة كأنهما يستعيدان تاريخهما المشترك. وتجمَّع أهلُ الدار كالمجانين الذين أُفرج عنهم. وقد أفسد اللقاءَ طلبُ حاملي الحقائب للأجرة. وبعد أن أخذوها صاروا يَدْعون له بالتوفيق والرزق الواسع. ومضوا يتحسسون أموالهم، وفي عيونهم يختلط الفرح بالألم.
وفي المساء تجمَّعت العائلةُ على العَشاء. تكاثرت الصحونُ على المائدة، وعَلَت أصواتُ الملاعق، وارتفعت الضحكاتُ في الهواء. انطلقت الضحكاتُ من قيعان قلوبهم، كأنهم لم يَضحكوا منذ قرون.
قال الحاج زهدي:
- اسمعْ يا قيس. يكفينا غُربة. من الآن فصاعداً أريدك أن تنسى أمريكا. سوف تجلس في بلدك مع أهلك، ونجد لك ابنة حلال تتزوَّجها، وترتاح من السَّفر، وتفتح مشروعاً على قَدْر فُلوسك. وكان اللهُ بالسر عليماً.
هزَّت والدته رأسَها مؤيِّدة لكلام زوجها على غير عادتها، وقالت:
- كلام أبيك صحيح يا قيس. الذين في مثل عمرك صار لديهم أولاد وبنات.
ما فائدة المال إذا عمرك راح بدون زوجة وذرية ؟!.
قال قيس ساخراً:
- صحيحٌ أنا قيس، ولكنْ يا حسرة، لا توجد ليلى !.
قالت أمُّه وقد سيطرت عليها الحماسة:
- فَشرت عين ليلى. اتركْ ليلى.. ابنة عمِّك هند مَلِكة جَمال، ومؤدبة، والقط يأكل عشاءها. والبنتُ منَّا وفِينا، نَعرف أصلَها وفصلَها. وابنُ العَم يُنزل ابنةَ عمِّه عن ظَهر الفَرس.
- هند ؟!. هذه طفلة تلعب في الشَّارع. ولا أريد أن أُنزل أحداً عن ظَهر الفَرس ولا ظَهر الجَمل.
- هند التي لا تعجبك صارت أطول منك !. كانت طفلة أيام زمان، والآن امرأة كاملة، الله يَحرسها. واشكر ربَّكَ إذا وافقتْ عليك. معذور يا مسكين، ضائع في بلاد الغُربة ولا تدري عن العالَم.
وأردفت قائلةً:
- اسمعْ يا وَلد، إيَّاك أن تكون قد وَضعتَ عَينك على امرأة أمريكية، وضَحكت عليك صاحبات الشَّعر الأشقر والعيون الزرقاء. صَدِّقْني لولا وفاة جَدَّتك سارة لزوَّجناك الآن.
نظر قيس حَوْله كالمصروع، وقال بأعلى صوته:
- جَدَّتي سارة ماتت ؟!.
نظر أبوه إلى أُمِّه مندهشاً، ثم حدَّق في وجه ابنه قائلاً:
- ألا تعرف أنها ماتت ؟!.
- لم يخبرني أحد.
- ظننَّا أنك جئتَ من أمريكا بسبب وفاتها.
وساد صمتٌ رهيب في أرجاء المكان. لم يعودوا يَعرفون وجوهَهم. هذه الأجسادُ التي تحملهم الآن، هي ذاتها التي وُلدوا بها أم أنها معدَّلة وراثياً لتصبح ظلالاً للذعر. ارتبكتْ أجفانهم. شَعروا أن أحزانَهم الدفينة لن ترحمهم. رَكبوا في أدغال الدهشة. لقاءٌ هو أم فِراقٌ ؟. فقدوا القدرةَ على الكلامِ. تمكَّن الصَّمتُ منهم. أنهارٌ مُهاجِرة سَكنت في غُربة اليمامِ المقتول. دقائق مَرَّت أم قرونٌ من الحرقة واللهيب؟. لم تدمع عيونهم عندئذٍ. سافرت الدموعُ. خشبُ الأثاتِ ألغى ألوانَهم.
صار الحلمُ بجعةً ذبيحة بين أعضائها آلاف السدود. شعرَ قيس أن جمجمته ستقع على الأرض، فوضع يديه الاثنتين عليها. أراد تثبيتها أو الإمساك بها قبل الوقوع. تصاعدت الأوهامُ من كل مكان. كان يرى أخْيلةً تُحيطُ به، أخيلة مسمومة تنهشه من كل جانب، شعر بأسهم منطلقة نحوه تسعى إلى اصطياده، وهو يغرقُ ويغرقُ. الصراخ يعلو في ذهنه، والوساوس تخبطه وتحاصره، وكلما حاول الخلاص منها تشبَّثت به أكثر وأكثر. صار يفكر هل عيناه تدوران كالرحى في المدارات المسدودة مع عقارب الساعة أو ضدها. صار مقتنعاً أكثر من أي وقتٍ سابقٍ أنه راكضٌ في الدمار الخالصِ، وأن الدمار تَوَّجه مَلِكاً على الركام.
أحزانه حقول زرنيخ عابسة تَقْطر دُخاناً مجنوناً. عضلاتُ وجهه انفتاح فَكَّي كمَّاشة صدئة لا تغتسل إلا في مستنقع الدمع. مشاعره استسلامُ أغصان أمام الإعصار النحاسي. اغرورقت عيناه بالدمع المالح. وفي تلك اللحظات الغريبة صار كالطفل المذعور. جِلْدُه براري متعفِّنة ينبعث الدودُ من زواياها، ونكهةُ الماضي في شَعره المتجعِّد حكايةٌ انتهت قبل أن تبدأ. أراه يصطبغ بعقارب ساعة تحيط بمعصم فراشةٍ مقطوع جرَّاء زلزال قديم مَرَّ مِن هنا، أي من هناك. هكذا تَفْقد الجهاتُ معناها، وتصبح إبرةُ بوصلةِ الذكرياتِ تفاحةً مأكولة.
(4)
كان فايز عمران (خمراوي) جالساً أمام قبر جَدَّته، يحدِّق في أبعاد شاهد القبر، يقيس زواياه بالفراشاتِ الذبيحة. صارت هذه البُقعة هي تاريخه الشخصي. ومنذ وفاة جَدَّته لم يشرب أية قطرة من الخمر. لقد عَيَّن نَفْسَه حارساً لقبرها. وقد صارت لديه عادات غريبة. فمثلاً عندما يأتي إلى المقبرة يدق على سورها المتهالك كأنه يستأذن قبل الدخول. وإذا جاء صباحاً فإنه يقف على السُّور، ويؤدي التحيةَ العسكرية للشمس، وإذا جاء مساءً يؤدِّيها للقمر. وعندما يدخل في عوالم المقبرة يبكي عند الأعشاب الطالعة بين القبور.
ولم تكن حياةُ فايز في المقبرة وعاداته الغريبة تجذب انتباه الناس لأنهم تعوَّدوا على غرابة أطواره، فلم تعد غريبة بالنسبة إليهم. وهم - أصلاً - يَعتبرون " فايز" خارجاً على كل القوانين. لذلك أسقطوه من حساباتهم، حتى عائلته التي حاولت إصلاحه بكل الطرق قد غَسلت يدها منها، لأنها قَرفت من تصرفاته. وبسبب ذلك تُرك هائماً على وجهه يَفعل ما يَريد، وصار متمتعاً بحُكم ذاتي. فالناسُ ملُّوا منه، وتعبوا من حكاياته التي لا تنتهي.
لكنَّ شخصاً واحداً كان مهتماً بفايز. إنه حارس المقبرة. هذا العجوزُ الذي رماه أبناؤه في بيت المسنِّين ثم هرب منه. ومنذ ذلك الحين صارت المقبرةُ بيتَه الأول والأخير. إنه يعيش في إحدى زوايا المقبرة في غرفة متهالكة. ويعيش على الصدقاتِ من أهالي الجبل.
وبصراحة، لا يوجد شيء ليحرسه. فهذا الصمتُ الموحش الذي يفرض سُلطته على هواء المكان يَحرس الجميعَ. والموتى على وِفاق تام مع بعضهم لا مشكلات بينهم !. ولا داعي لحراسةِ الأموات من الأموات !.
أحضر حارسُ المقبرة إبريقَ الشاي، وتقدَّم بخطوات متعَبة كخطوات ديناصور ذاهب إلى الانقراض. لم ينتبه فايز إلى وقع الخطوات الهامس لأنه كان غارقاً في تأملاته، ويُغطِّي وجهَه بيدَيْه كأنه يستعيد تاريخَ الحضارات الغابرة من الألف إلى الياء.
اقترب منه حارسُ المقبرة، وقال بصوت خافت:
- فايز، استيقظ يا فايز.
شعر فايز للوهلة الأولى أن الصوت قادم من باطن الأرض، من جثث الأموات. إنه صوت ذابل مزدحم بالحزن والانكسار. صوتٌ مِثْلُ حصانٍ هزيل يجرُّ عربةَ نقل المحكومين بالإعدام.
أخرج فايز وجهَه من غبار الذاكرة، ونظر حَوْله، فإذا حارس المقبرة واقفاً كبقايا شجرة ضَرَبَتْها صاعقةٌ مفاجئة. بدا فايز في تلك اللحظة كشبحٍ لا تاريخ له. وجد صعوبةً في التحكم بأعصابه، لكنه تمالك نَفْسَه وابتسم. كانت ابتسامته تلك تُشبه ابتسامةً وَدَاعيةً لرَجل يحتضر.
قال حارسُ المقبرة وقد تهللت أساريره:
- تعال اشرب شاياً.. أفضل من الويسكي !.
هزَّ فايز رأسَه موافقاً على هذا الكلام، وراح الاثنان يشربان الشاي، وحَوْلهما طيور الاحتضار المهاجرة من الذاكرة إلى الألم. انتشر السكوتُ بينهما، فلم يجدا حروفاً تحمل خواطرَهما، لذا صارت عيونهما أبجديةً جديدة، ووسيلة للتخاطب.
وفي زحمة الصمتِ، قال فايز بشكل مباغِت:
- قررتُ أن أُنشئ مشروعاً خاصاً بي.
تفاجأ الحارسُ من هذا الكلام، وقال ضاحكاً:
- هذا الكلامُ كبير عليك. انتظر حتى تتخرج من الجامعة، وبعد ذلك تُحقِّق أحلامك.
نظر فايز باتجاه إحدى زوايا المقبرة، وأشار إليها بالسَّبابة، وقال بنبرةٍ حاملة للتحدي والإصرار:
- في تلك الزاوية سوف أُؤسِّس مملكتي الخاصة. سوفَ أُولَد من جديد، سألدُ نَفْسي بنفْسي. أنا رئيسُ مجلس قيادة ثورة المقبرة. أنا رئيسُ مجلس إدارة المقبرة. سوف تثورُ القبور، ويَخرج الأمواتُ.
ارتبك الحارس، وأُصيب بالدهشة رغم معرفته المسبقة بغرابة أطوار فايز، وقال بصوتٍ حاد:
- هل رجعتَ إلى شرب الخمر يا فايز ؟!. أنتَ مستيقظ أم سكران ؟!.
- هذه أكثر لحظات حياتي يقظةً وتركيزاً. لقد عَيَّنْتُ نَفْسي قبراً جَوَّالاً بين القبور، مثلما عَيَّنْتَ نَفْسك حارساً للمقبرة دون وثائق. المقبرةُ تتمتع بحُكم ذاتي، وهي المكان الوحيد في العالَم الذي لا يوجد فيه بيروقراطية.
ولمعت عينا فايز بصورة غريبة كأنه يرقب قدومَ شيءٍ ما مِن أسمنتِ الحلم، أو يُلبِّي نداءً قديماً تفجَّر في داخله، وتشظى على حشائش الانطفاء. وقال بحماسة شرسة:
- لن أشرب الخمرَ بعد اليوم. حياتي الجديدة تحتاج تركيزاً هائلاً. سوف أَجمعُ العناصرَ الخارجة على قانون القبيلة، وأَصنع حياةَ البشرية من قلب الموت. سأُدخل المنبوذين في تاريخ الحضارة، وأُحوِّل الأسمنتَ المفكَّك إلى مشاعر لا تتفكك. سَيَفْتخر جبلُ النظيف بابنه القاتلِ المقتول.
ارتجف الحارسُ. وتفشَّت في جسده زلازل تُحطِّم نَفْسَها. وفي تلك اللحظة الرهيبة شعر الحارسُ بخوفٍ متأجج. كان يظن أنه يَعرف فايز وعاداته الغريبة، ولا مكان لعنصر المفاجأة، لكنه تفاجأ بالفعل، وأحس أنه أمام وحش قاتل يستدرج ضحاياه إلى النهاية الحتمية. وما زاد خوفَه هو ذلك الإصرار العجيب الذي كان يلتهب في عيون فايز.
(5)
بعد أسبوع اجتمع مجلسُ قيادة ثورة المقبرة الذي رسمه فايز. ولكنْ هل هذا الشخص هو فايز ؟!. لقد أَطلق لحيته، وصار يَحمل حقيبةً محتوية على كتب ممنوعة وأقلام وأوراق. طبعاً لن تكون حقيبة مدرسية. ومَن هؤلاء الأشخاص الذين أَحضرهم ؟!. بسَّام خميس (ابن عمِّه)، ومازن عبد الله، ومعاذ أحمد حميد. وقد انضمَّ إليهم حارسُ المقبرة لملء وقت فراغه، وتقديم الدعم اللوجستي!
وهؤلاء الأشخاصُ يُعتَبَرون خارج حسابات الناس، بسبب تصرفاتهم الغريبة، وكلامهم غير المفهوم في أحيان كثيرة.لذلك أُحيطوا بنظرات الشك وعدم الارتياح.
فالناسُ ينظرون إلى فايز عمران وحارس المقبرة على أنهما ينتميان إلى الموتى وليس الأحياء، وذلك بسبب حياتهما في المقبرة، وانسجامهما مع الموتى أكثر من الأحياء. وبصراحة، إنهما وَجْهان لعُملة واحدة يُكمِلان بَعْضَهما البعض. فنظريةُ فايز في هذا السياق هي أن الموتَ هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، أمَّا نظرية الحارس فهي أن الموت هو الحياة الحقيقية. وطالما تناقشا حول هاتَيْن الفكرتَيْن، وإمكانية التوفيق بينهما. وهما متَّفقان على أن اختلاف الرأي لا يُفسِد للود قضية.
أمَّا بسام خميس فهو عبقري في الرياضيات. ففي أحيانٍ كثيرة يطلبه يوسف صاحب بقالة الخيَّامي لإجراء حساباته والجردِ السنوي للبضاعة. أمَّا النساءُ فيطلبنَ منه حسابَ ثمن الذهب صعوداً أو هبوطاً. كما أن معلِّم الرياضيات في المدرسة يتركه يشرح المادةَ للطلاب بينما يهرب هو من المدرسة، إذ إنه يعمل سائقَ تاكسي لإعالة أُسرته الكبيرة. لكنَّ الناس صاروا يخافون من بسام لأنهم سمعوه ذات مَرَّة يقول إنه ذاهبٌ إلى الجِن ليُدرِّسهم مادةَ الرياضيات. وكانت هذه العبارةُ المخيفة هي القطرة التي أفاضت الكأسَ.
ومازن عبد الله هو شاعر جبل النظيف بلا مُنازِع، ويشارك في مسابقات داخلية وخارجية. وكثيرٌ من الناس يقولون إننا نشعر بعبقريته لكننا لا نَفهم شيئاً مما يقوله. وقد صار مكروهاً بعد تغزُّله بزوجة المختار. وقد حاول المختارُ إطلاقَ النار عليه لِيَغْسلَ شَرفه لكنه هَرب، ومنذ ذلك الحين اعتزل الشِّعرَ الغزلي، وصار يكتب في مواضيع سياسية فَطُرد من عمله.
أمَّا معاذ أحمد حميد، فهو كهربائي، ويبتكر تصاميم للسيارات. وقد حَقد عليه السكان، وصار مكروهاً عند عُمَّال النظافة خاصةً، بسبب تصاميم السَّيارات التي يرسمها على الحيطان، بحيث إن زائر جبل النظيف يُخيَّل إليه أنه في مضمار لسباق السيارات.
اجتمع الأشخاص الخمسة في المقر الجديد. وشَعروا بهدوء جامح منبعث من نسيم عذب غامض جاء من جهة ما. أسندوا ظهورهم بعناية تامة، ورموا أبصارَهم وراء الغيوم الخجولة، وأغمضوا عيونهم لبرهة ثم فتحوها كمن يفتح باباً مغلقاً منذ قرون. كانت هذه الحركاتُ هي فقرات حفل الافتتاح الذي جهَّزوه مسبقاً.
وربما لو شاهدهم أحدٌ في تلك اللحظات لاعتبر لقاءهم مسرحيةً بائسة تم تحضيرها بدقة، واعتقدَ أن كلَّ الممثِّلين حَفِظُوا أدوارَهم كارهين لعملهم لكنهم - في نفس الوقت - محتاجون إلى أجرة التمثيل.
وهذا الانطباع ليس له نصيب من الحقيقة. فلم يَجبرهم أحد على المجيء إلى المقبرة. كما أنه لا توجد منفعة مادية من وراء هذا الاجتماع.
انفتحت القلوبُ المولودة حديثاً على كل الاحتمالات. الاستراحة قصيرة جداً في العقلانية، طويلة جداً في الجنون. ملامحهم مشبوحةٌ على أخشاب الكرة الأرضية. صار الوقتُ مسافاتٍ من المراكب الراسية في ميناء منبوذ لم يعد أَحدٌ يستخدمه. الحناجرُ تحدِّق في المستحيل الممكن، والعتمةُ المحيطة به هي وقودُ العار ومقدمةٌ لثورة جامحة. أرضٌ تَبسط شرايينها كفناً لكَ لترتاح الحجارةُ من اسم جرحكَ. المشي نحو هاوية الحشائش البلورية.
آبارُ الوجوهِ حقولُ بارود كالتين المعلَّق على حبل الغسيل. لحظةُ غياب الروح عن سمائها الوضيئة هي لحظة اندلاع القتل الصارخ. القتلةُ والضحايا يتناوبون على الصمت. والصمتُ أُولى خطوات الخفافيش على سطوح الشهيق. زيتونةٌ تحلِّق فوق
المقابر الجماعية.
قد يلتحم مطرُ القلب بدمع العين لكنَّ الملحَ لا يختلط بالأكسجين. وكلُّ الموتى يسكنون فيهم، ويأكلون معهم، وينامون معهم. وليس من السهل أن يجد الإنسانُ ذاته في هذه الفوضى. وربما يقضي أحدُهم كل لحظات حياته في التفتيش عن ذاته بين ذواته، وقد يجدها ولا يجدها. لكن الأمر يستحق المحاولة.
إنهم يَركضون ويأكلون المسافةَ. يَسْبحون في أمعاء بحيرةٍ على وشك التبخر. وكلماتُهم تَذوب في أبجدية العشب. ولا أحدٌ يَزورهم في قَلعتهم سوى الطوفان.
(6)
لقد تحسَّن الوضعُ المادي لرأفت سليم المخلوسي. فمنذ أن بدأ بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الإنجليزية تضاعف دَخْله الشهري، وتعرَّف على صَفْوة المجتمع. وكلَّ يومٍ - بعد انتهاءِ دوام المدرسة - يقضي وقته في عمَّان الغربية متنقلاً من فيلا إلى فيلا حتى ساعة متأخرة من الليل.
وصل الأستاذ رأفت إلى فيلا فخمة مكتوب على بوابتها العملاقة: [ فيلا الدكتور لؤي عبد الكريم عَطْوة ]. كانت الساعة الخامسة مساءً، أي إنه جاء في الموعد المحدَّد بدقة. وقد كانت دهشته كبيرة عندما دخل الفيلا، ورأى الأثاثَ الفاخر، والديكور المتناسق، والخدمَ من عِدَّة جنسيات. كان طراز الفيلا غربياً حتى النخاع. وقد تساءل في قرارة نفسه تُرى ماذا يعمل الدكتور لؤي ؟!.
جلس الأستاذ رأفت على الأريكة، وأخذ يُجيل بصره في المكان مبهوراً، وغارقاً في دهشته العارمة وأسئلته الوسواسية المتكاثرة. وبينما هو يصارع أفكارَه ظَهرت امرأةٌ ممتلئة وأنيقة، ترتدي تنورةً قصيرة، ويفوحُ منها رائحة عَطْرٍ شديدة. وجهُها أبيض بلا مساحيق، وخدودها وردية بدون بلا مكياجٍ. كانت أرستقراطية بكل معنى الكلمة. وعندما رآها رأفت أيقنَ أنها سيدة المنزل. وتعجَّب في قرارة نفسه من شموخها، فقد اعتقد لمدة طويلة أن هذا النوع من النساء لا يوجد إلا في الأفلام السينمائية. وقف احتراماً لها. وبدا مهزوزاً بعض الشيء لكنه حاول أن يتماسك قَدْر المستطاع، ويتخلص من الرجفة الداخلية التي تتلاعب به. إنها رَجفة جنونية شاملة.
تقدَّمت منه مبتسمةً، ومدَّت يدَها قائلةً:
- ميَّادة سمير حَرَم الدكتور لؤي عَطْوة.
صافحها رأفت وهو يقول بصوتٍ خائفٍ:
- رأفت سليم المخلوسي.. أستاذ اللغة الإنجليزية.
دخلت يداهما في رَجفةٍ مشتركة. وتفاجأ الاثنان من هذا الإحساس الداهم. كانت يدُها وسادةً من الريش. ولم يستطع رأفت نسيانَ نعومة يدها منذ ذلك الحين. لقد صارت نعومةُ يدها سيفاً قاسياً يخدش مرايا ذاكرته، ويَحفر قاعَ قلبه.
جلست ميادة على أحد الكراسي. ويبدو أنه كان مُخصَّصاً لها. وقد ارتفعت التنورةُ بسبب جلوسها كاشفةً عن لحمٍ أبيض لا أثر فيه للتعرجات أو التَّرهل.
وجلس الأستاذ رأفت كالتلميذ الخائف من عقاب مُعلِّمه لأنه لم يحل الواجباتِ المدرسية.
قالت السيدة ميادة بلا مقدِّمات:
- ابني رمزي طالب في المرحلة الابتدائية في مدرسة أجنبية، وهو يعاني ضعفاً في قواعد اللغة الإنجليزية علماً بأن الجميعَ في البيت يتحدثون الإنجليزية بطلاقة.
استجمع رأفت قواه، وارتفعت رأسُه معتقداً أن دوره قد حان لعَرْض فلسفته في الموضوع، والتنظير في مسألة اللغة، وقال بكل عنفوان:
- إن المحادَثة تختلف عن القواعد اللغوية. فالقواعدُ مثل أعمدة البيت، أمَّا المحادَثة فيمكن اعتبارها كالطوابق المبنية فوق بعضها. كما أن القواعد عبارة عن جُمل منطقية واضحة لا مكان فيها للحركة أو الفذلكة، أمَّا المحادَثة فهي عالَم شديد المرونة، ويمكن التحرك فيه يَمنةً ويَسرة.
كان رأفت يتعمَّد انتقاءَ الكلمات التي لها وَقْعٌ في النَّفْس، وذلك ليبدوَ أكثر من مجرد مُعلِّم للإنجليزية. إنه ينتقي الكلمات الرَّنانة ليظهر كالفيلسوف الذي يُبهر مُحاوِرَه، وينال إعجابَه، ويسيطر عليه.
لم تهتم ميادة بهذه التفاصيل، لذلك لم تعلِّق عليها. واكتفت بالقول:
- أُريد أن يتحسن مستوى رمزي.. وهو طفلٌ ذكي لكنه مُشتَّت، ويُفكِّر كثيراً في اللعب على حساب دراسته. وقد أحضرتُ له مُعلِّمين كثيرين لكنهم لم يُحسِنوا التعاملَ معه.. وما يهمني هو أن يتحسن مستواه، ويتفوق في دراسته، وأنا مستعدة لدفع أي مبلغ.
انتعش رأفت عندما سمع " أي مبلغ ". كان تعبيراً رائعاً بالنسبة إليه، ولم يُرد أن يُضيِّع هذه الفرصة، لذلك قال بسرعة قبل أن يبتعد الحديثُ عن المال:
- لستُ معنياً بالمال. المهم أن يتحسن أداء الطالب، وتكون النتائج ملموسة. وبصراحة.. أنا أتقاضى عشرة دنانير عن الساعة الواحدة.
- لا !.
ذُهل رأفت من هذا الجواب، وارتبك بشكل واضح. وكل أحلامه المالية في تلك اللحظة بدت كقصرٍ رملي انهار فجأةً. فهو لم يتوقع أن مبلغاً زهيداً بالنسبة لهؤلاء الأغنياء سَيُرْفَض بهذه السرعة. ورغم مشاعره المتساقطة، ومعنوياته التي صارت في الحضيض، قال بنبرة كسيرة:
- فلتكن ثمانية دنانير.
- لا !.
وفي تلك اللحظة المرعبة صَبَّ رأفت غضبَه على الأغنياء دون أن يتفوه بكلمة، وشتمهم في قرارة نَفْسه، واعتبرهم لصوصاً يَسرقون الملايين، في حين أنهم يَبخلون بدينار أو دينارَيْن. فهم ذئابٌ يختبئون في ثياب الحِملان، ويَظهرون بمظهر المحترمين وهم مجرد أوغاد يُخفون قذارتهم وراء ربطات العنق والتنانير القصيرة. كل هذه المعاني كانت تحترق في داخله. إن صدره مِرْجل يَغلي بلا رحمة. احمرَّ وجهُه، وتمنى لو يَقدر على البوحِ بما يُفكِّر فيه لكي يرتاح من هذا العذاب المباغِت. وبينما هو يَغرق في جحيم أفكاره، قالت ميَّادة:
- سأدفع عشرين ديناراً عن الساعة الواحدة.
نَزلت هذه العبارة على قلبه كالمطر الذي يُطفئ الحرائقَ، وزال الألمُ الذي يخنقه، وأخذ يمدح الأغنياءَ في سِرِّه، ويَعتبرهم أماناً للمجتمع، ودعامةً في بناء الاقتصاد الوطني، ومساعدةِ الطبقات المتدنية، ودعا لهم بطول العمر، وزيادة الأموال والأولاد.
وفي ذلك اليوم استغرقت حِصَّةُ رمزي ساعتين، من الساعة الخامسة والنصف حتى السابعة والنصف. وتقاضى الأستاذ رأفت أربعين ديناراً. كانت تلك الساعتان من أجمل لحظات حياته دون مبالغة. كان رمزي فتىً لطيفاً، والسيدةُ ميادة امرأةً مهذَّبة، والخادمةُ التي أحضرت الحلوى والعصير أنيقةً. كل شيء كان جميلاً ورائعاً. حتى أزقةُ جبل النظيف القذرة التي سار فيها رأفت في طريق عودته إلى بيته ظهرت نظيفةً ولامعة. أحس أنه سيطير من الفرح. سيصبح له جناحان ويُحلِّق ضد الجاذبية، وضد قوانين نيوتن، وضد قواعد اللغة الإنجليزية. وأخيراً شعر أن الحياة ابتسمت له مثلما ابتسمت للكثيرين غيره.
(7)
يسيلُ الرمادُ من قزحيات الناس. الأمهاتُ يَطمحن إلى تسويق بناتهن خوفاً من شبح العنوسة الذي يتجول في طرقات الكوليرا. هؤلاء البسطاء الذين يعيشون في عزلة الروح مثل العوانس المتسمرات خلف زجاج القطارات ينتظرنَ فرسانَ القشعريرة وقراصنةَ قوس قزح، مثل الجنود الذين يعودون إلى ديارهم ولا أحد يعبأ بهم، ولا يسألهم عن النصر أو الهزيمة. يتساوى عدد الجثث التي يَجمعها الغيمُ كطوابع البريد مع عدد الأوسمة التي يمنحها الفقراء للفقراء في هذا المكان المهزوم المسكون بالأسرار والخيبات التي تتكاثر لتصبح انتصاراً، انتصار الوهم على الوهم. هكذا يتعادل صدأ الوجوه مع موت الزنابق، ويحدِّد الحِبرُ حرارةَ الدم. كأن معادَلات الرياضيات قَد سَقطت، وبَزغت معادَلات اجتماعية جديدة.
كان الليلُ رطباً مثل جسد بحيرة أعمى. والندى يتكاثف كالخناجر في أجفان شجر المقبرة. استيقظ حارسُ المقبرة، والذبابُ يلتهم رائحةَ شَعْره الممزوجة بالذكريات القاتلة. وكان أذانُ الفجر يملأ المكان، يرجُّه رجَّاً كأنه يريد بعث الناس من قبورهم. وبدت مئذنةُ مسجد طارق بن زياد في ثوبها الأخضر وردةً ترفض الذبولَ رغم تعاقب السنوات، وتغيُّر وجوه الأحياء والأموات. والحمَامُ يطير حول المئذنة، ويتداخل مع صوت المؤذِّن المنبعث من كل الاتجاهات بلا بوصلة.
أيقظ الحارسُ إبريقَ الوضوء الذي كان نائماً إلى جانب وسادته الهشة، ودخل في وضوئه بشكل كامل. انقطع عن العالَم الخارجي، ولم يعد يشعر بأية حركة غير حركة الماء المنساب على أعضائه التي بدت ألواحاً زجاجية حطَّمتها الريحُ قبل قرون بعيدة.
قفز عن السُّور. نفض عن ملابسه ركامَ الأمطار القديمة، وترابَ المجرات الحزينة. بدت خطواته الثقيلة وشماً داكناً حاكته الأرصفةُ من أكفان الحشرات السابحة في حفر المجاري التي تصب في عروق المتسولين، وأظافرِ الباعة المتجولين.
كان المكانُ نهراً هادئاً من الجثث الخالية من آثار الدم. باعةُ الخضار ينامون في الساحة أمام المسجد. يفترشون رموشَهم ويَلتحفون احتمالاتِ الربح والخسارة. وكأن نومَهم يَحرس صناديق الخضار من المجهول القابع في كل زوايا الحزن النهاري الممزوج بالتعب الليلي.
حاولَ إيقاظهم بشتى السُّبل، ولكنهم كانوا في عالَم آخر، يَحْلمون بنوعية جيدة من الخضار وربحٍ وفير، ويَخافون من مواجهة نهارٍ غامضٍ لا مكان فيه لأنصاف الحلول. تركهم الحارسُ على حالهم، يَغرقون في كهوفهم المظلمة، ومضى في طريقه نحو المسجد.
كان الصف الأول ممتلئاً عن آخره، ولا فسحة فيه. والمراوحُ تدور بسرعة هائلة، والروائحُ العطرة تنبعث من السِّجاد. ويبدو أن خادم المسجد قد نظَّف السجاد مساء البارحة، ومسحَ زجاج النوافذ، فكل شيء ظهر مرتباً ولامعاً، ولا توجد آثار لرائحة جوارب المصلِّين الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة الكادحة، حيث العَرَق يختلط مع الدم، ورائحةُ الأجساد المنهَكة ترتطم بذرات الهواء.
حضر الشيخُ نايف ريان إمام المسجد بدون مساعدة أحد، وراح يشقُّ طريقَه نحو المحراب وَحْدَه. فهو شيخٌ أعمى عليه هالة الوقار والسَّكينة، ولا أحد يجرؤ على مساعدته في المشي، أو حتى لمس يده. والناسُ يَعتبرونه أحد أولياء الله تعالى، ويَعتبرون مَشْيه بلا مُساعِد أو عكازة كرامة من الله، فهم يقولون إنه يرى ببصيرته. وهو يرتدي نظاراتٍ سوداء على الدوام، حتى إن بعض الأطفال الأشقياء يحاولون الاقتراب منه، والنظر إلى ما تحت عدسات النظارة ليَعرفوا ماذا يكمن وراء هذا السَّواد المطْبق. ومعروفٌ عنه أنه لا يرتدي إلا الثيابَ البيضاء بغض النظر عن المناخ أو الفصول.
عاد الحارسُ إلى مملكته بعد أن صلى الفجر. ألقى نظرة سريعة على معالم المقبرة. كل شيء هادئ. الأعشابُ تتزاوج مع ضوء الذاكرة. وشواهدُ القبور دخلت في أرشيف الحشائش الأرجوانية. ولكنَّ هناك شيئاً غريباً في محيط قبر الحاجَّة سارة. فرك الحارسُ عينيه بشدة، فقد كان يظن أن النعاس بدأ يَهبط عليهما، ويمنعهما من الرؤية بوضوح. تسارعت خطواته نحو تلك البُقعة ليتأكد من تفاصيل المشهد. وما إن وَصَلَ حتى تناثرت أعضاؤه في المكان، ودبَّت رعشةٌ رهيبة في تقاطعات جسده الهش. لم يصدِّق ما رأى. إنه يَحلم. لا بد أنه يَحْلم. ولكن هذا كابوس قاتل وليس حُلماً. إن القبر قد تم نبشُه. فقد الحارسُ قدرته على الكلام أو الصراخ. خَرجت أعضاؤه عن سيطرته. بَالَ في ثيابه بصورة لا إرادية. ومضى مسرعاً لِيُخْبِر أبناء المرحومة. كان يركض في الأزقة المتعرجة كالممسوس، ولم يره في تلك الساعة المرعبة سوى بعض الأشخاص الخارجين إلى أعمالهم مبكِّرين. وطبعاً، لم يهتموا بأمره لعلمهم أن هذا الحارس لا ينتمي إلى عالَم الأحياء، فهو جزءٌ من تاريخ الموتى، وله مغامراته الخاصة، وقوانينه الذاتية التي لا تتلاءم مع حياة السكان، لذا كان تصرفه الغريب أمراً عادياً في تفكير الذين شاهدوه في تلك الساعة الرهيبة.
قرَّر الحارسُ التوجه إلى منزل عمران باعتباره الابن الأكبر للمرحومة. قرع البابَ بشدة كأنه يريد أن يَخْلعه. غرسَ أظافره وأصابعه في جسد الباب. قام أهلُ المنزل مذعورين، يتفقدون أعضاءهم وملابسهم بحركة تلقائية. ماذا يَحْدث ؟!. هل اندلعت الحربٌ ؟!. هل هناك صِدَام بين عشيرتين في الجبل ؟!، وإذا كان الأمر كذلك فما نوع الأسلحة المستخدمة ؟!. ماذا يَحْدث بالضبط ؟!.
قفز فايز وهو في ملابسه الداخلية، وفتح الباب متحسِّساً قلبه، ويستعد لاستقبال مصيبة قاصمة. رأى الحارسَ في هيئة يُرثَى لها، فقال له بسذاجة:
- لماذا جئتَ ؟!، لا يوجد اليوم اجتماع لمجلس قيادة ثورة المقبرة.
- بلا ثورة بلا بطيخ !.
ودخل الحارسُ إلى جوف البيت بشكل عفوي، كأنه مُنَوَّم مغناطيسياً، أو يَسير وهو نائم.
وعمَّ الذعر والفوضى في البيت. وما زاد الطين بِلة أن النساء كُنَّ مستيقظاتٍ للتو، ويرتدين ثيابَ نومٍ خفيفة للغاية. وما إن رأينَ الحارسَ حتى تفرقنَ في أرجاء المكان، وهَربت كل واحدة إلى زاوية. وكان فايز يَلهث خلف الحارس وهو يَصرخ:
- أين تذهب يا ابنَ الحرام ؟!.
وأمسك عمران بالحارس، وبدأ يَلْطمه على وجهه بشكل هستيري. وفي تلك اللحظة القاسية استجمع الحارسُ قوته، كأنه يعيش حلاوةَ الروح قبل مفارقتها للجسد، وقال بأعلى صوتٍ:
- لقد نَبشوا قبرَ أُمِّكَ يا عمران.
وهرب الحارسُ كالطيف السحري. وساد الهدوءُ المرعب في المكان، واحتل الوجومُ ملامحَ الرجال والنساء.
تقدمت زوجة عمران وعيناها غائرتان، وتفاصيلُ جسمها مصلوبة على خشبة مسرح مهجور، وقالت:
- هذا كلام مجانين. لا تصدِّقوا هذا المعتوه. لا بد أنه سكران أو يتعاطى حبوب هَلْوسة.
وهنا تدخَّل فايز قائلاً:
- هذا الحارسُ عاقل.. أنا أعرفه أكثر منكم، ولا يمكن أن يَكْذب أو يمزح في هذه المواضيع.. أنا وعبد الرحيم سنذهب إلى قبرها، ونعرف القصة كاملةً.
وعندما سمع أبوه هذا الكلام، قال لزوجته:
- هذا هو الكلام الصحيح، وأنا ذاهب معهما. ولا نريد إخبار أحد بالقصة خوفاً من الفضيحة.. لا قريب ولا بعيد.
ومضوا إلى المقبرة كأنهم يُساقون إلى حبل المشنقة بلا مقاوَمة. كانوا أشباحاً لا تاريخ لها غير الانطفاء، أو رجالاً آليين بلا مشاعر. عيونهم تغوص في مستنقعات خدودهم، ورؤوسهم تتدحرج تحت خناجر الحزن، وقسماتُ وجوههم حطبٌ يَحترق، وجوارحهم تتقاتل في بينها. إن أجسامَهم رمالُ الفوضى والتآكل.
وصل الثلاثة إلى المقبرة. لا توجد أية حركة غير حركة الحشائش التي يتلاعب بها النسيم الجارح. ولا يوجد أيُّ أثرٍ للحارس.
توجَّهوا إلى القبر. وتأكدوا من صِدق الحارس. إن إحدهم نبشَ القبرَ، وأخرج الجثةَ. ولكنْ ما الفائدة من هذه العملية ؟!. الآن اتضح المستور. فمن قام بهذا الفعل إنما كان يهدف إلى الحصول على أسنان المرحومة.. ست أسنان من الذهب. ويَبدو أنه خَلَعها بأداة حديدية. تبادَلوا النظراتِ، ثم حَدَّقوا في الأفق البعيد. كان الأفقُ في تلك اللحظة الخشنة كتلةً من اللهب.
بدا فايز ظلاً ليمامة جريحة. لقد احترقتْ عناصرُ ذاته، وتصاعد الدخانُ منها إلى أن أطبق على رئتيه اللتين بَدَتَا كتفاحتين نخرتهما أوبئةٌ مجهولة. ورغم هذا قال بنبرة حادة، والدم يَغلي في عروقه:
- سأُحْضِر الرَّشاشَ، وأحرس قبرَ جدَّتي حتى يوم القيامة. سأبقى عنده ليلاً نهاراً.
نظر عمران إلى ابنه عبد الرحيم، وقال بسخرية:
- اسمعْ أخاك المجنون.. كُنَّا في مصيبة واحدة، والآن نحن في مصيبتَيْن.
وتابعَ يقول:
- اسمعا مني هذا الكلام. الذي أخذ الأسنانَ لن يَعود، لأنه أخذَ الغنيمة كاملةً ولم يترك شيئاً. نريد دفن المرحومة من جديد، وتجهيز القبر بشكل أفضل. ولا نريد إثارة الموضوع إطلاقاً. سُمعة عائلة المخلوسي يجب أن تظل في السماء. وهنا سندفن هذا السر، كأن شيئاً لم يكن.
ثم نظر إلى فايز قائلاً:
- إذا رأيتَ صاحبك الحارس أخبره أن الموضوع قد انتهى، وإذا أخبر به أيَّ مخلوق، فسوف أقتله، وأعلِّقه على هذه الشجرة.
وأشار إلى شجرة صنوبر ضخمة قابعة في إحدى زوايا المقبرة.
كيف تُولَد الأحزان في هذا الأفق المفتوح على الدمع اللزج ؟. وحوشٌ محبوسة في قفص رَأت البابَ قد فُتح، فانطلقتْ بكل جنونها تلتهم ما تراه أمامها، وما عادت تعرف هل هي من آكلات اللحوم أم الأعشاب !. سخونةُ الدمع تنبعث من مكان غامض وتجرف الحيطانَ وكلَّ عناصر الاختناق. خرجت الذكرياتُ من المقبرة وهي تتوكأ على قدمَيْن مرتعشتَيْن. إنها هجرة الصنوبر إلى أرض مجهولة تقتل أبناءها بدم بارد. نَخرت أجسامَهم أحزانٌ مكبوتة لا تاريخ لها. أعمارُهم أدغال تشويش صاخب، والمناظرُ أضحت كوابيس تندلع في اليقظة. لم يَروا ضوءاً في آخر النفق.
لقد كان النفقُ هو الضوءَ.
خزينٌ من الذكريات الحاشدة وملامحِ الوجوه الغائبة. تلكَ الوجوهُ التي كانت هناك في طوايا الزمان والمكان. كانوا بحاجة إلى جرعة بكاء، ولكنْ خَانَتْهم أعينهم بصورة درامية حاسمة.وراحوا يَسْبحون ضد تداعيات الذكرى المؤلمة. بدا كل شيء حولهم جاهزاً للانفجار والتشظي.
لَيْتَ الأشجار تفهم لغة رموشهم. لَيْتها تحس بمشاعرهم. لقد مضى أولئك الذين تهمُّهم أحاسيسُ شواهد القبور.
أشعر أن العيونَ الخائفة تذرف شيئاً يشبه الدمع، شيئاً من الحلم الدامي المتشبث بالبلاد الدامية، حيث يصير الجوع والعطش توأمين ينتشران في الجسد الذابل. لا أُريد أن أُفلسف الجوع والعطش، لكنهما مصطلحان فلسفيان يضربان بقسوة كلَّ أجزاء الذاكرة المفتوحةِ على كل الاحتمالات، المعلَّقةِ على أعمدة الضياء التي ينام تحتها المتسوِّلون.
إنه الغرق في بركة تعب تُغرِق زُوَّارَها بدون مقدِّمات. كانت الجباهُ مُطفأة. هكذا ينطفئ اللمعانُ مثل عَشاء على ضوء الشموع. السباحةُ في فضاء من الدهشة والانطفاء. في هذه الحقبة التاريخية الواقعة تحت احتلال نزيف أعشاب المقبرة تجتمع الدهشةُ مع الانطفاء. كانت وجوهٌ موحشة ترتسم في منام الضوء. وجوه تشبه إلى حد بعيد وجوه القاتلين الذين قتلوا ضوءَ الأنثى. إنها منقوعة في زجاجة دم مُعطَّرة.
كان الوضعُ موغلاً في المأساة على جميع الأصعدة، وغارقاً في النزيف اللامرئي الذي يضطهدُّ المشاعرَ الحقيقية ويكبتها بعنف واضح. لستُ أدري ماذا ستفعل الطيورُ الخضراء في هذه القلوب المتفحمة. لقد صار مستقبلُها جزءاً من الماضي العاري من الذكريات.
(8)
- لا يمكن أن أَفهم الرياضيات.. إنها مادة لا تطاق.
هذا ما أكَّدته سهير أنطوان لنفسها وهي تخرج من مدرسة راهبات الوردية في شارع المصدار. إنها طالبة في المرحلة الثانوية، وتعاني من الأرقام والحسابات، وتكاد رأسها تنفجر من تفاصيل هذه المادة وطرقها المتشعبة. ويبدو أن دَرْس اليوم كان قاسياً بشكل خاص. فقد وزَّعت المعلمةُ أوراقاً على الطالبات تتضمن أسئلةً إضافية، ونماذج امتحانات مقترَحة. وكلما حَدَّقت سهير في ورقتها أصابها صداعٌ رهيب. وحينما تتذكر النظاراتٍ السميكة لمعلمة الرياضيات العجوز، يزداد صداعها، وتشعر أنها بحاجة إلى البكاء أو الصراخ في هذا الشارع المزدحم بالمارة وبالسيارات.
كانت سهير فتاةً رقيقة لم تتعود على تحمل المسؤولياتِ، ومواجهة الصدمات الحياتية. فهي آيلة للسقوط في أية لحظة. وقد كانت مرحةً لا تفارقها الضحكات ولا النكات. لكنها عندما صارت طالبةً في المرحلة الثانوية، انطفأ عالَمها بسبب معاناتها الشديدة في المواد الدراسية، فقد أجبرها والدُها على اختيار الفرع العلمي على عكس رغبتها. فهو يريدها أن تصبح طبيبة مثل ابنة عمِّها، أمَّا هي فتريد أن تصبح مصممة أزياء أو عازفة بيانو أو لاعبة تنس أرضي. لكنها خَضعت لرغبة والدها الذي لم يُكمِل تعليمَه، ويَطمح أن تتلقى ابنته أعلى الشهادات لكي يجد في ذلك تعويضاً عما فاته من التعليم. فهو يتمنى أن يراها طبيبة مشهورة، يشير الناسُ إليها ويقولون: هذه الدكتورة سهير ابنة أنطوان الراوي. وبعد وفاته يقولون: امرأة بألف رَجل، والذي خَلَّف ما مات. ولأن سهير وحيدة أبوَيْها ازداد الضغطُ عليها، ووَجدت نفسها في فوهة المدفع لوحدها.
وسهير - تلك الفتاة الناعمة المدلَّلة - غير قادرة على تحمل هذه الأعباء. لذلك تشعر أنها منبوذة في هذا العالَم رغم انتمائها إلى أسرة غنية. فوالدها أنطوان الراوي يملك محلاً للذهب في حي الأشرفية. وأمُّها أوكرانية كانت بطلةً في الجمباز أيام شبابها، وفازت بعدة ميداليات. وعمُّها طوني الراوي مُصمِّم أزياء عالمي يقيم في باريس، ويعمل مع أشهر نجمات السينما.
ولا يمكن نسيان ذلك المشهد الذي جَمع بين سهير ووالدها. فقد قَررت مصارحته بأنها تريد أن تصبح مصممة أزياء مِثْلَ عمِّها. فقال لها أبوها إنه سَيُحْضِر لها كل أنواع القماش لتتدرب عليه في البيت، وسوف يسمح لها بالذهاب إلى عمِّها في إجازة الصيف. وليكن تصميم الأزياء هواية، ولا داعي أن تتخذه مهنةً. وعندما أدركت أن هذا الطريق مسدود، قالت له إنها تريد أن تصبح عازفة بيانو، فقرر والدُها شراء بيانو لها، وإحضار معلِّمة موسيقى لتعليمها العَزْف، وليكن العزفُ هوايةً في وقت الفراغ، فالموسيقى لا تُطعِم خبزاً في بلادنا. هكذا أكَّد لها. وبقي عندئذ خيار وحيد، وهو أن تصبح لاعبةَ تنس أرضي مثل شتيفي جراف، وقد أخبرها والدُها حين سمع هذا الكلام بأنه رَجل شرقي لا يسمح لابنته أن ترتديَ تنورةً قصيرة، ولكنْ بإمكانها ارتداء بنطال، وممارسة هذه الرياضة في جمعية الشابات المسيحيات التي تملك ملعباً للتنس الأرضي، ولا داعي أن تصبح مثل شتيفي جراف، فلتصبحْ مثلَ سامبرس !، ولتظل هذه اللعبة مجرد هواية. وهكذا وَجدت سهير نفسها في طريق واحد، وهو اختيار الفرع العلمي لكي تصبح طبيبة مثل مونيكا ابنة عمِّها، ليست مونيكا سيليش، ولكنْ مونيكا طوني الراوي !.
مشت سهير برفقة زميلاتها في شارع المصدار الذي بدا حينئذٍ مثل جبل لا قمة له. وقد أخبرتهن بمقدار معاناتها في مادة الرياضيات، فأشارت عليها إحداهن بإحضار مدرِّس خصوصي، وقالت لها أخرى إن عليها مضاعفة جهودها، وقامت ثالثة بتأنيبها متهمة إياها بالتقصير، والتفكير في أمور تافهة لا علاقة لها بالمدرسة.
ازداد صداعُ سهير، وازداد شعورُها بالغربة في هذا العالَم. وعندما وصلت إلى سور المقبرة، نَظرت إلى ورقة الرياضيات، ثم ألقتها على القبور، وقالت بكل سخرية:
- فليحل الأمواتُ هذه الأسئلة، ولتفرحْ معلمة الرياضيات العانس !.
وعَلَت ضحكاتُ البنات في الشارع، واختلطت دموعهن الخفية بضجيج السيارات، ورائحةِ الدُّخان، واتَّجهت ضفائرهن نحو شموس الألم، وواصلنَ السير إلى بيوتهن في حي الأشرفية الذي بدا - رغم قُرْبه - كأنه في آخر الدنيا.
كان بسام يتجول في المقبرة وحيداً، محاولاً تجميع قواه الذهنية، والتركيز في مشاريعه المستقبلية. فهو لم يَقدر على التفكير في البيت بسبب كثرة المشكلات الأسرية، والصراع الدائم بين أبوَيْه. وحين يشتد الصراعُ المنزلي لا يَمْلك إلا الهرب نحو دفء المقبرة، حيث يجد فيها الهدوء، وهذا يساعده على حل واجباته الدراسية، والتأمل في مسار حياته، وحركة هذا الوجود.
رَاحَ يَمْسح شواهد القبور من الأغبرة، ويلتقط بعض الحشائش الفوضوية، ويُزيل الأوساخ المتكاثرة هنا وهناك. وأثناء انشغاله في هذا العمل وَجد ورقةَ الرياضيات التي رمتها سهير. أخذها ونفض عنها الغبار، وجلس تحت شجرة الصنوبر القريبة من أحلامه، البعيدة عن أشلائه المتكاثرة كالزنابق. وأخذ يتفحص الورقة، ويستعرض الأسئلةَ سؤالاً سؤالاً. ثم هزَّ رأسه قائلاً:
- مستوى الأسئلة لا بأس به.
أحضر حقيبته المدرسية، وأخرج منها قلمَ حِبر، وبعض الأوراق البيضاء. وأخذ يحل الأسئلة بشكل تفصيلي مع وضع شروحات جانبية. وبعد أن انتهى، قرَّر لصق الأوراق على سور المقبرة الخارجي، قريباً من المكان الذي أُلقيت منه ورقة الأسئلة. أحضر الصمغَ من الحقيبة، وقفز كالقرد على السور، ثم قفز مرةً أخرى على الشارع، وسائقو السيارات يَنظرون إليه باستغراب شديد. لكنه لم يعبأ بتلك النظرات، وألصق الأوراق كما خطَّط مسبقاً، ومضى إلى حال سبيله.
وفي اليوم التالي تابعت سهير وزميلاتها خطَّ السير المعتاد. فقد خرجنَ من المدرسة، ودخلنَ في مواضيع شتى. وكل واحدة تُدلي بِدَلْوها. وعندما اقتربنَ من سور المقبرة، قالت إحداهن بسخرية:
- لا بد أن الموتى قد حَلُّوا أسئلة الرياضيات !.
عَرفت سهير أنها المقصودة بهذا الكلام، فقالت ساخرة:
- ولا بد أنهم وَضعوا لي علامةً كاملة بسبب عبقريتي !.
وأَطلقت سهير ضحكةً مجلجلة امتزجت مع أسمنت سور المقبرة، وانتشرت ضحكاتُ البنات كانتشار النار في الهشيم، لكنها انطفأت بسرعة. وخَمدت الأصواتُ العالية، ودَبَّ الرعبُ في تفاصيل وجوههن. فقد رأينَ ورقة الرياضيات معلقةً على السُّور. ليس هذا فحسب. بل أيضاً الحلول موجودة إلى جانبها.
تبادلت البناتُ النظراتِ القاتلة. وكلُّ واحدةٍ راحت تبلع رِيقها، وأصابعها ترتعش. كانت أوصالهن تغطس في مستنقع عميق، ورؤوسهن تجدِّف في دُوار شرس.
اقتربت سهير من الأوراق وهي غير مصدِّقة، صارت تشكُّ في نَفْسها. هل هذه حقيقة أم أحلام يقظة أم كابوس ؟!. إنها تفرك عينيها. تقرص خدودها لتتأكد أنها ليست نائمة. رَسمت الصليبَ على صدرها، وأظافرها تَتساقط في الفراغ كالمطر الحامض. اختلط في ذاكرتها منظر السيارات والمحال التجارية والباعة المتجولين والمارَّة الراكضين نحو نهايات الحلم. شَعرت أنها مصلوبة على زجاج السيارات. أفكارٌ غريبة لا رابط بينها هاجَمَتْها في تلك الساعة المخيفة.
تحسَّست الأوراق مثلما تتحسَّس جسدَ بيانو قديم سيصبح حطباً للموقدة في ليلة خريفية باردة. هَربت صديقاتها من المكان، وتفرقنَ في الدروب الخشنة. وبقيت وحدها تحدِّق في الأوراق، وتقرأ الأسئلة والأجوبة، وتُجيل النظرَ في تفاصيل المشهد الذي بدا خارج الزمان والمكان. وبعد أن انتهت من قراءة كل سطرٍ، مشت إلى بيتها بخطواتٍ ضعيفة. إنها تجرُّ جثتها نحو الهاوية. أطرافُها عكازات من خشب الدهشة، وذاكرتها بيتٌ للنمل، ووجهها خيمةٌ تتلاعب بها الرياح الكاسرة.
وَصلت سهير إلى بيتها. ودَخلت إلى غرفتها بسرعة. وقد لاحظت الخادمةُ التي فَتحت لها الباب أن وجهها أصفر، لكنها خافت أن تلقيَ عليها أيَّ سؤال، أو تَحشر نَفْسها في أمر لا يَعنيها.
شَعرت سهير أن وحشاً برأسين يعيش معها في النهار والليل. قالت في نفسها إن الذكرياتِ قنبلة موقوتة مزروعة في أجفانها، ولا بد أن تتخلص منها قبل أن تنفجر. بدت مشوَّشةً إلى أقصى حد. ارتمت على الأريكة. أغمضت عينيها ثم فتحتهما كأنها تفتح صندوقاً مغلقاً منذ قرون. تمنَّت في قرارة نَفْسها لو كان هذا حُلماً عابراً لتستيقظ منه. لكنها عادت لتؤكد لنفسها أن هذا مجرد كابوس، وسينتهي سريعاً. ولكن كيف سينتهي ؟. هذا السؤال جعلها تتقلب على الأريكة كالملسوعة.
قامت مسرعةً نحو عشيقها الأبدي البيانو، وبدأت تعزف عليه وهي في غاية التوتر. سَمعت والدتها صوتَ البيانو، فقرعت باب حُجرتها، وقالت:
- تعالَي إلى الغداء يا سهير.
ردَّت سهير بصوت مخنوق يكاد يقتلع رِئَتَيْها من جذورهما ليرتاح من صخب الجهاز التنفسي:
- لا أريد أن أتغدى.
وبدأت الأسئلةُ العنيفة تنهمر عليها من كل الجهات وتتجاذبها بكل قسوة. أسئلةٌ تهرب من الإجابة الراكضة في الأذهان. وهذه الأنثى الحبيسة في الموسيقى تَذوب في جسدها الذابل. والوساوسُ تَهطل على رأسها الآيل للانفجار.
وفي اليوم التالي، كانت المدرسة بأكملها تتحدث عن موضوع سهير. وبدأت الطالبات ينظرنَ إلى سهير باعتبارها قديسة قادرة على التعامل مع الموتى، واستحضار الأرواح، لدرجة أن بعض الطالبات صِرْنَ يتمسحنَ بها، ويُقبِّلنَ يدها.
وقد صارت سهير تشعر بالإحراج، وتتهرب من الطالبات. وازداد مَيْلها إلى العُزلة، وحُب الاختفاء. وبدأت تسأل نَفْسها هل يمكن أن تكون قديسة وهي لا تَعْلم ؟!. إنها تضع الصليبَ في عنقها مُنذ طفولتها، وتشارك في حفلات الكنيسة، والعزف على البيانو، وهي عضو في فرقة الإنشاد والتراتيل. وتذهب إلى الكنيسة بانتظام. فهل هذه سيرة ذاتية مقنعة للحصول على وظيفة قديسة ؟!. كلُّ هذه الهواجس كانت تحترق في صدرها. وبدأت تَشعر أنها غريبة عن نَفْسها، وأنها قضت عمرها وهي لا تَعرف ذاتها.
وفي أحد الأيام استدعتها الإدارة وأبلغتها أن الموضوع زاد عن حدِّه، وأنها لن تَسمح لأمور الشعوذة والكذب أن تنتشر في المدرسة. وقد وجَّهت لها الإدارةُ إنذاراً شديداً، وأخبرتها بضرورة الامتناع عن نشر القصص الخيالية عن الرياضيات والموتى والقبور، وإذا استمر الأمر فسوف يتم استدعاء ولي أمرها، وتسليمه قرار فصل ابنته من المدرسة بتهمة السِّحر والشعوذة. وهكذا بدأ الأمر ينطفئ تدريجياً في المدرسة، لكنه في نَفْس سهير يزداد اشتعالاً.
(9)
كانت أمُّ بسام تتجول في وسط البلد من أجل شراء بعض الحاجيات. إنها تتصفح زجاجَ المحلات التجارية كما يتصفح الناسُ الجرائدَ. تَحمل على يدها ابنتها الصغيرة سارة، وترافقها ابنتها الوسطى حورية. لم تترك محلاً تجارياً إلا اقتحمته رغم ضعف الميزانية. ظهر على وجهها علاماتُ الانبهار. فألوانُ السِّلع كانت فاقعةً تستقطب القلوبَ قبل العيون، والأنواعُ مختلفة تشدُّ الزبائن بكل قسوة. اشترت بعضَ الأشياء الخفيفة، ومضت إلى أحد محلات العطارة. وما إن رآها أبو شهاب صاحبُ المحل حتى رحَّب بها بحرارة فهي زبونة دائمة، وقال:
- تفضَّلي يا أم بسام، كيف يمكن أن أخدمك ؟.
تلعثمت في الكلام، وشعرت بأنها متضايقة، وغير قادرة على التعبير عمَّا يَجول في صدرها. فنظرت إلى ابنتها ذات الخمسة عشر ربيعاً، وقالت:
- اذهبي يا حورية إلى محل الأسماك في نهاية الشارع، واسأليه عن سِعر الكيلو.
تنفَّست أمُّ بسام الصعداء بعد ذهاب ابنتها، وقالت بصوتٍ ثابت:
- بصراحة، أُريد خَلْطة تزيد من القوة الجنسية، وتطيل مدة الجِماع.
- الخلطة لكِ أم لزوجك ؟.
- طبعاً لزوجي. أنا مِثْل الفَرَس. لكنْ أبو بسام صار ضعيفاً هذه الأيام... أكيد حَسَدوه. كان لا ينام ولا يتركني أنام. والآن يا حسرة صار ينام مثل الدجاج.
- عندي أعشاب من الصين لمثل هذه المواضيع. ولكني أريد وقتاً لإعداد الخلطة السرية.
وأردف قائلاً:
- وبصراحة يا أم بسام، الخلْطة مُكْلِفة قليلاً.
- كَم يعني ؟.
- ثلاثون ديناراً.
صُدمت أم بسام عندما سَمعت بالمبلغ، وأَخرجت منديلاً لتمسح العَرَق عن جبينها. وانعقد لسانُها، وضاعت الأحرف من أبجديتها. وقبل أن تتفوه بأية كلمة، قال العطار قاطعاً حبل أفكارها الواهي:
- صَدِّقيني يا أختي يا أم بسام، وبدون حَلف، إن هذا السِّعر فقط للزبائن الدائمين. لا تظني أن أستغلك، والعياذ بالله. لكن الأعشاب القادمة من الخارج سِعرها نار. وأحب أن أُذكِّرك أن هذه الخلطة تدوم لمدة شهر. وهي فعالة مئة بالمئة،
وأنا جَرَّبْتُها على نَفْسي، والنتائج مذهلة !.
رفع هذا الكلامُ معنوياتِ المرأة التي بَدت مصمِّمة على شراء الخلطة بأي ثمن.
وقد كان تفكيرها محصوراً في زاوية محددة، فلم تدخل في مفاوضات تخفيض السِّعر.
وفي نَفْس الوقت لم تكن تملك المال الكافي، لذا قررتْ أن تعيدَ الأشياء التي اشترتها، وقالت للعطار:
- ابدأْ في إعداد الخلطة، وأنا سأذهب لكي أعيد ما اشتريتُه. وإذا جاءت
ابنتي أثناء غيابي قُل لها أن تنتظرني ولا تتحرك.
هَزَّ العطارُ رأسَه، وقال:
- كلامكِ على العين والرأس.
ارتفع الصراخُ في المحل الذي اشترت منه أمُّ بسام، وكادت أن تشتبك مع البائع بالأيدي. فقد رَفض في البداية أن يعيد لها المالَ، لأن البضاعة المباعة لا تُرَد ولا تُسْتَبْدَل. لكنه خضع لرغبتها خوفاً من تجمُّع الناس بسبب الصراخ، وحدوث فضيحة في المحل تُشوِّه سُمعته.
انتهى العطارُ من إعداد الخلطة. وَضع عليها اللمساتِ الأخيرة. فالحاج أبو شهاب عطَّار من الطراز الأول، وخبير أعشاب، ومتخصص في الطب الشعبي. وفي بعض الأحيان تتم استضافته في البرامج التلفزيونية لتوعية الناس بخصائص الأعشاب، والرد على أسئلة المشاهِدين.
عادت أم بسام فَوَجدت الخلطة جاهزة، وموضوعة في كيس ورقي. كما أنها وَجدت ابنتها واقفة. أمَّا أبو شهاب فكان ينتظرها على أحر من الجمر لإعطائها التعليمات، حيث قال:
- ضَعي رُبع ملعقة صغيرة على الطعام، ولا تزيدي الكمية، ولا تنقصيها. فالزيادةُ تسبِّب الإسهالَ، والنقصان يُسبِّب الصداعَ.
دَفعت المرأةُ كلَّ ما تَملك. وكان عليها هي وابنتها أن تنطلقا إلى جبل النظيف سيراً على الأقدام لأنهما لا تَملكان أُجرةَ النقل. مَشَيَتا بسرعة دون النظر إلى واجهات المحال التجارية لأن المفلِس يمر في الأسواق سريعاً. وأثناء الطريق قالت البنت لأُمها:
- ما هذه الخلطة التي جَعَلَتْنا نمشي على الأقدام في هذا الحَر، ولا نَقْدر على ركوب سيارة أُجرة ؟.
اشرأبَّ عنقُ المرأة، وقالت بلهجة الواثق:
- هذه الخلطة دَفعتُ فيها دم قلبي.. حياتي كلها تعتمد عليها.
ثم استدركتْ قائلةً:
- أقصد حياتنا، فهي تزيد من الذكاء والتركيز، وسوف تحصلون على أعلى العلامات في امتحانات المدرسة.
قالت البنت بكل بساطة:
- ضَعِيها في كل الوجبات التي آكلها لكي أصبح الأولى على الصف.
ردَّت الأمُّ بسخرية لاذعة:
- ستصبحين الأولى على جبل النظيف، وليس الصف فقط!.
(10)
إن الأحزان تُجرَف مع الصخور والتراب والغبار. وها هُوَ أبو بسام يذوب في الوردية المسائية. وتكسيرُ الحجارة يتم على أضواء الكشَّافات. ورائحةُ المتفجرات المنبعثة من باطن الأرض تشقُّ الجيوبَ الأنفية للعُمَّال الذين يُضحُّون بصحتهم من أجل إطعام عائلاتهم التي تنتظرهم في نهاية يوم شاق.
كان منظرُ العمَّال يبعث على الأسى. وجوهُهم مملكةُ الغبار والتجاعيد، وأيديهم المشقَّقة لم يعد فيها مكان للأعصاب أو الإحساس. لقد فَقدوا إحساسَهم بالعناصر المحيطة بهم، وصاروا رجالاً آليين يتنفسون البارودَ ويأكلون الحصى. وقد حاول أبو بسام تنظيم شؤون العمَّال، والاعتناء بسلامتهم العامة، وقادَ أحد الإضرابات، لكن صاحب الكسَّارة اتَّهمه بأنه شيوعي كافر يرفع شعار " يا عُمَّال العالَم اتَّحدوا "، فتفرق العمَّالُ مستغفرين الله، وعادوا إلى أعمالهم، وصاروا يَنظرون إلى أبي بسام نظرة شَك رغم أنه يَؤمُّهم في الصلاة !. وكاد صاحبُ الكسارة أن يَطرده من العمل، لكنه آثر الإبقاء عليه بسبب أمانته وخبرته الطويلة.
عاد أبو بسام إلى بيته كالجثة الهامدة المحمولة على عربة عسكرية تجرُّها العصافيرُ النحيلة. انعكس ضوءُ القمر على الأزقة المعتمة، وظَهرت الشروخُ في حيطان البيوت مثل ملامح المومياوات القديمة. والهدوءُ المخيف يلتهم الذكرياتِ الأسمنتية. والشبابيكُ الجريحة صارت أزهاراً مسمومة. كلُّ العناصر تنام على فوهة بركان خامد، ونزيفُ الطرقاتِ اللانهائي يحتفل بالهدوء الذي يَسْبق العاصفةَ.
- لماذا لم تنامي يا أم بسام ؟.
قال زوجُها القادم من عالَم الصخور والقتلى.
- لن أترككَ تنام بدون عَشاء.
- صَدِّقيني.. من شدة التعب أتمنى أن أرميَ نَفْسي على الفِراش، وأغطس في نومٍ عميق لا أخرج منه أبداً.
- لا فائدة من هذا الكلام.. اذهب واغسل وجهك، وسوف تجد الطعام على الطاولة، وتصبح مثل الحصان.
مضى الرَّجلُ المذبوح إلى المغسلة، ووضع رأسَه تحت صنبور المياه، ثم انهمر الماء مثل الرصاص الحي. شَعر أنه يُولَد من جديد، ويستعيد طفولته التي لم يَعِشْها. وكان الماءُ في تلك اللحظة ذاكرةً متجسدة في نشوة الزمن، وشريطاً سينمائياً يَعرض أحداث العُمر الراكض في الفراغ. هذا العُمر الذي يتدفق في مداراتٍ مجهولة لا هوية لها غير الابتسامات المقهورة، والأحلامِ المكبوتة.
جلسَ أمام طاولة الطعام كالطفل الخائف من عقاب أُمِّه. لكنه سُرعان ما تحرَّر من كل قيوده، وأزاح كلَّ الخواطر عن باله. تحرَّر من جاذبية الحزن والألمِ. ذكرَ اسمَ الله، وقفز إلى الطعام كسبَّاح يسعى إلى انتشال جثةَ غريقٍ غامضة.
كانت أمواجُ الخبز تتكسر على صخرة لُعابه، والمرقُ يَسيل على حوافِّ فمه. هكذا يصبح الإنسانُ رهينةً عند الطعام. تصبح عناصرُ الكائن البشري تابعةً لصوت المعدة واضطرابها. المشي في الطريق الذي تحدِّده الصحونُ. تحتل أشكالُ الصحون أشكالَ البشر. إنه الحلم الغائب في أقاصي الارتعاش الخفي. أضحت الرعشةُ حُلماً وكابوساً في آنٍ معاً.
أحسَّ أنه في حلبة مصارعة الثيران، وأن الموت قادم في أية لحظة، ومن أية جهة. وها هو الجمهور يستمتع بموت أي كائن، سواءٌ كان المصارِع أم الثور. المهم أن يموت أحدهما أو كلاهما لكي تصبح متعة الجماهير في أَوْجِها. إنهم يدفعون من أجل مشاهدة الموت القادم، أو بالأحرى الاستمتاع بالموت.
انتهى من تناول الطعام. غسلَ يديه بالماء والصابون، وعاد إلى زوجته وهو يَشعر بنارٍ تتأجج في أعصابه. ازدادت عيناه لمعاناً، وصار قلبُه بركاناً يضخ البارود في شرايينه المفتوحة على ضوء القمر. نظر إلى زوجته بكل حواسِّه، وقال بصوتٍ صلب:
- لم أنتبه إلى قميص النوم الذي ترتدينه.
ردَّت زوجته، وهي تمط كلامَها مَطاً، وتتعمد الغنجَ:
- عقلُك في الطعام.. وليس معي.
- يا لَيْت أيام السعادة تعود، وترجع الذكريات الجميلة.
- ضَع يدكَ في يدي لترجع تلك الأيام.. حرام أن نقتل عُمرنا.. نحن سنعيش مرة واحدة فقط.
ضحك أبو بسام بملء فمه، وقال:
- صرتِ فيلسوفة !.
وأردف قائلاً:
- هل نام الأولاد ؟.
- ناموا !.
ومضى الاثنان إلى فوهة اللهب. كان جسداهما يحترقان في مجرةٍ شديدة الغموض. والدُّخانُ يتصاعد من الأعصاب المتفحمة. وجغرافيا الجسد الواحد المندمجة مع شموع الروح تقضم بقايا الضوءِ الهارب.
وفي تلك الزاوية المعتمة.. قُرب نهايات الحريق، لَمعت الظلالُ المجروحة. إنهما عَيْنا بسام كانتا تشعان تحت اللحاف. لقد رأى والدَيْه وهما يمارسان الجنسَ. تجمَّدت أطرافُه، ووقف شَعرُ رأسه. كان يُحدِّق في المشهد متظاهراً بالنوم. رأى اللقطاتِ كلها بالصوت والصورة. أخذ يبكي بحُرقة، وها هُوَ يصارع نفْسه لكي يخنق دموعَه، ويَدفنها تحت اللحاف. قد سَقطت آخرُ الرايات، وخسرَ آخرَ معاقله.
(11)
هذا الصراخ في بيت زُهدي يَخلع النوافذ. إن أسلوب الحوار بينه وبين زوجته ينبثق من الضجيج. هُما دِيكان يتنافسان في قفصٍ واحد. وكلُّ واحدٍ يَرفع صوتَه إلى درجة الهلوسة لكي يُثبِت وجوده. فالسُّلطة في هذا البيت تعتمد على درجة الصراخ، وقوةِ الأوتار الصوتية. أمَّا ابنهما قيس فضائعٌ بينهما، وقد باءت محاولته التوفيق بينهما بالفشل. وبعد أن تعب الثلاثة ألقَوا أنفسهم على الأثاث البالي، وعندئذ قال زهدي:
- يا جماعة، دعونا نحل الموضوع بهدوء !.
كانت القضية التي أثارت هذه العاصفة هي زواج قيس من ابنة عمِّه هند. فالأمُّ تريد تزويجه سريعاً، والأبُ يريد الانتظارَ بعضَ الشيء من أجل الاستعداد. وقد أكَّد لهما أن الزواج ليس لُعبة، وهو بحاجة إلى تحضير. فالعُرس يجب أن يكون لائقاً بعائلة المخلوسي ذات التاريخ العريق في هذا الجبل.
وفي نهاية المفاوضات الشاقة اتفق الجميع على تعجيل العُرس، ولم يَصْمد رأي زهدي أمام إصرار زوجته، ورغبةِ ابنه. والغريبُ أنهم كانوا يتحدثون عن العُرس قبل التقدم لطلب يد هند. فقد كانوا على ثقة بأن الأمر تحصيل حاصل، وأن خميس لا يمكن أن يَرفض رغبةَ أخيه الكبير زهدي. ((والبنت مِنَّا وفِينا، وابن العَم يُنْزِل ابنةَ عمِّه عن ظَهْر الفَرس)).
وفي اليوم التالي ذهبوا لزيارة بيت أبي بسام، وَطلبوا يَد البنت رسمياً. وكانت هند وحورية تقفان وراء الباب تسترقان السَّمعَ. ظَهر على وجه أم بسام علاماتُ الرضا، وأبدى أبو بسام سعادته وموافقته، لكنه استدرك قائلاً:
- لكنَّ البنت ما زالت في التوجيهي.
وهنا تدخَّلت أم قيس، وقالت وعيناها تلمعان بشدة:
- البنت ليس لها إلا السِّتر.. وبدون مؤاخذة، لا فائدة من تعليم البنات، فالبنت - طَلعت أو نَزلت - ستصبح خادمةً لزوجها، ومكانها في المطبخ.
وضحكَ الجميعُ باستثناء هِند. ولم يكن موضوع الدراسة يَشغل بالَها. بل موضوع ابن عمها الآخَر رأفت. فقد كانت تحبه وتَنظر إليه كقُدوة، فقد كان يُدرِّسها اللغة الإنجليزية، ولكنه لم يجيء. ويبدو أنه نظر إليها كتلميذة صغيرة على الحب، أو مراهِقة لا تَصلح أن تكون زوجةً. وعلى أية حال، " عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة ". هذا ما توصَّلت إليه هند في زحمة أفكارها. وقد أدركت متأخرة أن هذا الجبل لا مكان فيه للحُب أو الذكريات، وأن الأحاسيس لا تُطعِم خبزاً. فحياةُ البنت طريقٌ يبدأ من منزل أبيها، ويمر بمنزل زوجها، ثم تكون النهاية هي المقبرة (بيت العائلة الكبير).
توصَّلت إلى قناعة جديدة.. فابنُ عمها قيس شاب غني، وعاش في أمريكا مع الأجانب. صحيحٌ أنه كان متسكعاً ومنحرفاً وسُمعته في الوحل، لكنه الآن يملك أموالاً كثيرة، والناس يَحترمون الأغنياءَ، ولا أحد يهتم بماضيهم. والذي فات مات. ونحن أبناء اليوم.
(12)
الزِّينةُ منتشرة في كل مكان. والأضواءُ تُحيل جبلَ النظيف إلى سيرك كبير. يودُّ هذا الليلُ لو يَقفز من السفينة قبل غرقها. تصبح الضحكاتُ تاريخاً لقتل الضحكات. بَشَرٌ يُولَدون من ضفائر النساء المقموعات جنسياً. وأغنياتُ الصدى جرذان تكاد تموت جوعاً. يمشي الإنسانُ وأشلاؤه على خَطَّيْن متوازيَيْن. وفي الرياضيات لا فرصة لالتقاء الخطين المتوازيين. أمَّا في الواقع فسوف يَصْطدمان.
تتوزع الطيورُ الذبيحة بين تراب المقبرة وحديدِ السجون.. السجون التي يُشيِّدها الناسُ في عِظامهم ضاحكين. إنهم يغنُّون.. يفتحون جراحَهم للفرح الذي يَغْسل أغصانَ خدودهم. هكذا تصبح الأعراسُ تاريخَ مَن لا تاريخ له، وانتصارَ المهزومين الوحيد.
تمشي القططُ المتعَبة على أسلاك الكهرباء. إنه الضياع الجنوني على نصالٍ تنفيكَ، تنفي عناصرَ جسدكَ المثقوب. وكلُّ ضائع يخترع جنونه ويمضي إلى حتفه الأكيد. مَن أنا ؟ ومَن أنتَ ؟، نحن العابرَيْن في الأزقة التي تَصْلبنا لأننا نحبها حتى البكاء. ولكنْ مَن سَيَبْكي علينا حين تنسانا صفحاتُ الوَفيات في الجرائد ؟.
سوف يمضي العشاقُ غير عابئين بدمنا المفروش على أعمدة الكهرباء. ويَبْحثُ الفقراءُ عن أسنانهم الصفراء في أكياسِ القُمامة.
كلُّ هذه الهواجس المرَّة كانت تلتهب في صدر بسام الجالس في إحدى زوايا المقبرة. لقد هربَ من عُرس أُخته إلى عُرسه الخاص، حيث يُقيم احتفالَه الخاص بالموتى. هربَ من عُرس الأحياء إلى عُرس الأموات. وحياتُه تنزلق شيئاً فشيئاً نحو الهاوية السحيقة. تقدَّم من أحد الحيطان، وأخرجَ أحدَ الأقلام الملوَّنة التي يَسْتعملها في حصة الرَّسم في المدرسة، وكتبَ على الحائط المتداعي: ((إن ليلة الدخلة بالنسبة للرجال حين يَدْخلون على نسائهم لرؤية وجوه العرائس، أمَّا بالنسبة إِلَيَّ فحين أُدخَل في مَوْتي لأرى وجهَ مَلَكِ الموت)). ثم غرقَ في نوبة بكاء شرسة.
استمر العُرسُ كالطوفان الماحي، لا يعبأ كمشاعر الآخرين. فالنهرُ يَحفر مجراه بنفْسه، ويَعْرف طريقَه بنفْسه، ولا يهتم بأي شيء آخر. والناسُ يريدون أية فرصة للفرح، حتى لو كان خادعاً كالسراب، أو مؤقَّتاً كالنوم اللذيذ. إنهم يَقتنصون الورودَ من قلوب الأضرحة.
امتلأت شوارعُ جبل النظيف بالناس. والمحال التجارية مفتوحة على مدار أربع وعشرين ساعة. وصوتُ الرصاص يملأ الأرجاءَ. فالكثيرون يَعتقدون أن إطلاق الرصاص في الأعراس جزءٌ أساسي من الاحتفال. وإذا ازداد إطلاقُ النار فهذا دليل على مكانة العائلة، وأهمية العُرس.
وعائلةُ المخلوسي لها وزنٌ كبير في جبل النظيف، ولها اسمٌ لامع في المناطق المحيطة. وهي تَحْرص على صناعة هالة إعلامية لها بين باقي العائلات لتظل مرهوبة الجانب. والعائلاتُ الأخرى تَعْرف مكانة " آل المخلوسي "، وهذا يَجعلها حريصةً على مشاركتهم الأفراح والأحزان. فالكل يَبحث عن مصلحته. ومثل هذه المناسبات تكون وسيلة لعقد الصفقات، وتقوية الروابط الاجتماعية، وبناء تحالفات عائلية لتوسيع مناطق السيطرة، وتقاسمِ النفوذ.
هكذا تصبح الحياةُ صفقةً كبيرة، ومباراة خشنة فيها لاعبون أساسيون ولاعبو احتياط. والجميعُ يَطمح إلى تسجيل الأهداف، وفرض كلمته على الخصم. وفي غالب الأحيان تكون الضحكاتُ ممارسةً روتينية، تتجلى على الشفاه، ولا تصل إلى القلوب. هذا هو قانون اللعبة المتعارف عليه بين الناس، ولا أحد يفكِّر في تغييره. فالناسُ أَسْرى ذواتهم، ومشاعرهم ستظل سجينةً في حساباتهم.
كلُّ تفاصيلِ العُرس سارت كما خُطِّط لها. ولكنْ حدثَ ما لم يكن بالحسبان. تقدَّم بسام بخطى مثقلة نحو أبيه المشغول باستقبال الضيوف. وظهرت على وجه الطفلُ علاماتُ الإرهاق الشديد، وقال بصوت ذابل:
- لقد أُصبتُ برصاصة يا أبي.
رَدَّ والدُه بكل برودة أعصاب:
- لا وقتَ للمزاح يا بسام.. اذهب والعب مع الأولاد.
وارتمى الطفلُ على أقدام والده. لاحظَ الوالدُ آثارَ دماء على ملابس ابنه، وركض إليه الناسُ الذين كانوا مشغولين بمتابعة الأعيرة النارية التي تَعْلو وتَهْبط. والحمدُ لله كان الجرحُ بسيطاً.. مجرد خدش طفيف، ولا أثر لوجود رصاصة في الجسم.
نادى أبو بسام على فايز، وطلب منه أن يعتنيَ بابن عمِّه، ويعالج جُرْحَه. وفايز لديه خبرة واسعة في معالجة الجروح، فقد اشترك في مشاجراتٍ لا حصر لها. كما لديه خبرة واسعة في الأسلحة النارية والأسلحة البيضاء. ((فالولدُ شقي منذ طفولته. وعُمر الشقي بقي)). هذا هو الشعارُ الذي ترفعه أمُّه منذ مدة طويلة.
مزَّق فايز قميصَه، وأخذ قطعةً منه، ولفَّ بها جُرحَ بسام. حَمَله على يديه، وسار به في ممالك اللهيب. وما زالت أصواتُ الرصاص تمزِّق رئةَ الصدى، وتَحْرق الصوتَ. ولم يكن جرحُ بسام مبرِّراً كافياً لتوقف إطلاق الرصاص. فالأمورُ سائرة كأن شيئاً لم يكن. فهذه المعركة مستمرة مهما كانت الخسائر، والضحايا لا يمكنهم إيقاف الحروب.
لكل بداية نهاية. كانت أُم بسام توصِي ابنتها هند بضرورة طاعة زوجها، والحفاظ على بيتها الجديد. وفي زحمة الأفكار والوصايا، أَخرجت أمُّ بسام من فتحة صدرها تلك الخلطة العجيبة التي أَحْضَرَتْها من عند العطار، وقالت:
- اسمعي يا هند، هذه الليلة ليلة العُمر، كلُّ عمرك يتوقف عليها.. ليلةُ الدُّخلة أهم امتحان في العالَم.. أهم من التوجيهي والجامعة. وهذه الخلطة ضَعي منها لزوجك في طعام العَشاء لزيادة طاقته الجنسية.
احمرَّت خدودُ هند، واحتل قسماتِ وجهها الاضطراب، وتسلل الارتباك إلى جوارحها، فقالت أمُّها:
- أنتِ لم تَعُودِي صغيرة يا هند.. ومنذ اليوم لا مكان للخجل.
أحسَّت هند أنها مُقْدِمة على معركة حامية الوطيس. كان الخوفُ يزرع التشنج في عروقها، وازداد جسمُها تعرُّقاً. شَعرت أنها وحيدة في غابة مجهولة مليئة بالمخاطر. الناسُ يتزوجون ببساطة، ويُنجِبون بسهولة، وتستمر الحياة بشكل روتيني. أرحامٌ تَدْفع، وأرضٌ تَبْلع. فلماذا كل هذه الخلطات والأسرار والتعليمات العسكرية ؟!. هذه الأفكار كانت تحترق في قلبها، والدخانُ يتجمع في شرايينها.
تجمَّع الزَّوْجان قيس وهند في ذاكرة الأحلام. أحضرت أمُّ قيس العَشاء لابنها وزوجته، وأُغلق عليهما باب الليل. وخرجت الأمُّ وهي تبكي بصوت خافت. في جبهتها ذبولُ الأزهار. وفي يديها تتساقط أوراق السنوات. أحسَّت أن ابنها الذي كان مُلْكاً لها تم اختطافه بكل سهولة ودون طلب فِدْية. مَن سَيتذكر تعبَها طيلة هذا العُمر الراكض في مدارات الدهشة والغربة والمعاناة ؟. كانت تجرُّ دموعَها وراءه كحصان مرهَق يجرُّ عربةَ الآلام.
رآها زهدي فأشفق عليها، وقال محاولاً التخفيف عنها:
- لا داعي للدموع يا أم قيس.. الله يعطيكِ العافية، رَبَّيْتِ الولدَ أحسن تربية، والآن هو عريس له أُسرة جديدة.. هذه سُنَّة الحياة. تعالي إلى النوم يا ابنة الحلال، واتركيه لزوجته، والصباح رَبَاح.
ردَّت أم قيس وهي تحارِب شهيقَها وزفيرَها:
- نربِّي الأولاد صغاراً، ونعتني بهم كِباراً، ثم يُصبحون براويز على الحيطان.
ودخلت مع زوجها إلى أجفان الظلام. ونام القمرُ في أسرار زيتونِ المجرات.
أمَّا قيس وهند فكانا يتناغيان كعصفورين داخل القفص. أمسكَ يدَها المرتعشة، وعاهدها بأن يظل وفياً لها إلى الأبد. كان متأثراً بالأفلام الرومانسية التي شاهدها في أمريكا. كلامُهما سيناريو متكرر محفوظ مسبقاً. ومشاعرُهما تقاتِل الصدى لكي تَخْرج من دائرة الروتين. إنهما عاجزان عن الإبداع.. هكذا يصيرُ التقليدُ دستوراً للعشق، والوجهان رجعَ صدى لتاريخ يُولَد من دموع الليل.
وَضعت هند كميةً كبيرة من الخلطة في الطعام. وكان هذا اجتهاداً شخصياً منها، فوالدتها لم توضِّح لها المقدارَ الصحيح. واعتقدت هند أن زيادة الكمية تعني زيادة طاقة زوجها. وبدأ الكابوسُ عندما تناول قيس العَشاءَ، فأخذ يَشكو من آلامٍ شديدة في بطنه ومنطقةِ الحوْضِ. أمعاؤه تكاد تتمزق. عيناه خرجتا عن السِّكة مثل قطارَيْن ذاهبَيْن نحو الاصطدام الحتمي. وصارت ليلةُ الدُّخلة سِفْرَ الخروج الخاص به. وتمنى في قرارة نفْسه لو تنتهي هذه الليلة المرعبة بسرعة لكي يرتاح. ارتمى على السرير، وأخذ يلتفُّ على نفْسه مثل الأفعى التي تلتف حول فريستها. ساد الرعبُ في تفاصيل هذا المشهد المخيف.
أدركت هند أن كارثةً حقيقية حلَّت بزوجها، وأنها السبب. لم تَعرف ماذا تفعل في تلك الساعة الرهيبة. تخلَّصت من الخلطة اللعينة التي هي سبب الشقاء. أَحضرت كوبَ ماء لزوجها الداخل في طقوس الاحتضار أو شِبه الاحتضار. لم يَقْدر على تناول الماء. قفز بحركة لاإرادية من السرير كالجن، وذهبَ إلى المرحاض. تمنى عندئذ لو بقي في أمريكا ولم يجيء إلى هذا المكان. حاصرته الأفكارُ الفوضوية من كل الجهات. أراد أن يناديَ على أُمِّه في هذا الليل الجارح.. أن يهرب إلى حضنها كالطفل العاجز. أُصيب بإسهالٍ شديد. معدته بركان ينفث الحممَ الحارقة بلا هوادة. ولأول مرة في حياته يَشعر أن الموتَ قريب منه. إنه يعيش مع الموت في سجنٍ واحد.
أمَّا هند فراحت تَندب حظَّها العاثرَ، وتَلْطم خدودَها بصورة هستيرية مقزِّزة. اختلطت عروقُ كفِّها بالمكياج المتساقط كأوراق الخريف. وها هو ربيعُها يصير خريفاً، والحلمُ أضحى رماداً في موقدة التاريخ الصاعق. وراحت تقول بنبرة كسيرة:
- يا فضيحتك يا هند.. يا فرحة ما تَمَّت.
وصارت هذه الكلماتُ هي الشِّعار الرسمي لِلَيْلة الدُّخلة.
قضى قيس ليلته الكابوسية ذاهباً إلى المرحاض عائداً منه. وزوجته تجلس على طرف السرير تضع يدها على خدِّها بعد أن تعبت من لطم خدودها. لم يَقدر الزوجان على النوم إلا بعد طلوع الفجر. رَمَيا تاريخهما في بئر الرعشة، واستسلما أمام أنياب الرياح التي كانت تصفع الأبوابَ، وتَخْلع شبابيكَ العُمر. وساد الهدوءُ الصاعق بعد انتهاء حربهما مع عقارب الساعة. هدأت الأعاصيرُ، والفيضانُ يُحصي عددَ الجثث، والراياتُ البيضاء ترفرف على الأكتاف المثْقلة بوخز السنوات، وصَفاراتُ الإنذار استقرت في القلوب المثقوبة.
استيقظ زهدي وزوجته قبل الظُّهر. لقد سَهِرا حتى ساعة متأخرة من الليل. نفضا التعبَ عنهما. والحمدُ لله أن سار العُرس على ما يرام، ولم تحصل مشكلات. فالأعراسُ في هذه البُقعة غالباً ما تعج بالصدامات بين السُّكارى والزعران، وتكسير الكراسي والطاولات. أمَّا هذا العُرس فهو يَحمل اسم " آل المخلوسي " ذات النفوذ والسطوة، وهذا جعله متمتعاً بالحصانة والحماية. وكلُّ واحد يفكر ألف مرة قبل أن يرتكب حماقةً ما خوفاً من أن يدفع الثمنَ غالياً. ففي هذا المكان يَسود قانونُ الغاب رغم عمليات الترميم والتجميل.
حاولت أمُّ قيس إيقاظ ابنها وزوجته لتناول طعام الإفطار، لكن زهدي طلب منها أن تتركهما، وقال مبتسماً:
- لا بد أنها ليلة طويلة.. قيس رَجل من ظَهْر رَجل، لا يُخاف عليه. أكيد بَيَّضَ وجهَه أمام زوجته.. في هذه الليلة على الرَّجل أن يُشبِع زوجته، وإلا فلن تَشْبع أبداً.. اتركيه نائماً لكي يرتاح.
تغيَّر وجهُ زوجته، وقالت بتأفف:
- أنتم الرجال تنظرون إلى النسوان كالنعاج.. الواحدُ منكم يَحتقر زوجته طيلة النهار، ويَعتبرها خادمة، ثم ينام معها في الليل مثل كيس الطحين. يَضحك عليها بكلمتَيْن ليأخذ حاجتَه، ثم يرميها في المطبخ.
ولَمَّا سمع زهدي هذا الكلام ضحك بملء فيه، وقال وهو يغالب ضحكاتِه:
- هذه هي الحياة يا أم قيس.. الديك ديك، والدجاجة دجاجة. وكلُّ إنسان يؤدي دورَه في الحياة ثم يَرحل.. سنواتٌ تمضي، والذي يَذهب لا يَرجع.
كان زهدي يُلقي الكلامَ ثم يفكِّر فيه. وفي أحيان كثيرة لا يفكر فيه أصلاً. والأشياءُ التي في قلبه تظهر على لسانه مباشرة بلا لف ولا دوران. وهو يَعرف أن كلامه قد يَجرح مشاعرَ البعض، ويسبِّب لهم ضيقاً. لكن اللامبالاة صارت إحدى شعاراته. ليس لأنه وغد أو إنسان سيِّئ. بل لأنه مصاب بالملل من أحداث حياته. فما بَقِيَ في عُمره أقل مما مضى. ورغمَ هذا تراه في بعض الأحيان يتصرف بلباقة، وتكون كلماته موزونة، ويتكلم بالحِكم والمواعظ التي تُصلِح بين الناس. وبشكل عام فإن حالته المزاجية هي التي تحدِّد طبيعةَ كلامه.
اجتمع أهلُ الدار على طعام الغَداء، وقبل أن يأكل قيس عاجله والده بسؤال مثل الطعنة:
- قمحة أم شعيرة ؟.. أُريد رؤيةَ زهدي الثاني قبل أن أموت.
ارتبك قيس، وبلع ريقَه، ثم استجمع قواه مثل التلميذ الصغير الواقف أمام مدير المدرسة، وقال بصوت مهزوز:
- اللهُ يُطيل عُمرَك، وترى أحفادك يلعبون حَوْلك.
أَظهرت هند قَدْراً من اللامبالاة، وراحت تأكل كأنها لم تَسْمع شيئاً. تعمَّدت أن تَظهر في تلك اللحظة كالبلهاء المنقطعة عن العالَم الخارجي، والمركِّزة في تناول الطعام. أرادت دفنَ نفْسها في الصحون كالنعامة.
لاحظ زهدي أن شيئاً غريباً يَحْدث، فأعاد السؤال بلهجة صارمة:
- قمحة أم شعيرة ؟.
وبقي منتظراً الجواب كالصنم. عيناه تبرقان كالخناجر الجاهزة، وجبهته يَقْطر منها أعوادُ الثقاب اللاهثة في أفلاك النهاية القاصمة.
نظر قيس إلى الأرض كالقائد المهزوم المستسلم الذي رأى جيشَه يرفع الرايةَ البيضاء بكل خزي وعار، وقال بكل انكسار:
- شعيرة !.
هَبَّ زهدي كالرمح الأعمى. حدَّق في وجه ابنه كأنه يريد أن يفترس ملامحَه حجراً حجراً. وبصورة غير متوقَّعة بصق على ابنه، ثم ترك الجميعَ في حالة ذهول وصدمة. رَكضت خَلْفه زوجته، وخطواتها تحترق وتَحرق الأرضَ.
مَسحت زوجته البصاقَ بطرف كُمِّها، وقالت:
- ستظل سَيد الرجال في نظري.. أنتَ تاج على رأسي.
وضع رأسَه على صدر زوجته، واستسلم لأمواج الدموع التي لا نهاية لها.
هبط الظلامُ سريعاً. سراديبُ ترتمي أمامه متاهةً. طريقٌ في نهايته ضوء خافت. تصبح تعاليمُ الذباب جزءاً من صُداع الياسمين. كانت ظلالُ قيس تَسخر منه، تَسخر من زوجته. دخلا في وهجِ البكاء. هُوَ السجين والسجن والسجان. سَتَذُوب الثلوجُ التي تَحجب عَرَقَ الشُّهب. الأرضُ سوف تموت، وستذهب الشمسُ إلى قبرها. كلُّ الحيطان صارت في عينيه سيوفاً خشبية تمزِّق أوصالَه.
شَعر أنه في سجنٍ: خليطٌ من الروائح الألوان. أشياء تبحث عنه في أماكن الحصار. تتجمعُ الدموعُ في مقلاةِ تاريخ الهزائم. الآنَ، تنكمش أضلاعُه في غرفة معتمة. بينَه وبين أحلامه آلافُ الوديان، وعواءُ الذئاب اليقظة. أجالَ بصرَه في المحيط فلم يجد غير نفْسه رغم وجود زوجته. صار كشخصٍ مصاب بالحمى تَلعب الخفافيشُ برائحة عَرَقه.
مضى إلى غرفته وحيداً كما جاء إلى هذه الحياة وحيداً. استلقى على السرير لأن التعب هَدَمه. أحسَّ أن الزوايا تخاطبه، وأن الوسادة الملوَّنة تبتلعه. تصمت الألوانُ تارةً، وتَهيج تارةً أخرى. هذا عالَمه الجديد، سجونٌ تتجمع لِتُشِعَّ سِجْناً واحداً، وسجنٌ واحدٌ يتَّحد ليقتل كُلَّ وردةٍ تعشقُ الحقول. كأن نهراً يَحشره في بئر عميقةٍ، ويرصده ليغتاله بعيداً عن أعين الفراشات. والليالي تَفتحُ في بُكاءِ البراري منجمَ فحمٍ. صلَّى للهِ، وانطلقت دموعُه مع الدعاء الصاعد من أعماق قلبه، وسَجدت أوصالُه في أرضه النازفة، وانطلق إلى صباحات المطر الخارج من رُوحِه، والذي يُطهِّر جوارحَه بشكلٍ صاعق.
(13)
كان الأستاذُ رأفت يعتني بتفاصيل ملابسه. يُجري مَسحاً شاملاً لكل نقطة في جسمه. ورائحةُ العطر تسيطر عليه من رأسه حتى أخمص قَدَمَيْه، على غير عادته. ولكنه اليوم ذاهب إلى منزل الدكتور لؤي عطوة لتدريس ابنه.
قَرع الجرسَ، فجاءت الخادمة كي تَفتح البابَ. وهنا تدخَّلت السيدة ميادة، وأشارت للخادمة بالابتعاد، ففهمتْ أن السيدة هي التي تريد فتح الباب. فُتح بابُ الطوفان على مصراعَيْه. وتفاجأ رأفت برؤية السيدة لأنه كان يتوقع أن تفتح له إحدى الخادمات. ارتبك للغاية، وذابَ الكلامُ الذي كان يُحضِّره طيلة الطريق، ولم يَعرف كيف يخاطبها. وهي أيضاً تفاجأت بمنظره الخارجي، حيث ظهر وكأنه قادم إلى حفلة. كما أن رائحة عِطره انتشرت بصورة جنونية في المكان.. إنها رائحة تكاد تخلع حاسةَ الشَّم.
قَطعت عليه ارتباكَه قائلةً:
- تفضَّل يا أستاذ رأفت.
فرح رأفت لأن اسمَه جاء على لسانها. ومضى إلى الداخل بخطى وئيدة. وأحس بأهميته وهو يمشي على السجاد الأحمر. إنه يتصنع الإتيكيت، ويَحسب حركاته وسكناته. أحبَّ هذا المكان الذي يَشعر فيه بأنه رَجل مهم، والكلُّ يعتني به، ويُحقِّق رغباته. أمَّا في جبل النظيف فهو يَشعر بغربة خشنة. لا أحد يُقدِّر ما يَفعله. ماذا يعني أستاذ لغة إنجليزية في بيئة جاهلة فقيرة بالكاد تَعرف العربية ؟!. ما معنى أن تكون مثقفاً بين أشخاص أُمِّيين أو يفكُّون الخطَّ بصعوبة ؟!. ما فائدةُ أن توقِد شمعةً بين القبور الخرساء ؟!. كل هذه الأسئلة احتلت وجدانَه، وتشعَّبت في عروقه.
ما ذَنْب أولئك الناس البسطاء الذي ينامون وهُم يَحْلمون برغيف الخبز ؟!. لا يمكن للجائع أن يشتريَ كتاباً أو يَعرف الفرق بين اللغة الإنجليزية والفرنسية. يَخرج الواحد من الصباح ويعود في منتصف الليل لكي يُطعِم الجياعَ الذين ينتظرونه. رغيفُ الخبز هو الثقافة، والراتبُ الشهري هو الكتاب الوحيد الذي يطالعونه باستمرار. أفكارٌ هَجمت على ذهنه دون سابق إنذار. لكنه نَفضها بسرعة مع قدوم السيدة ميادة، واقتنع بأن كل إنسان في هذا العالَم عليه أن يُدبِّر شؤونه بِنَفْسه، فلا أَحد يَسأل عن أَحد. والدنيا طاحونة عمياء، وإذا أراد الإنسانُ ألا يُطحَن عليه أن يكون أكبر منها. هذا هو قانون اللعبة، والكُل يَلهث وراء السراب، ولا جديد تحت الشمس. الحاضر هو الماضي مع اختلاف أنواع الأقنعة. وما سَيَحْدث هو ما قد حَدث، وما سَيَكون هو ما قَد كان.
قالت ميادة وهي تمط كلامَها مَطَّاً:
- أريد أن أشكرك يا أستاذ رأفت، فقد تحسَّن مستوى رمزي، وارتفعت معنوياته، وصار يُركِّز في دروسه بشكل واضح.. تأثيركَ واضح عليه، وجهودكَ مشكورة. وبصراحة، كلُّ مَن في البيت يحبونكَ.
ثم استدركتْ قائلة:
- أقصد رمزي يحبك، ويطبِّق نصائحك حرفاً حرفاً.
شَعر رأفت بالزهو، وقال مُظهِراً التواضع:
- أنا أشكركم على إتاحة الفرصة لي.. رمزي رَجلٌ وليس طفلاً، وهو يَلتقط الفكرةَ من المرَّة الأولى.. إنه رَجل يُعتمَد عليه.
قالت ميادة مُغيِّرةً بوصلة الكلام:
- اسمحْ لي أن أسألك سؤالاً شخصياً يا أستاذ رأفت.. هل أنتَ متزوج ؟.
ألقتْ هذا السؤالَ بشكل مباغِت. وأرادتْ منه كسرَ الحواجز، وخلق مناخ دافئ بعيد عن البرود الرسمي والأداءِ الدبلوماسي.
تشظَّت المفاجأة على قسمات وجهه. وفي نفْس الوقت أحبَّ هذا النوع من الأسئلة، واقتنع بأن الفرصة جاءته على طبق من ذَهب، وأراد ألا يُضيِّعها، فقال:
- لا.
ولم يكتفِ عند هذا الحد، بل أراد أيضاً أن يبدأ تنظيرَه الفلسفي في الموضوع، فأردف قائلاً:
- الزواج بالنسبة إلي خط أحمر، فأنا أريد أن أظل عصفوراً خارج القفص.. لا أريد توريط امرأة معي، ولا أودُّ إنجابَ أطفال في هذا العالَم. فالعالَمُ مكانٌ خطر للعيش فيه، ولا أحبُّ أن أمتلك امرأةً.. أُفضِّل أن أرى الزهرةَ في البستان ولا أقطفها.
- إن فلسفتك متشائمة.. ومع هذا يمكن أن تجد صديقةً لا زوجة.
- لا أحب أن أدخل في هذا المجال، فالعلاقة مع النساء كالشُّرب من ماء البحر.. كلما شَربتَ أكثر عَطشتَ أكثر، ولا أريد أن أقضيَ حياتي عطشان.
قالت ميادة والابتسامة تخلع شفتيها:
- إذن، سأُحضِر لكَ كوبَ ماء لئلا تظل عطشان.. وسوفَ أُحضر رمزي.
وانطلقت وهي تضحك.. ضحكاتها تملأ المكان، بَدت كالفراشة الملوَّنة التي تطير فوق حقول اللهب. كلُّ شيء يَسير إلى وُجهته، ولكنْ: هل الوُجهة هي القمة أم الهاوية ؟. هذا السؤال سيظل مثل وخز الدبابيس في أجفان التاريخ.
كانت الحِصةُ مفعمةً بالمتعة والفائدة. ظهر الارتياح على وجه رمزي، وهو يتجول في دفاتره وأوراقه. نظر إلى أستاذه قائلاً بكل ثقة:
- سأحلُّ أيَّ واجب تعطيني إياه.. لم أعد أخاف من الأسئلة والأجوبة.
رَبَتَ أستاذُه على كتفه، وقال:
- أحسنتَ يا رمزي.. يا بطل الأبطال. أريدكَ أن تتحدى الأسئلة، وتصبح الأول على الصف.. اتفقنا ؟.
- اتفقنا.
إن نهاية الحصة هي بدايةُ الحلم. شَعر رأفت براحة نفسية غامرة لأنه استطاع التأثير في تلميذه، وتَرْك بصمة واضحة. وها هو رمزي يَضع قَدَمَه على الطريق الصحيح، ويَملك الحافزَ لكي يتقدم. وقد نجح الأستاذُ رأفت في غرس الدافعية في تلميذه الصغير، وتحريره من الضغط الخارجي. وهذا ما أسعده بشكل خاص. فمن السهل أن تجبر الحصان على الذهاب إلى النبع، ولكنْ لا يمكنك أن تجبره على الشرب. أمَّا رمزي فصار يذهب إلى نبع العِلم بقدميه، ويشرب من تلقاء نفْسه.
أَخذ الأستاذ رأفت أُجرةَ الساعتين من يد السيدة ميادة. وبينما كان يَهم بالخروج استوقفته. استدار في الحال.. نظر في عينيها، وعلى شفتيه ابتسامة ناعمة. ووقف منتظراً كلامها كالجندي الذي ينتظر أوامر قائده، أو ينتظر قراراً من محكمة عسكرية.
قالت والندى المشتعلُ يَغرق في نهر أجفانها:
- نسيتُ أن أخبركَ.. لدينا حفلة في المنْزل يوم الخميس القادم، الساعة العاشرة مساءً.. أرجو أن تشرِّفنا.
- يسعدني الحضور، وأشكركِ على الدعوة، وسوف أكون أول الحاضرين.
انطلقت كلماتُه بطريقة عفوية دون أن يفكِّر فيها. كان يتحدث مثل الرَّجل الآلي الذي تمَّت برمجته، وزراعة الكلمات فيه. انصبَّ تركيزُه على النظر في عينيها، كأنما يريد استغلال كل لحظة في الاقتراب من عالَمها.
قالت ميادة:
- أريد أن أسألك.. ما هو اللون الذي تحبُّه ؟.
- الأزرق. ولكنْ.. لماذا هذا السؤال ؟.
- مجرَّد سؤال.
خرج رأفت، والأسئلة تتكاثر في رأسه، وتَجرف الشوارعَ أمامه. راح يفكِّر في كل كلمة خَرجت من فم ميادة، ويبحث في أصلها، والمقصود منها، ويحلِّل أبعادَها. وكان يجيب عن الأسئلة بأسئلة أكثر غرابةً. والحيرةُ تأكل ملامحَه بالكامل.
كانت جبال الجليد تنهار في قلبه، ومستوى الدم في بحور الأسئلة يرتفع بشدة. هذا عالَمه الحديدي المطلي بالقضبان. حريته بحجم قبضته. ودُنياه هي أطلال حُجرةٍ أصغر من حبل الغسيل. لم يكن حَوْله سوى عصافير القشعريرة التي يَسكن معها في نفْس القفص. إنه بحاجة إلى الراحة لكي يستعيد نشاطَه كمحارِب في زمن الهدنة بين السكين واللحم. أجال بصرَه في تقاطعات جسمه الجارح، وقال مخاطباً قلبَه الذي ينفصل عنه تدريجياً:
- أنتَ عبقري وغبي في نفْس الوقت. عبقري لأنكَ تعرف كيف تنتصر في معركتك، وغبي لأن معركتكَ مع عدو وهمي.
وانطلق في دروب اللهيب. رحلته قصيرة تجسِّد كلَّ تاريخ الأضداد. حبُّه للحرية اختلاط نهايات الخريف بعنفوان الشتاء في لحظة تماس لم تلاحظها الأشجارُ. صارت الأضدادُ هي المنطقَ الرسمي للتاريخ المستحيل.
الوقتُ الذي يَفْصله عن موعد الحفلة قرونٌ من الوهج والشكوك والحيرة، أو سنواتُ رصاصٍ يكتبها الزمنُ بقلم الرصاص، ويَمحوها المدُّ القادم من بحر الدماء.
(14)
أتى موعدُ الحفلة. وصل رأفت متأخراً على غير عادته، فهو مشهور بين الناس باحترام المواعيد دون زيادة أو نقصان. والسبب أنه قضى وقتاً طويلاً في الشوارع المزدحمة التي كانت تغص بالناس والسيارات. واليوم هو الخميس، وهذا يعني ازدحاماً خانقاً، وهو لا يَملك سيارةً. وهذا جعله يطارد سيارات الأُجرة من شارع إلى شارع، ويَغرق في المواصلات البائسة، ويَتلاشى في دخان السيارات، وصخبِ الناس الذين كانوا مثل خلية نحلٍ تتكاثر بشكل جنوني.
لم يَذهب إلى الفيلا مباشرة. نَزل من سيارة الأجرة في مكان قريب. وذلك من أجل مسح الغبار عن وجهه، وتصفيف شَعره، وترتيب ملابسه، ومسح حذائه من جديد، يعني إعادة تنظيم كيانه بالكامل.
وكلما اقترب من الفيلا ازدادن نبضاتُ قلبه. كانت الأضواء باهرة، والضحكاتُ تملأ الشارع. أخرج منديلاً ومَسح عَرَقه. شَعر بالتردد والخوف. قدماه ترتجفان كأنه يساق إلى حبل المشنقة، وليس حفلة راقية تعج بالألوان والأصوات. فكَّر في العودة لكنه طَرد هذه الفكرة سريعاً. وصل إلى نقطة اللاعودة، وسوفَ يتقدم مثل الجندي الداخل إلى المعركة، ولا يَعرف ماذا يَنتظره، ولا يَعلم هل سيعود إلى أهله حياً أم سَيَسقط قتيلاً.
وحينما دَخل إلى الفيلا وَجد عالَماً آخر لا يمكن أن يراه في جبل النظيف. حتى إنه لم يره في منامه. رَجالٌ يرتدون أفخرَ الملابس يُدخِّنون السيجار، وشخصيات مشهورة لا يشاهدها إلا على شاشة التلفاز. نساء في فساتين مثيرة، صدورهن مكشوفة.. تنانير قصيرة. روائح العطور تملأ المكان. الجميع مشغولون كأنهم في سوق صاخبة يُقلِّبون البضائع الأجنبية. كل شيء غريبٌ عنه. لم يَعرف أين يَذهب، أو مع مَن يتحدث. وبينما هو غارق في متاهته، يلملم شظاياه المبعثَرة في المكان، اقتربت منه ميادة وهي ترتدي غابةً زرقاء من الأنوثة.. فستان أزرق مُرعِب يُخبِّئ براكين من الشهوة والوهج الحارق. اقتربت منه بشكل واضح. صارت المسافة بينهما أقل من نصف متر. وقالت له:
- أهلاً يا شكسبير !.
كانت السيجارة تتلوى بين أصبعين في يدها اليسرى. وهذه أول مرة يشاهدها وهي تدخِّن.
لم يعرف ماذا يقول في تلك اللحظة. انعقد لسانه، واكتفى بابتسامة خفيفة.
أخذت ميادة زمامَ المبادرة، وسَيطرت عليه بالكامل، وأمسكت يدَه، وقالت:
- تعال أُعرِّفك على زَوْجي.
وراحت تسحبه مثلما تُسحَب الشاةُ إلى الذبح. وهو لا يَملك إلا الاستسلام لهذه الأوامر العسكرية.
- هذا زوجي.. الدكتور لؤي عَطْوة، دكتوراة في الهندسة المعمارية من جامعة السوربون.
قالت ميادة، ووجهها يشع مثل إعصار لا يَرْحم على وشك أن يَقتلع الشطآنَ التي ترفع الراياتِ البيضاء.
كان الدكتور لؤي صاحب شخصية قوية. واثقٌ بنفْسه بشكل ملحوظ. الغليون في فمه. وعندما تراه تَشعر أنك أمام جبل لا يَهتز، وأنه يسيطر على العناصر حَوْله، وأن الأحداث خاتم في أصبعه.
قال الدكتور:
- لقد سمعتُ عنك الكثير يا أستاذ رأفت، وأن أسلوبك رائع في التدريس. وبدون مجاملة.. تأثيرك الإيجابي واضح على رمزي.
- شكراً لكم يا دكتور، وأعدكم - إن شاء الله - أن أكون عند حسن ظنكم.
اختار رأفت عباراته بعناية، وتعمَّد أن يخاطب الدكتور بضمير الجمع تعظيماً له، واحتراماً لمكانته.
- والآن اسمحوا لي أن أذهب للترحيب بالضيوف.
قال الدكتور. ومضى إلى ذاكرة المدى، وذاب في الزِّحام.
استلمت ميادة القيادةَ، وقالت:
- تفضَّل يا أستاذ رأفت.. اجلس على الأريكة.
جلس على الأريكة مثل الطفل في حضرة أُمِّه، وقال:
- شكراً يا ميادة.. أقصد يا سيدة ميادة.
- قُل لي ميادة فقط.. بدون ألقاب. وأنا سأخاطبك رأفت فقط. ما رأيكَ ؟.
تردد رأفت قليلاً. بَلع ريقَه، وقال:
- أنا موافق.
جَلست إلى جانبه. ظهر عليه الارتباك، وازداد تعرُّقاً.
قالت له بصوت هامس:
- ما رأيكَ في هذا الفستان ؟.
قال رأفت وعيناه في الأرض:
- رائع.
- تَحكم عليه دون أن تنظر إليه ؟.
رفع رأفت رأسَه، وزرع نظراتِه في الفستان، وحدَّق في كل نقطة فيه مثل جيش يُمشِّط أرضَ المعركة. تأجَّجت الشهوةُ في تفاصيل جسده الحارق المحترق، وهزَّ رأسَه قائلاً:
- كما قلتُ لكِ.. رائع.
- لا تنسَ أن لونه أزرق.
لم يَفهم رأفت هذه الكلمات. وراحت ملامح وجهه تستفسر عن المعنى.
أدركت ميادة هذا الأمر، وقالت بصوت راسخ وملتهب:
- الأزرق هو اللون الذي تحبُّه.
وفي تلك اللحظة فقط فَهم رأفت لماذا سألته ميادة - قبل عدة أيام - عن اللون الذي يحبه.
حاصرهما الصمتُ الجارح. فُرض حظر التجول في أعصابهما. انتشرت الحواجز العسكرية بين وَجْهَيْهما. تائهان في عالَم الوخز. مجروحان في فضاء الرعب. لقاؤهما تذكرةُ ذهابٍ بلا عَودة. إنهما مهاجران نحو أوردة الصدى، والأصواتُ تتلاشى.
نادت ميادة أحدَ الخدم، وقالت له:
- أحضر لي كأسَ ويسكي.
والتفتت إلى رأفت قائلةً:
- تشرب ويسكي ؟.
- الخمرُ حرامٌ لا أشربها.
نظرتْ إلى الخادم، وقالت:
- أحضرْ لي كأس ويسكي، وللأستاذ عصير برتقال. وستجدنا عند المسْبح.
نظرتْ إلى رأفت، وقالت:
- تعالَ نخرج من هذا المكان الخانق، ونذهب إلى المسْبح.
ومشيا عند حافة المسْبح.. هذه حافة الهاوية. تلالُ الحزن تطل على بحرٍ يتبخر بين أصابعهما المرتعشة. غاباتُ القلوبِ تحترق، ورجالُ الإطفاء نائمون في أحضان زوجاتهم. لم يجيء أحد لينقذ الأشجارَ من المومياوات. سَيطرت الأشباحُ على المكان، والأمواتُ يَفرضون شروطَهم على الأحياء. جوارحهما تتهاوى بصورة دراماتيكية. هذا المسْبح هو مقبرة مائية قديمة.. لعنةٌ أصابتْ علماءَ الآثار الذين لم يأتوا.
قالت ميادة بصوتٍ كسير كأنه نداء غامض قادم من القرون الوسطى:
- رأفت، أنا أعشقكَ. قُل عني ما تشاء. اعشقني اكرهني. احترمني احتقرني. ولكن يجب أن تسمعني حتى النهاية. حياتي كلها انتحارات، أنا بحاجة إلى المنقِذ. لو رأيتَني أغرق في هذا المسْبح، ماذا ستفعل ؟. لا بد أنك ستقفز وتنقذني. أنا امرأة لم أشعر بأنوثتي إلا معك. لا أشعر بوجودي إلا عندما تكون موجوداً. لا أتخيل حياتي بدونك. هل تعلم أنني أتردد على طبيب نفسي منذ سنوات ؟. ولا توجد أية نتائج. هل تعلم ماذا قال لي الطبيب آخر مرة ؟. قال لي إنني مريضة نفسياً ولا شفاء لي إلا الموت. لا أريد أن أموت.. أريدك أن تنقذني من الموت.
وانفجرت باكيةً، وارتمت في أحضان رأفت الذي كاد يَسقط في المسْبح. غَرستْ رأسَها في صدره، وكانت دموعها تتساقط على أزرار قميصه، وهو واقفٌ كالأبله لا يَعرف ماذا يَفعل. أحسَّ برغبة عارمة في البكاء، أو الهرب من المكان. تمنى في تلك اللحظة لو يُنادي على أُمِّه لتنقذه من هذا المأزق.. أن يَخلع جِلْدَه، ويهرول نحو منفى اختياري، ويموت وحيداً. وصار يردِّد في سرِّه الآية القرآنية: يا لَيْتني مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنتُ نَسْياً مَنْسياً .
لم تنجح مفاوضات فض الاشتباك إلا مع قدوم الخادم. وقعُ أقدامه تتوالى. ابتعد الاثنان. أخذت ميادة تمسح دموعها. أمَّا رأفت فرمى بصرَه على صفحة الماء.
تناولت ميادة عصير البرتقال، وأعطته لرأفت. ثم أخذتْ كأسَ الويسكي. لم ينبسا ببنت شفة، وعاد الخادمُ أدراجه.
لم تكد تضع حافةَ الكأس على شفتها حتى أمسكَ يَدَها، وانتزع منها الكأسَ، وقال بكل شفقة:
- لا تشربي هذا السم.. خُذي عصير البرتقال.
- تخاف على جسمي ولا تخاف على قلبي ؟!.
وسكبَ الويسكي على إحدى النباتات السجينة داخل وعاء بلاستيكي.
قال رأفت:
- ميادة، أنتِ امرأة متزوجة وأُم.
- عقدُ الزواج حِبرٌ على ورق. الأوراقُ لا تحدِّد المشاعرَ. زَوْجي مشغول بالعشيقات والسكرتيرات. جسدي معه رغماً عني، لكنَّ قلبي معك. أنا منقسمة. أجزائي متفرقة، وأُريدك أن تجمعني. أحتاج إلى صديق حقيقي يقف إلى جانبي. أنا وحيدة في هذا العالَم. فلنكنْ صديقَيْن. لا أَطلب أكثر من هذا. هل هذا كثير ؟!.
(15)
انتهت الحفلةُ. وبدأت حفلةُ الموت الخاصة برأفت. خرج من الفيلا، ودخل في قصر الليل. صداعُه غابةٌ منسية في رسائل الموج. ودموعُه تحرق الشوارع. شَعر أنه مصاب بعمى ألوان. المناظرُ أمامه تتداخل بصورة غريبة، والأصواتُ تصير ألواناً، والألوانُ تصير أصواتاً.
أوقفَ سيارة تاكسي، وطلب من السائق أن يوصله إلى جبل النظيف. جلس في المقعد الخلفي، وغرق في النوم. لاحظَ السائقُ التعبَ العميق على وجه هذا الراكب العائش بين المومياوات. شَغَّل العدَّاد، ثم فكَّر لو يَدور في الشوارع، فتزداد المسافة، ويحصل على أُجرة أكبر. لكنه طردَ هذا الخاطر الخبيث قائلاً في نَفْسه:
- لا تكن نذلاً، ولا تستغل ضعفَ الآخرين.
وعندئذ فكَّر في كل الطرقات المختصرة التي يمكن أن تقلِّل الأُجرة.
وَصلت السيارة إلى المكان المدفون تحت أقواس الحزن لا النصرِ، وراح السائق يوقظ رأفت. استيقظ رأفت من مَوْته، وهو يَنظر حَوْله كالمصروع. حاول أن يتذكر مجريات الأحداث، ويعيد السيطرة على أعضائه. أخبره السائق بأنهما في جبل النظيف. نظر رأفت إلى العدَّاد الذي ظهر كإشارة مرور حمراء. دفعَ للسائق، وسامحه بالباقي.
مشى إلى بيته. كلُّ الأزقة أبوابٌ مغلقة أمام طيور الوهج. بيتُه ضريحٌ هادئ. وَحْدَها أُمُّه كانت في انتظاره. وما إن رأتْه حتى قالت له:
- هل أُعِد لك طعاماً ؟.
اقترب منها، وقبَّل يَدَها، وقال بصوتٍ حزين:
- أخبرتُك يا أُمِّي ألا تنتظريني، فسوف أتناول الطعام في الخارج.
- خفتُ عليك أن تنام جائعاً.
وبصورة غير متوقعة، راح رأفت يبكي كالطفل الصغير، وارتمى في أحضان أُمِّه. أُصيبت أُمُّه بالحيرة، واستغربت هذا التصرفَ المفاجئ، وقالت:
- لماذا تبكي يا رأفت ؟.. هل مات أحد أقاربنا ؟.
- أنا مِتُّ يا أمي !.
- لا تقل هذا يا حبيبي. ستبقى - إن شاء الله - كالحصان، وتعيش لترى أولادك وأحفادك.
أحسَّت أُمُّه أن أمراً كارثياً قد حَصل، فليس من عادة رأفت أن يبكيَ، أو أن يكون ضعيفاً بهذا الشكل. إنها قلقة عليه للغاية، وخائفة إلى أبعد حَد.
سألَتْه بحدَّة:
- ماذا حصل يا رأفت ؟.. صَارِحني.
شَعر أنه في ورطة حقيقية، فهو شخصياً لم يتوقع أن ينهار بهذه الصورة أمام أُمِّه، فلم يجد مفراً من الكذب عليه ليريحها، فقال:
- أحد طلابي رَسب في الامتحان مع أني دَرَّسْتُه جيداً !.
تنفست أُمُّه الصعداء، وابتسمت قائلة:
- إن شاء الله تكون هذه أكبر المصائب. الطلابُ يَرسبون ويَنجحون. الأمرُ عادي. وقل له أن يدرس أكثر، وسوف يَنجح في المرة القادمة بإذن الله.
مضى رأفت إلى غرفته، وهو يقول بسخرية:
- سوفَ أُخبره أن يَدرس أكثر في المرة القادمة لينجح، ويتخرج من الجامعة، ويصبح عاطلاً عن العمل !.
جلس على كرسي مكتبه. وأدرك في تلك اللحظة المخيفة أن الحل الوحيد لتفريغ عواطفه هو الكتابة. وطالما أحب أن يصبح كاتباً مشهوراً، لكن " العين بصيرة واليد قصيرة "، كما يقولون. هذه هي اللحظة المناسبة ليؤلف كتابَه الأول. كل الأحداث جاءت إليه. ارتمت على مكتبه بكل تفاصيلها، وما عليه إلا أن يَنظمها بأسلوبه، ويصبُّها في قوالب أدبية. ما هو الشكل الأدبي الذي سيختاره ؟. أطرق ملياً، ثم لمع العنوان في رأسه: " خواطر رَجل تافه أحب زوجةً خائنة ".
هل سينشره أم سَيُخَبِّئه في درج المكتب ؟. عنوان لافت للنظر، وسَيَجذب آلاف القراء أو ربما الملايين، فيصبح كاتباً غنياً تركض وراءه وسائلُ الإعلامِ وعدساتُ المصوِّرين. وقد يُتَرْجم إلى عدة لغات فيصبح كاتباً عالمياً مثل ماركيز أو فوكنر. ولكنْ قد تعترض الرقابةُ على العنوان. هل سَيُسَمِّي الشخصيات بأسمائها الحقيقية ؟!. سوفَ يلاحقونه قضائياً، وربما يَمنعون الكتابَ، ويَخسر كلَّ أحلامه.
هل سيعتمد على أسلوب الفضائح ؟. إن المنع والفضائح وقضايا المحاكم سوف ترفع نسبةَ توزيع الكتاب، والترويج له داخلياً وخارجياً. كل هذه الأفكار اصطدمت في ذهنه. وهو حتى هذه اللحظة لم يكتب أيَّ حرف على الورق.
وصل إلى قناعة مفادها أن الكتابة حاجة شخصية..تفريغ للمشاعر على الورق. وهو لا يَطمح أن يكون رَجل أعمال، أو يتلاعب بمشاعر الناس ليبنيَ إمبراطورية البزنس. هذا بالضبط ما توصَّل إليه بعد صراع مرير مع نَفْسه.
جهَّز الأوراقَ، وأمسكَ قلمَ الحِبر، وراح يَكتب منقطعاً عن العالَم:
[ هل ستصبح حياتي المنطقية مجرد نزوة ؟. هل يتحول القطارُ البخاري إلى إبريق شاي يغلي على نار العشق ؟. موقدة منسية يجلس أمامها عاشقان في كوخ منسي في غابة من الحطب. لأني أكرهكِ أحبكِ، لأني أهرب منكِ آتي إليكِ. مِن أين تأتي الأحزان ؟. كيف يُولَد الحبُّ في الجثث المتفحمة التي تَنشرها القلوبُ على حبل الغسيل ؟. ربما نمتلك نَفْس قارورة العِطر، لكنه عِطر قاتل يَسيل على نوافذ المطر الذي لم يجيء إلى صحراء الروح. السمكةُ ابتلعت الطُّعمَ أم الطُّعمُ ابتلع السمكةَ ؟. كلماتي محطةُ تشويش تُدمِّر رادارَ أعصابي. وأفكاري بئر التناقضات. هكذا تصبح الفوضى هي النظام الحاكم في مشاعري. أدفنُ جثتي في علبة السَّردين، ويَكتشفُ قَبري الغزاةُ المعلَّبون في أجساد مدافعهم.
الذكرياتُ الرمادية خلفَ الستائر الذهبية، والعوانسُ على شُرفات الطوفان. حِقْدي على نَفْسي لا يُوفِّر لي وقتاً لأحقد على الآخرين. كَم أحتاج من الوخز لأموت على صدرها ؟. هذا العاشقُ لا يَنهار إلا إذا كان لديه قابلية للانهيار. وهذه النملةُ التي تَمشي على مكتبي أفضل مني لأنها لا تَعْصي اللهَ.
كلُّ وجوه النساء اللواتي مررنَ في حياتي هُنَّ وَجْهُ امرأةٍ غامض مَرَّ خلف زجاج أحد القطارات بينما كنتُ جالساً في المحطة. نساء يَسقطنَ في الوهمِ يرسمنَ صورةً مسبقة لقصة حب مخترَعة ثم يُسقطنَ الأحداث وفقها. إن رأيتَ عروساً زُفَّت إلى زوجها، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تحبه. كانت أشعةُ الشمس متعامدة مع شواهد القبور. هذه الأرض التي ندمرها سوف تنتقم منا. ستصبح الذكرياتُ لعنةً تطردنا وتطاردنا. عِشنا معاً يا قططَ الشوارع، لكننا لم نعرف أننا أصفار على الشمال، مجرد أصفار لا وزن لها. نضحك، لكننا نضحك على أنفسنا، ونلعب بمصيرنا واثقين من الفشل. نحن أرقام.. مجرد أرقام خارج ميزانية الحضارات المنقرضة. نُلدَغ من نَفْس الجحر مئات المرات. تصبحُ الذاكرةُ امرأةً جسدُها مع زوجها، وقلبها مع رَجل آخَر. ذكرياتُنا مصابة بانفصام في الشخصية. نحن غرباء عن أنفسنا. اكتئابي كالبيات الشتوي للدببة القطبية، تخرج من بياتها فاقدةً ثلثَ وزنها، تبحث بكل جنون عن الفقمات. ننتقل من فشل إلى فشل. ومن فَرْطِ ما فشلنا، صار الفشلُ هو النجاح الوحيد، وصارت هزائمُنا الكثيرة هي الانتصار الوحيد.
لا أقلق على مستقبلي لأنه ليس لي مستقبل. صرتُ مثلَ قائد الطيارة، إمَّا أن يوصلها بسلام أو يموت مع الركاب.. لا مجال للهرب. وعندما تَسقط الطائرة، ستذهب قصصُ الحب التي خاضتها المضيفاتُ إلى النسيان. تتلاشى الحكاياتُ في وقود الطائرة المحطَّمة مثل الذكريات المحطَّمة. وهذا الإنسانُ دمَّر الأرضَ، وسيذهب لكي يكتشف المريخَ. قضيتُ حياتي هارباً من نَفْسي. صرتُ أخاف الالتقاءَ بوجهي. أخاف من المرايا.. كسرتُها. أن تَطلب مني التخلي عن اكتئابي مثل أن تَطلب من الراقصة التخلي عن رقصتها. كان عليَّ أن أبتعد عن المرأة التي أعشقُها، لأحافظ على صورتي كأسطورة أو أيقونة.. زجاجٌ بعيد عن اللمس لئلا يُخدَش. لكني الآن أسطورة مَيْتة.. أيقونة محترقة.. مزهرية مكسورة.
كُنَّا نحتقر السبايا، وكلُّنا سبايا. حياتنا أسواق نخاسة كاملة المعالم. حياتي رَجْعُ صدى غامض، وأُمنيتي أن أكتشفَ الصوتَ. كلُّنا أسرى ننتظر في طابور الحزن لاستلام حِصَّتنا من الموت. خضتُ حربَ استنزاف عاطفية، وعدتُ مهزوماً أجرُّ أذيال الخيبة. جيوشُ العارِ مهزومةٌ، وحضاراتُ الإبادةِ مكسورة. فكيف سأكونُ الوردةَ في وسط المقبرة أو قارورة العطر في مزبلة التاريخ ؟!. هل يمكن أن أغار على امرأة من زَوْجها ؟!.
أطفالٌ يَحملون ألعابهم ويسيرون إلى الذبح. بشرٌ يأكلون بعضهم في المزارع المحروقة. مُسدَّساتُ ماء يشتريها الأطفال في العيد ثم يكسرونها. قُرى تُباد عن بكرة أبيها. والمتفرِّجون يزدادون ضحكاً. أنسحب من حياتي، ويأخذ مكاني الآخرون. أحترقُ بأوهامي، والآخرون يعيشون أحلامي. عشتُ مع العبيد والإماء منتظراً ضوء الفجر. كنتُ كاذباً، وكان الفجرُ صادقاً.
إنني أحبُّ من أجل الذكريات لا الزواج. ولا داعي أن أنتحر لأني كل يومٍ أنتحر. أشعرُ أني عاجز جنسياً. مشاعري عاجزة. أنا جثة هامدة.. شبحُ إنسان منبوذٍ لا تاريخ له سوى النسيان. ولا أدري هل هذا وهم أم حقيقة. صرتُ مِثلَ لاعب التنس الأرضي الذي فقدَ التوقيت والإيقاع، فلا بد من الهزيمة. الإماءُ كثيرات لكنَّ النَّخاس قد تقاعد، والضبعُ سَقطت أسنانه، وأُغلق سوقُ النخاسة بالشمع الأحمر، وعاد المهرِّجون إلى بيوتهم بعد إغلاق السيرك.
صرتُ رَجلاً آلياً سيتحول - عمَّا قليل - إلى خُردة ملقاة في مستودع مهجور. أستغربُ عندما أجد أحداً يحبني لأني شخصياً أكره نَفْسي. فيا قاتلي، إن سَحقتَ الترابَ بقدميكَ، فلا بد أن يَعْلوكَ يوماً ما.
البوفيه مفتوح لكني فاقد الشهية. يتحول الرَّجلُ إلى آلةٍ، وتصير المرأةُ أثاثاً مستعمَلاً، وتنتهي الحضارةُ قبل أن تبدأ. إن أصعبَ شيء في الحب هو الوصول إلى نقطة اللاعودة. تغتصبُ المرأةُ مغتصِبَها. تصطاد الفريسةُ صَيَّادَها. يصبح ردُّ الفِعل هو الفعل، والضحيةُ هي الجاني.
نعطي ظهورنا لبعضنا البعض، ونحدِّق في بكاء القمر، ودموعُنا تحفر الوسادة الأسمنتية. هذا سريرُنا الحجري، وتبقى نوافذُنا تطل على الخريف رغمَ تعاقب الفصول. البابُ المفتوح لا يمكن فتحُه، والإنسانُ المدمَّر لا يمكن تدميره. والراقصةُ مضطرة أن تتحمل قرفَ الزبائن. لا أحد يَسأل عن مشاعرها. إنها جسد بلا روح. هي آلةٌ مهتزة في العَدَم، متحركة في الفراغ. في ذلك الظلامِ الأرجواني، امرأةٌ تأخذ مالاً من زَوْجها لتشتريَ ثياباً تتزين بها لعشيقها.
الدجاجةُ التي تأكلها في مطعم الوجبات السريعة لا تَعرف مشاعرَها ساعة ذَبْحها. كلما اصطدتُ سمكةً أَطلقتُها. لا أُريد امتلاكَ النساء. لا أُريد امرأةً أُمارس عليها سُلطاتي الذكورية. فلسفتي هي أن يظل العصفور خارج القفص.. أن تظل الزهرة في البستان دون أن يَقطفها أَحد. أنا حاضر دائماً في العُرس. عُرسي لا ينتهي، لكني لا أَصل إلى ليلة الدُّخلة. أحتاجُ إلى روحِ المرأة لا جسدها. أُمارسُ العشقَ لا الجنس، أو ربما أُمارس الكراهيةَ لا الحب. أعيشُ على هذا الحب المجنون القاتل كالطفيليات. صرتُ أخاف مِن نَفْسي. أخاف أن أنظر في المرآة. أخاف من الناس. أشعرُ أن ظِلِّي يتجسس عليَّ، يكشف أسراري للينابيع السامة. أخافُ من ظِلِّي. يُخيَّل إلي أنني اتخذتُ قراراً بالانتحار منذ طفولتي، لكني طيلة هذه المدة كنتُ أفكر في طريقة الانتحار، وأدركتُ أن حياتنا هي الانتحار بِعَيْنه.].
وعند هذا الحد توقف رأفت عن الكتابة. ألقى القلمَ على سطح المكتب. وضعَ الأوراقَ في أحد الأدراج، وأَغلق عليها كأنه يُغلق أبوابَ عُمره، ويَدخل في صومعة البرق دون مانعة صواعق. أحسَّ براحة كبيرة. قد تكون مؤقَّتة وخادعة. لكنه أحس بها. ربما تكون مشاعره هدوءاً يَسْبق العاصفةَ. ورغم هذا شعر بهدوء عميق. مفاصلُه مرتخية، وعظامُه تزداد نعومة، ووجهه يَطرد غبارَ الذاكرة، وشَعره مبتل بالضوء الناعم كأنه خارج من الاستحمام للتو. لم يستحم بالماء، لكنه استحمَّ بدموع قلبه. خلعَ ملابسَه بالكامل، وغرسَ نَفْسه في السرير. اختبأ تحت اللحاف كأنه يَنتظر قدومَ مَن يُكَفِّنه، وراح في نومٍ عميق.
(16)
كان فايز يسأل عن حارس المقبرة. لم يَرَه منذ مدة بعيدة. سأل عنه باعةَ الخضار في ساحة مسجد طارق بن زياد. اتفقوا جميعاً على عدم رؤيته، وتمنوا لو يُهاجر من هذا الجبل لأن قدومه كان نحساً عليهم.. هكذا قالوا. سأل عنه سائقي سيارات الأُجرة فأَخذوا يلعنونه، ويقولون إنه تسبَّب في مجيء الأشباح إلى الجبل، وإنهم يَرَوْنَ كوابيس في منامهم بسببه. أخذ فايز يناقشهم في خرافة الأشباح، وأنها مجرد أوهام. ولكنْ لا حياة لمن تنادي.
مضى إلى المقبرة فلم يجد غير بسام ابن عمِّه، وهو مشغول في القراءة والكتابة. اقترب منه بهدوء لأنه لا يريد أن يَقطع حبلَ أفكاره. انتبه بسام إلى قدوم ابن عمِّه، فرحَّب به. جلسا بجانب بعضهما البعض. أسندا ظَهْرَيْهما إلى السُّور الذي تقشِّره أشعةُ الشمس كما تقشِّر السكينُ خدودَ البرتقال. لكن بسام ظلَّ ممسكاً القلم والأوراق، ويكتب بكل مثابرة.
قال له فايز:
- ماذا تكتب ؟.
لم يَقطع بسام عملَه. ظلَّ غارقاً في أفكاره، وقال وهو مطأطئ الرأس:
- أحلُّ مسائل في الرياضيات لطالبة في مدرسة راهبات الوردية.
ذُهل فايز من هذه الإجابة غير المتوقَّعة، وقال واللهفةُ تتلاعبُ به:
- وكيف تعرَّفتَ إليها ؟.
- أنا لا أعرفها، ولكنها ترمي الأوراق في المقبرة، وعندما آتي إلى هنا أجمعُ الأوراق المبعثرة وأُرتِّبها، وأحلُّها، ثم أُلصقها على السور الخارجي. وبصراحة، صرتُ أحب هذه اللعبة.. تذكِّرني بلعبة القط والفأر.
ابتسم فايز ساخراً، وقال:
- لعبةُ الرياضيات أم لعبة الحب ؟.. ما زلتَ صغيراً على الرومانسية يا وَلد !.
ضحك بسام بشكل هستيري كشخص لم يضحك منذ قرون، وقال:
- حرام عليك !. هذه الطالبة في المرحلة الثانوية.. يعني في عُمر جَدَّتي !.
وما إن أنهى كلامَه حتى تفجَّر الدمعُ في عيون فايز. التفتَ إلى قبر جَدَّته قائلاً:
- الله يَرحمها.. كان أظفرُها بألف رَجل.
وأردف يقول:
- أصعب شيء في الحياة أن يموت الأشخاصُ الذين نحبهم قبل أن نخبرهم بأننا نحبهم.
أحسَّ بسام أن كلماته فَتحت بابَ الآلام، فاعتذر من فايز، وقال له إنه لم يَقصد أن يُعيد الأوجاع.
فركَ فايز عينيه، وأراد تغيير الموضوع بسرعة، فقال:
- أنا أصلاً جِئتُ لكي أسأل عن حارس المقبرة.. هل رأيتَه ؟.
ضحكَ بسام، وقال بصوتٍ متذبذب بين المرح والمأساة:
- الحارسُ صار رَجل أعمال.. لقد افتتح مَكَب نفاياتٍ خاصاً به !.
تأفَّف فايز، وبَدت على وجهه علاماتُ السخط، وقال:
- لا أُحب المزاحَ في هذه المواضيع.. أَجِبْ على قَدْر السؤال أو اخرسْ.
انتشرت التضاريسُ الخشنةُ على جبين بسام، وقال بحدَّة:
- أنا لا أمزح. لقد صار يُجمِّع النفاياتِ قرب الكسَّارة التي يَعمل فيها أبي، ويقوم بالتفتيش فيها عن كل شيء له قيمة..وإذا لم تُصدِّقني اذهب وشاهِد بنفسكَ.
سَقطت أجفانُ فايز على حشائش المقبرة، وقال بصوتٍ جارح:
- قُم.. سنذهب معاً. رِجْلي على رِجْلكَ.
سارا في لهيب العواصف. خطواتُهما وهجُ الظلال النازف. الصمتُ يقودهما نحو فوهة الشموع الخرساء. كانت النسورُ تطير في رئة الشمس فوق مَكَب النفايات. أجنحتها اللامعةُ تغطِّي الأفقَ الملتهب. والضجيجُ يملأ المكانَ. الجميعُ في حركة مستمرة.
كان حارسُ المقبرة يَجلس على كرسي هزَّاز قرب أكوام النفايات، ويُلقي الأوامرَ على الأطفال الغاطسين بين القمامة، ويُوجِّههم نحو الجهات المختلفة. إنهم في حركة دؤوبة لا تحتمل الكسلَ أو الهدوء.
وما إن رأى فايز وبسام قادمَيْن حتى قفز في الهواء كلاعب السيرك، وأسرع إليهما مُرَحِّباً. وقد استغربا كيف صار هذا العجوز الذابل رياضياً رشيقاً.
قال الحارسُ:
- أهلاً وسهلاً بالعُضْوَيْن في مجلس الثورة.
نظر فايز حَوْله، وهو غير مصدِّق ما يَحدث، وقال باستغراب شديد:
- ماذا تفعل في هذا المكان القذر ؟!.
ابتسم الحارسُ قائلاً:
- هذه قصة طويلة.. تعالا إلى مكتبي المتواضع لنشرب الشاي، ونتحدث في الموضوع.
كان مكتبُه عبارة عن طاولة صغيرة عليها أوراق وأقلام وآلة حاسبة، ويحيط بها عِدَّة كراسي قديمة.
نادى الحارسُ على أحد الأطفال:
- يا وَلد.. أحضِر لنا إبريق شاي مع ثلاث كاسات.
وانطلق صوتٌ ذابل من بين أكوام القمامة:
- أمرك يا معلِّم !.
وبعد وقتٍ قصير جاء طفلٌ صغير يَحمل إبريقَ الشاي مع الكاسات. وضع الحارسُ الكاساتِ على الطاولة. صَبَّ الشاي فيها، وقال للطفل:
- مع السلامة.. اذهبْ في ستين داهية !.
ابتسمَ الطفلُ رغمَ أن الدموعَ السحرية في عينيه كانت تتوهج، وقال:
- أمرك يا معلِّم !.
قال فايز:
- لماذا تعامله بهذا الأسلوب ؟!.
صمتَ الحارسُ، وحدَّق باتجاه أجنحة النسور في أعالي الحزن، ثم قال:
- هؤلاء الأطفال يجب أن تريهم العين الحمراء. يجب أن يظلوا مسحوقين تحت الأقدام لكي يَعملوا على مدار الساعة.. لا وقت عندي للحنان ولا الرومانسية.
تضايق فايز، وذابَ قلبُه في البخار المنبعث من الشاي، وقال:
- حرام عليك.. هؤلاء أطفال في عُمر أحفادك.
تجهَّم وجهُ الحارسِ. طأطأ رأسَه كأنه يَنتشل الذكرياتِ السحيقة من بئر الأيام، ثم قال والألَمُ يتفشى في حروفه:
- أحفادي !. أين هُم أحفادي ؟.. أولادي الذين أنجبتُهم ورَبَّيْتهم ودفعتُ دَمَ قلبي من أجل تعليمهم رموني في ملجأ العَجزة والمسنِّين..وأنتَ تقول لي: أحفادك؟!.
وأردف قائلاً:
- اشربا الشاي.. لا فائدة من الأولاد ولا الأحفاد !.
أراد فايز وبسام التهرب من شرب الشاي الذي بدا لونُه غريباً بعض الشيء، كما أنهما أُصيبا بالقرف من منظر القمامة. ووجودُ الشاي في هذا المكان يبعث فيهما الغثيان. أمَّا الحارسُ فكان يَشرب الشاي غير عابئ بكل ما يَجري حَوْله.
قرَّر فايز تغيير الموضوع، وإنهاء اللقاء بسرعة، فقال:
- باختصار شديد.. ماذا تفعل هنا بالضبط ؟.
- بدون مقدِّمات. نحن نَجمع الزبالة في هذا المكان، والأطفالُ يقومون بفصل المواد البلاستيكية وعلب المشروبات الغازية، وفرزِ كل شيء له قيمة من أجل بَيْعه.
فالأطفالُ عيونهم ستة على ستة. يعني نظرهم حاد، ويمكنهم تمييز المواد وفصلها.
قال بسام بكل براءة:
- وما ذَنْب هؤلاء الأطفال الفقراء ؟.. لا بد أن يُصابوا بالأمراض والجراثيم.
- أنا لا أضرب أحداً على يده ليعمل معي. بلا مؤاخذة، كل وَلد يأخذ أُجرته
نهاية اليوم، ولا آكل حقَّ أحد. والذي يَمرض أو يَموت مع ألف سلامة.. لَدَيْنا ألف وَلد مكانه.
كيف صار حارسُ المقبرة قاسياً إلى هذا الحد ؟!. مشاعرُه أضحت في زاوية الربح والخسارة. لقد تغيَّر كثيراً منذ ابتعاده عن المقبرة. وربما غيَّر هاجسُ المال أحاسيسه، وبدَّل قناعاتِه. هذه الأفكار كانت تَطوف في ذِهن فايز وبسام مع اختلاف زاوية الرؤية. وقد فكَّر فايز أن يَطرد الحارسَ من مجلس قيادة الثورة، ويمنعه من حضور أي اجتماع للقيادة، لكنه تخلى عن هذه الفكرة قائلاً في نَفْسه:
- الدمُ لا يَصير ماءً، وسيظل الحارسُ مِنَّا وفِينا رغم كل شيء.
افترَقوا. ذهب كلُّ واحد في طريقه. كل شخص مؤمن بقناعاته. الشموسُ طَوَتْها ثيابُ الحِداد، وما زال البشرُ يَمشون. يَركضون في أنفاق العُمر. قد يُولَد ضوءٌ في النهاية، وقد لا يُولَد. تظل الاحتمالاتُ هي الدستور الشفهي لهذه الوجوه المعجونة بعَتمة الأزقة، والمختفية وراء ظلال النوافذ المكسورة.
عاد بسام إلى بَيْته، والخواطرُ تتلاعب به. دَخل المطبخَ الصغير. جهَّز ثلاث سندويشات، وأخرج من الثلاجة علبة مشروبات غازية. إنه يتجهز للسَّفر. أينَ سيُسافِر ؟. إنه يسافر عبر الزمان.. يطوي الأمكنة، ويَقفز من نَفْسه ليتزوج بناتِ أفكاره. قرَّر الذهابَ إلى عالَمه الخاص.. إنه قَبْو مَنْزله.
وهذا القبو لا بابَ له. والدخولُ إليه يتم من خلال فجوة في الجدار. وقد اتخذ بسام القبو صومعةً له، ومختبراً عِلمياً لإجراء أبحاثه التي تحتاج إلى أدوات ومعدات.
إن بسام قد قسَّم عُمره إلى قِسْمَيْن: الرياضيات والعلوم. وقد اتخذ من المقبرة مقراً لإجراء الحسابات الرياضية، والتبحر في نظريات الرياضيات. أمَّا القبو فصار مختبَراً للعلوم، لأن فيه أدوات عديدة لا يمكن نقلُها إلى المقبرة. ولا نبالغ إذا قُلنا إن حياته هي المسافة بين القبو والمقبرة، أو بين المقبرة والقبو. وهو يقضي ساعاتٍ طويلة في القبو في إجراء الأبحاث، ولا يُرافقه غير الصراصير، وأحياناً الفئران.
لم يَستطع بسام التحرر من أفكار حارس المقبرة حول مكب النفايات. كان مُعجَباً بفكرة فرز النفايات، وفصلِ المواد. لماذا لا تتم الاستفادة من النفايات ؟. إنها كنز ثمين يُنظَر إليه على أنه شيء تافه. السرُّ في الإدارة لا الموارد. وأحياناً يكون البروازُ أجمل من الصورة. قد يَكتب الشاعرُ قصيدةً جميلة عن شيء قبيح، والعكس صحيح. إذن، لا بد من إمساك الخيط، والسيطرة على العناصر المحيطة. فالمسيطر هو القوي.
أدرك بسام هذه المعاني، وأدرك كذلك أنه أمام اختبار صعب سوف يُحدِّد مصيرَه العِلمي إلى الأبد. أخرجَ من جَيْبه علبة كبريت، وتناول عودَ ثقاب، وأشعلَ فتيلةَ المصباح الذي كان مصدر الإضاءة الوحيد في القبو. وراح يُسجِّل بعض الملاحظات السريعة على دفتره بشكل مُرقَّم:
1- يجب حماية الأطفال من الأمراض والجراثيم، وتزويدهم بقفازات، وملابس خاصة للحفاظ على صحتهم.
2- ضرورة تصميم جهاز آلي لفصل المواد البلاستيكية، وعلبِ المشروبات الغازية، ويكون التجميع في حاويات خاصة.
3- إيجاد آلية لجمع النفايات دون التسبب في تلويث البيئة.
4- الاستفادة من الغازات المنبعثة من النفايات.
صار هذا المشروع هو الشغل الشاغل لبسام. إنه مشروع تخرُّجه من جامعة الذكريات. فإذا نجح فيه فسوف يَخرج من تحت الأرض، ويصبح نقطةً مضيئة في التاريخ. سوفَ ينتشل تاريخَه الشخصي من بئر الإبادة. وإذا فشل سيظل عائشاً تحت الأرض مثل الجرذان، ويَذهب إلى النسيان مثل الملايين الذين يُولَدون ويموتون دون أن يَتركوا بصمةً في حياتهم.
وفي هذا القبو، إمَّا أن تَنطلق شرارةُ المعنى، أو يَحترق هذا الولدُ إلى الأبد مثل فراشةٍ ماتت قبل أن تُولَد. لا بد من المغامرة وليس المقامرة. لا يوجد عنده ما يَخسره. سَيَلعب الجوكر، ويَرمي بكامل ثقله في جسد الأحزان الأخضر ليُفجِّره..
مرة واحدة، وللأبد.
(17)
الشمسُ تشرق من جديد على جبل النظيف. تخرج الشموسُ من قضبان هذا السجن الكبير. حياةُ الناس في هذا الحصارِ البنفسجي سيناريو متكرر.. أسطوانة مشروخة. لا جديد في مشاعر الموتى، ولا جديد في مشاعر الأحياء. يمشي قطارُ الملل إلى محطة القلوب المكسورة، والقلوبُ تمشي إلى الأجساد المحترقة بالأحلام المخنوقة. يستمر مسلسل الوأد. وُلدوا كي يَموتوا. والتاريخُ يَكتبه المنتصرون الذين لم يَمروا من هنا.
علا الضجيجُ والتصفيقُ قرب مدرسة عاتكة بنت زيد. باعةُ الخضار جاؤوا يَركضون فَوْر سماعهم للخبر. أصحابُ المحال التجارية أَغلقوها، وأتوا مسرِعين ليتأكدوا من صحة الخبر. النساءُ تركنَ أولادهن في البيوت، وجِئْنَ ليتفرجوا على هذا الحدَث. وكلُّ عجوز جالسة على عتبة منزلها جاءت حاملة عكَّازها لترى هذا المشهد الفريد. أوقف السائقون سياراتهم وهَجموا على المكان. هل قامت الحرب؟. ماذا يَحصل بالضبط ؟. هل هي إشاعة أم حقيقة ؟. لقد انتشر الخبرُ انتشار النار في الهشيم. هل صحيح أن هناك امرأة ترتدي تنورة قصيرة جاءت إلى هذا الجبل ؟.
لقد عَرف الناسُ الجوابَ، ولم يَعودوا بحاجة إلى إلقاء الأسئلة. وها هُم يُشاهدون المنظر بأُم أعينهم. شابةٌ مفعمة بالحيوية ترتدي تنورةً فوق الرُّكبة، وأشعةُ الشمسِ ترسم خطوطاً على مكياجها البراق. وشَعرها يتطاير في جهات اللهيب.
حذاؤها ذو الكعب العالي يَلمع، ويَحرق عيونَ الناس.
كلُّ أفراد الشعب تجمَّعوا. الباعةُ المتجولون وباعةُ الخضار يتناقشون في هذا الحدَث التاريخي، ومدى تأثيره في حياة السكان. النساءُ أُصبنَ بالقلق من تأثير هذه المرأة على رِجالهن، وقد تُساهِم في زيادة عدد العوانس بين بناتِ الجبل. أحسَّ السائقون أن هذه المرأة تشكِّل خطراً على الأمن القومي في جبل النظيف. صارت جوارحُ الناسِ صفاراتِ إنذار.
لأول مرةٍ في حياتهم يَرونَ امرأةً على أرض الواقع ترتدي تنورةً فوق الرُّكبة. وحتى الذين يُشاهِدون الأفلامَ الإباحية لم يَقدروا على تحمُّل هذه الصاعقة. فهذا الجبلُ بيئة محافِظة، وكلُّ الأسرار تَجري خلف الأبواب الموصدة، والنوافذِ المغلَقة بإحكام.
لم تكن المرأةُ وحيدةً، فقد كان معها مجموعة شباب. أحدُهم يَحمل كاميرا. والواضحُ أنه يَعمل مُصوِّراً. إذن، هذا طاقم عَمل جاء من أجل مهمة ما، ولم يجيء من أجل السياحة.
صَرخ الناسُ:
- افتحوا الطريقَ للمختار.. افتحوا الطريقَ.
هدأ الناسُ مع قدوم المختار. والضجيجُ تحوَّل إلى همس. والجميعُ كانوا على أُهبة الاستعداد كأنهم يَنتظرون قراراً مصيرياً. أحاسيسُهم مشوَّشة، لكنهم لا يَملكون غير الانتظار.
تقدَّم المختارُ بخطى واثقة، وقال:
- تفضَّلي يا ابنتي.. كيف يمكن أن أخدمك ؟.
تعمَّد المختارُ أن يختار لفظة " ابنتي " ليُضفيَ جواً عائلياً على المشهد الذي بدا قطعةً من الجنون والفوضى.
ابتسمت " ابنته " في هذا المحيط الملتهب، وقالت:
- بصراحة يا عَمُّو، أنا كاتبة، وأريد إجراء تحقيق صحفي عن جبل النظيف لنشره في الجريدة.
كانت زليخة الأرملة تراقب المشهدَ عن كثب، وتستمع إلى الحوار. قالت لإحدى النساء بصوت هامس:
- نعوذ بالله. نحن والشرطة سمن على عسل، ولا داعي للتحقيق.
ابتسمت المرأةُ باستهزاء، وقالت:
- فعلاً إنك جاهلة.. هذا تحقيق صحفي في الجريدة، وليس تحقيق شرطة.
قفز محمود بائع الخضار من بين الحشود، وقال بنبرة كسيرة:
- أبوس يَدكِ !، اعملي معي مقابلة. لا أَحمل شهادةً لكني مثقَّف، وأحب أن تطلع صورتي في الجريدة.
ولَمَّا سمع المختارُ هذا الكلام، قال لمرافقيه:
- أبعِدوا هذا الأجرب من هنا.. بائعُ خضار ويريد أن يصبح مشهوراً !. يا عيني على هذه المهزلة.
وهجم المرافِقون عليه. أوسعوه ضرباً أمام الناس، وقال له أحدهم:
- يا ابن الكلب !، تريد أن تنافس المختارَ على الشهرة. يا غبي !، العينُ لا تَعلو على الحاجب. رائحتك مقرفة وتحبُّ أن تظهر صورتك في الجريدة يا وسخ ؟!. اذهب واستحم قبل ذلك.. انظر في المرآة لكي تَعرف قيمتك يا أجرب.
ورَموه على أحد الأرصفة القريبة كقطعة القماش القذرة. كانت الصيحاتُ تَخرج من أضلاعه المعجونة بالألم. وجسمُه يُهرول في مدارات الوباء. انسحب محمود من المكان كاللص الذي يتسلل من أحلامه. شعر بإهانة بالغة، فقد مُسحت بكرامته الأرضُ. ليس هذا فَحَسْب، بل جرى ذلك أمام عيون الناس الذين كانوا يَتفرجون ضاحكين. وطبعاً سوفَ يُعيِّرونه بهذه الحادثة طيلة حياته. إنها نقطة سوداء في تاريخه الشخصي، ووصمة عارٍ في أرشيف احتضاراته.
كان يجرُّ نَفْسه جرَّاً. وصلَ إلى بيته وهو في حالة مُزرِية يُرثَى لها. وبالكاد استطاع أن يَدق البابَ. خَرجت زوجته. رأتْه في هذا الموقف الحرج لكنها لم تتفاجأ، ولم تهتز مشاعرها. ظَهرت علاماتُ الشماتة على وجهها.
قال زَوْجها مستغيثاً كالغريق:
- أرجوكِ يا عواطف.. ساعِديني على الدخول.
تجهَّم وجهها، وقالت ساخرةً:
- ساعِد نَفْسكَ، أو اطلب مساعدة ست الحُسن والجمال التي كنتَ تريد أن تَبوس يَدَها.
ومضت إلى داخل البيت، وتَركت زوجَها ملقى على الأرض كالمحتضر على فِراش الموت وحيداً.
كلُّ شيء ينتشر في هذا الجبل بسرعة. ولا أحد يَعرف مصدر الأخبار. فهذه المرأة عَرفت القصةَ كاملةً كأن هناك بثاً حياً ومباشراً. ولا أدري كيف وَصلت إليها الأخبار. المهم أنه لا شيء يمكن إخفاؤه في هذه البُقعة. وهذه الحقيقة أدركها محمود الذي كان معلَّقاً بين الألم والألم.
وبصعوبة بالغة استطاع الدخول إلى بيته. إنه محاصَر في بئر النهايات، وينادي بأعلى صوته لعل أحدهم يُلقي إليه الحبل. إنه يَغرق في بحر التلاشي، ويَرمي بصره نحو الشاطئ منتظراً طوق نجاة يأتي من أية جهة.
نادى على زوجته بصوت ذابل:
- يا عواطف.. عواطف. أبوس رِجْلكِ، تعالي أنقذيني.
رَقَّ قلبُها عندما سَمعت هذا الكلام، وأسرعت إليه كي تنقذه.
أَحضرتْ كرسياً.. أَجلسته عليه. ثم أَحضرت ضماداتٍ مبلولة بالماء، وأَخذت تمسح جروحَه، وهي تقرِّعه:
- تريد أن تبوس يَدَها !. يا عيب عليك. لماذا لا تبوس يدي وأنا قضيتُ حياتي خادمة لك ؟!. مرمية في المطبخ مثل الكلبة، أنتظر منك كلمة حلوة، وأنتَ مثل الحائط. يخرب بيتك !.. تحب التنانير القصيرة، وتَركض وراء الكعب العالي. ماذا يَنقصني أنا ؟!. اشكرْ ربَّك أني رضيتُ بكَ.
لم ينبس محمود بكلمة. اكتفى بإطلاق الآهات. وصار التأوُّه هو الشِّعار الرسمي لحياته.
نَزل طاقمُ العمل في بيت المختار بعد أن حَلفَ بالطلاق إلا أن يَنزلوا في بيته. لسانُه معتادٌ على الحلف. وهو لا يَعرف قيمةَ الحلف، ولا قيمة الزواج. وربما طلَّق زوجته ألف مرة في حياته، وما زال يعيش معها كأن شيئاً لم يكن !. وقد أرشده الشيخ عبدالرحيم عمران إلى خطورة الأيمان التي يُطلِقها على الطالعة والنازلة، على الكبيرة والصغيرة، ولكنْ لا حياة لمن تنادي.
قال المختارُ لطاقم العمل:
- سآخذكم في جَوْلة في جبل النظيف. ولكنْ بعد أن نقدِّم لكم واجب الضيافة.
تتدفقُ الأحلامُ في المرايا المشروخة. وهذا الجبلُ المنسي يصبح في فوهة الذاكرة. سيكون الكبتُ تاريخَ مَن لا تاريخ له. وتتحول الأسرارُ العميقة إلى فراشاتٍ من دموعٍ ورصاص. وهذه المرأةُ التي اقتحمتْ هذا الجبلَ أَلقت صخرةً في بركة الماء الراكدة. وفجأة، صار الجميعُ مثقَّفين، عالقين في بئر الانتظار. الجميعُ يتحدث عن دور وسائل الإعلام. والذي لم يشترِ جريدةً منذ مئة سنة، وَضع ميزانيةً خاصة لشراء جميع الجرائد. إنها الهجرةُ نحو المجد والشهرة.. القوافلُ تَسير إلى مناجم الذهب. إنها حُمَّى البحث عن الكنوز. وهذا الهوسُ أوتادُ خيمةِ النسيان. يُهاجر صيادو المكافآت تاركين دموعَ زوجاتهم، وجثثَ أبنائهم تَغلي في القُدور. والهلوسةُ اللازوردية تبني أقواسَ النصر على الراية البيضاء، ومزهرياتِ الخسارة.
كلُّ واحدٍ يَبحث عن مصلحته. السفنُ تتخلص من الحمولة الزائدة لكي تخترق العمودَ الفقري للبحر. والمنطادُ يَرمي الأثقالَ لكي يَخترق طبقاتِ الجو. لم يَنظر السكانُ في مرايا الحلم. اكتفَوا بالغبار الذي يُغطِّي وجوهَهم المرهَقة. وهذا الغبارُ هو مرآةُ الأجسادِ الذابلةِ. والآن، يستعد الجميعُ للمعركة القادمة.. الصراع على السراب الأُرجواني.
بدأت الجولةُ غير السياحية في جبل النظيف. وقد أُعلن النفير العام، والناسُ أعلنوا حالةَ الطوارئ من تلقاء أنفسهم. أصحابُ المحلات التجارية بدأوا يَمسحون الواجهاتِ الزجاجية، ويُزيلون الغبارَ عن البضائع، ويَغسلون الأرضَ بالماء والصابون. وعُمَّالُ النظافةِ يُمشِّطون الأزقةَ حُلماً حُلماً ويَصطادون أكياسَ القمامة. والأمهاتُ يُلْبِسنَ أبناءهن ملابسَ العيد. وبعضُ السكانِ أَعلنوا اليوم عُطلةً رسمية. وكلُّ واحدٍ يُهيِّئ نَفْسَه من أجل الظهور في الجريدة، ويَرفع شعار " هذه الفرصة يجب استغلالها ". والجميعُ مقتنعون بأنهم يستحقون الشهرة والبريق الإعلامي، ولا يوجد أَحد أفضل من أَحد.
قاد المختارُ هذه الحملةَ الاستكشافية. بدأ من بيوت الشركس القديمة المزروعة على تلةٍ تطل على وسط البلد. وضَّح لفريق العمل خَطَّ سَيْر سرفيس جبل النظيف. فهذه المرْكباتُ العمومية تنطلق من قاع المدينة، وتمر في شارع المصدار، ثم تقتحم جبل النظيف. ((وَمَن لا يُحِب صعودَ الجبالِ يَعِشْ أبدَ الدهرِ بين الْحُفر)). ألقى المختارُ هذا البيتَ ليبدوَ أمام فريق العمل مثقفاً، وواسعَ الاطلاع. ثم قادهم إلى مسجد الشركس وأعطى نبذةً قصيرة عنه. ومضى بهم نحو مدرسة عاتكة بنت زيد، ثم عَرَّفهم على مركز رعاية اليتيم. وأوقفهم بجانب المخبز القريب، حيث اشترى لهم خُبزاً ساخناً، وقال ضاحكاً:
- كلوا من هذا الخبز ليصبح بيننا " عيش وملح ".
ومضوا عبر الأزقة، وانتهى بهم المطاف إلى مضارب الغجر (النَّور)، حيث تم استقبالهم بالدفوف والأغاني. ومع أنهم لم يَفهموا شيئاً من كلمات الأغاني إلا أن الجو كان ودياً للغاية، والناسُ يُصفِّقون، ولا يَعرفون - على وجه الدقة - لماذا يُصفِّقون.
وَصلوا إلى مسجد طارق بن زياد. وقال لهم المختار:
- اعذروني ليس لديَّ معلومات كثيرة عن طارق بن زياد، لأني كنتُ ضعيفاً في مادة التاريخ أيام المدرسة.. لكنه قائد مسلم كبير فتحَ أمريكا !.
وهنا تدخَّلت الكاتبة الصحفية:
- عفواً يا عَمُّو.. فتحَ إسبانيا، يَعني الأندلس، وليس أمريكا.
ابتسمَ المختارُ ببلاهة، وقال بصوت خجول:
- لا تؤاخذيني.. كبرنا في السن، والذاكرة ضَعفت.. اكتبي في الجريدة عن طارق بن زياد مثلما عَلَّموك في الجامعة !.
وأردف قائلاً:
- وعلى أية حال، إسبانيا وأمريكا كلها بلاد أجانب.
ثم أشار المختارُ بأصبعه السبابة إلى البُقعة المقابلة للمسجد، وقال:
- وهذه هي المقبرة. أسوارُها أثرية، وترابها يضم أشهر الشخصيات.
وعندما سمعت الكاتبةُ الصحفية جُملة " أشهر الشخصيات " تشوَّقت لمعرفة هؤلاء الموتى، فقالت:
- هل يُمكن أن تذكر لنا بعض الأسماء الشهيرة ؟.
صَمت المختارُ لوقتٍ قصير، وراح يُفتِّش في ذاكرته عن أهم الأسماء، وقال:
- سَجِّلي في دفترك. الحاجَّة سارة محمد عبد اللطيف زعيمة الحركة النسائية في الجبل. كانت تحل المشاكل بين الناس، ومَنَعت حالات طلاق كثيرة، وولَّدت نصف نساء الجبل مجاناً - الله يَرحمها ويَجعل مأواها الجنة -. والمحامون يَعتبرونها مرجعاً في القانون العشائري.
ارتسمتْ علاماتُ الشوقِ على وجه المرأة، وسيطر الفضولُ عليها، وقالت بلهفة حارقة:
- هل لديها مؤلفات ؟.. هل شاركتْ في مؤتمرات محلية أو دولية ؟.
ارتبكَ المختارُ، وبدأ يَسعل بشكل متعمَّد، وقال بنبرة مهزوزة:
- بصراحة، لم تؤلف كتباً لأنها كانت أُمِّية لا تقرأ ولا تَكتب. ولم تشارك في مؤتمرات لأنها كانت مشغولة بالطبخ، ورعاية زوجها وأبنائها، وتوليد النساء. حتى إنها لم تستخرج جواز سَفر إلا مرة واحدة في حياتها، عندما قَرَّرت الذهابَ إلى الحج.
وأردف المختارُ قائلاً:
- اكتبي أيضاً.. كانت المرحومة قائدة الكفاح المسلَّح. وقد وجَّه لها هتلر رسالة شُكر لأنها قاومت الإنجليز، ووجَّه لها تشرشل رسالة شُكر بسبب مقاومة الألمان.
كان الذهولُ يَقضم شظايا مكياجها. لم تستوعب هذا الكلام، فقالت وطيورُ الاستغراب تخمشُ خدودَها:
- لم أَفهم !.. هل كانت المرحومة عميلة مزدوَجة ؟!.
انتفض المختارُ، وقال بحدَّة:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. هذا الجبلُ لا يوجد فيه عملاء. المهم، اكتبي في الجريدة إنها قادت الكفاح المسلح، واختاري الحربَ المناسِبة !.
وتابعَ المختارُ:
- ولا يمكن نسيان " عصام أبو الرُّكب " أكبر تاجر بطيخ في تاريخ جبل النظيف.
ارتفع منسوبُ الذهول في جبهتها، وقالت والدهشةُ تفترس أعضاءها:
- بطيخ !.
ظَهرت الثقةُ على ملامح المختار، وتحصَّن بهدوء أعصابه، وقال:
- لا تستغربي يا ابنتي. كان رَجل أعمال يساعد الفقراء والأرامل، ويُوزِّع البطيخ على المنازل طيلة شهر رمضان المبارك مجاناً - الله يُحسن إليه -. وحتى بعد رسوبه في انتخابات مجلس النواب ظَلَّ يساعد الفقراء.
توقَّف المختارُ عند هذا الحد، وحاول أن يَتذكر أسماء أخرى، لكن الكاتبة قَطعت حبل أفكاره قائلةً:
- سنكتفي بهذَيْن الاسمين.
ثم قالت:
- هل بقي هناك معالم في الجبل لم نزرها ؟.
- لَدَيْنا جمعية المركز الإسلامي، وهي تقع بجانب مسجد طارق. ولَدَيْنا مدرسة جبل النظيف الأساسية التي خَرَّجت الكثيرَ من الطلاب الذين صاروا مثل توتن وسينا.
أَطلقت الكاتبةُ ضحكةً مجلجلة لم تَقدر على منعها. وبعد فاصل طويل من الضحك، قالت:
- تقصد نيوتن وابن سينا.
ابتسم المختارُ، وقال:
- لا تؤاخذيني. العُمر له أحكام. والبركةُ فيكِ.. أنتِ أعلم مني بهؤلاء الأجانب !.
لم يعد المختارُ قادراً على المشي. رِجْلاه لا تَحملانه. مفاصلُه تتفكك، وفقراتُ عموده الفقري تنهار تدريجياً. وهذه الجولةُ أَتعبته، وفاقمتْ آلامَ عظامه. وقد طَلب من فريق العمل أن يَأخذوا قِسطاً من الراحة، ويُكمِلوا هذه الجولة فيما بعد.
لاقت الفكرةُ استحسان الجميع. لا بد من استراحة المحارِب في هذه المعركة التي لا تريد أن تنتهيَ. وفي فترة الاستراحة أَحضر مرافقو المختار مشروباتٍ غازية. وزَّعوها على طاقم العمل. وجلسوا في مكان ظليل يُخطِّطون للمرحلة المقبلة.
استراحوا قرابة نصف ساعة. كان الوقتُ حُلماً من لحم ودم. استعار المحارِبون أسلحتهم من حنجرة الطوفان. والشوارعُ المغلَّفة بأكفان الزيتون رَحلت باتجاه عيونهم. وهُم سَيَرْحلون إلى هوية النزيف في شقوق الحيطان.
قالت الكاتبة الصحفية للمختار:
- بعد إِذنك يا عَمُّو، نريد عمل لقاءات مع السكان، وأخذ آرائهم.
رفع المختارُ رأسَه عالياً، وقال:
- اعملي معي لقاء قبل الجميع. أنا المختار، وكلمتي مسموعة، ولا أحد يَكسرها.
- يا عَمُّو، أنتَ شخصية مميَّزة. سأضع اسمك أولاً، ولكن نريد لقاء الناس العاديين.
ضحك المختارُ، وقال لمرافقيه:
- سمعتُم هذا الكلام ؟. أنا شخصية مميَّزة، لكنكم لا تَعرفون قيمتي.
ولم يَكد يُنهي كلامَه حتى تفاجأ الجميعُ بشخص يقفز من داخل المقبرة على السور، ثم يَهبط على الشارع مثل منطاد معطوب. عَمَّ الارتباك في الأجواء، واختلط الحابل بالنابل، وعلا الضجيج. إنها مفاجأة من العيار الثقيل. مَن هذا الشخص ؟!. هل ينتمي إلى عالَم الأحياء أو الموتى ؟!. نظر إليه فريقُ العمل كما يَنظرون إلى كائن أسطوري لا يُرى إلا في أفلام الخيال العلمي.
وَقفت الكاتبةُ أمامه مشدوهةً، كأنها تريد اكتشافه.. أن تَلمسه لتتأكد أنها في الواقع ولا تعيش حُلماً أو كابوساً. ارتبك المختارُ أول الأمر، ثم حاولَ أن يُلطِّف الجو، ويُزيل الدهشة التي ضَربت جذورَها في مناخ الرعب، فقال مبتسماً:
- لا تستغربوا.. هذا فايز، من خِيرة شباب الجبل. عِلْمٌ وأخلاق وأدب. وهو حفيد الحاجة سارة التي أخبرتُكم عنها.
ولم يَعرف المختارُ في البداية كيف يبرِّر وجودَ فايز في المقبرة أمام فريق العمل، ثم وَجد حِيلةً، فقال واثقاً:
- إنه يُنظِّف المقبرةَ من الأعشاب الضارة، ويُحافظ على جمالها. ففي هذا اليوم لَدَيْنا حملة نظافة تطوعية.
فَرحت الكاتبةُ عندما سَمعت هذا الكلام، وانطلت عليها الحِيلة، وقالت بكل بساطة:
- رائع !، إنكم تدمجون الشبابَ في العمل الخيري التطوعي، وهذا مؤشر على التقدم والازدهار.
عَلت البسمةُ وجهَ المختار، وتهللت أساريره، وقال:
- إن شاء الله، سوفَ نظل في حالة تقدم وازدهار.
تحمَّست الكاتبة لإجراء لقاء مع فايز الذي نَظرتْ إليه باعتباره شاباً منتمياً إلى مجتمعه، ويَعمل من أجل خدمته دون مقابل مادي. وسوفَ يكون العملُ التطوعي موضوعاً جذاباً في هذا التحقيق الصحفي.
قالت الكاتبةُ، وخدودُها الوردية تزداد تفتحاً:
- أستاذ فايز، اسمحْ لي أن أسألك حول دورك في العمل التطوعي لخدمة البيئة المحلية ؟.
لأول مرة في حياته يَسمع أحداً يناديه " أستاذ ". رَمى هذا اللقب وراء ظَهره، ونَظر إلى هذه المرأة باستخفاف واحتقار، وقال:
- انظري إلى ملابسك الفاضحة.. أنتِ فاسقة !.
ألقى هذه اللغمَ في وجوه الجميع، وانطلق بكل هدوء. انسلَّ من المكان كما تنسل الشعرة من العجين.
سيطر جيشُ الوجوم على مساحات الوجوه، ووَقعت قلاعُ الحلم في قبضة الريح. تساقطت الرموشُ على الأرصفة. وألوانُ الطيف ترتسم على أشكال الناس الحائرين. هكذا - وبكل بساطة - تتشقق الظلالُ، وتسيل من شواهد القبور. وقد صارت أجسادُ هؤلاء البشر شواهدَ قبور خرساء.
تغيَّر لونُ وجه الكاتبة. تبخر مكياجُها في غبار السنوات. والبراكينُ الخامدة في قفصها الصدري ثارت من جديد. إنها تَغرق في خريفها الشاحب، كأنها تنتظر ساعي بريد يُسلِّمها رسالةً قاتلة، أو طَرْداً مفخَّخاً. أطرافها ترتعش، وما زالت واقفة في ثلاجة الموتى. صدمة كبيرة لم تتوقعها. المختارُ صار أصفر اللون. وقف كالطفل الصغير يَنظر حَوْله ببلاهة، وهو غير مستوعب لما حَدَث. استجمع قواه الذهنية بصعوبة. بصقَ على الأرض، وقال:
- ولد تافه عديم التربية. الله يَخزيك.. فضحتنا مع بنت الأكابر.
ثم نَظر إلى الكاتبة، وقال:
- لا تؤاخذيني يا ابنتي.. هذا الولدُ مريض نَفْسي، وأهله يُعالجونه من الصرع. وأكيد هذه إحدى نوبات الصرع. وسوفَ نطلب من الحكومة إنشاء عيادة لعلاج هؤلاء المرضى.
كان تبرير المختار ساذجاً ومكشوفاً، لذا قالت الكاتبة وهي تكاد تبكي:
- لا داعي للتبرير والأعذار يا عمِّي. لقد تعلَّمنا في مهنة الصحافة سماع الرأي والرأي الآخر. وهذا الشاب حُر في أفكاره وآرائه.
- الله يأخذه ويريحنا منه. شَوَّه سُمعةَ جبل النظيف أمام الضيوف. هذا النوعُ من الناس لا يَعرف حرية ولا بطيخاً.
وأردف قائلاً:
- لو سمحتِ يا ابنتي، لا تكتبي هذه القصة في الجريدة. لَدَيْنا نماذج مشرقة. ما رأيُكم في إجراء مقابلة مع أخيه، الشيخ عبد الرحيم عمران ؟. هذا رَجل فهمان تخرَّج من الجامعة، ويُلقي دروساً في الإذاعة، وفوق كل هذا يَحفظ كتابَ الله.
- سوفَ نكتفي بهذا القَدْر، فقد تأخَّرنا في العمل، ويجب تسليم التحقيق الصحفي لرئيس التحرير هذا اليوم.
وتفرَّقت القوافلُ في صحراء الشَّك. والمختارُ ما زال يَدعو على فايز، ويَصفه بأقبح الصفات. وأتى الوداعُ كما يأتي المطرُ المفاجئ في صيف الجروح الساخنة. لا بد من الفِراق في دروب القمر الباكي. وبدأت الوصايا الأخيرة. ستكتبُ الأمطارُ الحمضية سِفرَ الوصايا، ووصيةَ الجرحى.
قال المختار في وصيته الأخيرة:
- أرجوكِ اكتبي اسمي في رأس الصفحة بالخط العريض.
وأخرج هويته الشخصية قائلاً:
- سَجِّلي اسمي الرباعي لكيلا تنسيه.
ومضى يقول:
- لا تنسي.. بالخط العريض. وقولي إن المختار يَدعم مشاريع الحكومة في الإصلاح والتطوير. والمواطنون يَدفعون فواتير الماء والكهرباء في الوقت المناسب، ولن نسمح لأحد بسرقة الماء والكهرباء. أمَّا موضوع تنظيم النسل، فنحن ملتزمون بخطة الحكومة، ولكننا بحاجة إلى وقت لكي نُقنع الناسَ بذلك.
توقَّف عند هذا الحد، لأن نَفَسه قد انقطع. التقط أنفاسه من جديد، وقال:
- ويا ليت تمدحيني ببعض الكلمات الرنانة. وأعدكِ، إذا صرتُ وزيراً فسوفَ تكونين مديرة مكتبي !.
كانت الرياحُ الشمسية تودِّع أزقةَ جبل النظيف. والأشجارُ تهاجر من أرواح الموتى إلى الشفق. والدماءُ تتفرق بين القبائل. صَمتت طبولُ الحرب، وانتهت استراحة المحارِب إلى الأبد. وعَمَّ الصمتُ الرهيب. عيونُ البشر أدغالٌ من القش المحترق، وقططُ الشوارع تتقدم أمام الحواجز العسكرية مذعورةً. هذه الأجسادُ المنهَكة حواجز عسكرية. الأحزانُ ساحةُ حربٍ، وجيشُ الصدى يَفرض شروطَ الهدنة على تاريخ البيوت العشوائية.
جاء الليلُ حاملاً معه شُعلة الأرق. الهمومُ تتناثر على أثاث المنازل البسيط. السكانُ لا يَقدرون على النوم في هذه الليلة الجارحة. الأذهانُ مشوَّشة، والحواسُ رادار مُعطَّل. كل واحد يُفكِّر في الجريدة. متى تَصدر ؟. أين يتم توزيعها ؟.
صار الجميعُ مثقفين. لم يَعد الرجال يُفكِّرون في قوت يَوْمهم. لأول مرة لا يُفكِّرون في اقتناص رغيف الخبز. النساءُ هَجرنَ فنونَ الطبخ، وصحونَ المطبخ. الرجالُ لا يُفكِّرون في ممارسة الجنس مع زوجاتهم. والنساءُ تَركنَ قمصان النوم في الخزانة، والعطورُ منبوذة عند المرايا. وَحْدَها رائحة العَرَق تحتل الأجسادَ البشرية.
والأطفالُ لا يُفكِّرون في المدرسة ولا اللعب. الثقافةُ هي خبز الجميع. متى ينتهي هذا الليل لكي يَشتروا الجريدةَ ؟. كل شخص تَظهر صورته في الجريدة سوفَ يقوم بقصها ووضعها في برواز للذكرى يتوارثه أفرادُ العائلة كالأيقونة المبارَكة. والذي لا تَظهر صورته سوفَ يُعلن الحِدادَ، أو يَذهب إلى الجريدة معترضاً على هذه الإهانة، ومطالباً بإعادة التحقيق الصحفي. أفكارٌ غريبة هَجمت على الأذهان. ودائماً يكون الليلُ طويلاً على المعذَّبين. الانتظارُ صعب، يستنزف الأعصابَ، يَعصرها مثل الليمونة.
انطلقَ أذانُ الفجر ماسحاً الغبار عن الوجوه المسحوقة. هاجرَ الرجالُ باتجاه الأذان. امتلأ مسجد طارق بن زياد ومسجد الشركس، حتى إن الناس ليُصلُّون في الطرقات. تعجَّب الجميعُ. والدهشةُ رَسمت خطوطها على الوجوه. ففي العادة يكون المصلون في صلاة الفجر قِلة قليلة. هل نحن في رمضان ؟. هل سَهر الناسُ حتى السَّحور ثم جاؤوا إلى المسجد لأنهم كانوا مستيقظين ؟. هل صار الناسُ كلهم أولياء لله يَحرصون على صلاة الفجر ويُضحون بلذة النوم من أجل لذة العبادة ؟!. اللهُ هو الهادي.
انتهت الصلاةُ. وانتشر الناسُ في الدروب المعتمة كالجراد المهووس. الكل يَبحث عن الجريدة. فُتحت المحلات مبكراً. حالةُ استنفار قصوى. صفاراتُ الإنذار تتفجر في أذهان الناس. البعضُ انطلق إلى المناطق المحيطة بجبل النظيف للحصول على الجريدة التي صارت مثل صَك الغفران.
لَمعت فكرة جهنمية في عقل يوسف، صاحب بقالة الخيَّامي. ذَهب إلى وسط البلد دون أن يُخبر أحداً. اشترى الجريدة بأعداد هائلة. كان يتعامل مع الجريدة بالكيلوغرام وليس بالنُّسخ. اعتبرها مثل المعلَّبات أو علب المشروبات الغازية.
تضاعف سِعرُ الجريدة تسع مرات. تأفَّف الناسُ وأظهروا حنقهم، لكنهم - في نهاية المطاف- استسلموا لجشع يوسف وفلسفته الاحتكارية. كثيرون ضَحوا بِقُوتِهم اليومي وقوتِ أبنائهم من أجل الحصول على الجريدة. إنها غذاء الرُّوح، وتاريخ مَن لا تاريخ له.
فَتَّشوا الجريدةَ سطراً سطراً.. حرفاً حرفاً. إنهم يأكلون الحروفَ، ويَشربون حِبرَ الكلمات. يُدقِّقون في الصور مثل الأطباء الشرعيين الذين يريدون حَل ألغاز جريمة ما.. يَبحثون في كل أبعادها، ويَربطونها بالواقع. الناسُ فَقدوا عقولَهم في هذا الجبل. لا مكان للعقلانية ولا التأني. انتشرت الفوضى، واختلط الحابل بالنابل. وَحْدَها الهلوسة تتجول في الشوارع بكل جرأة. قال أحدهم: ((إذا كانت الثقافة هكذا، فأُريد أن أظل جاهلاً)).
عَثرَ أحدُهم على العنوان المفقود. وَجد الجنَّةَ الضائعةَ: " تحقيق صحفي حول جبل النظيف ". هَجم عليه الآخرون ليَعرفوا رقم الصفحة. تم تعميمُ رقم الصفحة على جميع المواطنين في هذا الجبل. صار رقماً أهم من دفتر العائلة. إنه رقمُ الحظ، «والذي ليس له حَظ لا يَتعب ولا يَشقى». إنها الفلسفة الرسمية في هذه البُقعة.
(18)
كان خروجُ هشام الديزل من السجن حَدَثاً استثنائياً. دَخل إلى السجن فلم يجد أحداً يُرحِّب به، وها هو يَخرج فلا يَجد أحداً يُرحِّب به. عاش غريباً. تغيرت الأمكنةُ والأزمنةُ، وما زال غريباً، يَنظر إلى نَفْسه ولا يَعرفها. أبوه مات وهو طفلٌ صغير. ولا يَزال النداءُ الجارح يتردد في أُذنيه. كانوا يُنادون عليه: ((أبوك مات يا هشام)). فهمَ في تلك اللحظة المرعبة معنى الموت، لكنه بقيَ يَلعب كرةَ القدم مع أولاد الحارة، وأهملَ ذلك النداء المنبعث من أعماق التاريخ المكسور.
أمَّا أُمُّه فماتت وهو مسجون، ولم تَسمح له المحكمة برؤيتها وهي على فِراش الموت، أو المشاركة في تشييعها. تَركت السنواتُ الطويلة توقيعَها على شَعْره الأبيض، وتركت الزنزانةُ الانفرادية بصمَتها على تجاعيد وجهه الذابل. زوجته طَلبت الطلاقَ بعد عدة سنوات من سجنه، لكنه رَفض أن يُطلِّقها، فقامت المحكمةُ بالتفريق بينهما بعد أن تقدَّمت زوجته بشكوى ضده. ذكرياتٌ مريرة. وكلُّ شخص في هذه الحياة يَبحث عن مصلحته. وفي قرارة نَفْسه، هو لا يلومها، ولا يَحقد عليها. المرأةُ تريد رَجلاً إلى جانبها، وليس رَجلاً خلف قضبان السجن يتحول مع مرور الوقت إلى شبح لا حَوْل له ولا قوة. " كلبٌ حَي أفضل من أَسد مَيت ". هذا مبدأ أساسي في فلسفة هشام الديزل. والحمدُ لله أنهما لم يُنجبا. لا أطفال سَيَضيعون، ولن يُعيِّرهم أحد بأن أباكم مجرم. هكذا يصبح عدمُ الإنجاب نعمةً عند البعض.
وكلمةُ " الديزل " هي لقب اشتهر به على مدار حياته، وليس اسمَ عائلته. إنه الاسم الحركي الذي صار مثل الماركة المسجَّلة. وربما نسي اسمَ عائلته بسبب التصاق هذا اللقب به منذ طفولته. وكان الجميعُ ينادونه به، حتى والدته.
ومن كثرة عدد التهم التي ثَبتت عليه، وحاصرته من كل الجهات، لم يعد يتذكر لماذا سُجن. وفي بعض الأحيان يُخيَّل إليه أنه بريء، وأنه سُجن نيابةً عن أشخاص آخرين متنفذين وفوق القانون. وقد قال للقاضي في إحدى جلسات المحاكمة إن القانون مثل شِباك العنكبوت لا تَقع فيه إلا الكائنات الصغيرة، أمَّا الكائنات الكبيرة فهي تمزِّقه. وعندئذ قال القاضي متهكماً:
- هذا المجرم المدان قد صار فيلسوفاً يتحدث عن العدالة الاجتماعية.. وقد قالوا: خذ الحكمةَ من أفواه المجانين. وأنا أقول: خُذ الحكمةَ من أفواه المجرمين.
احمرت خدودُ هشام، وطأطأ رأسَه. وضَحك الجالسون في المحكمة. وما زال هشام - رغم مرور كل هذه السنوات - يتذكر كلامَ القاضي حرفاً حرفاً، ويتذكر ضحكاتِ الناس التي لا تزال ترن في أُذنيه، وتَقرع رأسَه بشدة. لقد كان ذلك الموقف أشد عليه من سنوات سجنه. أيامٌ مرَّت كوخز الإبر، والذكرياتُ لا تَرحم. ومهما حَصل فالزمنُ سائر لا يُوقفه شيء، يَجرف كلَّ شيء أمامه مثل السَّيل المدمِّر، ولا يهتم بمشاعر الضحايا، ولا يَسأل عن مصير المشرَّدين. المشاعرُ جزءٌ من أرشيف الموتى الذين يَدفنون موتاهم.
لقد كان خائفاً من الخروج من السجن. تعوَّد على ظلام الزنازين. وقد يَعجز عن مواجهة نور الشمس. وربما يكون خلف أسوار هذا السجن سجنٌ أكبر. هل سَيَخرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير ؟. إنه يخاف من الحرية. الحريةُ تَضغط على أعصابه وتربكه. تماماً كالرياضي الذي يخاف من الفوز، ويقع تحت ضغط إنهاء المباراة لصالحه. كما أنه لا يَحمل في جَيْبه قِرشاً واحداً. هل سَيعود إلى جبل النظيف مشياً على الأقدام ؟. المسافةُ طويلة، وهو لا يَملك أُجرةَ المواصلات.
وبينما كان هشام يَهُم بمغادرة السجن، اقترب منه أحد السجانين، وأعطاه خمسة دنانير. رفض هشام - في بداية الأمر - أن يأخذها رغم حاجته، فقد اعتبر الأمر إهانة لكبريائه. لكن السجان أصر على ذلك، وقال له:
- هذه هدية من صديق، وليست صدقة. وإن شاء الله تبدأ حياتك بشكل صحيح، ولا ترجع هنا أبداً.
دَمعت عَيْنا هشام، وأَشفق على نَفْسه. فقد كان زعيمَ عصابة يُنفِق على عشرات الأتباع، والكل يَلهث وراءه من أجل ماله ونيل رضاه. أمَّا الآن فهو يمد يدَه لأخذ خمسة دنانير من سجان يَنتظر راتبه الشهري بفارغ الصبر لكي يُنفق على عائلته. وهذا السجانُ بالذات طالما نظر إليه هشام نظرة كراهية، لأنه اعتبره قاسياً ويَحتقر السجناء. أمَّا الآن فقد تغيَّرت النظرة إلى النقيض تماماً.
قال هشام، وهو يُغادر بوابة السجن:
- إن شاء الله تسمع عني أخباراً طيبة.
وعبر البوابةَ مثل القائد العابر تحت أقواس النصر أو أطلال الهزيمة. لم يُميِّز في تلك اللحظة هل هو قائد منتصر عليه أن يَفرح ويرفع رأسه بكل شموخ، أم قائد مهزوم لا بد أن يَحزن ويطأطئ رأسَه بكل خزي وعار. استسلم لخطواته التي كانت تتوالى بصورة آلية لا أحاسيس فيها. والتاريخُ سَيَحْكم على المنتصرين والمهزومين.
وَصل إلى جبل النظيف مسقط رأسه. كل شيء قد تغيَّر. أجيالٌ ماتت، وأجيال وُلدت. مقهى الحبايب هُدم، وقام مكانه صالون حلاقة للرجال. هذا المقهى الأثري الذي كان يَجلس فيه برفقة أفراد العصابة لِيُنسِّقوا العملياتِ صار أثراً إثر عَيْن. هذا المقهى كان شاهداً على المعارك الطاحنة بين زعماء العصابات، حيث تتطاير الكراسي، وتتكسر الطاولات، ويتساقط الزجاج. أيامٌ مرَّت. والزمنُ طوى الجميعَ تحت جناحه.
أنور أبو هوسة الشهير بالعقرب قَتلته الشرطة في إحدى المطارَدات الشهيرة بعد أن أَطلق عليهم الرصاص، فقتلَ شرطياً وأصاب آخَر. وهو أكبر تاجر مخدرات في المنطقة. وعندما قُتل رَفض إمامُ المسجد أن يُصلِّيَ عليه. وقد تجمَّع بعضُ الفقراء حَوْل جثته باكين لأنه كان يُنفق عليهم، ويُعلِّم أبنائهم في المدارس على حسابه الشخصي، ويَشتري لهم ملابس العيد. كان يَقتل الشبابَ بالمخدرات، ويُعالج الفقراءَ في المستشفيات. ربما كان يظن نَفْسه مِثل روبن هود الذي كان يَسرق من الأغنياء لِيُطعِم الفقراءَ - مع اختلاف الأسلوب -. كلُّ واحد له طريقته الخاصة في هذه الحياة.
وعندما قُتل اختلف الناسُ في عدد الرصاصاتِ في جسمه. وجاءت أُمُّه العمياء بعد أن عَلمت بمقتل ابنها. تحسَّست الثقوبَ في جسمه من أثر الرصاص. كان جسمه كالغِربال. وقد اقترضت ثمنَ كفنه من إحدى الجارات، واستأجرتْ عاملاً، حيث صلى عليه ودَفنه بعيداً عن الجبل. ذكرياتٌ فَتحت بابَ الآلام. خواطر أعادت سنواتِ الرصاص إلى الذهن.
عامر وردان كان زعيم عصابة شرساً. يأتي في المرتبة الثانية بعد " أنور أبو هوسة ". كان يَفرض على أصحاب المحلات دفع مبلغ مقابل توفير الحماية لهم، وحماية محلاتهم من السرقة. ومَن لا يَدفع قد يَخسر حياته، وتُنهَب ممتلكاته. وقد قُتل في حادثة إطلاق نار في ملهى ليلي بسبب صراع على إحدى الراقصات.
رائد البيسي الملقَّب بمعجونة كان متخصصاً في تسلق جدران البيوت وسرقتها. طفولته لا توحي بأنه مشروع لص. فقد كان طالباً مجتهداً في المدرسة، وكان الأولاد يَطلبون منه إحضار الكرة حين يَقذفها أحدهم على سطح المدرسة، فيتسلق الجدرانَ مثل القِرد بدون أدوات، فيقفز من نافذة إلى نافذة، ويصل إلى السطح بكل سلاسة، ثم يرمي بالكرة إلى الأولاد.
وقد طَبَّقت شهرته في التسلق الآفاقَ. وحاول معلِّمُ الرياضة في المدرسة إشراكه في مسابقات تسلق الجبال. وبالفعل شاركَ في إحدى المسابقات، وفاز بالمركز الثاني. ولا تزال الميدالية الفضية - حتى هذه اللحظة - معلَّقة على إحدى جدران بيت العائلة. لكن عامر وردان أقنعه أن هذه ألعاب صبيانية لا تُطعِم خبزاً، وأن مستقبله هو تسلق البيوت وسرقتها. فما يَسْرقه في ليلة واحدة قد يَفوق راتبَ موظف حكومي طيلة سنة كاملة. ولا داعي أن يَتعب في الدراسة، وتحصيل الشهادات العليا. ففي السرقة توجد نظرية واحدة وهي " سرقة ما غلا ثمنُه، وخَفَّ وزنُه ".
وتاريخُه الشخصي يتضمن سرقة خمسة منازل. وعندما حاول سرقة المنزل السادس سَمع صاحبُ المنزل يقرأ القرآن بصوت جميل، فنسي أمرَ السرقة، وأخذ يَستمع إلى القرآن. وفي تلك اللحظة قرَّر التوبةَ. وقد أعاد المسروقاتِ إلى أصحابها، وسَلَّم نَفْسه للشرطة. وهو الآن يَعمل في إحدى الهيئات الخيرية في إفريقيا مُشرِفاً على توزيع المساعدات الغذائية.
الذكرياتُ دبابيس في جِلد المسافرين في ذواتهم. التجاعيدُ تتسلل إلى وجه الذاكرة. لقد تغيَّر جبلُ النظيف كثيراً. وما زالت الأطلالُ شاهدةً على الحب والكراهية، التسامح والحقد، السلام والحرب. جثثٌ تتحلل في الزحام الذي لا يَنتهي. وكلُّ واحد يَحمل جُرحه المشِع، ويَسير إلى الشمس أو الانطفاء الأبدي. والأعمى لن يُميِّز بين اللمعان والانطفاء.
كان هشام يتجول بحرية في شوارع الجبل. لم يتعرف عليه أحد. هذا الأمر بحد ذاته نعمة. لا أحد يَعْرف تاريخه الشخصي. هكذا يَسير متحرراً من الجاذبية. عاش غريباً، وعاد إلى مسقط رأسه غريباً. إن عمره مسافة بين غُرْبَتَيْن. ونعمةُ النسيان لا تُقدَّر بثمن.
وَقعت عيناه على بقالة الخيَّامي. لا تزال موجودة، واسمُها لم يتغير. انطلق نحوها كالعطشان في الصحراء حين يَنطلق نحو الماء أو ما يظنه ماءاً. الحياةُ كلها محصورة بين الماء والسرابِ. رأى يوسفَ وهو مشغول في البيع والشراء. انتظرَ قليلاً حتى هدأ المكانُ، وخلا من الزبائن. دَخل بخطى متقاربة وناعمة. ألقى السلامَ على يوسف فردَّ عليه دون أن يَعرفه.
وقف هشام كالمرآة المشروخة، وقال بصوت كسير:
- ألم تعرفني يا يوسف ؟.
حدَّق يوسف في هذه الملامح. فتَّش في ذاكرته عن صورة هذا الشخص، لكنه فشل في معرفته، فقال:
- لا تؤاخذني يا ابنَ الحلال.. الواحدُ من كثرة مشاكل الحياة لم يعد يتذكر ماذا أفطرَ بالأمس.
- أنا هشام.. هشام الديزل.
جَحظت عينا يوسف كأنه في حالة احتضار ويعيش حلاوةَ الروح التي تَسبق الصمتَ الرهيب، وصار يُدقِّق في كل شِبر من جسم هشام. ثم دَخلا في عِناق طويل.
قال يوسف واللهفةُ تحاصره من كل الجهات:
- والله زمان يا رَجل.. أين أيامك ومغامراتك ؟. تفضَّل.. استرحْ.. اجلسْ على الكرسي.
وقرَّب أحد الكراسي. وجلسا في فوهة العمر الهارب مثل قتيلَيْن يتقاسمان قبراً واحداً.
قال يوسف:
- تغيَّرتَ كثيراً يا هشام. شَعرك صار أبيض، ووجهك مليء بالتجاعيد.
غرسَ هشام في صدره تنهيدةً عميقة، وقال:
- راح الشبابُ كالحلم.. سبحان الذي يُغيِّر ولا يَتغير.
قام يوسف، وأَحضر علبة مشروبات غازية من النوع الغالي. فتحها ثم قَدَّمها لهشام قائلاً:
- اشربْ.. وانسَ الماضي. الدنيا كلها رايحة.
إنه يَشربها بصورة هستيرية، كأن بينه وبينها ثأراً قديماً. كان كالجمل العطشان في الصحراء الذي رأى الماء فجأة، ويريد أن يَشرب أكبر كمية ممكنة من أجل رحلته القادمة التي ربما لا يَعود منها.
- خُذ سيجارة لتنسى همومك.
قال يوسف.
ردَّ هشام وقد عادت أوصاله إلى الحياة:
- الحمدُ للهِ، اللهُ تابَ عليَّ من هذا السم.
ضحك يوسف، وظَهرت السعادةُ على وجهه، وقال:
- هذا خبر بألف دينار. هشام الديزل إمبراطور تهريب الدُّخان تَرك الدُّخانَ. هذه بشارة خير إن شاء الله، وصفحة جديدة في حياتك يا هشام.
- الله يُحسِن ختامنا، ويَغفر لنا الكوارث التي قُمنا بها في حياتنا.
نظرَ يوسف إلى الأطفال الذين يَلعبون في الشارع، ونادى بأعلى صوته على أحدهم:
- منذِر.. تعالَ يا منذِر.. تعال يا حبيبي.
جاء هذا الطفلُ لاهثاً، وفي جبهته تتزاوج الصواعقُ. وتتكسر السيوفُ في عينيه الصغيرتَيْن.
نظرَ يوسف إلى هشام، وقال له:
- هل تَعلم من هذا الولد ؟.
هَزَّ هشام رأسَه بالنفي دون أن ينبس ببنت شفة.
نظر يوسف إلى الطفل، وقال:
- ما اسم جدَّتك التي تعيش معكم في البيت ؟.
- خديجة وهدان.
وما إن سَمع هشام هذا الاسمَ حتى هَبَّ واقفاً كَمَن لدغه عقرب. ووقف كالصنم العاجز عن التقدم أو التأخر.
قال يوسف للطفل:
- بارك الله فيك يا منذر.. خُذ قطعة شوكولاتة، واذهب إلى أصحابك.
وانطلقَ الطفلُ كالحصان مخلِّفاً غباراً قاتلاً يتسلل إلى جوارح هشام التي بَدت في تلك اللحظة عاطلة عن العمل.
خديجة وهدان كانت زوجة هشام الديزل، وقد تَركته عندما دَخل السجن، وتزوَّجت غَيْرَه.
نظرَ هشام إلى ذلك الطفل وهو يَلعب الكرةَ. إنه يراقب كل تحركاته، ويَحسب ابتساماته، ويحصي عدد مرات لمسه للكرة، وعددَ الأهداف التي يُسجِّلها. سَقطت بعضُ الدمعات من عينيه على أرض البقالة. وحاول جاهداً منع الدموع بشتى الطرق.
أشفق يوسف عليه، وقال:
- صَدِّقني يا هشام، لم أقصد أن أفتح بابَ الجروح، أو أُسبِّب لك الآلام.
تنفَّس هشام بعمق، ولم يعد يُميِّز بين الشهيق والزفير، وقال بنبرة مكسورة:
- أتمنى لو أراها قبل مَوْتي.
انتفض يوسف كالملسوع، ووقف كالجندي على خط النار، وقال:
- اعقلْ يا هشام.. لا تتهوَّر. انسَ الماضي، ولا تسبِّب فضيحة لهذه المرأة. الله يَستر علينا وعليها. كل واحد ذَهب في طريقه، وانتهى الموضوع. ولا نريد إعادة فتحه.
اقتنع هشام بهذا الكلام. الماضي لا يمكن إرجاعه. وعليه أن يعيش الحاضر لئلا يَخسر الماضي والحاضر معاً. وأول خطوة في حياته الجديدة هي البحث عن عملٍ يَكسب منه قوت يَوْمه. عملٌ حلال وليس حراماً. زمنُ الشقاوة وزمنُ الرصاص ذَهبا إلى غير رجعة.
قال هشام:
- ما رأيك يا يوسف أن تُشغِّلني في البقالة ؟.
- يا حسرة !. هذه البقالة مشروع فاشل، وبالكاد تغطِّي مصاريفها. ولكنْ عندي فكرة أحسن.. خادم مسجد طارق بن زياد انتقل إلى مسجد آخر. ما رأيك أن تعمل مكانه ؟.
تردَّد هشام، وظَهر على وجهه الارتباك، وقال:
- لو تَبحث لي عن وظيفة أخرى.
ضحك يوسف من أعماقه، وقال بسخرية:
- وظيفة أخرى !.. الشبابُ الجامعي عاطل عن العمل، وأنتَ تريد وظيفة أخرى ؟!.
وأردفَ قائلاً:
- اسمعْ يا هشام.. المسجدُ بيت الله، والشيخ نايف ريَّان إمام محترم، ويساعد الجميعَ، وسوفَ يُرتِّب كل أمورك.
ضاعت الحروفُ من لغة هشام. ارتبكَ بشدة، ثم استعاد توازنه، وقال:
- على عيني ورأسي. لكن بصراحة.. قمتُ بسرقة سماعات المسجد أيام زمان، ولا أعرف كيف سأدخله.
قال يوسف وقد تحوَّلتْ عيونه إلى بوصلة تُرشِد الطيورَ إلى ضوء الشفق:
- يا رَجل.. انسَ الماضي. عفا اللهُ عمَّا سَلف. وعندما تملك مالاً اشترِ سماعاتٍ جديدة للمسجد.
اقتنع هشام بهذا الكلام. وقرَّر أن يكونَ المسجدُ نقطةَ انطلاقه الجديدة. لكنَّ هناك أمراً يحتل ذهنَه، ويريد هشام إنهاءه لكي يَرتاح. أخذَ نَفَساً عميقاً، ثم قال:
- بقي هناك أمر واحد، وهو أن تدلني على قبر أُمي.
(19)
لم تكن أحوال قَيْس على ما يرام. المشكلاتُ تحيط بأُسرته الصغيرة من كل الجهات. أكَّد لنفسه أن الزواج أمر شديد الخطورة، وأصعب مما تصوَّره. إنه ضائعٌ تماماً. قد فقدَ بوصلةَ حياته، وعجزَ عن إيجاد أسلوبه الخاص في هذه الدنيا. ما إن يَخرج من متاهة حتى يَدخل في متاهة أخرى. حياته لم تعد تطاق. أحلامُه كالقصر الرملي الذي ضَربه إعصار غامض، فانهار، وأكلته الأمواج بكل شراهة. قلبُه أطلال لم يقف عليها أي شاعر، لا قديم ولا معاصر. إن بقيَ هكذا فربما يصاب بالجنون، أو يترك أهلَه وذكرياته، ويَعود إلى أمريكا.
ليلة أمس.. إنها الكابوسُ الحقيقي. إنها فيلم الرعب الواقعي الذي لا يَحتاج إلى كاتب سيناريو، ولا مؤثرات سينمائية. ليلةٌ هادئة ورومانسية تصلح لالتقاء جسده مع جسد زوجته. كان يُجامعها منقطعاً عن العالَم الخارجي. وبينما هو كذلك شَعر بشيء يَسقط على ظَهْره. ارتطمَ بعموده الفقري. فقد قيس تركيزه، وخسرَ طاقته الجنسية. نظرَ حَوْله محاولاً معرفة هوية هذا الشيء الغريب. وقد صُدم حينما رأى فأرةً ضخمة. أُغميَ عليه مباشرةً، وارتمى على جسد زوجته كالجثة الهامدة.
أحسَّت زوجته بشيء يَتحرك حَوْلها. رأت الفأرةَ تتجول في المكان. لا وقت للخوف، ولا مفر من المواجهة. ألقت زَوْجَها بعيداً عنها كما يُلقي البحَّارُ جثةَ أحد أصدقائه في البحر. وقامت عاريةً تماماً. أَحضرت المكنسة. وبدأت رحلة المطارَدة الليلية. وانتهت هذه الرحلة الشاقة بمقتل الفأرة التي سَرقت منها تاريخَها الشخصي، ولذتها الناقصة.
ارتدت ملابسها. وألقت الفأرةَ في حفرةِ المجاري. ثم أَحضرت كوبَ ماء، وسَكبته على وجه زوجها العاري الذي بدأ يَفيق تدريجياً. إنه يحضن شظاياه المبعثَرة. هَوْلُ الصدمة مسيطر على تفاصيل جسده العاري. وأزمنةُ العطش تتقاطع في صحراء دمه المتبخر في هذا الليل الحاد.
قالت له بصوت نازف:
- البسْ ثيابك، وسأُحضِر لكَ شيئاً لتأكله.
نظرَ إليها، والمومياواتُ تختبئ في صوته الذاوي، والجنونُ يَحرق رموشَه، وقال بصعوبة بالغة:
- ماء.. أريد أن أشرب.
أحضرتْ له كوباً من الماء، فقفز فيه. افترسَ الماءَ حتى آخر قطرة، وكاد يَنهش الكوبَ من شدة العطش. طلبَ كوباً آخر. ثم غطسَ في نومٍ عميق.
لا بد من حَل لهذه الكوارث. لا يمكن أن تستمر حياتي هكذا. تزوجتُ لأستمتع بشبابي، وأنا الآن أقضي على شبابي. كانت هذه الهواجسُ تَقرع قلبَ هند، وتشل تفكيرها. إنها تحترق، وعودُها ما زال أخضر. والنيرانُ في صدرها تأكل القشَّ النابت في خدودها الضامرة. لو بَقِيت هكذا سوفَ تَخسر رُبع وزنها على أقل تقدير. وإن تفاقمت مشكلاتها سوف يتلاشى جسمُها الهش، وتختفي أعضاؤها من هذا الوجود الجارح. الغريقُ يتعلق بحبال الهواء. لقد تقطَّعت الحبالُ. الغريقُ يتعلق بقشة. لقد احترقت القشةُ بعد أن قَصمت ظَهرَ البعيرَ. لم تجد في عالمها غير أُمِّها لكي تساعدها في حل مشكلاتها. هنا تكمن أهمية الخبرة. أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة.
وفي اليوم التالي ذَهبت هند إلى أُمها. أَطلعتها على تفاصيل علاقتها الحميمية مع زوجها، وما يَعتريها من مشكلات. حياتها الزوجية شديدة الاضطراب. أعصابُ زوجها تتساقط كأوراق الخريف. وأعصابها تحترق تحت ظلال الحزن الخرساء. طوفانُ الألم يجتاحُ أحلامَهما المتبخرة.
أَطرقت الأُم لبرهة، ثم قالت بحسرة:
- هناك مَن عملَ لكما عملاً للتفريق بينكما.. هذا الكلام مؤكَّد، وأنا أشك في اثنتين من نسوان العائلة.
تضايقت هند من هذا الكلام، وقالت:
- لا تصدِّقي هذه الخرافات.
جَحظت عينا أُمِّها، وازداد ضخ الدم في ضباب حواجبها، وقالت:
- السِّحر حَق، ومذكور في القرآن.
- وكيف عرفتِ أن هذا سِحر ؟.
تلعثمت الأُمُّ، ولم تجد جواباً، فلاذت بالصمتِ لفترة وجيزة، ثم قالت بحماس:
- اسمعي.. سنذهب معاً إلى الشيخ بهلول. وكما قيل: ((دُق الحديد وهو حامي)).
- الشيخ بهلول ؟!.
- ولماذا تستغربين ؟. هذا الشيخ من أولياء الله، ومكشوف عنه الحجاب، ويتعامل مع الجن المؤْمن.
ضحكت هند بسخرية، وقالت:
- هذا الرَّجل مشعوذ ونصَّاب، وليس شيخاً.
ظهرَ الغضبُ على وجه أُمِّها، وقالت بعصبية واضحة:
- قُومِي.. ما زلتِ صغيرة، ولا تَعرفين شيئاً في الحياة.
قامت هند وهي غير مقتنعة بكلام أُمِّها. ولكن صاحب الحاجة أرعن.
ذَهبتا إلى بيته البائس. إنه عُلبة صفيح في زقاق معتم. وكلمةُ " بيت " تُطلَق مجازاً على هذه الزنزانة الوضيعة. إنها عُلبة كبريت تنبعث منها روائح كريهة.
دَخلت المرأتان إلى البيت مثل الصياد الذي يَدخل إلى جُحر الأفعى، ولا يَدري هل يصبح الصيادُ فريسةً، والقاتلُ قتيلاً. أو مثل الصياد الذي يَدخل البحرَ، وهو يَخشى أن يصبح الطُّعمُ هو الأصل، والسمكةُ هي الفرع. هواجس غريبة تَذوب في رائحة البخور الغريبة.
كان بهلول جالساً على الأرض. يَرمي قطعَ البخور في النار المشتعلة أمامه، ويتكلم بكلمات غير مفهومة. لحيته تكاد تصل إلى سُرَّته. ثيابُه ذات ألوان فاقعة مثل ثياب المهرِّجين. ووجهُه غابةٌ من البثور والتعرجات. ويضع مسبحة في عنقه، حبَّاتها مختلفة الألوان.
ألقت أُمُّ بسام التحية عليه، فجاء الردُّ صاعقاً وغير متوقَّع:
- اخرسي !.. لا تقاطعيني وأنا أتحدث مع الجن.
جَلست المرأتان في إحدى الزوايا مثل جاريتَيْن تنتظران البيعَ في سوق النخاسة. الخوفُ يتلاعب بهما، والمصيرُ المجهول ينتظرهما. ترتجفُ الجوارحُ في الضوء الباهت، ولمعانُ العيون المذعورة يَخبو شيئاً فشيئاً.
سادَ الصمتُ المكانَ. ارتعدَ بهلول ثم هدأت جوارحه. وقال:
- أنا آسف !، كنتُ مشغولاً في محادثة الجن. والآن، ما هي المشكلة ؟.
بَلعت أمُّ بسام ريقَها، وقالت:
- جئنا إليك يا شيخ بهلول لتساعد ابنتي هند، وقد تزوَّجت ابنَ عمِّها حديثاً، وتعاني من مشكلات لا أول لها ولا آخر.
نظر بهلول إلى وجه هند. تفحَّص وجهَها الحزين حجراً حجراً. حدَّق إلى صدرها، ثم أجالَ بصرَه في كل نقطة من جسمها، ثم قال:
- هذه المرأةُ مسحورة، وإحدى قريباتها عَملت لها عَملاً. والعملُ مدفون في البحر الأحمر.
نظرت أُمُّ بسام إلى ابنتها، وقالت:
- ألم أقل لكِ إن هناك مَن عملَ عملاً ليُفرِّق بينك وبين زوجك ؟. وقلتُ لكِ: أنا أشك في اثنتين من نسوان العائلة. فِعلاً، الأقارب عقارب. يَضحكون في وجهك، ثم يطعنونك في الظَّهر.
أنهت كلامَها، ثم نَظرت إلى بهلول، وقالت:
- وما هو الحل يا شيخ بهلول ؟.
- إن وضعها صعب للغاية، لأن العمل مدفون في الماء. ولكن مع بهلول لا توجد مشكلات. سوفَ أتواصل مع الجن في البحر الأحمر لإحضار العمل وحرقه بشكل كامل، لكنَّ هذه العملية تحتاج وقتاً ومالاً. وأنا أحتاج إلى معرفة بعض التفصيلات في حياتها الشخصية لإقناع الجن بمساعدتها. وأريدها أن تكون صريحة ولا تَخجل، فأنا في عمر جَدِّها، وأخاف على مصلحتها.
- مستعدة يا هند.
قال بهلول بحماس منقطع النظير.
- مستعدة.
قالت هند بصوت متردد.
رَمى بهلول قطعةً من البخور في النار، ونفخ على النار، وصار يُردِّد كلاماً غريباً، وقال:
- هل تنامين بدون حمَّالة الصَّدر ؟.
خَجلت المرأتان، لكن أُم بسام أوعزت لابنتها بالإجابة. فقالت هند:
- نعم.
- ما هي ألوان حَمَّالات الصدر التي تحبينها ؟.
- الأحمر والأسود والأبيض.
وهنا تدخَّلت أم بسام قائلةً:
- أسئلتك غريبة وغير معقولة يا شيخ بهلول. ما علاقة هذه الأشياء بالسِّحر ؟.
ألقى بهلول قطعةَ قماش صغيرة في النار، ونفخ فيها، وقال:
- اسمعي يا ابنة الحلال. أنا مثل طبيب النسائية والتوليد. يجب أن أعرف بعض التفاصيل في حياة المريضة أو أطلع على جسدها من أجل إنقاذها. وبدون مؤاخذة، أنا تمساح سَقطت أسناني. يعني لو أردتُ افتراسَها لما استطعتُ فعلَ ذلك. وبصراحة.. الجن في البحر الأحمر متخصصون في قضايا الجنس، والتفريق بين الزوجين. ويجب أن يَعرفوا أدقَّ التفاصيل الشخصية ليجدوا العلاجَ الفعال.
وتابعَ بهلول تحقيقه بكل ثقة ودون تردد:
- كم مرةً جامعك زوجك ؟.
- لا أعرف بالضبط. ولكن في الأسبوع الأول لزواجنا كان يُجامعني خمس مرات يومياً تقريباً، ثم ابتعد عني بشكل مفاجئ.
وعندئذ ضرب بهلول فخذه بيده، وقال:
- هنا مَربط الفَرَس.. هنا بيت القصيد. لقد سلبَ السِّحرُ طاقته الجنسية. والخطوةُ الأولى في فك السِّحر سَتُكلِّف خمسين ديناراً. وأريدك أن تُحضري إحدى حَمَّالات صدرك، وتكتبي عليها بخط يدكِ كلمة " بهلول " ولكن على شكل أحرف مفرَّقة، يعني " ب هـ ل و ل ". وكل حرفٍ يكون بلون مختلف.
(20)
الانتظار نارٌ تأكل المشاعرَ والأعصابَ. الدكتور لؤي عطوة وزوجته يحترقان في قاعة الانتظار في المطار. لقد تأخرت الطائرة عن موعدها. طار قلبُ زوجته، وخافت أن تكون الطائرة قد تعرَّضت لمشكلة ما. لاحظ زوجُها القلقَ الهستيري الظاهر على ملامحها، فأجرى اتصالاتٍ مع شخصيات نافذة في المطار، وكلهم أكَّدوا له أن الأمور على ما يُرام، لكن الطائرة تأخرت في مطار هيثرو بسبب إنذار كاذب بوجود قُنبلة على متنها، وهي الآن في طريقها إلى عَمَّان.
عقاربُ الساعة ماتت في صحراء الانتظار. اكتفيا بالنظر إلى بعضهما البعض دون أن ينبسا بكلمة. لم تستطع زوجته الجلوسَ. مفاصلُها تهاجر إلى صقيع الجروح. هَبَّت واقفةً، ورَاحت تتجول في أرض المطار. إنها تَزرع خطواتها في هذه الأرض المحروقة. تَذهب وتجيء.. تجيء وتذهب. إنها ترى قلقَها يَسطع على البلاط النظيف. هذا البلاطُ المفعم برائحة مواد التنظيف. قلبُها قطعة صابون تَذوب تدريجياً في ماء عينيها المشتعل. الوقتُ يُقاس بالسنوات الضوئية. الأحاسيسُ تَهطل بغزارة. والانتظارُ المر يَأكل أسمنتَ الجدران العالية. وَصلت الطائرةُ بعد قرون من اللهيب والمشاعر المحروقة. نزل منها عاصم، ومضى في طريقه نحو تاريخ عائلته. رأى أُمَّه واقفة بانتظاره. رَكضَ نحوها كالطفل، وارتمى في حضنها. والدموعُ تَخدشُ بلاطَ المطار. ثم عانقَ والده الدكتور لؤي عطوة. ودَخلت هذه الأُسرة في أرشيف الصدى الأرجواني.
كان عاصم طالباً جامعياً في السنة الأولى، يَدرس الهندسة المعمارية في بريطانيا. وقد اختار هذا التخصص لكي يساعد والدَه في مشاريعه، ويَحمل الراية من بعده. ينتظره مستقبل زاهر. وأمامه إمبراطورية مالية أسَّسها والده، وسوفَ تؤول إليه عاجلاً أو آجلاً. لذا كان محل أنظار بنات العائلات الراقية اللواتي يَبحثنَ عن شاب غني ومتعلم ولطيف. إنه صَيْد ثمين في زمن ارتفاع نسب العنوسة والفقر. وهو الابنُ البِكر، وهذا يجعله في دائرة الأضواء. فلا بد لأبويه أن يُفكِّرا في تزويجه.. أن يَفرحا به.
شابٌ غني يَدرس في عاصمة الضباب، لا بد أنه يَشعر بالوحدة والغربة. وهذه الوحدة قد تملؤها الفتياتُ الإنجليزيات. من الصعب على الإنسان أن يقاوم زُرقةَ العيون، والشَّعْرَ الأشقر، والتنانيرَ القصيرة.
وعاصم إنسان من لحم ودم، وليس حائطاً. إنه يعيش حرارةَ الشباب في مجتمع منفتح إلى أبعد مدى. هل سيصبح مثل دودي الفايد مثلاً وتنتهي حياته بشكل مأساوي ؟. هل سيحترق الربيعُ في لَيْلة خريفية صاعقة ومباغِتة ؟. لماذا لا يتزوج من بنات بلده ثم يأخذ زوجته معه إلى لندن لإكمال دراسته ؟. وجودُ زوجة إلى جانبه سوف يُوفِّر له الراحةَ النفسية والبدنية، ويُعينه على الدراسة.
هذه الخواطر كانت تتأجج في الأذهان الغامضة، وتتطاير في هواء الغرف المغلَقة. ودائماً تُرسَم الخططُ خلف الأبواب الموصدة. وكلُّ صياد يَختار الفريسة التي تناسب طموحاته، ويُعيِّن وقتَ اصطيادها بدقة. وكل شخص يَبحث عن مصلحته. الفرصةُ لا تأتي إلا مرة واحدة. وقطارُ الفرص إذا ذَهب لا يَرجع. يجب اختيار التوقيت المناسب. فإذا جاء الراكبُ إلى محطة القطارات في الموعد المحدَّد سوفَ يَركب في القطار، ويَمضي إلى وُجهته بكل سلاسة. أمَّا إذا جاء في التوقيت الخاطئ فسوفَ يؤول مصيرُه إلى مقعد بائس في المحطة الباردة، وحيداً لا تاريخ له غير الاحتراق.
تمر الأيامُ. النهارُ يُشبه الليلَ، والليلُ يُشبه النهارَ. يُولَد خنجرٌ لامع بين الشهيق والزفير. العمرُ أرجوحةٌ في حديقة الجثث المتفحمة. واللهبُ يَخرجُ من معدة الأحجار الكريمة وغير الكريمة.
لقد استراح عاصم، وعادت نكهة الطعام المنزلي إلى فمه بعد أن كان معتاداً على الوجبات السريعة، والأكل في مطاعم لندن. رتَّب كتبه العربية والإنجليزية في مكتبته الخاصة الصامدة في إحدى زوايا غرفته.
وفي إحدى الليالي قرَّرت أُمُّه أن تحادثه بموضوع زواجه. كلُّ أُم تريد أن تطمئن على ابنها. اختارت ليلةً هادئة. وهي - أصلاً - تَعلم أن عاصم يتأخر في النوم، ففي العادة لا ينام قبل منتصف الليل.
اقتربت من غرفته بهدوء مثل اللبؤة التي تَسير نحو الفريسة دون إحداث صوت منتظرةً لحظة الانقضاض الصاخبة. سَمعت صوتاً ينبع من غرفته، ثم يتدفق فيَحرق سجَّادَ الممر. اقتربت أكثر، فازداد الصوتُ. تحول الصوتُ إلى ضحكات. وَضعت يدها المرتعشة على مقبض الباب. فكَّرت أن تَقرع البابَ كعادتها، لكنها لم تَفعل. فَتحته بشكل مفاجئ وعنيف. انهارَ السدُّ، وجاء الطوفانُ. لم تصدِّق عينيها.
كانت الخادمة في سرير عاصم، وكلاهما عاريان. أخفيا جَسَدَيْهما تحت اللحاف. وبقي الوجهان في العاصفة. سيطر جيشُ الصمت على المكان. وَقفت الأمُّ تحدِّق في المشهد ودموعُها الخرساء تَحفر في وجهها أخاديد. ثم لاذت بالضحك الهستيري، وقالت:
- هذا ما استفدته من الدراسة في بريطانيا ؟!.
قال عاصم بكل هدوء أعصاب:
-هذه المرأةُ زوجتي على سُنة الله ورسوله.وعَقْدُ الزواج تجدينه في دُرج مكتبي.
أخذت الأمُّ هذا الكلام على محمل الجِد، فهي تعلم أن عاصم معتاد على الصدق منذ طفولته، خصوصاً في المواقف الحساسة.
رَكضت كالمجنونة إلى مكتبه. فَتحت كلَّ الأدراج، فَتَّشت أوراقَه ورقةً ورقة، فوجدت عقدَ الزواج. أَشعلت ضوءَ الغرفة، وقامت بقراءته حرفاً حرفاً. تأكَّدت من الأسماء والتواقيع والختم. كادت أن تمزِّقه، لكنَّ أصابعها المرتجفة العاجزة لم تستطع فِعلَ ذلك. أَلقت العقدَ على سطح المكتب. وقالت لابنها بسخرية:
- مبروك يا عريس.
أطفأت الضوءَ. خَرجت من الغرفة. أَغلقت البابَ. كانت دموعها شلالاً حارقاً. البكاءُ يحاصرها من كل الجهات. لا هدنة مع الأحزان. جيشُ الألم يَحفر الخنادقَ في أكسجين رئتها. حواسُّها دَخلت في حرب أهلية. إنها تقاتل نفسها بنفسها. رَفعت الرايةَ البيضاء. خطواتُها تغرق في سجادة الممر. هذه السجادةُ رمالٌ متحركة تبتلع أعضاءها اليابسة.
في ذلك المساء المرعِب لم تَقدر على النوم. الأرقُ يَشرب روحَها، ويَقضم لحمَها المحترق في موقدة الأفكار المتضاربة. إنها تتقلب على جمر البكاء الذي يمزِّق وسادتها الناعمة، ويُحيلها إلى كفن خشن. لم تجد أمامها غير الحبوب المنوِّمة. وأخيراً، أشهرَ النومُ سلاحَه في وجهها بعد طول انتظار.
وفي الصباح، جَلست الأسرة على مائدة الطعام. كانوا يأكلون ولا يتكلمون. كل فردٍ مشغول بهواجسه الداخلية التي تتأجج في جسده. هذه الأجسادُ سجونٌ صغيرة داخل سجون كبيرة.
أنهى الدكتورُ طعامَه، وغادر المكان سريعاً. جدولُ أعماله مزدحم للغاية هذا اليوم. وفودٌ عربية وأجنبية. مشاريع ينبغي تسليمها في الموعد المحدَّد. مفاوضات مع البنوك بخصوص تسهيلات مالية. الصغير رمزي أنهى طعامَه، وانطلقَ كالبرق. وبقي عاصم وأُمُّه يتناولان الطعامَ، وهما يتجنبان النظرَ إلى بعضهما البعض. أراد عاصم القيامَ فمنعته أُمُّه، وطَلبت منه الجلوس. جاء لقاؤهما حاملاً معه غبارَ المعركة وزنابقَ الحروب. لا بد من المواجَهة. القضيةُ لا تحتمل التأخيرَ.
قالت الأم بصوت هادئ:
- اسمعْ يا عاصم، لنتحدث بهدوء بعيداً عن العصبية. هذه الخادمةُ المتسولة يجب أن تطلِّقها. من الجنون أن تتزوج هذه الشحاذة وتنسى ابنةَ عمِّك المليونيرة. ماذا سيقول الناسُ عنا ؟. يجب أن تحافظ على ميراث العائلة وسُمعتها، ولا تسبِّب فضيحةً لأبوَيْك. والدك لو عَرف بالأمر سوف يُصاب بأزمة قلبية. هل تريد أن تقتل أباك ؟!.
وأردفت قائلةً:
- الآن سوفَ تطلِّقها لكي نغلق هذا الملف إلى الأبد. مفهوم ؟.
لم يتكلم عاصم. تحصَّن بالصمتِ الخشن. تناولَ جرعةً من الذكريات، واستعار صوته من المجهول. جَمع شظايا أبجديته، وقرَّر الكلام وعدمَ الهروب من المواجَهة.
قال بصوت ذابل:
- ولكني أحبها. ولا أَقدر على العيش بدونها.
- يا حبيبي، هذا الحبُّ لا يُطعِم خبزاً، لا يشتري لك سيارة مرسيدس. قصصُ الحب كلام أفلام وروايات رومانسية. يَضحكون بها على الناس لتسليتهم وتحقيق أرباح تجارية.
لم يقتنع عاصم بهذا الكلام، فقال بكل إصرار:
- أرجوكِ يا أُمي. هذا اختياري وأنا مسؤول عنه. ولن أترك زوجتي.
وقام تاركاً أمه في مهب العاصفة، في وجه الفيضان الكاسح. أحسَّت أنها وحيدة في غابة تَحترق، ولا فرصة لمجيء رجال الإطفاء.
ضَربت المائدةَ بقبضتها، وكادت أن تكسر خاتمها. ترك الخاتمُ أثراً في أصبعها. أَمسكت المزهريةَ الموجودة على المائدة، وقذفتها نحو إحدى المرايا. تبعثرت الشظايا على البلاط. انطلقت الحممُ من البركان الذي كان خامداً، وغادرُ الرصاصُ ذاكرةَ المسدَّس. وماتت الذكرياتُ. تلك المزهرية كانت هديةً من زوجها بمناسبة عيد ميلادها. وهي مزهرية صينية يعود تاريخها إلى ألفَي عام، وقد اشتراها زوجها من مهرِّب آثار أوروبي. لقد سَقطت الحضارةُ، وعلا البكاءُ.
فَزع الخدمُ. كانوا يُراقبون المشهد من وراء الأبواب شِبه المغلَقة. لكنهم لم يجرؤوا على الاقتراب أو التدخل. كل ما عليهم فِعله هو إزالة أنقاض الحلم بعد أن تهدأ العاصفةُ. سوفَ يُحصون الأضرارَ، ويعيدون ترتيبَ المكان بعد أن يختفيَ الإعصارُ في رمال الشاطئ. وظيفتهم حَمل المكانس ومواد التنظيف، وليس البكاء على الأطلال، أو تجميع الذكريات.
أتى المساءُ حاضناً عذابات النهار. تاريخُ هذه العائلة يتحرك في الفراغ. أحزانٌ تتحرك عكس عقارب الساعة. الأحلامُ دوَّاماتٌ في المرايا المشروخة.
جاء الدكتور من عمله مرهَقاً. إنه يُغيِّر ملابسه أمام مرآة غرفة النوم. وكانت زوجته تساعده. قرَّرت أن تخبره بقصة ابنها، فهذا الأمر الخطير لا يمكن السكوت عنه.
قالت والخوف يتلاعب بصوتها المهزوز:
- أريد إخبارك بأمر مهم.
- أنا مرهَق يا ميادة، وأُريد النوم. وعلى أية حال، إذا أردتِ تغيير الأثاث أو السيارات فلا مشكلة.
- لؤي.. اسمعني. هناك كارثة هَبطت علينا.
كان وَقْعُ كلمة " كارثة " شديداً، بحيث أطار النومَ من عينيه. وقفَ صامتاً في انتظار سماع هذا الخبر. إنه في سجن مظلم، يَنتظر الضربةَ القاضية، لكنه غير قادر على معرفة الجهة التي ستأتي منها هذه الضربة. إنه ميت يَنتظر قدومَ حفار القبور، ولا يَعرف موعد قدومه.
قالت ميادة:
- عاصم تزوَّج الخادمة.
أخذ الدكتور نَفَساً عميقاً، وقال بنبرة ناعمة:
- ميادة.. لا تَمزحي في هذه المواضيع، ولا تفكري في عمل المقالب. نحن لسنا في برنامج الكاميرا الخفية.
أكَّدت له أن الأمر حقيقة واقعة وليس نكتةً أو مَقلباً. فقال الدكتور بكل رباطة جأش:
- اذهبي وأحضري الولدَ بسرعة.
المسافاتُ شُعلةٌ ثلجية. الأحزانُ محرِّكاتٌ بخارية، والدمعُ يَطفو على زيت هذه المحرِّكات. سيأتي النزيفُ من سجاد الممر. شرايينُ البشر ممراتٌ لهجرة السنونو. والوجوهُ الحزينة تتحرك بلا تاريخ. لا صقيعٌ يَبحث عن القادة المنتصرين الذين سَيَكتبون تاريخَ الفراشات أمام موقدة الجماجم، ولا تفاحٌ يُزرَع في أجفان الضحايا.
جاءت الأمُّ تَسوق ابنَها كما يُساق كبشُ المحرقة إلى نهايته الحتمية. لا يوجد أي احتمال للنجاة. يُساق القُربانُ إلى المعْبد المهدوم على الجميع.
قال الدكتور لزوجته:
- لو سمحتِ يا ميادة، اخرجي وأغلقي البابَ، ولا تحاولي سماعَ كلامنا من وراء الباب.
أُغلق بابُ معسكر الإبادة. بوابةُ المعتقَل مُحصَّنة. والأحلامُ المسحوقة تحت سنابك الخيل تنظِّف أرضَ المعركة بالصابون. والراياتُ البيضاء مزروعة في أجنحة الحمَام الزاجل. الهزائمُ تَطير، والانتصارات تَطير. وَحْدَها الجثث تظل ملقاةً على تراب المعركة. ولكنْ سيأتي يومٌ تصبح للجثث أجنحة وتَطير في موسم الهجرة الأبدية.
وقفَ عاصم أمام والده. شَعر الابنُ بغربةٍ رهيبة. في تلك اللحظة الحرجة شَعر أن أباه شخص غريب، فلا رابطةُ دَم تجمعهما، ولا مشاعر متبادلة. إنه لقاء في القطب المتجمد. ليس القطبَ الشمالي ولا الجنوبي. تتساوى الجهاتُ في عقل
الضحية، وتتعادل الأضدادُ في ذهن المحكوم بالإعدام.
قال الدكتور وأهدابُه تحترق في ماء عينيه الساخن:
- الآن سوفَ تطلِّقها.
- هذه زوجتي، وأنا متمسك بها.
ضحك الدكتور ضحكةً صفراء، وقال:
- إن لم تطلِّقها سأَحرمك من الميراث، وتجد نَفْسك شحاذاً في الشوارع.
لَمعت عَيْنا عاصم بصورة مرعبة. إنه لمعان التحدي والمواجَهة، وقال بكل صلابة:
- أنا لا أُساوم على مشاعري، ولا أُقامر بزوجتي.
سارَ الدكتور بخطوات واثقة نحو مكتبه. فتحَ الدرجَ العلوي. أخرج مسدَّساً. صَوَّبه نحو ابنه، وقال بنبرة هادرة:
- احملْ أشياءك، وخُذ زوجتك معك، وارحل من هذا المنزل. لا أنا أبوك ولا أنتَ ابني.
اعتقد عاصم أن الأمر تمثيلية أو محاولة هزيلة للضغط عليه. فقد كان متأكداً أن المسدس ليس حقيقياً، وأن والده يُريد تخويفه فَحَسْب. وحاول أن يجادل والدَه في الأمر. لكن المفاجأة المدوية حَدثت. مفاجأة من العيار الثقيل. فقد أطلقَ والدُه الرصاص على أحد البراويز في الغرفة. بروازٌ لم يكن يَبعد عن عاصم سوى مترَيْن. إنه أمرٌ خطير لم يكن بالحسبان.
هربَ عاصم من المكان، واصطدم بأُمِّه في الممر. كانت تَركض باتجاه صوت الرصاص. عمَّت الفوضى في الفيلا. ارتبكَ الخدمُ، وتجمَّعوا في المطبخ كالأسرى، والخوفُ يَسلب ألوانهم. الخادماتُ يَبكين.
اندلعَ شِجارٌ عنيف بين الدكتور وزوجته كاد يَصل إلى التشابك بالأيدي. إنه فيلمُ رعب يتم تصويره في الفيلا. سيناريو الهلع يَغرس أوتادَه في جغرافيا الحلم المنهار. استسلم الجميعُ أمام طوفان الخوف. والرايةُ البيضاء فَقدت لونَها بعد امتزاجها ببقع الدم الأزرق.
(21)
كان هشام الديزل يتأمل نجومَ السماء من مئذنة المسجد. ليلةٌ صافية. لا دموع على خدود القمر، ولا أحزان تتناثر على ورود السماء. أنهى عملَه بالكامل. مسحَ المصاحفَ، ورتَّبها على الرفوف. نظَّف السجاد بعد انصراف المصلين من صلاة العِشاء. سَكب المياهُ في المراحيض، وقام بتنظيف دورات المياه. ثم ذهب إلى الاستحمام.
استعرضَ عناوين الكتب في مكتبة المسجد. وقرَّر أن يصبح مثقفاً. ألزم نَفْسه بقراءة كتاب أو كتابين في كل أسبوع. لديه وقت طويل بعد صلاة العِشاء، وليس لديه التزامات عائلية. إنه وحيد في هذا الفضاء الرحب. فليستغل وقتَه. ظلَّ يقرأ حتى منتصف الليل تقريباً. ثم صعد إلى المئذنة العالية. لأول مرة يَرى جبل النظيف بهذا الشكل. شَعر أنه يَركب على بساط الريح، أو يقود طائرة. وهو الذي لم يَرْكب طائرة في حياته. الهدوءُ يُخيِّم على رائحة الصفيح والأسمنت. البيوتُ العشوائيةُ المتراصة. شواهدُ القبور تنتصب كالأشجار. شخيرُ بائعي الخضار النائمين على الأرصفة يَحرقُ الصناديقَ الخشبية. الأسرارُ مختبئة خلف الستائر الكالحة. أسرارُ المدينةِ السحريةِ. يومياتُ القُرى المنبوذةِ. كم عدد المعذَّبين خلف هذه الشبابيك المغلَقة كأبواب الزنازين ؟. كَم عدد السعداء ؟. كَم امرأةً مخلصة لزوجها ؟. وكَم امرأة تخون زوجَها ؟. كَم عدد الذين يُطيعون اللهَ في هذه اللحظة؟. كَم عدد الذين يعصونه ؟. كيف تَنظر المرأةُ التي تخون زوجها في عينيه ؟. كيف يَنظر الرَّجلُ العاجز جنسياً في عيون زوجته ؟. أسئلة هَجمت عليه دون موعد مسبق.
استعادَ ذكرياتِ طفولته كشريط سينمائي محفوظ في أرشيف الأرامل. كان يصنع الطائراتِ الورقية على سطح البيت، ثم يبيعها لأطفال الحارة. عَلَّمه ابنُ عمِّه الميكانيكي كيف يُدخِّن التبغَ، ووضَّح له الفرق بين السجائر الأجنبية والمحلية، وكيف يُخرج الدُّخانَ من أنفه كالرجال. وأول سيجارة دَخَّنها هشام وهو في الثامنة من العُمر. أيامٌ ذَهبت إلى غير رَجعة، وعُمْرٌ ذابل كالخريف. وعندما بَلغ الخامسة عشرة أمسك مسدساً لأول مرة في حياته. وقد أطلق النارَ على القِط الأسود. وهو قِط متوحش نال شهرةً واسعة في جبل النظيف، فقد كان متخصصاً في سرقة اللحم من المطابخ. واللحمُ عملة نادرة في ذلك الوقت. كما أنه قَتل بعضَ الرُّضَّع، وشَوَّه وجوهَ عِدَّة أشخاص. وقال البعض إنه وَشَق وليس قِطاً، لكن الناس هنا لا يَعرفون ما هو الوشق، فاستقر الرأي على اعتباره قطاً متوحشاً.
وعلى الرغم من مغامرات هشام الديزل في كل الاتجاهات إلا أنه لم يُكوِّن أيةَ علاقة غرامية. ولم يستغل لحظاتِ الضعف في حياة النساء. في صباه كان يَقضي وقتاً طويلاً على سطح البيت، يُفكِّر في مسار حياته ومصيره. وكان يشاهد نوافذ المنازل مفتوحة خصوصاً في أيام الصيف الملتهبة، ويَلمح الجاراتِ بثياب رقيقة، فكان يأمرهن أن يَغلقنَ النوافذ، والتي تَرْفضُ يهدِّدها بتحطيم زجاج النافذة.
كان يتصرف كما لو كان حارساً لشرف العائلات. الشرفُ قضية لا يمكن المساومة عليها أو التلاعب بها. ورغم سِجِله الإجرامي الحافل، وتاريخه المفعم بالجرائم المنوَّعة، وخبرته العريضة في السجون، إلا أنه لم يتعرض طيلة حياته للنساء والأطفال. فلسفته هي تحدي الرجال القادرين على الدفاع عن أنفسهم، الرجال فقط. وعلى أية حال ذَهب الرجالُ، وذَهبت النساءُ.
سطحُ بيتهم كان مملكته الخاصة، صومعته المفضَّلة. إنها مفتوحة على الفضاء الخارجي. وفي الليالي الصافية كان يراقب النجوم اللامعة. ويُحدِّق في القمر، ويتمنى لو يَصل إليه ليَهرب من رائحة المجاري المحلِّقة في عالَمه المنهار. لا بد للإنسان أن يَخرج من جِلده المحاصَر بالأزقة الضيقة، ويفر نحو الأفق الرحب. جدرانُ المنازل تقترب منه شيئاً فشيئاً لتخنقه. كان يَهْرب من رائحة العفونة القادمة من غرف بيتهم الصغير. إنها غُرف اعتقال سرية، زنازين تحت الأرض. عاشَ تحت الأرض، وسيموتُ تحت الأرض. كانت حياته برفقة الفئران والصراصير، ومَوْته سيكون برفقة الديدان والتراب. هكذا تتحدد ثنائية المسار والمصير.
ولكي يَخرج من ثنائية (الفئران / الديدان) التي تهشِّم جمجمته، لجأ إلى تربية الحمَام. أقام بُرجاً للحمَام في إحدى زوايا السَّطح. وكلَّ يومٍ، عند الغروب، يَفتح سجن الحمَام لينطلق في الأفق. تسدُّ الأجنحةُ الناعمة هذا الأفق القرمزي. يلوِّح للحمَام بشبكة بالية، وينثر الذُّرةَ على الأرض. فيهوي الحمَامُ كالرصاص الحي ملتقطاً الذُّرة. إنها فرصة لإضاعة الوقت.. قتل الوقت. هنا، الوقت مجاني لا قيمة له. الكسلُ يتحرش بعقارب الساعة، وعقاربُ الساعة تَلدغ الناسَ، وتقتلهم بالسم.
ومع مرور الوقت توسَّعت العمليةُ. لم تعد هوايةً أو إضاعة للوقت. بل صارت تجارةً ومصدراً أساسياً للدَّخل. وضع خطةً لاستقطاب الحمَام الذي يُغطِّي وجهَ الأفق، والسطو عليه. إنه يَسرقه من الآخرين بأساليب مبتكَرة، ويَبيعه في سوق الحمَام في وسط البلد. وطالما سَبَّبت له هذه السرقات مشكلات مع مُربِّي الحمَام، وَصلت إلى حد الاشتباك بالسلاح الأبيض. لكن هشام الديزل لم يكن يعبأ بشيء. إنه يُعطي للحياة ظَهْرَه. عُمره على كف عفريت، وقلبه ميت، وأعصابه في ثلاجة. حياته هروب مستمر. لقد تعوَّد على الفرار من نَفْسه وتاريخه واسمِ عائلته.
اعتبرَ الحمَامَ أُسرته الروحية. كان مهووساً به لدرجة أنه قرَّر أن تكون أنواعُ الحمَام هي أسماء أبنائه في المستقبل. وأكثر نوعَيْن يحبهما هما: هومر، وبربريسي. كانت لحظات صبيانية وجنونية. وها هو الآن بلا زوجة ولا أبناء ولا حَمَام. خَسر أُسرته الحقيقية، وخسر أُسرته الروحية.
كان الندى ينهمر من جبين هشام. في حُنجرته المثقوبة تخزِّن الليالي العميقةُ براميلَ البارود. تفتتحُ الأحزانُ مخازنَ السلاح في صمتِ الطيور المتفجر. جوارحُه تتقاتل فيما بينها. وذكرياتُه تتصارع على السرابَ القرمزي. إنه القاتلُ والقتيل. تتساقطُ أعضاؤه في الحروب المتكاثرة في قفصه الصدري. والراياتُ البيضاء مرفوعة سلفاً.
استسلم لنداء عميق يتأجج في داخله. قَرَّر أن يمشيَ في أماكن طفولته، ومراتع صباه كأنه يُودِّع الأرضَ. يحصل على شهادة ميلاد ثانية، ويستعيد تاريخَه الشخصي، فيصبح الماضي حاضراً. وفي الليل سيرى روحَ جبل النظيف، وطبيعته التي لا يمكن مشاهدتها في النهار. الليلُ العميق هو المرآةُ الحقيقية لذواتنا. والمشي أفضل وسيلة للسلام الروحي، والتصالح مع الذات، والتخلص من الكبت والقهر. لا زوجةٌ تنتظره في غرفة النوم، ولا أبناء يَنتظرون عودته بكيس الخبز. إنه متحرر من جاذبية العناصر، وثقلِ الهواجس.
مشى في الأحياءِ القديمة، والأزقةِ الضيقة. يكاد يَطير. إنه يُمشِّط الشوارعَ بحثاً عن ذكرياته الحبيسة. كأن الزمن قد توقف في تلك اللحظات الدافئة. التفاصيلُ هي القاتلة. قرَّر إنهاءَ جولته في شارع المصدار.
وبينما هو يَسير في شارع المصدار، أحسَّ أن شخصاً يَتبعه. التفتَ بسرعة، فإذا رَجل ضخم يَقترب منه بخطوات ثابتة. تجمَّد هشام مكانه، ولم يحاول الفرارَ.
وقفَ الرَّجلان وجهاً لوجه. حدَّق هشام في وجه الرَّجل للتعرف على هويته. عَرَفه بصعوبة. كان هناك علامة مميَّزة على خدِّه الأيسر.
قال الرَّجلُ الضخم:
- إذا لم تَعرفني من العلامة على خدِّي، فانظر على خاتمي.
نظر هشام إلى الخاتم المميَّز، وهو على شكل جمجمة عليها رقم 9، وهو عدد حروف " جبل النظيف "، فتأكد من هوية هذا الشخص.
قال هشام بصوت خَدَشته السنواتُ:
- عرفتُكَ يا سعد الشويني.
ابتسم سعد، وقال ساخراً:
- إن أبي الذي سمَّاني " سعد " لم يَعرف أنه أنجبني في يوم نحس.
ظَهر الوقارُ على وجه هشام، وقال بصوت هادئ:
- اتقِ اللهَ يا سعد، وارضَ بالقضاء والقَدَر.
ارتسمت ضحكة خبيثة وصفراء على ملامح سعد، وقال:
- ما شاء الله، صِرتَ شيخاً، وتتكلم في الدِّين مثل أئمة المساجد.
الشرُّ يَرسم على جبهة سعد لوحةً زيتية أو دموية. خدودُه شرارةُ التاريخ الوحشي. لقد حلم بهذا اللقاء منذ زمن بعيد. وأخيراً، تحقق الحلمُ المهووس. نهارُه عذابٌ، ولَيْله حريقٌ. في النهار، كانت التماسيحُ تتشمسُ على سطح بحيرة دموعه المتحجرة في عينيه. وفي الليل، يتقلبُ على جَمر الانتقام. لقد حان موعد الثأر.
قال سعد ووجهه يتدحرج على خدوده مثل كرة النار:
- جئتُ لأُسدِّد ديونَ الزمن، ولا يَضيع حق وراءه مُطالِب. لقد انتظرتُ هذه اللحظة منذ سنوات لأغسلَ العارَ. لا أَحد يَهرب من سعد الشويني.
أدرك هشام أنه في موقف حرج بعد أن لاحظ الشرَّ وهو يتوهج أمامه. لكنه لم يَفهم كلام سعد الغامض، فقال والحيرةُ بادية على جوانحه:
- لم أفهم قَصْدَكَ يا سعد. وضِّح كلامَك.
نظرَ سعد إلى هشام باحتقار شديد، وقال له:
- لقد بصقتَ في وجهي في مقهى الحبايب أمام الناس، قبل ثلاثين سنة. هذه واحدة، والثانية سَكبتَ الشاي على ملابسي لإضحاك الحضور. وقَد ضَحكوا عليَّ، والآن جاء دَوْري لكي أَضحك.
ابتسم هشام بسخرية، وقال:
- لو كنتَ رَجلاً لانتقمتَ في تلك اللحظة.
تضايق سعد من هذه العبارة التي هيَّجت الألَمَ المتحجر في زوايا وجهه، وفقد تركيزَه لثوانٍ، ثم استجمع قوته، وقال:
- كان رجالُك حَوْلك، وكنتُ وَحْدي. والكثرةُ غَلبت الشجاعةَ. والآن، صار القويُّ ضعيفاً، والضعيفُ قوياً.. الدنيا دوَّارة.
وأخرج خنجراً، وغَرَسه في بطن هشام بسرعة البرق، وقال:
- هذه الطعنةُ من أجل البصقة.
ثم نزعَ الخنجرَ من بطنه، وغَرَسه في صدره، وقال:
- وهذه الطعنة من أجل الشاي.
تفجَّرت الدماءُ من جسم هشام كالشلال. سَقط على الأرض. إنه يتخبط في حُمرة الدم، يَسبح في أشلائه.
نظرَ إليه سعد نظرةَ الوداع، وقال باستهزاء:
- اطمئِن، فالخنجر ليس مسموماً بسبب العِيش والملح الذي بيننا. والعِشرةُ لا تهون إلا على أولاد الحرام.
الشوارعُ معجونةُ بالرعب الدامي. والرياحُ مكدَّسة مثل ثياب الحِداد. الدماءُ تَغسل الإسفلتَ. جسدُه يتشظى كإضاءة مصباح يَنتحر. الدماءُ علبةُ مكياج لأرملة على فِراش الموت. أيقنَ هشام أن ساعة النهاية قد حانت. إنها الساعة الرهيبة، سَيُغلَق الملف إلى الأبد، وتُسجَّل القضية ضد مجهول. طالما أحبَّ السباحةَ، لكنه لم يتوقع أن يَسْبح في دمائه اللزجة. إذا مات سيُدفَن في مكان مجهول. عاش غريباً وسيموت غريباً. قلبُه سيظل يسأل هذه الأرصفة الباردة: هل انتهت المغامرة ؟.
لم يكتب وصيته. سَيَكتبُ الليلُ وصايا الحزانى. الأمطارُ الحمراءُ أصابعُ الأسرى في طرقات الحمَّى.((لَيْتني أُدفَن إلى جانب أُمِّي))، قال في نَفْسه. إنها أُمنيته الأخيرة، الأمنيةُ الأخيرة للمحكوم بالإعدام أو الحنينِ. هذا الفراغُ الجارح لا يَعرف خارطةَ القبور. والعواصفُ التي تهيمن على إشارة المرور الوحيدة لا تَعْرف قبرَ أُمِّه. سيكون القبران حرفَيْن في أبجدية المتاهات. هواجسُ الموت تقتلع رموشه رصيفاً رصيفاً. والغبارُ الأرجواني ينسج أكفانَ شجرِ الطفولة. كل الطرقاتِ تؤدي إلى الموت.
لم تجيء ساعة النهاية. والموتُ لم يَزُر هذه البُقعة الحمراء. في زحمةِ الأحزان المتكاثرة كبيوض الحشرات، تُولَد شمسٌ لَيْلية. وَقعت الجريمة مقابل دَير الأخوات المتأمِّلات. وهو دَير أثري تقطنه راهباتٌ كبيرات في السن. وقد شاهدت إحدى الراهباتُ هشام وهو يَغرق في شرايينه المتفجرة، فأسرعت إلى أخواتها. أيقظتهن من النوم، وأخبرتهن بالأمر. أُعلن الحِدادُ على الضحية التي ما زالت على قَيْد الحياة، وتم إعلان حالة الطوارئ في الدَّير. وانطلقت الراهباتُ بثياب النوم البيضاء إلى هذا الغارق في دمه. أحاط البياضُ بهشام. لم يَعرف هل ماتَ أم لا يزال حياً. هل صار في الدار الآخرة أم أنه ما زال في الدنيا ؟. كان البياضُ المحيط به ساطعاً.
وَضعنَ قطعَ القماش على جراحه المتشعبة. ضماداتٌ تم لفها بإحكام حول النزيف الشرس. سَحَبْنَه إلى داخل الدَّير
هل سَيَخرج من الدَّير واقفاً على قدميه أم جثةً هامدة محمولة على ظهور القطط المشرَّدة ؟. أفكارٌ متضاربة. صورٌ مشتَّتة تَكسر البراويزَ، وتهاجر إلى حتفها الأكيد. تاريخٌ من الأضداد والمرايا المشروخةِ. لا أحد يَعرف ماذا يَجري. تحوَّلت الراهباتُ إلى رجال آليين. راهبةٌ تَسكبُ الماءَ على الدم الملتصق بلحم الشارع، وعروقِ الإسفلت. ماذا تفعل هذه الراهبة في الليل العميق ؟. تَغسل الشارعَ، وتكتب بالدمِ شهادةَ ميلاد الرياح المسيطرة على الأرصفة الخالية من المارة. سيأتي النسيمُ العذب من نهايات الليل المعطَّر بكاوتشوك السيارات المختفية. وإشارةُ المرور الحمراء تستمد لونَها من حُمرة الدماء. كل شيء أَحْمر في وحشة الطريق. تأجَّج الاحمرارُ في أجسام الراهبات. لا يوجد في عالمهن أحمرُ الشفاه، ولا علب مكياج، ولا قمصان نوم حمراء. ومع هذا صارت حياتهن ممزوجة باللون الأحمر. هذا الأحمرُ يَفرض شروطَه على كل العناصر.
استقرَّ هشام على أحد الأَسِرَّة الذي لا يزال محتفظاً بالدفء، دفءِ الجسد الأنثوي. هذا الديرُ خليةُ نحلٍ دؤوب. إنه مستشفى مجاني. هناك راهبتان تملكان خبرةً واسعة في أمور الطب والتمريض، لأنهما عَملتا لفترة طويلة كممرضتين في المستشفى الإيطالي القريب من شارع المصدار.
كانت ينابيعُ الألم تتفجر من الحيطان. لا فائدة من العِلم إذا لم يُنقذ حياةَ الناس. والآن تتجلى أهميةُ العِلم لإخراج هشام من المتاهة المفتوحة على كل الاحتمالات. لا وقتَ لخجل الإناث من جسد الرَّجل. هذا الرَّجلُ الوحيد في غابة النساء، فَقَدَ مخزونه الإستراتيجي من الدم. دماؤه انسكبت في حُفر المجاري بعد أن غَسلت أزقةَ الأحياء الشعبية. حياته متأرجحة بين الحياة والموت. وأحشاؤه الذابلة مزهريةٌ على مائدة الليل الطويل.
افتقده المصلون في مسجد طارق بن زياد. جاء البعضُ قبل أذان الفجر، فَوَجدوا المسجدَ مُغلَقاً. انتظَروا أحد المصلين الذي لديه مفاتيح احتياطية للأبواب. ليس من عادة هشام أن يتأخر في فتح الأبواب. إمَّا أنه غارق في النوم، أو أن أمراً ما حَصل معه. وَجدوا المسجد نظيفاً، ومرتَّباً، وذا رائحة طيبة. لمساتُ هشام ظاهرة للعيان. آثارُه واضحة، لكنه مختفٍ عن الأنظار. جاءت اللمساتُ واختفت الأصابع. اتضح المبنَى وغاب الباني.
كان الظلامُ يَنحسر تدريجياً، يَجرُّ منديلَه الخشن الملقى على خدود جبل النظيف. نورٌ خافت يَطْلع من عِظام الضحايا. ضوءُ الفجرِ يَغسل جبينَ الأفق. يا لها من لَيْلة !، إنها لَيْلة طويلة ومُرعِبة. ولكنْ كلام الليل يمحوه النهارُ، وما تأتي به الرياح تأخذه الزوابع.
(22)
كانت سهير أنطوان تَعزف على البيانو. إنها تنتشل قلبَها من بئر المساء. هذا الصوتُ الحزين المنبعث من أعماقها يَنصهر في صوت الموسيقى النازف. كأن النسيم القادم من النافذة يَنشر أكفانَ الصبايا على أسلاك البيانو.
الصليبُ معلَّق على الحائط أمامها. أصابعها تتحرك على البيانو مثل أمواج تتحرك على قرميد الأكواخ المهجورة. تُعطي ظَهْرها لأدغال الصدى. وجهُها يقابل الجدارَ. وَحْدَها الموسيقى تحطِّم زنزانتها الانفرادية، وتحرِّرها من القيودِ والأحكامِ العُرفية. إنها متوترة بعض الشيء. تنتظر قدومَ معلمتها الأرمنية ماريا. الانتظارُ لهبٌ لا ينطفئ. والمواعيدُ الهامة مسامير في القفص الصدري. ورغم أن سهير عازفة بيانو ماهرة إلا أنها تسعى إلى تحسين أدائها. تريدُ الاقترابَ من الكمال.
وبعد رُبع ساعة تقريباً جاءت ماريا. هذه الأرمنيةُ المطلَّقة معلِّمة بيانو متمكنة للغاية. إنها عازفة أسطورية. ولو وُلدت في أمريكا أو أوروبا لربما أصبحت مثل بيتهوفن أو شوبان. إنها كتلة متناقضات، ومجموعة أضداد. فهي نصف ماسونية ونصف ملحدة، ومع هذا تَذهب إلى الكنيسة صباح كل أَحد بصورة منتظمة.
وقد أثرت مشكلاتها الشخصية على تركيزها في العزف. فقد خاضت نزاعاً مريراً في المحاكم، حيث طَلبت الطلاقَ من زوجها، ورَفض زوجُها تطليقها. وتدخلت الكنيسةُ في الأمر، وتدخلت وسائلُ الإعلام، وجمعياتُ الدفاع عن حقوق المرأة، وحَدثت مواجهة حامية الوطيس بين المحامين. وصارت قضيتها على صفحات الجرائد. قضيةٌ شديدة التعقيد صارت مسألةَ رأي عام ذات علاقة بالأمن القومي !. وتدخَّل في الموضوع فقهاء القانون الدستوري، والخبراءُ في قوانين الأحوال الشخصية. ورَمت الكنيسةُ بكامل ثقلها في القضية. وتحول موضوعها الشخصي إلى قضية دينية. وصار علماءُ اللاهوت يتجادلون حول مسألة الطلاق في الإنجيل، وتأويل النصوص الدينية، وعلاقةِ الدِّين بالحياة الاجتماعية. وتصادمت الكنيسةُ مع العلمانيين. وحَدثت لقاءات كثيرة بين الكاثوليك والبروتستنت والأرثوذكس للوصول إلى قرار ديني مشترك حول موضوع الطلاق، ولكن دون جَدوى.
وهذه الضجةُ الهائلة أَتلفت أعصابَ ماريا، وجَعلتها شبحاً مفرَغاً من المعنى، وجثةً عائمة في الفضاء. لا وزن ولا جاذبية. وفي تلك الفترة العصيبة لم تعد تتردد على المحامين. بل صارت تتردد على الأطباء النفسيين. أَدمنت على مضادات الاكتئاب والحبوبِ المنوِّمة. ووصلت إلى حالة يُرثَى لها. فَقدت جزءاً كبيراً من وزنها. وصارت عصبية للغاية. حطَّمت زجاجاتِ الخمر في بيتها. هَشَّمت زجاجاتِ العِطر. كَسَرت علبَ مكياجها. دَخلت في حالة مزاجية سيئة للغاية أقرب إلى الهلوسة، لدرجة أنها كَسرت البيانو الشخصي (عشيقها الأبدي)، وهو تحفة فنية مصنوعة يدوياً من الألف إلى الياء، أهداه إليها والدُها في عيد ميلادها الثامن.
وفي نهاية المطاف حَصلت على الطلاق. استمرت قضيتها ست سنوات. أكثر من ألفَي يوم من العذاب والمعاناة والقلق النفسي والانهيار الجسدي الشامل. تحوَّلت في هذه الفترة إلى شبح امرأة لا هوية لها غير الاحتضار الذي يَشتعل ولا يَنطفئ.
وقد استغرقت عودتها إلى الحياة الطبيعية زمناً بدا وكأنه بلا نهاية. وكانت فترة النقاهة التي أَعقبت صدور الحُكم طويلة للغاية. وظَهر الضوءُ في نهاية النفق الرهيب الذي حَفر وجدانها، وشَقَّ ذاكرةَ أنوثتها. استعادت ثقتها بنفسها. رجع الربيعُ إلى جسمها. ووجهُها كَسر كلَّ الأقنعة. وعاد شَعرها الأشقر إلى سابق عهده. ووُلدت الأزهارُ في خدودها من جديد.
كان زواجُها جحيماً لا يُطاق. تتمنى في قرارة نَفْسها لو أنها عانس، فهي تعتبر العنوسةَ رصاصةَ الرحمة التي تأتي بالخلاص. إنها لبؤة مجروحة اختفت عن الأنظار، وحاولت علاج نَفْسها بنفْسها. تلعقُ جُرحَها المرتعشَ. فإمَّا أن تعود إلى الحياة، أو
تموت في الغابة وحيدةً. والضربةُ التي لا تقتلكَ تُحييكَ وتزيدكَ قوةً.
لقاءُ سهير مع معلمتها دائماً يكون مفعماً بالمودة والحيوية. إنها تلتقي مع أُمِّها الروحية على الرغم من أنهما تبدوان ضرَّتين تتصارعان على زَوْج واحد، وهو البيانو.
لقد قَطعت سهير شَوْطاً طويلاً في العزف على البيانو، ولكنْ تظل اللمسات الاحترافية الأخيرة هي ما يَنقصها. إنها على مشارف القمة، ولكنها لم تبلغ القمةَ.
جَلستا جَنباً إلى جَنب. يختفي الكلامُ بينهما، وتصبح الموسيقى هي لغة التخاطب الوحيدة. وهذا البيانو أبجديةٌ متكاملة. وحين تبزغ الألحانُ تختفي الكلماتُ. بابُ الغرفة مغلقٌ بإحكام لئلا يَدخل عليهما أَحد. لا يمكن السماح لأحد أن يَقطع العزفَ كما لا يَمكن لأحد أن يُقاطعَ المرأةَ وهي في حالة الولادة.
رَاحت المعلمةُ تَعزف على البيانو. فهي تريد تعليم تلميذتها بعض التقنياتِ الحديثة في التأليف الموسيقي. وعندما تَدخل في عالَم العزف تنقطع عن الوجود، وتدخل في الفناءِ الأبدي. أصابعها تشتعلُ في براري الصوتِ الحزين، والعَرَقُ ينهمر من جبهتها، ويسيل على وجهها الذي يَرفض الاستسلام في هذه الحرب اللذيذة. إن العزف يستهلك طاقتها، ويمتص عَرَقَها حتى القطرة الأخيرة. جسدُها يَدخل في أفلاك الرعشة، وتاريخُها الشخصي كله مفروش على أسلاك البيانو النحاسية. كأن أنوثةَ الموسيقى حربٌ لا تنتهي، وجيشٌ لا يَرفع الرايةَ البيضاء.
أَنهت المقطوعةَ. أَخرجت منديلاً برتقالياً، ومَسحت به وجهَها ورقبتها ويَدَيْها. أَطرقت لبرهة لتستعيد توازنها الروحي، وإحساسها بجسمها. ثم نظرت إلى سهير، وقالت:
- أريدك أن تعزفي هذه المقطوعة بدقة شديدة. يجب أن تعتمدي على نَفْسك، وتتركي بصمتك الشخصية، ولا تخافي من الخطأ. تذكَّري يا سهير، سوفَ تمشين في الطريق لوحدكِ. أنا مِثل مدرِّب السواقة، أُدرِّبك على بعض الشوارع، ثم أترككِ لتواجهي التحدياتِ لوحدكِ. لا يوجد مدرِّب سواقة يُعرِّفك على شوارع كوكب الأرض، ولا يوجد موسيقار يَقْدر على كشف أسرار البيانو بالكامل. لا بد أن تكتشفي طريقكِ من خلال التدريب المتواصل، وتطوِّري أسلوبكِ الخاص دون تقليد أحد، ولا اقتباس ألحان أحد. كوني نَفْسكِ يا سهير، مفهوم ؟.
هزَّت سهير رأسَها في إشارة إلى استيعاب الكلام. ولكنْ بقي هناك سؤال يَدور في رأسها، فقالت:
- هل توجد اقتباسات في عالم الموسيقى ؟.
أدركت المعلمةُ أن سهير فتاة بريئة تعيش في عالَم وردي لا يمت للواقع بصلة، وهي لا تَعرف شيئاً عن الدنيا الجامحة التي يتقاتل عليها الناس. ابتسمت المعلمةُ برقة شديدة، وقالت:
- المقلِّدون موجودون في كل مكان وزمان. وفي مجال الموسيقى تَكثر الاقتباسات. فمثلاً، هناك أغنية للموسيقار المصري محمد عبد الوهاب بعنوان " أحب عِيشة الحرية "، لحنُها مأخوذ من السمفونية الخامسة لبيتهوفن.
استغربت سهير هذا الكلام لعلمها أن محمد عبد الوهاب موسيقار شهير. وقد ظنَّت للوهلة الأولى أن معلمتها تَكذب عليها، أو تبالغ في الموضوع. لكنها سُرعان ما طَردت هذا الخاطر. فهي تثق بمعلمتها ثقة عمياء، وتؤمن بكل كلمة تقولها. وليس من عادتها الكذب أو اختراع القصص الخيالية.
عاد صوتُ البيانو يَصدح في الأرجاء. أصابعُ سهير تَتهادى على آثار أصابع معلِّمتها. هكذا، يصبح البيانو هو العريسُ بين جثث النساء، هو الملِكُ المتوَّج على نعش الأنوثة. ويصبحُ صوتُ الموسيقى صوتَ مَن لا صَوت له، وتاريخَ مَن لا تاريخ له.
عادت ماريا إلى مكان سكنها. إنها تقطن في حي الأرمن في الأشرفية. سيارتها فارهةُ مرسيدس سي إِل كيه تُبحِر في ذاكرة الشوارع. وهذه الأرمنيةُ المدجَّجة بالأنوثة لا تَعرف قيادة أية سيارة أخرى. لقد تأقلمت يداها على مِقْود هذه السيارة، وصار جِلْدُها معجوناً بجِلد الكراسي. وقد عَرض عليها الكثيرون شراء سيارتها الأنيقة بمبالغ مغرية، إلا أنها رَفضت بشدة. فأشياؤها الخاصة مرتبطة بتفاصيل عمرها. وهي لا تريد التفريط بأشيائها لئلا تفرِّط بعمرها. فقوةُ الأشياء كامنة في الذكريات. والذكرياتُ لا تُباع ولا تُشترى.
إنها تأوي إلى شقتها الدافئة كقطة مبلولة هاربة من المطر. لم تكن شقةً واسعة، لكن ديكورها المتقَن يُشعرك أنك في قلعة من قلاع القرون الوسطى. لم تغيِّر ملابسَها. أَلقت نَفْسها على السرير جثةً هامدة. كأنها لم تنم منذ عدة قرون.
وبعد ساعة تقريباً استيقظتْ مذعورةً. كان الضجيجُ في الشارع يهز أركانَها بقسوة. لماذا كل هذه الضوضاء ؟. أسرعتْ إلى النافذة لترى ما يَحدث. كانت هناك سيارة محمَّلة بالأثاث والأغراضِ المنزلية. والعمالُ يُنْزِلون هذه الأشياء في الشارع الضيق. ويبدو أنهم تسبَّبوا - دون أن يَشعروا - بأزمة مرورية. عَلت أبواقُ السيارات، والسائقون يتصايحون، وكادت الأمور أن تصل إلى حد الشتائم والضرب.
دَخل الجميعُ في جَدل بيزنطي. الصراخُ هو الحوار العدمي. والأمورُ تتعقد بصورة كارثية. وبينما الجميعُ يَغرقون في دوامة الضجيج، ظَهر الشيخ عبد الرحيم عمران. ماذا يَفعل في هذا المكان ؟. إنه الإمام الجديد لمسجد الحي، وهذه الأشياءُ التي يَنْقلها العمالُ هي أشياؤه. اعتذر الشيخُ للسائقين، وطَلب من العمال أن يُسهِّلوا حركةَ السيارات. وبعد خمس دقائق انتهت المشكلةُ من جذورها. زال الضجيجُ، وعادت المياه إلى مجاريها. أُعجبت ماريا بهذا الحل السريع، وأَدركت قدرةَ هذا الإمام الجديد على علاج المواقف الصعبة بسرعة ودون تردد.
(23)
في آخر اجتماع لمجلس قيادة الثورة. قرَّر فايز ورفاقه عقد ندوة ثقافية في جبل النظيف. ستكون هذه أول ندوة ثقافية في تاريخ هذا الجبل المعزول. لا يكفي أن تظل التوصيات داخل المقبرة، وبين شواهد القبور. يجب نقل الأفكار من عالَم الموتى إلى عالَم الأحياء. وينبغي نقل الثقافة من النخبة إلى الجماهير. هذه أهم المبادئ التي خرج بها المجتمِعون. وقَّع على وثيقة التوصيات فايز عمران، وبسام خميس، ومازن عبد الله، ومعاذ أحمد حميد. أمَّا حارسُ المقبرة فاعتذر عن الحضور، والمشاركة في الندوة، حيث قال إن مكب النفايات الذي يديره يدر عليه أموالاً لا يمكن أن يجنيَها من الثقافة. فالثقافة لا تُطعِم خبزاً، ولا تدر أرباحاً. لقد خسروا الدعمَ اللوجستي الذي كان يقدِّمه حارسُ المقبرة.
أحضَروا طاولةً وعدداً من الكراسي. وضعوا الطاولةَ على الرصيف. زرعوا الكراسي في أحد الشوارع الفرعية الضيقة. وصاروا يَدورون في الشوارع لإقناع الناس بالحضور. لم يجيء أحد، ولم يَقتنع الناس بالفكرة. حاولوا إغراء أحد سائقي سيارات الأجرة بالحضور، فقال لهم:
- إذا كانت الندوة مجانية فسوف أُضيِّع وقتي في مهزلة الثقافة، وإذا كانت غير مجانية، فالمالُ أريد أن أشتريَ به كيسَ خبز لأولادي، وليس كيس ثقافة.
أُصيبوا بالإحباط. لا أحد يهتم بالثقافة. كيف يُقنِعون السكانَ أنه ليس بالخبز وَحده يحيا الإنسان. هذا حَدَثٌ تاريخي ينبغي استغلاله، والمشاركة فيه. إنها أول ندوة ثقافية في جبل النظيف، سوفَ تَدخل التاريخَ من أوسع أبوابه، والذين يَحضرونها سيكتب التاريخُ أسماءهم بأحرف من ذهب. إنهم طليعة الجيل المثقف في جبل النظيف. لا أحد يُقدِّر هذا الحلمَ.
لَمعت فكرةٌ عجيبة في ذهن فايز، سوفَ يدفع نصف دينار لكل شَخص يأتي إلى هذه الندوة. والدفعُ سيكون مُقَدَّماً. وبعد فترة وجيزة، امتلأت القاعةُ عن آخرها، أقصد امتلأ الشارعُ عن آخره. جاء الزعرانُ والعاطلون عن العمل والأيتام والأرامل.
رحَّب فايز بالحضور، وقال:
- أيها السادةُ والسيدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يسرنا اليوم أن نقدِّم لكم شاعر جبل النظيف، الأستاذ الكبير مازن عبد الله، وسوفَ يقرأ علينا إحدى نصوصه الإبداعية.
علا التصفيقُ، واندلع التصفير. الأجواءُ حماسية للغاية، والجميعُ سعداء بالمبلغ البسيط الذي حصلوا عليه دون عناء.
قال مازن بعد أن رَحَّب بالحضور:
- أيها الأخوة والأخوات، يُسعدني اليوم أن أقرأ إحدى قصصي القصيرة، مع أنني شاعر ولي قصائد منشورة في الصحف المحلية والعربية. وذلك من أجل التغيير، والتنوعِ الإبداعي. هذه القصةُ بعنوان " مهزلةُ الإنسانِ الضحيةِ المجرمِ ". وأنا أحاول أن أرسلها إلى أحد أساتذة أكسفورد.
نظر أحد الحضور إلى صديقه قائلاً:
- من هو أكسفورد ؟.
ابتسم صديقه بسخرية، وقال:
- يا جاهل، أكسفورد فريق كرة قدم مثل ريال مدريد وبرشلونة.. ستبقى طيلة عمرك حماراً لا تعرف شيئاً عن الثقافة.
راح مازن يقرأ قصته مثل البركان الثائر بلا مواعيد:
[ المرتزقةُ يَعتبرون الدنيا مسرحاً وأنفسهم مشرفي الإضاءةِ، يحددون موعدَ بدايةِ العَرْضِ وموعد انتهائه. هُم المخرِجون، يفرضون أسلوبَ الأداء، ونوعيةَ أداة الجريمة: سيف أم بُندقية أم مدفع أم قنبلة. ويختارون طريقة التصفية الجسدية: الكرسي الكهربائي أم المشنقة أم المقصلة أم السم.
يشرقُ القتلُ بلا بيروقراطية. بكل شفافية يَقْتلون، ويُلْبِسون الذئبَ الساكنَ فيهم قناعَ ماعزٍ بريءٍ. والإمبراطورُ يُرسلُ جيشَه ليحارب أخاه. يظل في شرفة القصر مع زوجته المحنَّطة في قميص النَّوم الشَّفاف يتناولان فطورَ الصباح. وفوقَ فوهة الأحزان يُلَوِّحُ الحطامُ بقبعته العسكرية. ضَحَّى بالرجال لكي يربح مُعجَبةً جديدة، ويُضيفها إلى قائمة المعجَبات !. للمنافي تفاصيلُ أشيائنا. وإن اختفى المطارُ فلن يختفيَ السَّفرُ.
- هل تريدون الغداء فاصولياء أم عَدَساً ؟.
- نريده عَدَساً.
- إذن فليكن فاصولياء !.
أُصيبوا بصعقة المفاجأة التي أُريدَ لها التكاثر في الأحاسيس. عَدَّلُوا وُجهتهم نحو كيس الفاصولياء، شاعرين في أعماقهم بقبائل انكساراتٍ رَدَمَتْ جوعَ هياكلهم، وثقبت جوعَ أرواحهم. سكبوا ماءً في القِدْر لا أدري من أينَ نهبوه. ثم أُهِيلت الفاصولياء بقسوة تضارع قسوة النيران الموقدة تحت القِدْر. احتكاكُ حَجَرَي صُوَّان على ورق يابس جاف يُماثلُ الهشيمَ الملتهب المصبوب على المطعونين أينما سافروا.
لم يستغرق نضجُ الطعام إلا وقتاً بسيطاً مُساوياً للمدة التي يأخذها الضوءُ في استقطاب كتيبة فراشات يتيمة. كُلُّ الوجبات والفراشات ناضجة. آيلةٌ للاحتراق. فواتيرُ الدماء لم تُدفَع. اندلعت فرقعاتٌ هائجةٌ على سطح المزيج.كُراتٌ من البُخارِ تَنُطُّ في وسطٍ مُحتدِمٍ. الماءُ يبلعُ الماءَ. ليس وداعاً ضبابياً في المطارِ، لأن المطار يُسافر فينا وكلُّنا مسافرون.
مُدَّت الصُّحونُ وتوالت متلاحقةً. تُذَكِّرُني بِسِرْبٍ من الأُقحوان الجبلي يتعانقُ استعداداً للشتات لأن القَطْفَ قادمٌ. سُكِبَ الطَّعامُ فيها برفقٍ. كان الصحنُ الكبيرُ مخصصاً لكبيرهم. حُملَ إليه في مقره في جوف خيمة جديدة نُصبت خصِّيصاً له. كان جالساً على كرسي هزاز يتحرك في الأمام والخلف. تشتبك الجهات وتحتفظ باندفاعها. والغريبُ أن الكرسي الهزاز مُلازِمٌ له، يُشحَن مع أغراضه والعتاد العسكري. ورغم أنه سُئل أكثر من مرة عن سِر ذلك الكرسي الذي لم يُفارقه منذ التحق بالخدمة العسكريةِ، إلا أنه كان يتهرب من الإجابة، ويقتحمُ موضوعاً آخر مُؤْثِراً الاحتفاظ بسر الكيان الخشبي المتحرك.
أمسكَ صحنَه وتذوقَ ما فيه، فوجده طيب المذاق متكامل العناصر، إلا أنه ارتأى اختراع عيب فيه ليقوم بنقد رجاله، وإشعارهم بنقصهم، وأنهم لا يُحسنون فعل شيء. فقد سكن في ذهنه أن مدحَ الآخرين قد يُعلمهم الجرأة على أسيادهم، وبالتالي ينكسرُ الحاجز بين السَّيد والعبد.
قال جاعلاً كل شذوذه أرضيةً خفيةً لكلامه الصارخ:
- أين الحمارُ الذي قام بالطبخ ؟!.
- نعم سَيِّدي !.
- ألم تسمع باكتشاف اسمه الملح.
- لقد وضعتُه سيدي.
- إذن أنا كذاب أخترعُ الكذب أو مغفَّل لا يميِّز مذاقَ الأشياء.
وأردفَ قائلاً بعد هذا الهجوم:
- هل تريد أن أُقدِّمكَ إلى محاكمة عسكرية لتعيش ما تبقى من حياتك في السجون تُنَظِّفُ مراحيضها ؟، أم تريد أن أُفرِّغ رصاص مسدَّسي في رأسكَ، فأحرمكَ من النوم مع زوجتك ؟.
- أنا أعتذرُ يا سيدي. أرجوك سامحني.
في الحقيقة كان قد وضع الملحَ بكمية معتدلة في الطبق، وكان متأكداً من ذلك مئة بالمئة ومع هذا أنكرَ عمله من أجل الخلاص. فقال متصنعاً الغفلة:
- الآن تذكرتُ يا سيدي. فأنا لم أضع الملح في طبق سيادتكم سهواً، وسوف أُضيفُ له الملح فوراً !.
وما إن فرغَ من قوله حتى استقبلَ صحناً ممتلئاً، رماه قائدُه عليه فلطَّخ ثيابه. وقال بعد أن ألقى صحن الفاصولياء:
- تأكد من عملك قبل أن يصلَ إليَّ. والآن اغرب عن وجهي وأحضر لي صحناً آخر، وأربعة ديمقراطية، وواحد شاي. ].
انتهت القصةُ. وكان الحضورُ يتبادلون النظراتِ المندهشة. وانطلقَ التصفيق مع أنهم لم يَفهموا شيئاً. وفي هذه البُقعة، لا يهم أن تَعرف لماذا تصفِّق، المهم أن تصفِّق وحَسْب. الأفقُ رمادٌ على أصابع الشجر الذابل. والأهدابُ المكسورةُ هي الأفق الجديد.
نظرت زليخة الأرملة حولها، ثم قالت:
- عليَّ الطلاق، لم أفهم شيئاً. ولكن أجمل مقطع في القصة هو الذي يتحدث عن النوم مع الزوجة.
ضحك أحد الزعران، وقال بصوت خفيض:
- عجوزٌ مجنونة، عقلُها في شهوتها المتعفنة. زوجها مات وارتاح منها، وهي لا تزال تَحلف بالطلاق.
سَمعت زليخة هذا الكلام. وَقفت بسرعة هائلة كأنها شابة في العشرين. الجمرُ يتوهج في عينيها. وفي جبهتها تتقاتل صقورُ الحقد والانتقام. دمها يغلي في قِدر الاحتضار. وجسمُها شعلةٌ من اللهب تحرق مداراتِ تاريخها المتآكل.
أَمسكت الكرسي، وألقته على ذلك الشاب بكل ما أُوتيت من قوة. كانت هذه الحركة هي الشرارة التي أَطلقت حرب الكراسي. ومعظمُ النارِ من مستصغر الشَّرر. عمَّت الفوضى، وتطايرت الكراسي، وتعالت الشتائمُ البذيئة. ودخل الجميعُ في المعمعة دون تحضير مسبق.
حاول فايز ورفاقه في مجلس الثورة تهدئة الأمور، لكن الأمور ازدادت سوءاً، وتحوَّل الشِّجارُ إلى تحرش بالنساء، واختلط الحابل بالنابل. خَرجت الأحداثُ عن السيطرة بشكل كامل.
هرع الأهالي إلى المكان بعد أن سمعوا الصراخَ المرعب الذي شَقَّ العمودَ الفقري للفضاء. وبعد نصف ساعة تقريباً، جاءت سيارات الشرطة. استطاع الكثيرون الهربَ، والتفرقَ في الأزقة المعتمة والمتاهات المتكاثرة. ومَن لم يستطع الهربَ وقع في قبضة الشرطة التي طَوَّقت المكان، وأَنهت الشجارَ بكل حزم. ألقت القبضَ على عدد كبير من المتواجدين، واقتادتهم إلى المخفر. إنها نهاية مؤسفة لحدث ثقافي. كأن الثقافة هي الهدوء الذي يسبق العاصفةَ.
عَرفت الشرطةُ حقيقةَ الأمر. فالتجمعُ - بالأساس - هو تجمع ثقافي، وليس عملاً تخريبياً يَهدف إلى الإضرار بالأمن العامِ، والسِّلمِ الأهلي، وممتلكاتِ الناس. ومما ساهم أيضاً في علاج الأمر، تدخُّل شيوخ جبل النظيف للإفراج عن المعتقَلين، والتعهد بعدم تنظيم أي تجمع جماهيري دون إذن مسبق من الجهات الأمنية.
عاد الناسُ إلى بيوتهم. انتهى حُلمُ الثقافة. توقَّف التاريخُ عند الإشارة الحمراء. ضاعت الفرصةُ الذهبية. إنها أول ندوة ثقافية في تاريخ جبل النظيف. كلُّ الأمنيات تاهت في الأزقة الكالحة، ولا مفر من عودة مجلس قيادة الثورة إلى المقبرة.
(24)
لقد تحوَّل عمران إلى شبح. جسمُه صار نحيلاً، والكوابيسُ تتلاعب به ليلاً ونهاراً. ذَهب إلى أطباء كثيرين، وكلهم مُجمِعون على أنه لا يعاني من أي مرض. الفحوصاتُ الطبية التي أُجريت له واضحة في هذا المجال. ولكنْ ما سبب المشكلات الصحية التي يعاني منها ؟. قد يكون مرضاً غامضاً، أو ربما يكون مرضاً جديداً لم يكتشفه الطبُّ الحديث. يتلاشى هذا الرَّجلُ الوهمي في مدارات الاحتراق، يتشظى إلى أزهار سامة، وذكرياتٍ متوحشة.
أحدُ الأطباء أخبره أنه مريض بالوهم، وأن مرضه نفسي لا جسمي. إن الداء الذي يَفتك به داء معنوي وليس حسياً. ونصحه أن يَذهب إلى طبيب نفسي. وعندما سمع عمران هذا الكلامَ، هربَ من عيادة الطبيب. عمران المخلوسي سليل هذه العائلة العريقة يذهب إلى طبيب نفسي ؟. ماذا سيقول عنه سكانُ جبل النظيف والمناطق المجاورة. ستصبح فضيحة لا أول لها ولا آخر. سوفَ يُشوِّه سُمعةَ العائلة إلى الأبد. سيقول الناسُ إنه مريض نفسي أو مجنون. ستكون نهايته مستشفى المجانين. إنه عارٌ لا يمكن غسلُه. عارٌ سيُلطِّخ تاريخَ أُسرته حتى يوم القيامة. وسوفَ يتبرأ منه الناس، ويحتقرونه حياً وميتاً. هذا ما كان يُفكِّر فيه بالضبط.
كلامُ الناسِ هو حجرُ الزاوية في عالَمه المتهاوي. لن يَسمح أن تنهار عائلة المخلوسي على يديه، وهو الذي قضى حياته محاولاً رفع مكانة عائلته بين باقي العائلات. ((لن أذهب إلى طبيب نفسي حتى لو مِتُّ. المقبرةُ بالنسبة إِلَيَّ أفضل من مستشفى المجانين. لن يَسقط اسم عائلتي ما دمتُ على قيد الحياة)).
حياته أوهامٌ متكاثرة. يَسمع أصواتاً تتردد في رأسه، كأن أشخاصاً ينادون عليه. أحياء وأموات يتقاتلون في رأسه. يلتفتُ حَوْله كالمصروع فلا يجد أحداً. من أين تأتي كل هذه الأصوات ؟. يتغيرُ لونُ جِلده كالحرباء. يتبدل جِلده كالأفعى. أورام كثيرة تَظهر في جسمه. يتسلل العجزُ إلى كل أوصاله المبعثَرة. صار عاجزاً جنسياً. زوجته كانت تشتكي من فحولته الزائدة، وهي الآن تشتكي من عجزه وابتعاده عنها. عقلُه يَذوب في مدار التشتت. يَحترق وحيداً في أدغال الهلوسة. إنه يضمحل تدريجياً. كلُّ ثانيةٍ في حياته لحظةُ انتحارٍ. هكذا صار عمره انتحاراتٍ متواصلة. قرَّر أن يَذهب فوراً إلى الشيخ نايف ريان إمام مسجد طارق بن زياد. الأمر لا يحتمل التأخيرَ. دماغُه يكاد ينفجر، وتتساقط شظاياه على الأرصفة القذرة.
ذَهب إلى بَيْت الإمام. فالمسجدُ في هذا الوقت مغلق لأنه ليس وقتَ صلاة. قَرع الجرسَ بشدة، فخرج أحد أبناء الشيخ. قال له عمران وهو في حالة لهاث:
- هل الشيخ موجود ؟.
سمع الشيخُ هذا الصوت، لكنه لم يستطع معرفةَ صاحبه. فقد كان صوتاً ذابلاً غارقاً في الحزن. انطلق الشيخُ إلى الباب، وهو يتحسس الأشياءَ في طريقه، وقال:
- مَن يُريد الشيخَ ؟.
- أنا عمران المخلوسي.. أبو عبد الرحيم.
- أهلاً يا أبا عبد الرحيم.. تفضَّل يا رَجل.. أهلاً وسهلاً.
وانطلق الرَّجلان إلى غرفة مظلمة. إنها غرفة نوم الشيخ وغرفة الضيوف ومكتبته الشخصية في آنٍ معاً. وهذه الغرفة تبقى مظلمة ليلاً ونهاراً، شتاءً وصيفاً. ولا تضاء إلا في حالتَيْن فقط. الحالةُ الأولى عندما يأتي ضيفٌ ما، والثانية عندما يَطلب الشيخُ من زوجته أن تقرأ عليه أحدَ الكتب.
قال الشيخ وهو يضحك:
- لا تخف يا أبا عبد الرحيم لأن الغرفة مظلمة. محسوبك أعمى كما تَعرف، وفي نَفْس الوقت نحن نوفِّر الكهرباء.
وأردف قائلاً:
- اللهم نوِّر بصائرنا بنور الإيمان، ونوِّر قبورَنا يا رَبَّ العالَمين.
وعندما سَمع عمران هذا الدعاء، قال بصوت منكسر:
- آمين.
راح عمران يَشرح للشيخ ما يُعانيه بالتفصيل. وكيف أن الأحياء والأموات يَقتحمون ذاكرته في النهار، ويَزورونه أثناء نومه في الليل. والشيخُ مُنصِت كأنه جَماد، لا يتكلم ولا يتحرك.
وبعد أن فرغ عمران من كلامه، قال له الشيخ:
- اصْدقني القول يا أبا عبد الرحيم، ولا تُخفِ عليَّ شيئاً. ما هو الكابوس الذي يُطاردك ولا يتركك ؟.. بدون لَف ولا دوران.
لاذ عمران بالصمت لفترة وجيزة، ثم انفجر باكياً كالطفل الذي ضاعت لُعبته. أدرك الشيخ أن هناك أمراً كارثياً. فعندما يبكي شخص مثل عمران المعروف بصلابته الذهنية، وقوةِ بدنه، ورباطةِ جأشه، فهذا يعني أن كارثة قد حَصلت.
لم يتكلم الشيخُ، وترك عمران يبكي دون أن يقاطعه بأي شكل. فالبكاءُ راحةٌ، وتفريغٌ لشحنة العواطف الهائلة. ابكِ يا عمران لعلك تتخلص من ألسنة اللهب التي تَعقد لسانَك. ادخلْ في أعاصير البكاء فقد يُولَد بعدها مدنٌ تفتح ذراعيها للشمس، ولا تخاف من النُّور. هذا البكاءُ هو امتداد أعشاب قلبك في غابة الشفق. سَيَكون البكاءُ عُشبةً سحرية تَنبت في رئة الأفق البعيد.
قال عمران بعد أن جَفَّت دموعُه:
- صورةُ أُمِّي تحاصرني في كل مكان. أنا حقير يا سيِّدي الشيخ. أكرهُ نَفْسي ولا أُطيقها. أنا ولد عَاق. خنتُ أمي في مَوْتها من أجل غرامات ذَهب.
انزعج الشيخُ من هذا الكلام الغامض، وقال بلهجة حازمة:
- لا تكلمني بالرموز والألغاز. أخرجْ كلَّ ما في قلبك مرة واحدة.
- لا أعرف ماذا أقول. الشيطانُ شاطر ضَحك عليَّ. عندما ماتت أُمي صرتُ أفكِّر في أسنانها.. أسنان من ذَهب. وجاءتني خاطرة جهنمية، الحصول على هذه الأسنان والاستفادة من ثمنها أفضل من اختفائها تحت التراب. والحيُّ أبقى من الميت. لذلك ذَهبتُ إلى قبرها، وخلعتُ أسنانها.
وثارت براكينُ الدموع من عينيه. دموعٌ حارقة ممزوجة بالشهقات. إنه يَغرق في بحر الدموع، ويَنتظر طَوْقَ النجاة.
صُدم الشيخُ بهذا الكلام، وعَجز عن الكلام رغم اشتهاره بالفصاحة والبيان. اختبأ وراء ستار كثيف من الصمت كأنه يريد الهربَ من أعضائه. لقد سَمع في حياته الكثير من القصص المرعبة والحكايات الواقعية الجنونية التي تُشبه الرواياتِ البوليسية وأفلامَ الرعب. ولكنه لم يسمع مثلَ هذه القصة. إنها قمةُ الجنون.
ما حَصل قد حَصل. البكاءُ لن يُعيد عقاربَ الساعة إلى الوراء. والشهقاتُ الحارةُ لن توقف عجلةَ الزمن. ورغم أهمية البكاء إلا أنه لن يُحييَ الأموات، ولن يَقتل الأحياءَ، ولن يُعيدَ المسافرين. ينبغي التعامل مع الأمر الواقع. هذا الحصارُ الكارثي يجب إنهاؤه.
قال الشيخ والذبولُ يأكل أوتارَه الصوتية:
- اسمعْ يا عمران، باب التوبة مفتوح. لقد ارتكبتَ إثماً عظيماً، لكن رحمة الله أكبر من كل الآثام. أمَّا الذهبُ فَبِعْه وتصدَّق بثمنه على الفقراء.
(25)
كان بيتُ سليم المخلوسي ناراً متأججة. وهذه النارُ لم تجيء من أعواد الثقاب أو من تماس كهربائي. بل جاءت من شرايين البشر المحترقة. إنها نارٌ تَصهر فولاذَ القفصِ الصدري. يمتد اللهبُ العنيف في كريات الدم، ويخوضُ البشرُ حروباً أهلية داخل ذواتهم. يَخسرون في الحرب، ويَخسرون في السلام.
هناك أمرٌ غريب في هذا البيت المحترق. ماذا يَحصل بالضبط ؟. منذ أن عادوا من المستشفى، تغيَّرت الوجوهُ، وسَقطت الأجفانُ الموحشة على البلاط المتوحش.
ذَهب سليم وزوجته وابنهما رأفت إلى المستشفى بمعنوياتٍ عالية، ثم عادوا كالجنود الخاسرين في الحرب. كلُّ واحد يريد الهربَ من الآخر. لا يريدون أن تتشابك نظراتهم. المسافةُ بين المستشفى والبيت جناحُ ذبابةٍ مكسور، والأحزانُ أعمدةُ كهرباء تتهاوى على الرؤوس. كان الصمتُ في وجناتهم هو المايسترو المرهَق في فِرقةٍ انتحر عازفوها. وبقيت الكراسي شاهدةً على موسيقى الوداع.
كانوا يمشون إلى بيتهم، ويتمنون - في قرارة أنفسهم - لو تَطول المسافةُ. لا أحد يُريد الوصول. يخافون من الوصول. سَتَكون نهايةُ المشوارِ اللاهبة بدايةً للوخز اللانهائي. ضوءُ الآلام يَنتظرهم في آخر النفق. بيتُهم مملكةُ الأنين الأخرس. الأبوابُ الخرساءُ تتكاثر والنوافذُ وديان من الحزن اللزج. والغرفُ صابونُ الإبادة، يَغسل به السجناءُ وجوههم بعد حفلة البكاء.
قالت أمُّ رأفت والشكوكُ تلتهم ما تبقى من خدودها الضامرة:
- ماذا قال الدكتورُ عني ؟. هل سأموت قبل نهاية الشهر أم بعده ؟.
ضحك رأفت في محاولة منه لبعث جو من البهجة، والتخفيف عن أُمِّه، رغم كلِّ النيران التي كانت تصرخ في جوفه، وتفترس حواسَّه. وقال بنبرة واثقة ترمي إلى رفع معنويات أُمِّه:
- لقد قال الدكتور إن صحتك ممتازة. وإن شاء الله سوفَ تعيشين، وتشاهدي أحفادك يا أم رأفت.
لم تصدِّق الأمُّ كلامَ ابنها، فنظرت إلى زوجها قائلةً:
- لا تكذب عليَّ يا سليم، ماذا قال الدكتور عني ؟. أنا أشعر أن نهايتي اقتربت.
- توكَّلي على الله يا ابنةَ الحلال. أبعدي عنك الوساوس، الموضوع كما قال لك رأفت.
ومضى كلُّ واحد في طريقه. دهاليزُ الغياب حَضنت أطيافَهم وأحزانَهم. وهذه الغرفُ المعتمة تمتصُّ ما تبقى من لمعان عيونهم. كان الظلامُ يَنشر وشاحَه المحترق على الحيطان. والأحلامُ تتشظى في دخان قلوبهم. تَسقط خطواتُهم في البلاط العميق. الممراتُ الرماديةُ رمالٌ متحركة تَبلع قوافلَ الغرباء. إنهم مَحْكومون بالغُربة. لم يعد الواحدُ يَعرف نَفْسه. تائهون في الزمان والمكان الغامضَيْن.
عند منتصف الليل، التقى سليم وابنه. وقتُ لقائهما مناسب للغاية. فهذه المرأةُ الحزينة تَغطس في نوم عميق. والجو هادئ تماماً يساعد على التفكير واتخاذ القرارات بعيداً عن صخب النهار، وضجيجِ الناس. إنها قرارات مصيرية ومتشعبة تتوقف عليها حياة هذه المرأة. لقد أخبرهما الطبيبُ أنها مصابة بسرطان الثدي، والمرضُ في مرحلة متقدمة. فهذه المرأةُ أَهملت نفسَها، ولم تقم بالكشف المبكِّر، لذلك انتشر السرطانُ انتشار النار في الهشيم. وفرصةُ نجاتها ضعيفة للغاية. وهي بحاجة إلى عدة عمليات شديدة التعقيد. وربما يضطرون إلى علاجها خارج البلاد. ولا يَخفى أن العلاج مُكلِف للغاية، وطويل الأمد.
قال الأبُ العاجز لابنه العاجز:
- مِن أين سَنُحْضِر المالَ ؟.
قال رأفت وهو يتجنب النظرَ في عيون والده:
- سوف نَجمع المال من أقاربنا.
انتفض الأبُ، وقال:
- أعوذ بالله، أنا أمد يَدِي وأشحذ من الناس ؟!. أقطعُ يَدِي ولا أمدُّها للناس.
ولَمَّا رأى رأفت هذا الإصرار في كلام والده، قال بهدوء:
- دَعْكَ من أقاربنا. سوفَ أفكِّر هذه الليلة في كيفية الحصول على المال.
وافترق الرَّجلان، ومضى كل واحد إلى حال سبيله.
انطلقَ رأفت إلى غرفته كالأفعى التي تريد الاختباء سريعاً في جُحرها. أغلقَ البابَ بإحكام. جلسَ على كرسي المكتب. أمسكَ قلمَ الرصاص وبعضَ الأوراق، وراح يُفكِّر في كل الاحتمالات، ويُسجِّل كلَّ فكرةٍ تبزغ في ذهنه. لن ينام هذه الليلة حتى يجد الوسيلة للحصول على المال. إنه في سباق مع الزمن. أشرعةُ سفينته المحطَّمة تتحرك عكس عقارب الساعة. أمضى ثلاث ساعات في التفكير المتواصل. كأنه رَجل آلي لا تاريخ لمشاعره غير الحركات الميكانيكية الخرساء. كلُّ شرايين دماغه تصب في بئر واحدة. جميعُ أزقة أفكاره تفضي إلى بؤرة واحدة.
لقد قَرَّر أن يُخبر ميادة بمشكلته. ولا بد أنها ستساعده، وتعطيه المال. إنها امرأة غنية ورومانسية. وحبُّها لرأفت لا يُقدَّر بثمن. سَيطرت هذه الفكرةُ على عقل رأفت ثم طَردها. ماذا ستقول عنه ؟. يستغل عواطفها لتحقيق أرباح مادية. يتلاعب بمشاعرها من أجل المال، وعندما يَحصل عليه سوفَ ينطلق إلى صَيْدٍ جديدٍ وثمين. حُوصِر رأفت بين الأضداد. وقع في متاهةِ التناقضات. والصراعُ الرهيب يتفجر في صدره. ثلاث ساعات من التفكير ذَهبت أدراج الرياح، وزادته حَيرة إلى حَيرته.
(26)
الأيامُ تمر مثل السراب الكلسي. عقاربُ الساعةِ أعمدةُ حجرية من عصر ما قبل التاريخ. إشاراتُ المرور تنكسر في شرايين الناس. إن لقاء رأفت وميادة هذه المرة ذو مذاق مختلف. لقد دَعَتْه إلى رحلة سياحية جماعية إلى وادي رَم. هذا الوادي السحريُّ في الجنوب تتوقف عنده جهاتُ القلب. إنهما جَريحان في بريق الرمال. رأفت يفكِّر في إنقاذ أُمِّه المريضة بالسرطان، وميادة تفكِّر في إنقاذ ابنها الذي استأجرت له شقةً، وتصرف عليه وعلى زوجته، دون عِلم أبيه. وكان الحل - بالنسبة إليهما - هو الهروب إلى الطبيعة. سوفَ يعودُ الطفلُ إلى حِضن أُمِّه حياً أو ميتاً، بإرادته أو رغم أنفه. هذه الطبيعةُ هي القبر العظيم الذي لا يَشبع من الأكل. قوةُ الرجال تصبح رمالاً، ونعومةُ النساء تصبح تراباً. لن يَنجوَ أَحد من حَجر الرَّحى الذي لا يتوقف.
كان بإمكان ميادة أن تذهب مع رأفت بسيارتها الخاصة، لكنها اختارت هذه الرحلة الجماعية لأنها أكثر بهجةً وإمتاعاً. فوجودُ الناس يُضفي جواً حميمياً على الرحلة، ويُكسبها بُعداً اجتماعياً مفعماً بالحيوية والعلاقات وتبادل الأحاديث. والسَّفرُ يُقطَع بالكلام. هذه فلسفتها الشخصية في عالَم الرحلات.
كما أن وجود رَجل غريب في سيارتها الخاصة يَجعلها في دائرة الشبهات والشكوك، وتحت أعين الناس التي لا تَرحم. أمَّا هذه الرحلةُ الجماعية فهي خَليط لا يمكن تمييزه، أو كشف العلاقات بين مكوِّناته. رجالٌ مع زوجاتهم. رجالٌ مع صديقاتهم. رجالٌ وحيدون، نساءٌ وحيدات. عالَم مصغَّر من الأحاسيس المتضاربة، والتناقضات الصارخة.
جَلسا جَنْباً إلى جَنْب. ميادة تعشقُ النوافذ، لذا جَلست إلى جانب النافذة. ورَاحت تُجيل بصرَها في المناظر التي تتسارع مثل كرة الثلج. هذا الثلجُ الأصفر رمالٌ لا تنتهي. تحسُّ في أعضائها برودةً غامضة تمتزج مع سخونة لذيذة، وهي لا تَعرف مصدرَ البرودة والسخونة. إنها كتلةُ الأضدادِ اللانهائيةُ.
نَظرت ميادة إلى رأفت، وقالت:
- لقد زُرتُ أمريكا وأوروبا، ورأيتُ البِحارَ والشلالات والغابات، ولكني ما زلتُ أعشقُ الصحراءَ، وأتنفس الرمالَ الصفراء. إن الصحراء منبع الأسرار والغموض، وأنا أعشقُ الغموضَ. الرمالُ سِر لا يمكن اكتشافه، وكلما رَكضنا نحوه هَرب مِنَّا.
كانت أجزاءُ رأفت مبعثَرة. عقلُه مع أُمِّه، وقلبُه مع ميادة. وقد حاول جاهداً أن يُخفيَ التشتت الضارب جذوره في أركانه. ظهر عليه الهدوء رغم الزلازل المتكاثرة في داخله، وقال تعليقاً على كلام ميادة:
- لم أكن أعرف أنك شاعرة.
قالت ميادة وهي في حالة بين الوعي واللاوعي:
- أنا شاعرة عندما أكون معك. أحسُّ أنني متحررة من الجاذبية، وأن الكلمات تَخرج من قلبي دون أن أفكِّر فيها، وتشقُّ عِظامي رغماً عني.
وأردفت قائلةً:
- أرجوكَ يا رأفت لا تتركني.. أنا بحاجة إليكَ. وإذا أردتَ إنهاء علاقتنا فقل لي الآن إنك تكرهني، وأعدك أني سأختفي من عالَمكَ إلى الأبد.
كان لسانُ رأفت معقوداً. لم يَقدر أن يَنطق بأية كلمة. وَصل إلى نقطة اللاعودة. إنه يَسبح في المنطقة العميقة، ولم يَعد يرى الشاطئَ ولا طَوْقَ النجاة. لا توجد قشةٌ يتعلق بها، ولا أثر لخفر السواحل.
وَجد مشقةً بالغة في استحضار حروفه التائهة. قبضَ على لغته بعد طول عَناء،
وقال والتشتتُ ظاهر على أركانه:
- الذي تكون عنده زوجة مثلك ويتركها هو أعمى أو مجنون.. طموحي أن أعصرك وأشربك لكي تهدأ أعصابي، وأرتاح من العذاب.
رَمت ميادة بَصرها في المدى الجارح، وقالت بنبرة واثقة:
- لا تستعجلْ، سوفَ نرتاح مرةً واحدة، وللأبد. عِشنا معاً وسنموت معاً. لن يَكونَ هتلر وإيفا براون أكثر رومانسيةً مِنَّا.
اشتبكت نظراتهما في لحظة نحس خادشة. ثم وَضعت ميادة رأسَها على صدر رأفت. واختفيا في صمتهما. وبقي هناك صوتٌ واحد يَقتحم عالَمهما المنهار، إنه صوت عمرو دياب الطالع من مذياع الحافلة.
قالت ميادة في محاولة منها لتغيير بوصلة الكلام:
- أحب صوتَ عمرو دياب. إنه أشهر مطرب عربي.
قال رأفت مستعرضاً معرفته في عالَم الموسيقى، واطلاعه الواسع على أحوال الغِناء في الشرق والغرب:
- أشهر مطرب عربي هو الشاب خالد، ولكن شهرته عالمية. أمَّا عمرو دياب فشهرته عربية.
وغفا الاثنان في النسيم البارد الذي كان يَنبعث من مُكيِّف الحافلة. وتفجَّرَ الطريقُ إلى قلب الرمال ملتقى الأسرار. الاستراحاتُ الصحراوية تنتشر يمنةً ويَسرة، وسائقو الشاحنات المتعَبون يأخذون قسطاً من الراحة. إنها استراحة المحارِبِين. يوقفون شاحناتهم في رئة الغبار، ويتطلعون إلى المجهول، ذلك الضوء الخافت الذي ينبض كالرصاصِ الحي. يُولَد في جلودهم الحنينُ إلى زوجاتهم وأبنائهم. ولا يمكنهم العودة بأيدٍ فارغة. لا بد أن يُضحِّيَ البعضُ بحياتهم من أجل حياة الآخرين.
كانت الحافلةُ تقتحمُ روحَ الصحراء بكل إصرار. إنها رحلة من عَمَّان إلى وادي رَم بلا توقف. هكذا تهاجرُ الأرواحُ إلى عوالم المطر الرملي، وتضيعُ الطيورُ المهاجرة في شرايين الأفق. إنه زمن الهجرة إلى الجنوب. سَيُهاجِر الشمالُ إلى الجنوب، وترحل الذكورةُ إلى الأنوثة. ستجف البحيراتُ، وتصبح الصحراءُ بحيرةً من ماء العيون. كل هؤلاء العطشى يفرون إلى قلبِ الصحراءِ منبعِ نهر الأحزان العذب. هذا النهرُ السري الذي يَنبع من الغموض الشهي، ويصب في شرايين المسافرين أبداً.
وصلَ الأطفالُ إلى أُمِّهم الطبيعة. إنها الأم الروحية التي تَنظر إلى الجميع - مهما كانت أعمارهم - على أنهم أطفالها. الطبيعة هي الأم التي لا تَفطم أبناءها. إنهم يَرضعون منها منذ ولادتهم حتى وفاتهم. وعندما يموتون تحضنهم بكل حنان، ولا تتضايق من رائحة جُثثهم الكريهة.
نُصبت الخِيام على أصابع الرياح التي تَعبر بين الجبال. نَصب رأفت خيمته بسرعة. فهو يَملك خبرةً في هذا المجال اكتسبها من حياتها الكشفية أثناء فترة مراهقته. أيامٌ ذَهبت إلى غير رجعة، ولا وقت للبكاء عليها أو الحنين إليها. حاولت ميادة أن تَنصب خيمتها ولكنها أخفقت في ذلك، فهي لم تتعود على مباشرة الأعمال بيدها. إنها تلقي الأوامر على الخدم الذين يقومون بكل المهام بسرعة ودون نقاش. لاحظَ رأفت حَيرتها وعَجْزها، فأمسكَ خيمتها الواقعة على الأرض، وقام بنصبها إلى جانب خيمته.
وفي الليلِ السحيق، حيث تتقاتلُ عقاربُ الساعة مع عقارب الصحراء، كان الرجالُ والنساءُ يتجمعون حول نار المخيَّم. الرقصُ والغِناء لا يتوقفان. اندمج الجميعُ مع البدو والسُّياح الذين جاؤوا من أصقاع الأرض ليكتشفوا سِرَّ الصحراء، وبكارةِ الرمال الطاهرة. إنها حفلة صاخبة في الهواء الطلْق. يتبادلُ البدو النكاتِ مع السُّياح، ويَعلو الضحكُ. والسائحاتُ يَرقصنَ برشاقة المذبوحات تحت ظلال الطيور الغريبة. تهرول الفراشاتُ نحو النار، نحو حتفها المضيء.
لم ينسجم رأفت وميادة مع هذه الأجواء الصاخبة. فقرَّرا الابتعاد عن المكان، واكتشاف جوارحهما في الهواء المتوهج تحت ضوء القمر. أخبرهما مشرفُ الرحلة بضرورة عدم الابتعاد عن المخيَّم حفاظاً على حياتهما، وأن عليهما العودة قبل الواحدة ليلاً.
مضيا إلى موتهما العميق الذي كانا يَعتبرانه ولادةً جديدة. أصابعهما متشابكة، وأقدامهما حافية. خَرج الإنسانُ من بطن أمه حافياً، وسيعود إلى قبره حافياً. هذه الطبيعةُ نقطة الأصل. تذكَّر رأفت ما كان يقوله معلِّم الرياضيات أيام المدرسة حول نقطة الأصل في المستوى البياني، وهي (0، 0). لا أعرف كيف هَجم عليه الماضي بهذه الشراسة. كان يَربط بين الرياضيات والصحراء. الرياضياتُ هي أُم العلوم الطبيعية، والصحراءُ هي أُم الطبيعة. الصحراء هي نقطة الصفر، إنها بداية هذا الوجود المخيف. العالَمُ شديد الخطورة. الحضارةُ طفلةٌ ناعمة في أحضان رَجل شهواني قاسٍ. والتاريخُ طفلٌ بريء وَقع في أحضان امرأة متوحشة.
جلسا على صخرة، وراحا يُحدِّقان في نجوم السماء. عقاربُ الساعة ماتت بالسُّم، وضوءُ القمر ورث المكانَ، وبسطَ نفوذه على الرمال الثلجية، والأجسادِ البشرية المتفحمة.
نَظر في عينيها، وقال:
- عندما تبتسمين تبتسم لي الدنيا.. ليتَ هذه الابتسامة تدوم.
أطلقت ميادة نظراتها باتجاه الأفق البعيد الغامض، وقالت:
- لا يوجد شيء يَدوم. كل قصص الحب ستختفي في قبورنا. كل أسرار البشر سوف تُدفَن معهم.
- لماذا تتحدثين عن الموت والنهاية ؟.
- لا معنى للحب بدون الموت. الموتُ هو الذي يُكمِل الدائرةَ، ويَجعل الحبَّ خالداً. لو تزوَّج دودي الفايد الأميرةَ ديانا لصارت حياتهما استهلاكية ومملة، ولكن موتهما الغامض جعلَ قصة حبهما أسطورةً أبدية.
تفاجأ رأفت بهذا الكلام، وقال بصوت مرتعش:
- بصراحة، أنا بدأتُ أخاف منك يا ميادة.
- أنا لبؤة مكسورة، لن أَقدر على افتراسك. ولو حاولتَ اغتصابي فلن أُقاوِم.
هبَّ رأفت واقفاً، والذعرُ يأكل ملامحه الذابلة. استولى الغضبُ على جوانحه.
اعتقدت ميادة أن شيئاً ما قد لَدغه. أرادت الاستفسار عن حاله. لكن رأفت قال بصوت صلب قَطع حبلَ أفكارها:
- لا أريدك أن تستخدمي هذه الكلمة.
أدركت ميادة أن كلمة " اغتصاب " قد ضايقته، فقالت محاولةً تنقية الأجواء المشحونة:
- كنتُ أمزح معك يا سي السَّيد.
جلس رأفت على الصخرة، وقال بحدة:
- لا تمزحي في هذه المواضيع يا ميادة.
وعَمَّ الصمتُ المتفجر في الأرجاء. بينهما آلاف السنين الضوئية. ضوءُ القمر يَزرع الألغام في ضفائرها، ويَنْزع رموشَها جسراً جسراً.
قالت ميادة والكلام يَصعد من جَوْفها خناجرَ مصقولةً تتحرش بحبالها الصوتية:
- لم أكن أعرف أنك تخاف عليَّ لهذه الدرجة.
أخذ رأفت نَفَساً عميقاً، وقال بصوت مهزوز:
- أنا أخافُ عليكِ مِن كل شيء، وأحسد زوجكِ لأنه يمتلك كلَّ هذا الجَمال، وأُشفق عليه لأنه لا يرى هذا الجَمال. أغار عليكِ من كل شيء. أغارُ عليكِ من زَوْجكِ. عندما أتخيل أنكِ تنامين معه أُصاب بالغثيان.
ضَحكتْ ميادة بشكل هستيري. ضِحكتها حارقة ومنقوعة في كأس الدموع، انطلقتْ من أعماقها لتشق هذا الفضاءَ الواسع، وقالت:
- لا تقلق. لم أعد أسمح لزوجي بالاقتراب مني. أنا أنام في غرفة، وهو ينام في غرفة أخرى.
وشَهقت شهقةً كادت تقتلع قلبَها، ثم قالت بنبرة حزينة فيها رذاذ النهاية:
- سوفَ تَعرف يوماً ما أني أقربُ إليكَ مما تتصور، وأستطيع الوصولَ إليكَ متى شئتُ.
كان المطرُ الحمضي يَهطل بغزارة في أعماقهما. الليلُ يَرمي عروقَه في هذين الوجهَيْن الواضحَيْن كالسراب. يَغرقان في بحر الرمال المتحركة، ولا يريدان النظرَ إلى شاطئ الخلاص.
أراد رأفت أن يَطلب منها مالاً لعلاج أُمِّه. لكن الكلمات المناسبة لم تجد طريقَها إلى لسانه. حاول جاهداً إخراج الكلام لكي يرتاح، لكن محاولاته العديدة ذَابت في الرمال.
نَظر إلى خاتمها الوهاج. كانت الأضواءُ تتقاطع على جسد الخاتم مثلما تتقاطع الذكرياتُ على سطح بحيرة هادئة. جالت خاطرة سريعة في ذهنه: ((لا بد أن ثمن الخاتم يُغطِّي نفقاتِ علاج أُمِّي)). فكَّر في تلك اللحظة الرهيبة لو يَسرق الخاتم ويَهرب. ولكن أين يَهرب في هذا الفضاء المرعِب ؟. أفكار غريبة تتصارع في رأسه المتفجر.
كان رأفت يَنظر إلى الخاتم مثلما يَنظر العطشان إلى كوب الماء. إنه يَرى صورة أُمِّه تتشظى في خاتمها. لاحظت ميادة تركُّز نظر رأفت على الخاتم. فقامت بحركة غير متوقَّعة. نَزعت الخاتم من أصبعها، وقَدَّمته لرأفت قائلةً:
- هذا هدية لك لكي تتذكرني دائماً.. ضَعه إلى جانب سريرك عندما تنام لكي يؤنسك، ويُبعِد عنك الأرقَ.
ارتبك رأفت بشكل رهيب، وتفاجأ بهذا الكلام، وانطفأ العالَمُ المتناحر في جَوْفه، وقال:
- مستحيل !. لا بد أنه خاتم عزيز عليك، وثمنه مرتفع.
ابتسمت ميادة مثل ابتسامة إحدى النبيلات في القرون الوسطى، وقالت:
- لن يكون أعز منك. وإذا كان الخاتمُ مرتفع الثمن، فعلاقتنا لا تُقَدَّر بثمن.
مَدَّ رأفت يدَه المرتعشة ليأخذ الخاتم، لكن ميادة سَحبت يَدَها قابضةً على الخاتم. تفاجأ رأفت بهذه الحركة. هل غَيَّرت رأيَها بهذه السرعة ؟!. لقد وَصلت اللقمةُ إلى الفم. هل ستموتُ أُمُّه بهذه السهولة لأنها لا تملك ثمنَ العلاج ؟!.
قالت ميادة وهي تمط كلامَها مَطَّاً:
- أريد هديةً منكَ للذِّكرى مقابل الخاتم.
لا يملك رأفت أموالاً ولا مجوهرات. والهديةُ الوحيدة التي قَدَّمها لمخلوق في حياته هي معطف مُسْتَعْمَل اشتراه من سوق الطلياني في وسط البلد. وقد قَدَّمه لوالدته في فصل الشتاء الماضي. تذكَّر قولَ المتنبي:
لا خَيْلَ عِندكَ تُهديها ولا مَـالُ فليُسْعِد النُّطقُ إن لم تُسعِد الحالُ
وفكَّر أن يقف في قلب الصحراء ليلقيَ خطبةً عصماء أمام الجبال وتحت النجوم. أو يَكتب قصيدة رومانسية لميادة في هذا المدى المفتوح لأصوات الحشرات، وقرقعةِ الرمال. أفكارٌ مضحكة هاجمته بشكل مباغِت. ولكن صاحب الحاجة أرعن، يَغرق في ماء عيونه الحزينة.
لَمحت ميادة التغيراتِ العنيفة في وجه رأفت. ولاحظت حجمَ التشتت الذي يَغرق فيه. أرادت أن تنتشله من أفكاره المتضاربة، فقالت بدمٍ بارد:
- قَبِّلْني للذِّكرى.. هديةٌ مقابل هدية. هكذا نكون متعادلَيْن.
(27)
الأفقُ الدموي يَخلع وشاحَه. لكل بداية نهاية. هكذا تنتهي التفاصيلُ في زحمة حبَّات الرمل. وتنتهي الرحلةُ السياحية كما تنتهي رحلةُ العمر. كلُّ إنسان يَعرف نهايته قبل نقطة البداية، لكن الغرور يَجعل الإنسانَ أعمى لا يرى لافتات التحذير في طريقه. يدور الناسُ كحجر الرَّحى، وتصبحُ البدايةُ هي النهاية، والنهايةُ هي البداية.
وصل رأفت إلى جبل النظيف. في جَيْبه كنز ثمين يتحسسه باستمرار، إنه خاتم ميادة. سوفَ يبيعه غداً في سوق الذهب. سيبيع الذكرياتِ والأحلامَ من أجل علاج أُمِّه. تمنى في قرارة نَفْسه لو يُغطِّي سِعْرُ الخاتم تكاليفَ العملية الجراحية لكي يرتاح من وخز الضمير. هكذا يصبح العشقُ مصدراً للدَّخل القومي، وضماناً صحياً للفقراء الذين لا يَقدرون على الدَّفْع.
رَكض نحو غرفته لكي يَكتب خواطره على أوراق الخريف المنبعث من أعضائه المرتجفة. إنه يَحبس الأفكارَ في صدره، ولا يريد أن تهرب منه. أحس أنه كالأفعى المتحركة نحو جُحرها، وأنه يُبدِّل جِلْدَه مِثلها. شَعر أنه غير قادر على الوقوف. خشي أن يقضيَ حياته زاحفاً مثل الأفعى. لكنه قرَّر بكل إصرار ألا يَصبح من الزواحف مهما كان الثمن.
وضع الخاتمَ على سطح المكتب. أخرج أوراقَ حياته من الدُّرج، وراح يَكتب:
[ حياتنا أكذوبة كبرى، نَخدع أنفسَنا ونُصدِّق الوهمَ الجارف. أعمارُنا كِذبة نيسان سواءٌ وُلدنا في الصيف أم الشتاء. حُبٌّ بين الرجال الآليين والدُّمى في مسرح العرائس. وإذا كانت السياسةُ فنَّ الممكِن، فإن العشقَ فنُّ المقايَضة. قُبلةٌ ثمنها خاتم. قَبَّلْتُها ولم يَجرحني المكياجُ المعطَّر بدموع الصحراء. يُباع وجهي في المزاد العلني، وتباع حياتي في سوق النِّخاسة.
حزينٌ هذا المهرِّج الذي يُضحِك الناسَ. وحُزني متعدد الجنسيات. لا أخاف على مستقبلي لأني بلا مستقبل. أنا مُشَوَّشٌ، ولا أدري مَن أنا. أصبح العشقُ وسيلةً لكسر الروتين، وإنهاءِ الملل، والهروبِ من الواقع المر. يَعشقون لكي يتخلصوا من الاكتئاب، فيصبح العشقُ هو الاكتئابَ. وسوفَ يتخلصون منه إلى الأبد عندما تحين ساعةُ الرحيل.
كلماتي تَخرج عن سيطرتي. وأبجديتي مزيجٌ من التناقضات والأضداد. أنا ضِد نَفْسي، ما أُثبته أَنقضه، وما أَنقضه أُثبته. أنا كالتي نَقضت غَزلها مِن بعد قوةٍ أنكاثاً . إِنْ تزوجتُ أضمن أن يكون جسدي مع زوجتي، لكني لا أضمن أن يكون قلبي معها. المرأة التي أعشقها بجنون لا أحب أن أتزوجها لأني أرى فيها صورة أُمِّي، فلا أَقْدر على ممارسة الجنس معها. لا أشعر بالحب لا أشعر بالكراهية. فقدتُ إحساسي بالأشياء فقدتُ الشغفَ بالحياة. حَوَّلتُ المرأة إلى طيف أستمتع بالركض وراءه وعدم القدرة على إمساكه. عذابُ الحب أجمل من الحب. النساء في حياتي لسنَ من لحم ودم، وإنما مِن ذكريات.
الشتاءُ يُهيِّج الذكرياتِ يُعيد بركانَ الدموع الخامد إلى الثورة. فإذا كنتِ لا تريدين القتالَ مِن أجلكِ، فأرجوكِ قاتِلي من أجل الأشخاص الذين يحبونكِ. أطردُ قلبي من صدري ولا أطردكِ من حياتي. صعبٌ على الراقصات أن يفهمنَ مشاعر شريفاتِ قُرَيْش. أنا رومانسي حالم لذلك لا أصلح للزواج.
الحياةُ خليط من السُّم والترياق، مزيجٌ من رمال الصحراء ورمالِ البحر. لو كنا جائعين فلن تنفعنا الأزهارُ في إشباعنا. ولو كنا خائنين، فلن نتعلم الإخلاص من بائعات الهوى. ولو كان الزوج بحاجة إلى ممارسة الجنس مع زوجته، فلن تنفعه الرومانسية في تفريغ الغريزة الجسدية.
هذا الخاتِمُ البراق يَحرق خشبَ مكتبي، يستفزني ويُلغيني. وأنا لستُ قادراً على وضع خاتم الخطوبة في أصبع امرأة. كأني أُنظِّم حفلةَ رقص للعُراة، وأرصد رَيْعها لمساعدة المحتاجين. كلُّ الرجالِ يَغارون مني لأن المقصلةَ عشقتني أنا ولم تعشقهم. وسوفَ يصبحُ أقصرُ دربٍ إلى قلب المرأةِ مِقصلةَ شاعرِها. ولو كان لي أن أختار موقع قبري فسأختار أجفانَ الشفق. تلكَ المقصلة أول بنتٍ فكرتُ بخطبتها. نقضي حياتَنا محاولين التعرف على حقيقتنا، ولكن الموتَ يدهمنا ونحن في بحثنا. ثم يأتي آخرون ليتعرفوا علينا، ولكن الموتَ يدهمهم وَهُمْ في الطور البدائي لمعرفتنا. ومهما حَدَّقْنا في المرايا فلن نعرف حقيقة ذواتنا، نحن الكائنات السرية. وأسرارُنا سَتَموت معنا. نَفْسي تُحاصرني، ومَنْ حولي يُحاصرونني. أبنائي الذين لم يأتوا هُم أيضاً يُحاصرونني. بطنُ أمي سجني، والدنيا سجني. أرقبُ لحظةَ الانعتاقِ والخلاصِ. صار جسدي مثل مكتبة عامة يرتادها اللصوص، الكلُّ قد استعاروا أعضائي ولم يقوموا بإرجاعها. لا أميلُ إلى تكوين أُسرة، ولا أشعر أن الأبوة ستغيِّر حياتي للأحسن. سأصنع طريقاً يسير فيه جُرحي الأخير نحو الشمس الأخيرة. وأولئك الأبناء يقضون حياتهم في تصحيح أخطاء آبائهم.
كَم مرةً قَتَلْنا ذواتنا من أجل الواجهة الاجتماعية ؟. وما ذَنْبي أن الفراشة أحبَّت الضياءَ القاتل ؟. أبكي وأمشي نحو ممالك السعال في الشتاء الحزين. وكلما عَرَفْتُ نَفْسي أكثر ازداد احتقاري لها. وحتى جاك دريدا لا يَقدر على تفكيك عُقدي النفسية. زوجتي الافتراضية لا تستطيع أن تواكب مسيرة دمي الذي يسير بسرعة الضوء نحو المجزرة. رومانسيون لكنهم لا يَملكون ثمن الشموع في العَشاء الأخير. أشعر أن نهايتي قد اقتربت. نداء غامض قديم يحاصرني ولا أَقْدر على قتاله. يُهاجمني من كل الجهات. يُفرِّغني من كل شيء، فأنهار كالعمارة المفرغة من الهواء. كلُّ شيء سَيُهْدَم. ولا أحدٌ يُطالب الشمسَ بإثبات ملكية نورها.
صرتُ كالراقصة التي تُنفقُ أموالَها على شراء الحليب الصناعي لصغيرها حيث إن وقتَها الثمين لا يسمح لها بإرضاعه !، أو أنها تريد الحفاظ على حجم ثدييها أمام الجمهور المثقَّف.
نحن كلاب بوليسية مدرَّبة تنتظر الأوامرَ، ثم تبحث عن قطعة لحم يَرْميها المدرِّب هنا أو هناك. إنَّنا فِعلاً أوغاد، ولكننا نُخفي الحقيقة، إلا أنها ستظهر يوماً ما. أوغاد يَعْلمون أنهم أوغاد ومع هذا يستمرون في حياتهم على نفس الخط.
الحزنُ يُولَد في أظافر البشر. مدنُ الأسرار تَشتعل كالزمرد المغشوش. الأنقاضُ أرشيف الحمَام. والحطامُ تاريخُ الحشرات. ترقيعُ تاريخِ الوهم مثل ترقيع غِشاء البكارة. أشباهُ رجال وأشباه نساء. نعيش في عالَم الأشباه والنُّسخ المقلَّدة. انتحرت الرومانسيةُ. وَقعت الحضارةُ في الرمال، وسَقط المكياجُ في أنابيب الصرف الصحي.
لَيْتني أخرج من معركة العشق متعادلاً، لا لي ولا عليَّ. ولكني خسرتُ ما لا يقدَّر بثمن. لقد جاء الوحشُ الذي كُنَّا نَسمع عنه. إنه الحبُّ القاتل.
ما رأيتُ امرأةً جميلة إلا حزنتُ في قرارة نَفْسي لأن جسدها الطريَّ سَيَذْهبُ إلى الدود في التراب الهادر. نسحق الترابَ بأقدامنا، ونمشي عليه ضاحكين وهو الذي سيعلونا يوماً ما، ويفرض علينا شروطَه. ومَن يضحك أخيراً يضحك كثيراً.
وما رأيتُ امرأةً تُزَفُّ إلى زوجها إلا حَزنتُ لأني أعلمُ أنها سَتُصبح خادمةً مسحوقة، تستجدي شهوتها الجنسية، وتَذهب إلى النسيان في إحدى زوايا المطبخ.
ما هو الحبُّ ؟. أنا لم أشعر به. هل القتلى المنسيون في المجازر شَعروا بالحب ؟. هل الفتيات المغتصَبات عَرَفْنَ الحبَّ ؟. هل الطغاة الذين يقتلون شعوبهم عَرَفوا الحبَّ ؟. أنا مريضٌ نَفْسي، وسوف أُشفَى عندما أموت. ].
(28)
نجح بسام في تصميم آلةٍ ميكانيكية لفصل النفايات، وتجميع كل نوع لوحده. لقد اعتزل في القبو (مختبره العلمي البدائي) لفترة طويلة ثم أخرج تحفته من تحت الأرض إلى نور الشمس. عَرض هذه الآلةَ على صاحب مكب النفايات (حارس المقبرة سابقاً)، فأُعجِب بها كثيراً، وقرَّر شراءها فوراً. فلا بد من إدخال التقنيات الحديثة في مكب النفايات الذي اتَّسع بصورة مذهلة، وصار علامة تجارية، وإمبراطورية مالية حقيقية تدر أرباحاً هائلة، وتفتح بيوتاً كثيرة، وتحضن الكثيرين من أولاد الشوارع، والفقراءِ، والمشرَّدين.
وبقيت قضيةُ حماية العاملين من الأمراض والجراثيم هي الشغل الشاغل لبسام. قرَّر أن يُوزِّع عليهم قفازات وملابس خاصة للحفاظ على صحتهم. وهذه الأشياء حَصل عليها من إحدى الجمعيات الخيرية. فقد رَفض مالكُ إمبراطورية القُمامة أن يُقدِّم للعاملين أية أدوات وقاية، أو ملابس لحمايتهم. وقد قال لبسام إن البشر مثل الهم على القلب. وإذا مات عشرة أو عشرون فلا مشكلة. لدينا عمالٌ كُثر، والذي يموت ترتاح البلادُ من قرفه. هذا هو منطقه الرسمي، وفلسفته الواضحة التي يُجاهر بها ولا يُخفيها.
شَعر بسام بسعادة بالغة. إنه طَعمُ التحدي والإنجاز. شَعر بأهميته في هذه الحياة، وأن وجوده في مجتمعه ليس وجوداً عابراً بلا طَعم ولا رائحة. سوفَ يترك بصمةً في تاريخ المجتمعِ أو الحضارةِ. لن تكون مثل بصمة نيوتن وآينشتاين. ولكن - على الأقل - سَتَكُون بصمة تعكس شخصيته وحجمه. وربما يصبح عالِماً كبيراً. مَن يدري ؟!. لا أحد يُولَد من بطن أُمِّه كبيراً. الجميعُ يبدأون من الصفر ثم يُصبحون عمالقة. لكن المشكلة الحقيقية أنه يعيش في عُزلة تامة. يُغرِّد خارج السِّرب. من سيأخذ بيده في جبل النظيف ؟!. لا أحد في هذه البُقعة المنسية يهتم بالعِلم والعلماء. إن اللهاث وراء رغيف الخبز هو النظرية العلمية الوحيدة المعترف بها في هذا المكان.
وفي اليوم التالي أخبرَ بسام مُعَلِّمَ العلوم في مدرسته عن الآلة التي اخترعها. لم يُصدِّق المعلمُ كلامَ بسام رغم معرفته بعبقريته. فاختراعُ آلة عملية صعبة للغاية. واعتقد أن هذا الطفلَ يُبالغ، أو يعيش في أحلام اليقظة، أو ربما يكون قد شاهد برنامجاً تلفزيونياً عن العلماء والمخترِعين، فاعتقد أنه واحد منهم. كل هذه الخواطر جالت في ذهن المعلِّم. وأخيراً قرَّر أن يتحقق من كلام تلميذه، ويستفسر منه حول تفاصيل هذا الأمر.
ذَهب الاثنان إلى مكب النفايات لرؤية الآلة. نظرَ إليها المعلِّم، واقترب منها. تفحَّص أجزاءها، وراقب آليةَ عملها. وأُعجِب بها أيَّما إعجاب. وكان إعجابه بتلميذه أكبر. صحيحٌ أن الآلة بسيطة وبدائية، ولكنها تمثِّل خطوةً جبارة في تاريخ جبل النظيف العائش خارج التاريخ. وظهورُ مخترع في هذا الجبل المسجون في رغيف الخبز حَدَثٌ تاريخي بامتياز.
فكَّر المعلِّمُ لو يَسرق الآلةَ، ويَحصل على براءة اختراع باسمه. سوفَ يَكسب الشهرةَ والمالَ. كانت هذه الفكرةُ الجهنمية تسيطر على أعضائه بالكامل. إنها فرصة كبرى جاءته على طبق من ذَهب. وهذا الطفلُ بسام لا يَستطيع أن يُثبِت حقَّه، ولن يُصدِّقه أحد بسبب صغر سنِّه. لم تكن هذه خاطرة عابرة، بل كانت فكرة خشنة جَرحت أحشاءه، وأحالت ملامحه إلى مزهريات باهتة.
فرصةٌ ذهبية أتت إليه مُقَشَّرةً، وسوفَ تنقله من هذا المكان البائس إلى العالمية. جبلُ النظيف بُقعة ضائعة، سَقطت من فم الزمان، ولا يمكن إيجادها على الخارطة، ولن تستطيع الدفاعَ عن أبنائها أو نقلهم إلى حضارة العالَم. ولن يقومَ أحد بتصديق تلميذ صغير وتكذيبِ أستاذه. إنها سرقةٌ مضمونة. دخلَ في صراع رهيب. أمعاؤه مرايا سوداء. وعروقُه دوامةٌ من التناقضات الحارقة. لقد كان طيلة حياته مثالاً للشرف والأخلاق. غرسَ في تلاميذه حب العِلم والعلماء. لكنه - في هذه اللحظات الصادمة - يَشعر بأحاسيس غريبة متضاربة، وأنه دَخيل على نَفْسه.
طيلة الليل لم يَقدر المعلِّم على النوم. يتقلب في الفِراش كالذي يَنتظر مَلَكَ الموت. كان عليه أن يَحسم أمرَه قبل الصباح. هل سَيَكون شريفاً مخلِصاً للعِلم والعلماء أم سيُصبِح لصاً يَسطو على أفكار الآخرين ؟. الكلامُ سهلٌ لكن العِبرة بالأفعال. النظرياتُ سهلة، لكن التطبيق هو الصعب.
جاء الصباحُ المرتعش حاملاً معه غاباتِ الذاكرة. حَسم أمرَه بشكل نهائي، ولا يمكن التراجع. لقد قرَّر أن يأخذ بيد تلميذه نحو المجد. الإخلاصُ للعِلم هو الشرف الحقيقي. " لن أكون وغداً ". هذا ما قرَّره المعلِّم في نَفْسه بعد صراع رهيب، ومفاوضات ماراثونية مع ضميره. والحمدُ لله أن ضميره كان حياً.
وبعد يومين ذهب المعلِّم وتلميذه لزيارة الدكتور عبد اللطيف الشواري، وهو أحد أبرز العلماء في البلاد، ويرأس قسمَ الفيزياء في إحدى الجامعات. أرادا إطلاعه على اختراع بسام، وإمكانية الحصول على براءة اختراع، وترويج هذا الاختراع في أنحاء العالَم. ومعروفٌ عن هذا الدكتور أنه يستقبل ضيوفَه بدون مواعيد مسبقة. وضيوفُه ليس أشخاصاً عاديين. فلا أحد يَزوره غير العلماء والباحثين. وكل الحوارات تَدور حول مواضيع علمية وفكرية. لذا فإن الأشخاص الذين يأتون إليه يكونون من نوعية مميَّزة. ومكتبُه أشبه بمؤتمر علمي أو صالون أدبي. حيث تَدور فيه النقاشاتُ، ويتعرف العلماءُ على بعضهم البعض، ويَستعرضون آخر ما وَصل إليه العِلم.
والدكتور عبد اللطيف دَرَسَ في أمريكا وبريطانيا وألمانيا. كما دَرَّسَ في عدة جامعات أمريكية. وفازَ بعدة جوائز محلية وعالمية. ولديه العديد من الأبحاث العلمية المنشورة في المجلات المحكمة. وآخر أبحاثه المنشورة أَحدث ضجةً هائلة في الغرب، وساهم في تلميع اسمه في الوسط العلمي العالمي، ولفتِ الانتباه إليه، وتسليطِ الأضواء عليه. حيث تحدث عن الأخطاء العلمية التي وَقع فيها آينشتاين، وقدَّم نقداً متماسكاً للنظرية النسبية، الخاصة والعامة.
وبالطبع، إن بسام لم يسمع بهذا العالِم، لأنه منقطع تماماً عن الوسط العِلمي، وليس لديه اتصالات مع العلماء والباحثين. فحياتُه محصورة، من القبو إلى المقبرة، ومن المقبرة إلى القبو. ففي القبو يَضع لمساته الفيزيائية، وفي المقبرة يَبني عالَم الرياضيات. ومن النادر أن يَخرج من جبل النظيف. وهو مستمتع بهذه العُزلة. وصار مدمناً عليها بصورة عنيفة.
(29)
عالَمُها ينهار بصورة درامية. أحلامُها قصرٌ رملي هَدَمه الموجُ بكل وحشية. قَدَّمت كلَّ ما طُلب منها. ماذا تَفعل أكثر من هذا ؟. سارت في طريق الضباب لكي ترى الضوءَ، فماتَ الضبابُ والضوءُ معاً. هذه المرأةُ الوحيدة في دنيا الآلام. إنها هند زوجة قيس. لقد انقلبت حياتها رأساً على عقب. الثواني سكاكين، والدقائقُ رَصاصٌ مطاطي، والساعاتُ رصاصٌ حَي. التزمت بكلام بهلول دون زيادة أو نقصان. وكانت النتيجةُ مزيداً من الحرقة والانهيار والضياع. وما زاد الطين بلة وقوعها تحت سيف الابتزاز. لم يكتفِ بهلول بالمال الذي أخذه. طَلب منها مبلغ ألف دينار، وإلا فإنه سوفَ يُطلع زوجها على الأمر، ويُريه التفاصيلَ بالصوت والصورة. ولكي تأخذ هند تهديدَه على محمل الجِد قام بإعطائها شريط فيديو فيه كل تفاصيل الحديث، وأخبرها بأن النسخة الأصلية في حَوْزته. أدركت هند في تلك اللحظة الرهيبة أن بهلول قام بتصوير كل شيء بواسطة كاميرا خفية من أجل ابتزازها وإخضاعها. لقد وَقعت الفأسُ بالرأسِ.
خَرجت من عنده، والصداعُ يَفترس أشلاءها المبعثَرة في بحيرة دموعها. ألقت جثمانَها في نهر دمائها. الرياحُ الخشنة تكشط جِلدها الكُحلي، وخطواتُها تكشط جِلد الأزقة الذابلة. شعرت بحجم المأزق الذي تغرق فيه دون وجود أي أثر لطوق النجاة. إنها محشورة في الزاوية. ظَهرها للحائط، وتطلق الرصاصَ على قَدَمَيْها. كان الرصاصُ هو الحزنَ الدامي. خافت أن تخرِّب بيتَها بيدها. وإذا انهار زواجُها سَتَحْدث فضيحة كبرى في جبل النظيف، بلا بداية ولا نهاية. ماذا ستقول لأسرتها والناسِ ؟. سَيَقْتلها والدُها بدمٍ بارد، ويَذهب إلى السجن، وربما تصبح جريمة شرف. لم تَحدث حالة طلاق واحدة في عائلة المخلوسي منذ أن سَكنوا جبل النظيف بعد طردهم من فلسطين. ستكون سابقة خطيرة. وسوفَ يتشاءم الناسُ بهذه العائلة إلى الأبد.
ولو كانت تملك المالَ لَدَفَعَتْه فوراً، وارتاحت من هذا العذاب الرهيب. ألف دينار مبلغ كبير. فكَّرت أن تبيع ذَهبها، ولكن زوجها سيكتشف الأمرَ، وتصبح مشكلة كبرى.
((أُمي وَرَّطتني وعليها أن تجد لي حَلاً)). هكذا قالت في نَفْسها. أسرعت إلى أمها كالطفلة الخائفة. شَرحت لها الموضوعَ بالتفصيل. ظهرَ الغضبُ الشديد على وجه الأم، وقالت والدم يَغلي في عروقها:
- ابن الكلب !، سوفَ أذهب وأقتله لكي أُريح جبل النظيف منه.
وركضت الأم باتجاه المطبخ كأنها عدَّاءة في الألعاب الأولمبية تَطمح إلى كسر الأرقام القياسية. كان الحزنُ هو الرقم القياسي. والألمُ اللانهائي هو الرقم الصعب. أحضرت سكيناً. وأرادت الخروج من البيت. لحقتها ابنتها، وأمسكت بيدها، وأخذت منها السكين، وقالت لها بلهجة مُشفِقة:
- لا تُضيِّعي نَفْسك.. هذا الكلبُ لا يستحق أن تُدمِّري حياتك من أجله.
وقفت الأمُّ كالبلهاء. كرياتُ الدمِ تقفز في عينيها. هاتان العَيْنان حاويتان من الرصاص منسيتان في مرفأ مهجور. أطرافها ترتعش بصورة مرعبة. بدت في تلك اللحظات الشرسة كلبؤة تَشعر بخطرٍ حقيقي يتهدد أشبالها، ويجب أن تدافع عنهم حتى الرمق الأخير.
قالت الأم وصوتُها يهتز مثل حبل غسيل تلعب به الرياح، والدموع تتساقط من عيونها على البلاط:
- أنا سببُ هذه المشكلة، وسأُضحِّي بحياتي لإنقاذ حياتك.
كانت هند تهرول في كرياتِ دمها. جرحُها يَشربُ ضفائرَها حتى الثمالة. مَسَحت دموعَ أمها، وقالت:
- اسمعي يا أمي، سأُخبِر قيس بالموضوع من الألف إلى الياء. قيس رَجل متفهم، وسوفَ يستوعب الموضوعَ، ويعالجه بدون فضائح.
نَظرت الأم إلى ابنتها بعينين ذابلتين، وقالت:
- أخافُ أن ينتشر الموضوعُ، وتصبح فضيحة عائلتنا على كل لسان.
رَبتت هند على كتف أُمها لكي تبعث في نَفْسها السَّكينة والاطمئنان. وافترقت المرأتان في أرشيف الضباب.
بعد الغروب بقليل، جلست هند مع زوجها. وقد قرَّرت أن تخبره بالأمر كاملاً، دون زيادة أو نقصان. وَصلت إلى نقطة اللاعودة. إنها اللحظة المصيرية الفاصلة بين تاريخَيْن: تاريخ ما قبل الأحزان، وتاريخ ما بعد الأحزان. أحسَّت بصخرة عظيمة تجثم على قلبها، وتعيق وصول الأكسجين إلى رئتيها.
قالت بنبرة كسيرة تعج بشظايا الحزن:
- قيس، أريد أن أخبرك بشيء، وأرجو أن تسامحني، ولا تغضب عليَّ.
ابتسم قيس، وقال بهدوء واضح:
- يبدو أنكِ أخذتِ مني مالاً دون معرفتي.. على أية حال، أنا أسامحك ولا داعي للاعتذار.
زاد هذا الكلامُ من ارتباكها وقلقها. لقد شَكَّلت كلماته ضغطاً هائلاً عليها. أحسَّت بأنها تَحمل جبالاً على كتفيها. إنها تجرُّ الحروفَ من قعرَ حنجرتها جرَّاً عنيفاً. أَخذت نَفَساً عميقاً، وقالت:
- الأمرُ أكبر من المال.. إنها كارثة وَقعت على رأسي.
وراحت تَسرد القصةَ بكل أحداثها، وقيس تحت الصدمة، وشبه غائب عن الوعي. إنه في منطقة وُسطى بين الحياة والموت. تمنى لو كان هذا الأمر كابوساً ليستيقظ منه ويرتاح. ولكنه أمرٌ واقع. إنه لا يُصدِّق ما يَسمع. انتهت صلاحيةُ حواسه، وتناثرت أعضاؤه في أرشيف الحريق.
(30)
الحياةُ مستمرة، والأحلامُ تَضيع تدريجياً. يَسيلُ العمرُ بين أصابع الناس وهُم يَضحكون. تتسربُ أزهارُ الموت من شقوق الزمن المحفور على الأجساد المسحوقة.
هؤلاء الأطفالُ الذين يَلعبون الكرة أمام مدرسة عاتكة بنت زيد لا يَعرفون شيئاً خارج جبل النظيف. عالَمهم الوحيد هو هذا الجبل، ولا يَنظرون إلى ما وراءه. يَركضون وراء الكرة التي صنعوها من الجوارب البالية. يتبادلون الشتائمَ، ويَطيرون من السعادة. لا يُفكِّرون في حركة التاريخ الذي سيمرُّ على جلودهم الطرية، ويَسْحق عظامَهم الليِّنة. لا يُشغلون بالَهم بحركة التاريخ التي ستُحطِّم عقاربَ الساعة بكل وحشية. لا الزمانُ يَرحم المكانَ، ولا المكانُ يَرحم الزمانَ. كلُّ شيء ذاهبٌ إلى نهايته الحاسمة. وعربةُ الزمن تجرها خيولُ الوهم باتجاه الهاوية السحيقة.
أوقَفوا المباراةَ وهُم في ذروة الاشتعال. إنه أمرٌ غريب. لا يمكن للكرة أن تصمت إلا إذا حَدث أمرٌ خطير. اقتحمت سيارةٌ فارهة صَخبهم الهستيري، ووقفت في أرض الملعب، أقصد الشارع المهترئ الذي سيطر عليه الأطفالُ واتخذوه ملعباً.
خافَ الأطفالُ أن يَطلبوا من السائق إبعادَ السيارة. فالزجاجُ الأسود بَعث فيهم الرهبة والقلق. وكل من يشاهد هذه السيارة الفخمة يُدرك أن صاحبها من الأثرياء. وبالتأكيد، لن يكون من سكان جبل النظيف.
وقف الأطفالُ في فوهة الانتظار مثل أشخاص يَنتظرون رصاصَ القناصة، ولا يَعرفون الجهةَ التي سيأتي منها. إنه الانتظار المر. الأيدي الصغيرةُ على القلوب الخائفة. ولحظةُ الحسم تقترب شيئاً فشيئاً. كلُّ طفلٍ رَاح يَبلع ريقَه كأنه يَهوي في حالة احتضار، أو يَسقط في ساعة النهاية الصادمة.
هبط زجاجُ السيارة الأسود. ظهرَ وجهُ السائق ذو الملامح الصلبة. نظراتُه تُشبه نظرات الحراس الشخصيين. أخذ يُحدِّق في الأطفال، ثم قال:
- أين تقع المقبرةُ يا شباب ؟.
استخدم السائقُ لفظة " شباب " كنوع من الاحترام والتقدير على الرغم من أنهم ما زالوا صغاراً. رَكض الأطفالُ نحوه، والجميعُ تبرَّعوا بإرشاده إلى المقبرة. كانوا يَقفزون أمام السيارة مثل الدلافين المذبوحة التي تعيش حلاوةَ الرُّوح. وَصلوا إلى الهدف المنشود.
نزلت من السيارة سيدةٌ راقية. نَزعت النظاراتِ السوداء عن عينيها. صارت تدقِّق النظرَ في سور المقبرة. وتستطلع المكان من كل الزوايا. نَظرت إلى السائق، وقالت:
- أعطِ كلَّ واحد عشرة دنانير.
صُعق الأطفالُ بهذا الكلام. وكادوا يَسقطون على الأرض من شدة الفرح. فهذا المبلغ يُعتبَر ثروةً قومية. لم يُمسك الواحدُ فيهم مبلغاً ضخماً كهذا طيلة حياته، ولا حتى في منامه.
وقفوا في طابور مثل طابور المدرسة، ومدوا أيديهم إلى السائق. نظراتُهم تتطايرُ في أكسجين الأماني. وقلوبهم تقفز من السعادة. لقد ارتفع الدخلُ القومي في جبل النظيف. حاولَ أحدُهم أن يُقبِّل يَدَ السيدة شكراً لها. وقفزَ آخَر على قدميها ليُقبِّلهما. تضايقت السيدةُ بصورة واضحة. وتدخَّل السائقُ لإبعاد الطفلَيْن. كانا معجونَيْن بالتراب والروائحِ الكريهة. ملابسُهما البالية من العصر الحجري. وملامحهما تَرجع إلى إحدى المومياوات القديمة. وقد قَرفت منهما السيدة بشدة.
قالت السيدة:
- مَن المسؤول عن المقبرة ؟.
قفز زعيمُهم أمامها كأنه يُريد إلقاء قصيدة أمام معلِّم اللغة العربية، وقال:
- حارس المقبرة هو المسؤول عنها، لكنه تَرك المقبرةَ، وذَهب إلى المزابل. أمَّا المسؤول عنها الآن فهو فايز خمراوي.
لم تستوعب السيدةُ موضوع " المزابل "، لكنها لم تتوقف عنده. وقالت:
- وكيف يمكن أن ألتقيَ بهذا الشخص.. فايز خمراوي ؟.
دبَّت المروءة والشهامة في هذا الطفل بشكل غريب، وقال:
- أنا أعرف بيتَه، وسأَذهب لإحضاره.
ولم تكد السيدةُ تنبس ببنت شفة حتى انطلق كالصاروخ مخلِّفاً وراءه أكواماً من الغبار والأحلامِ التائهة. ضَحكت السيدةُ من حركة هذا الطفل الجنونية. وازداد ضحكها عندما انتبهت إلى قَدَمَي ذلك الطفل الصغيرتين. فقد كان حافياً، وهو يَركض في هذه المتاهة القذرة بكل سعادة، غير عابئ بشيء. ومَن يَعْرف طريقَه لا يَلتفتْ أثناء سَيْره.
كان فايز مستلقياً على فِراش بائس على سطح البيت. يَعبث بلحيته، ويُفكِّر في وجوده في هذا العالَم. لا توجد إنجازات حقيقية في حياته. عمرُه يتشظى في المسافات بين شواهد القبور. قضى حياته في المقبرة، وعندما يموت سَيَذهب إلى المقبرة. إنه ميتٌ في الحياة، وميت في الموت.
نَظر إلى الحمَام الذي يَهبط على سطح البيت ثم يَطير. هذا الحمَامُ الذي يشقُّ الفضاءَ لديه إنجازات هائلة. إنه يبني مملكته الخاصة، ويصنع تاريخَ عائلته في الأفق الرحب. نثر فايز أفكارَه على أجنحة الحمَام، وأخذ يُحلِّل حركةَ الطيران فلسفياً، وبينما هو غارق في تأملاته، سَمع أحدَهم ينادي عليه. التفتَ فإذا طفلٌ صغير يَقترب منه وهو يَلهث. ((مِن أين جاء هذا المخلوق ؟)). تساءل فايز في نَفْسه.
وقفَ الطفلُ مثلَ عمود الكهرباء، وأنفاسُه الحارقة تَلسع ذراتِ الأكسجين حَوْله. أخذَ نَفَساً عميقاً، ثم قال:
- هناك امرأة غنية تريد أن تراك.
نهضَ فايز بسرعة. بدا في تلك اللحظة كشخص يَصحو من غيبوبة طويلة. امرأة غنية ؟!. كل الذين يَعرفهم هُم فقراء وشحَّاذون وأموات. مِن أين ستأتي المرأة الغنيةُ ؟!. نَظر فايز إلى الطفل بعين واحدة، وقال متهدِّداً:
- لو كنتَ تَكذب عليَّ أو تَلعب معي، فسوفَ أُقطِّع لحمكَ بالسكين وأرمي القطعَ للكلاب والقطط.
أكَّد الطفلُ كلامَه، وأقسمَ لفايز على ذلك. وعندئذ صَدَّقه فايز. ومضيا إلى هذه " المرأة الغنية " التي جاءت إلى هذا الجبل البائس.
التقى فايز مع هذه المرأة تحت أطياف سور المقبرة. أَخذت المبادَرةَ، وقالت:
- يعطيك العافية يا أخ فايز.. أنا آسفة على الإزعاج. ولولا أن الأمر ضروري لَمَا أزعجتُكَ.
ازداد منسوبُ الفضول في دمه، وقال:
- بصراحة.. أنا لا أفهم شيئاً. ما هو الأمر الضروري ؟، وما علاقتي بالموضوع ؟.
- بدايةً، أحب أن أُعرِّفك على نَفْسي، أنا يَلْدز مصطفى، حفيدة إسماعيل باشا الشركسي. جَدَّي كان يَسكن في أطراف جبل النظيف قبل عقود. وعَرفتُ من أُسرتي أنه دُفن في مقبرة جبل النظيف، وأنا أريد زيارة قبره. وقد قِيل لي إنك أكثر الناس معرفة بهذه المقبرة.
الآن، استوعب فايز الموضوع. لقد ذَهب فكرُه إلى مناطق بعيدة جداً. وصارت الشكوكُ تتلاعب به، والتشتتُ يَحرق ذهنه المتشظي.
هدأت أعصابُه، وسَكنت جوارحُه، وزال القلقُ الذي كان يَجرف شرايينَ دماغه. تنفَّس الصعداء، وقال:
- اللهُ يَرحم جَدَّكِ. طالما جلستُ عند قبره، وقرأتُ على روحه الفاتحة. الموتُ لم يترك باشا ولا غير باشا.
وأردف قائلاً:
- تعالَي معي إلى نُزهة بين شواهد القبور.
هزَّت رأسَها، وقالت للسائق:
- ابقَ عند السيارة، ولن أتأخر عليك.
ومضيا نحو غابة الموت. شواهدُ القبور خواتم في أصابع الزمن. والأقدامُ تمشي إلى الصمت الرهيب. اقتحما البوابةَ الصدئة. إنهما الآن في بحر الوحشة والخراب. هؤلاء الموتى كانوا يمشون بيننا، ويَضحكون معنا. ذَهبوا إلى غير رجعة. كأنهم لم يعيشوا أصلاً. كأن شيئاً لم يكن. ماتت أسرارُهم معهم. القبورُ خزائنُ الأسرار الأبدية. جَمعوا المالَ لورثتهم. يُحاسَبون على أموالهم، والورثةُ يستمتعون بها.
وَجدت هذه الشركسيةُ مشقةً بالغة في المشي بين القبور. وكانت تتحرك كما لو أنها في حقل ألغام. وَقفت في أحد الأمكنة وهي منهكة، فطلبَ منها فايز أن تبتعد لأنها تقف على قبر قديم مخفي تحت التراب. قفزت بسرعة مبتعدةً عن المكان. ورَاحت تعتذر لفايز عن هذا الخطأ غير المقصود. فقال فايز:
- لا تعتذري مني.. اعتذري من صاحب القبر.
صارت يلدز لا تَخطو خطوةً إلا بتوجيه فايز. وقد أخبرها أن هناك الكثير من القبور الدارسة، ومعالمها مطموسة تماماً. واثنان فقط في هذا العالَم يَقْدران على تحديد أمكنتها وأصحابها، وهما حارسُ المقبرة وفايز. إنه يَسير أمامها مثل قائد الجيش الذي يتقدم جنودَه، وهي تسير وراءه مرتجفةً. ها هو يَقتفي أثرَ الموتى في صحراء العَدَم.
توقف فايز عن الحركة، وأشار بأصبعه السبابة نحو أحد القبور، وقال بصوت أقرب إلى الهمس:
- هذا هو قبرُ جَدِّكِ رحمه الله.
بدا القبرُ جديداً. الكتابةُ على شاهد القبر واضحة جداً كأن أحدهم قد كتبها البارحة. التاريخُ ظاهر (1918م - 1967م)، ولا يحتاج إلى تدقيق نظر.
استغربت يلدز من نظافة القبر، ووضوح الكتابة على الشَّاهد، رغم مرور كل هذه السنوات، فقالت والدهشةُ تهيمن عليها:
- من الغريب أن الكتابة لم تُمْحَ مع أن جدِّي تُوفِّيَ في عام 1967، والقبرُ يبدو جديداً كأن صاحبه مات قبل أيام.
قال فايز ونسيمُ الموت يَلعب بشَعْره ولحيته:
- لا تستغربي.. لقد أصدر مجلس قيادة ثورة المقبرة قراراً بتنظيف المقبرة، والاعتناء بالقبور، وإعادة كتابة بيانات الميت على شواهد القبور. وقد تمَّ تعييني بالإجماع مؤرِّخاً للمقبرة، ومديراً لأرشيف الموتى.
ضَحكت يلدز من أعماق قلبها ثم تذكَّرت أن هذا المكان لم يُوجَد للضحك. إنه كلام غريب تسمعه لأول مرة. لم تفهم شيئاً مما قاله. ظنَّت للوهلة الأولى أنه يَمزح أو يتلاعب بالكلمات بشكل ساخر. لكنها أَخذت كلامَه على محمل الجِد عندما نَظرت إلى ملامحه. كان وجهُه قاسياً يكاد يتشقق. عيناه تدوران حول شواهد القبور مثل حجر الرَّحى. لم يبتسم إطلاقاً، وبدا أنه يَعني كلَّ كلمة قالها، وواثق من كلامه وأفكاره. ولم تُرد يلدز أن تخوض في تفاصيل كلامه، فأغلقت هذا الملفَّ، وصار تفكِّر في تغيير الموضوع.
حدَّق فايز في التاريخ المثبت على الشاهد، وقال بأسلوب العالِم الواثق:
- لقد وُلد جدك في نفس السنة التي وُلد فيها جمال عبد الناصر، ومات في نفس السنة التي مات فيها جمال عبد الناصر.
قالت يلدز بكل استغراب:
- ولكن جمال عبد الناصر مات في سنة 1970.
صَمت فايز لوقتٍ قصير، ونَظر إلى الأفق المشتعل بالفراشات السامة، وقال والحكمةُ ترفرف على شَعْره المتطاير:
- الإنسانُ يُولَد أكثر من مرة، ويموتُ أكثر من مرة. وكل إنسان له تاريخ ميلاد حقيقي وتاريخ وفاة حقيقي، وهذان التاريخان غير موجودَيْن في الوثائق الرسمية.. جمال عبد الناصر مات في 1970، ولكن - في حقيقة الأمر - مات في 1967.
وتابع يقول:
- جَدُّكِ كان من القوميين العرب مع أنه شركسي. والحمدُ لله أنه مات قبل هزيمة 67 بأيام. ولو شاهدَ الهزيمةَ لأصيب بأزمة قلبية قاتلة، أو جلطة ستجعله يقضي بقية حياته على كرسي متحرك.. لقد ماتت أحلامُه معه. شيء جيِّد أن يموت الإنسان وهو يعيش على الأمل، ويَحلم بغد أجمل.
لم تتوقع يَلدز أن يَصدر هذا الكلام من فايز. إنه يبدو جاهلاً ومشرَّداً. ومن يشاهده يعتقد أنه نشأ مع أبناء الشوارع، وسيموت معهم. كلماته رصاصاتٌ ترتطم بعظام يلدز، وتُحدِث دوياً هائلاً. لم تتوقع أن تجد فيلسوفاً في هذه المقبرة الخرساء. تفشى السكوتُ في ذرات الأكسجين. شعلةُ الحزن مخفية تحت التراب المبتل بالدموع. تذهب الذكرياتُ إلى الشمس ولا تَعود. والشجرُ الحزين ينام على الحواجب البلاستيكية.
قرأتِ الفاتحةَ على قبر جدِّها، ثم قالت لفايز:
- لقد قررتُ أن أنقل رفاتَ جدِّي إلى مقبرة العائلة الراقية.. لا أريده أن يُدفَن بين الفقراء في هذا الجبل المنسي.
تفاجأ فايز من هذا الكلام الصاعق. كان كلامُها صدمةً حقيقية انهمرت على رأسه كما يَنهمر المطرُ الحمضي على قرميد الأكواخ المهجورة. ارتبك بشكل مريع، ولم يَجد الردَّ المناسب على كلامها. شعورُه ممزوج بأشياء متضادة لا حصر لها. اختلط الحزنُ والإهانةُ والأحلام والأزمنة المنسية والأمكنة المنبوذة في بوتقة واحدة. إنها بوتقة تمتص ما يَقترب منها كالثقوب السوداء عند حافة الكَوْن. شَعر أنه واقف على حافة الهاوية. وربما لو صَدر هذا الكلام من رَجلٍ، لقام فايز بضربه وقطعِ لسانه.
نظرَ إليها فايز بطرف عَيْنه، وقال:
- الموتُ لا يُفرِّق بين غني وفقير.. اتركيه يَرقد بسلام في مقبرة الجبل الذي عاش فيه، ولا تُزعجي عِظامَه. الموتُ هو المعادَلةُ التي يتساوى فيها الطرفان تماماً كما يَحدث في الرياضيات.
وأردف قائلاً:
- سوفَ يتساوى الغني مع الفقير.. وفي يومٍ ما سيحبُّ الإنسانُ عدوَّه، وينام إلى جانبه للأبد.
وصوَّب فايز نظرَه في إحدى الجهات، وأشار إلى قبرَيْن متجاورَين، وقال:
- انظري إلى ذلك القبرَيْن.. انظري جيداً. هذا قبرُ عمر الفَرْوي، وهذا قبر حسن مرشد. كانا أكبر عدوَّيْن في جبل النظيف، وبينهما ثأر ودماء وقضايا في المحاكم بدون نهاية. قضيا حياتهما مثل الشحم والنار، وهما الآن ينامان جنباً إلى جنب دون مشاكل.. الآن سوفَ تصدِّقين كلامي.
كان كلامُه يرجُّها بشكل عنيف. يَنزع من دمائها نعناعَ الحلمِ الجامحِ. بَدت المقبرةُ كمحاضرة فلسفية لا تنتهي. إذا لم يستفد الإنسانُ من مَوْته فلن يستفيد من حياته، والعكس صحيح.
خرجا من المقبرة. أَغلقَ فايز البوابةَ المرعِبة التي تَحمل في شظايا الصدأ حضاراتِ المطر. حضاراتٌ تتهاوى مثل أظافر الموتى. كلُّ الأحياء الذين عَبروا من هنا سَقطوا في الحفرةِ الأبدية. وكلُّ قطراتِ المطر التي سَقطت على هذه المقبرة منذ وجودها غاصت في التراب مثلما غاصت شرايينُ الأموات. الموتُ هو بيتنا الثاني، وتاريخُ ميلادنا الثاني. وليس غريباً أن تكون هذه المقبرة هي بؤرة الضوء في جبل النظيف الذي يَكتسب شرعيةَ حياته من مَوْته.
أخرجت يلدز مئة دينار من حقيبتها، وحاولت إعطاءها لفايز تقديراً لجهوده وتعبه. وما إن رأى لمعانَ الأوراق النقدية حتى أُصيب بنوبة هستيرية شرسة. هاجرَ الزبدُ من بحور الانطفاء وسكنَ على شفتيه. صدرُه يَغلي كالمرجل غير المسيطر عليه. اعتبرَ الأمرَ إهانةً كبرى، وطعنةً مسمومة في الظَّهر. نظرَ إليها نظرةَ عتابٍ جارحةً وخرساء في آن معاً. تجمَّع الدمعُ الهامس في زوايا عينيه المحاصَرَتَيْن في براميل البارود المتفجرة. وقال بنبرة حادة وهو يحاول إخفاء رعشة صوته الباكي:
- أرجوكِ.. أعيدي المالَ إلى الحقيبة. هذه إهانة مرفوضة. أنا لستُ دليلاً سياحياً، ولا تاجراً أستثمر في الأضرحة.
أعادت يلدز المالَ عندما رأت براكينَ الغضب الثائرة في جوانحه، وقالت بنبرة كسيرة:
- أنا لم أقصد الإهانة.. ولكني أردتُ أن....
قاطعها فايز، ولم يتركها تُكمِل كلامَها، وقال بلهجة متعالية:
- لستُ بحاجة إلى أموالِ الناس.. أنا موظَّف عند الموت، وهو الذي يُعطيني الراتبَ آخر الشهر.
كان فايز في أمس الحاجة إلى هذا المبلغ. فهو يُعاني من أزمة مالية خانقة. إنه مُفلِس، لا توجد في جيوبه رائحةُ المال. ومع هذا فقد ظَهر بمظهر الواثق والمتعالي وغير المحتاج. أرادَ الاحتفاظَ بماء وجهه، وصونَ كرامته. لا يمكنه أن يمد يدَه للآخرين. يَعتبر ذلك كارثةً حقيقية. والأسوأ من ذلك أن يمد يدَه لامرأة. فهو يَنظر إلى هذا الأمر كجريمة نكراء. وهذا الفِعلُ في قانونه الشخصي يمثِّل مَوْته الحقيقي والمجازي.
انطلقت سيارةُ الشركسية في ضباب الشوارع الضيقة، والأطفالُ يَركضون وراءها بعد أن انتشر بينهم خبر وجود امرأة غنية توزِّع مالاً على الأطفال. إنهم يَدخلون في سباق مع هذه السيارة الفارهة. يَلهثون وراء الأمل الهارب. يحاولون اللحاقَ بحلم الثروة المجانية. وجوهُهم المغبرَّة، وأرجلُهم النحيلة، وأقدامُهم الحافية. كل هذه العناصر دَخلت في معركة خاسرة مع هذه السيارة التي اقتحمت الأفقَ البنفسجي، واختفت فيه، مثلما تختفي كلُّ الأحلام.
(31)
وجوهُ الناس تختفي في الدخان. مقهى الحبايب يختفي في لفافات التبغ. تصبح النرجيلةُ تاريخَ مَن لا تاريخ له. كبارُ السن والعاطلون عن العمل وزعماء العصابات يسيطرون على المقاعد الخشبية المهترئة. هشام الديزل يَضحك في إحدى الزوايا.
الحيطانُ تكتحل بالغازاتِ السامة، والضحايا يتساقطون على الطاولات مثل ملاقط الغسيل. والجميعُ يَبحثون عن آلة حاسبة لإحصاء عدد القتلى. سَتجري الآن الانتخابات الحرة والنزيهة. صناديقُ الاقتراع مفروشة على جثث الضحايا. والبشرُ يُلقون جماجمَهم في الصناديق المحترقة بالدعايات الانتخابية. الأحياءُ يُدلون بأصواتهم، والموتى يُدلون بأصواتهم. كلُّ الأحياء والموتى أصبحوا ناخبين. لا أصوات تَضيع في الدخان العميق.
استيقظَ سعد الشويني مذعوراً. مسح العَرَقَ الذي يَنحت جبهته بظاهر كفِّه. جسمُه منقوع بالكامل في بركة العَرَق. ملابسُه مبتلة كأنه بالَ على نَفْسه وهو نائم.
ما الذي رآه في المنام ؟. لم يجد تفسيراً منطقياً لهذا الحلم. ما زالَ مقهى الحبايب يُطارده في النوم واليقظة. لا يريدُ أن يتركه. لقد هُدم المقهى، وزالت الذكرياتُ، واختفت الوجوه في الزحام إلى الأبد. لماذا يَقتحم هذا المقهى البائدُ أحلامَه بهذه القسوة ؟!. وجهُ هشام الديزل يطارده بلا ملل. تمنى لو يجد مفسِّراً للأحلام يُريحه من هذا العذاب. الهلوسةُ تسيطر على حياته الواقعية، والهوسُ يسيطر على أحلامه في المنام. كأن مقهى الحبايب وهشام الديزل اتَّفقا على مطاردته حتى القضاء عليه. المقهى زالَ من الوجود. وهشام الديزل لا بد أنه ظلَّ ينزف حتى الموت. هذه القناعةُ راسخة في ذهنه. ومع هذا، فهو عاجزٌ تماماً عن التحرر منهما، صار المقهى ظلاً لهشام، وصار هشام ذاكرةً للمقهى.
إنه يختبئ كالجرذ في غرفة تحت الأرض في جبل النظيف. يتمنى لو يَقْدر على العيش فوق الأرض مثل باقي الناس. عاشَ تحت الأرض، وسيموت تحت الأرض.
تذكَّر مراد البومي وهو شخص اختبأ في أحد أقبية جبل النظيف في أيلول 1970أثناء القتال بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، ولم يَخرج إلا بعد عشر سنوات، وقد كان يعتقد طيلة هذه المدة أن الحرب ما زالت قائمة، وما عرفَ أن الحرب لم تستمر سوى أسابيع معدودة، وانتهت سريعاً.
وقد اعتقد السكانُ أن مراد البومي قُتل في المعارك بسبب اختفائه المفاجئ. وكَم كان حجم المفاجأة عندما خرج في شتاء 1980م. لم تتغير ملامحُه كثيراً. بقي محتفظاً بغالبية تفاصيل وجهه. لكن لحيته وَصلت إلى سُرَّته. ورغم هذا فقد تعرَّف عليه الناسُ لأنه كان مشهوراً في جبل النظيف قبل اختفائه، وازدادت شهرته بشكل جنوني بعد ظهوره. وصار السكانُ يَنْسجون القصصَ الخيالية حول حياته واختفائه الغامض وظهوره الصاعق، ويَخترعون مغامراتٍ لا أساس لها، وينسبونها إليه. وقد قامت إحدى الصحف بشراء حقوق نشر قصته بالتفصيل، ونشرتْ قصته على شكل حلقات متسلسلة، وازدادت مبيعاتها بصورة مذهلة. لكنها ضَحكت عليه، ولم تدفع له قرشاً واحداً. ورغم شهرته الكبيرة إلا أنه ماتَ فقيراً لا يستطيع دفع أُجرةَ بَيْته.
لا يعرف سعد الشويني لماذا لَمعت في ذهنه هذه القصة. أشياء غريبة تطرأ على ذهنه هذه الأيام. الماضي يلاحقه من زقاق إلى زقاق، ومن حُلم إلى حُلم. الذكرياتُ تدق طبولَ الحرب بين أعضائه المنهارة، والخواطرُ تَكسر بابَ دماغه المتشظي. إنه يَرى آثارَ الرصاص على الحيطان الكالحة، يَراها ببصيرته. وهذا المشهدُ يُهاجم وجدانه ليلاً نهاراً. فكرةُ الموت تُحكِم قبضتها على أفكاره. الموت هو شهادة الميلاد الأصلية التي لا يمكن تزويرها. الموتُ هو التاريخ الحقيقي الذي لن يَقدر المنتصرون على كتابته، فهو يَكْتب نَفْسه بِنَفْسه.
مضى سعد إلى صيدلية " سنابل الشفاء الضوئية " لِيَحصل على بعض الأدوية. وبالطبع، هو لا يَدفع ثمنَ الدواء، وإنما يأخذه رغم أنف صاحب الصيدلية مجاناً. فمعارضةُ سعد الشويني تُعتبر أمراً خطيراً. فهذا الرَّجلُ أزعر، وصاحب سوابق. والكلُّ يحاول تجنُّبه، أو مجاملته مخافة شرِّه. وهُم يَرفعون شعار " اليد التي لا تَقْدر على قطعها قَبِّلْها ". دخلَ سعد الصيدليةَ فلم يجد أحداً. الصيدلاني أبو زهران غير موجود، ومساعِدته الشابةُ التي تَعمل لديه غير موجودة. لو كان يَعرف أماكن الأدوية لأخذها وخرجَ فوراً، ولا داعي أن ينتظر أحداً.
وقعَ بصرَه على الغرفة الداخلية. إنه يَعرفها معرفةً جيدة، فأبو زهران يُحضِّر فيها الأدويةَ التي تحتاج إلى خَلط كميات وما شابه ذلك. مشى إليها ببطء شديد كالوحش الذي يسعى إلى اصطياد فريسته، أو كاللص الذي يريد سرقةَ بيتٍ ما.
قفزَ إلى داخل الغرفة بدون مقدِّمات، فرأى فيلمَ رعبٍ ماثلاً أمامه. وقفَ شَعْرُ رأسه، وهجمت الأعاصيرُ على هذه البقعة الغارقة. كان الصيدلاني يُجلِس مساعِدته على فخذه، وهو يتحسس صدرَها. وما إن شاهَداه حتى قفزا مذعورَيْن. رتَّبت الشابةُ ملابسَها وانطلقت من المكان كالمجنونة. أمَّا أبو زهران فركض باتجاه سعد، وعانقه كأن شيئاً لم يكن. رحَّب به قائلاً:
- أهلاً وسهلاً يا شويني.. أنتَ ابن حلال، كنتُ أفكِّر فيك، وأتساءل عن سباب غيابك عنَّا.. تفضَّل.. تفضَّل استرح.
وقفَ سعد كالصنم أو كالمحكوم بالإعدام الذي يتأمل ذكرياتِ الماضي بكل تركيز، وقال:
- ما هي القصة يا رَجل ؟!.. يبدو أنكَ صرتَ رومانسياً أكثر من اللازم، أو أنكَ لم تعد تَشبع من أُم زهران.
مسح أبو زهران العَرَقَ عن وجهه، وقال:
- لا تفهمني غلط يا شويني.. الأمر ليس كما تتخيل.. أحسِنْ الظنَّ بالناس، إن بعضَ الظن إثم.
ضحك سعد من أعماقه، وقال:
- وما زلتَ تمثِّل دورَ الشريف.. سوفَ أفضحك في جبل النظيف، وأُخبر زوجتك وأولادك.. سوفَ أدورُ على كل بيت أُخبرهم بما رأيتُه يا نذل.
وهَمَّ سعد بالانطلاق لكن الصيدلاني قفزَ عليه، وأمسكه بشدة، وقال بكل انكسار:
- أبوس يَدَكَ يا شويني، لا تفضحني. استرْ على أخيك. هذه أول مَرَّة وآخر مَرَّة.. لا تنسَ أني أُعطيك الأدويةَ مجاناً، وأنا تحت أمرك دائماً.. لا تخسرني يا شويني.. نحن الاثنَيْن مصلحتنا واحدة.
خَمدت ثورة سعد بعد هذا الكلام. ذهب أبو زهران لإعداد الشاي. جلس الاثنان في مركز دائرة اللهيب. أخذ سعد يَشرب الشاي. إنه يحكُّ أنفَه باستمرار، ويقاتل نَفْسه محاولاً التخلص من الصداع الرهيب الذي يكاد يفجِّر رأسَه.
نظرَ أبو زهران بخبث إلى سعد، وقال:
- لدي حبوب هلوسة من النوع الثقيل، وأدوية مخدِّرة صناعة أجنبية لا تُصرَف إلا بوصفة طبية.. ولكنك يا سعد من الزبائن الدائمين، ولا تحتاج إلى وصفة طبية. ما رأيُكَ ؟.
هزَّ سعد رأسَه، كأنه يقول: ضَعْها في كيس لآخذها معي.
تستمر الحياةُ في سراديب الألم. يترك العشبُ الغامض بصمته على عِظام المنسيين. ويرتدي العارُ قناعَ الشموس. تتفجرُ الضوضاءُ في العيون الذابلة، تلك العيون المزروعة على الحيطان القذرة، حيث الطحالب البنفسجية، والديدان الأرجوانية، والحيواتُ البشرية المنسية في أرشيف الأشجار النازفة التي لم تمت واقفةً.
(32)
لم يتوقع المساءُ أن يَحترق وَعُودُه أخضر. انتهت المغامرةُ. انتحر الصخبُ. هشام الديزل على فِراش الموت. والراهباتُ حَوْله يَبكينَ، ويَمسحنَ عَرَقَه المتكاثر مثل تِلال الدمع. نطقَ الشَّهادَتَيْن، وأَسلم الروحَ لبارئها. إنه جثة هامدة. عيناه شاخصتان ومزروعتان في ذاكرة الأفق البعيد. اقتربت منه إحدى الراهبات، وأَغلقت عينيه، وغطَّته بالملاءة البيضاء.
وَقفت الراهباتُ حَوْله والبكاءُ يَقتلع عيونهن الذابلة. لأول مرة تُنطَق الشهادتان في هذا الدَّيْر. ولم يَسْبق أن حدثت حالة وفاة في هذا المكان. وصلت الرحلةُ إلى نقطة النهاية. انتهت المغامرةُ إلى الأبد. كان منظرُه وهو يموت مرعباً للغاية. لم يَتوقع هشام أنه سيموت في دَيْر للراهبات. لم يتوقع أن حياته ستنتهي في ظلال النساء. لقد خاضَ معارك شرسة طيلة حياته. كان شقياً منذ طفولته. دَخل في قتال شوارع منذ نعومة أظفاره. ولا يمكن إحصاء عدد حروب العصابات التي خاضها للسيطرة على الأزقة والأحياء واقتسام المغانم. توقَّع ذات مرة أنه سَيُقتَل بين رجاله الأشداء في يومٍ مُشمِس، وسوفَ يَعرف الجميعُ بموته، ويصبح مشهوراً أكثر بعد موته. عاشَ رَجلاً، وسيموت بين الرجال. هكذا نظر إلى نَفْسه. وها هو الآن يموت بين النساء في ليلة سحيقة بعيدة عن الشمس. زالَ حُلمُ الشهرة، وانطفأ العالَمُ المكسور.
لم تعرف الراهباتُ ماذا يَفعلنَ في هذه اللحظات الحرجة. لم يقرأنَ عن هذا الموقف في الإنجيل أو التوراة. اقترحت إحداهن أن يُدفَن في حديقة الدَّير بكل هدوء ودون إحداث بلبلة. وقالت أخرى إنه مُسْلِم، ويجب أن يُعامَل وفق أحكام الموت في دِينه، ونحن لا نَعرف تلك الأحكامَ. وقالت ثالثة إن علينا استدعاء الشرطة قبل كل شيء لئلا يتم اتهامنا بقتله. وانتشر الضجيجُ حول هذا الميت، وارتفع صوتُ تصادم الآراء إلى أن تم اعتماد الرأي القائل باستدعاء الشرطة، وهُم يَعرفون كلَّ الحلول. حَضرت الشرطةُ وتولَّت كافةَ الأمور. وعَلمت من الراهبات أن هشام الديزل كان ينطق اسم " سعد الشويني "، ويكرِّره عدة مرات. وكان هذا الحدثُ هو القطرة التي أفاضت الكأسَ.
ليلُ جبل النظيف يتحول إلى نهار متأجج. وَضعت الشرطةُ خطةً سريعة لمطارَدة سعد الشويني والقبض عليه. جرائمه لا يمكن إحصاؤها. يَخرج من السجن، ثم يَدخل إليه، ثم يَخرج منه... هكذا دواليك. إنها دورة حياته. لا يمكن الانتظار حتى الصباح. هذا مجرمٌ خطير، وخطورته تعادل خطورة زعماء المافيا. وقد اتَّفق في الماضي مع حمودة الأقرع (إمبراطور الإشاعات) أن يُشيع خبرَ وفاته بين الناس لكي ينساه الجميعُ، ولا يُفكِّر أحد في ملاحقته، وقد نَجحت هذه الحيلةُ لفترة طويلة.
البعضُ يقولون إنه مطلوب للإنتربول، وآخرون يقولون إنه عَرَّاب جبل النظيف، ومهندس عمليات المافيا، وحلقة الوصل بين زُعران جبل النظيف والمافيا الإيطالية. وقد تساءل أحد باعة الخضار ذات مرة: ((هل يُعقَل أن هذا القذر له علاقة بالمافيا الإيطالية ؟!)).
وبصراحة، تظل أقوالُ الناس بلا أدلة، فالكثيرون يحبون اختراعَ المغامرات الخيالية، وإعطاء الأمور بعداً تشويقياً كما يَحدث في أفلام الأكشن.
ستكونُ العمليةُ الأمنية مفاجِئةً وصاعقةً. تم استقدام تعزيزات أمنية هائلة إلى جبل النظيف، وتمت الاستعانة بمروحية قتالية. لا بد من إنهاء ظاهرة سعد الشويني، وإراحة البلاد والعباد من شرِّه.
استيقظَ الناس مذعورين. الشرطةُ تسيطر على جميع الأزقة. انتشر القناصةُ على الأماكن العالية. الصخبُ المتفجر نزع النومَ من عيون السكان. الأطفالُ قفزوا من نومهم باكين. الضوضاءُ تسيطر على مفاصل جبل النظيف. تجمَّع الأهالي على سطوح منازلهم. الأمهاتُ يتفقدن أبناءهن، ويقمنَ بعدِّهم عدة مرات ليتأكدنَ من وجود الجميع.
الناسُ يَعيشون النهارَ في قلب الليل. والقلقُ يحتل أجسادَ البشر الأسمنتية. في هذا الفراغ الباكي امتزجت رائحةُ العَرَق البشري مع رائحة العفونة في البيوت الخرساء. اتَّحدت جدرانُ البيوت مع جدران الشرايين الدموية التي تصب في أزقة القذارة.
أمسكَ قائدُ العملية مكبِّرَ الصوت، وقال:
- يا أهالي جبل النظيف.. نأسف على إزعاجكم في الليل. لقد جئنا لكي نقبض على المجرم سعد الشويني.. سَلِّم نَفْسك يا سعد، الجبلُ بأكمله مُحاصَر.
كان سعد ساهراً يَلعب الورقَ مع نَفْسه. سَمع النداءَ بكل وضوح. الصوتُ عالٍ، ويتغلغل في أعماقه السحيقة. وفي جَوْفه الملتهب يتصارع الصوتُ مع الصدى. إنه يَسْمع نداءً داخلياً كأنه رَجْع الصدى. شيءٌ كامن في أعماقه، ينادي عليه، كأنه حَجر في بئر عميقة.
أمسكَ علبةَ البيرة.. وصوَّبها نحو فمه. لم تَسقط أية قطرة. نَظرَ فيها فإذا هي خالية تماماً. ألقاها في إحدى زوايا الغرفة، وقال لنفْسه:
- إذا خانتكَ علبةُ البيرة يا سعد، فإن الناس سوفَ يخونونكَ.
اعتبرَ النهايةَ المأساوية لعلبة البيرة نهايةً لحياته. نظرَ إلى الأمر على أنه نذير شؤم. وهذه الأشياءُ جزء من طقوس سعد، فهو يتشاءم بأشياء كثيرة، ويخترع روابط وهمية بين تفاصيل حياته وممتلكاته.
أنهى لعبةَ الورق. وربطَ بينها وبين نهاية لعبة حياته. شعرَ أن النهاية قد اقتربت. نظرَ إلى رشاش الكلاشينكوف. أمسكَه، وتفقَّد أجزاءه بحرفية عالية، وقال له:
- أرجوكَ، لا تخدعني.. ولا تخن صديقكَ. أنتَ وحدكَ الذي رَفضتَ أن تتركني. وُلدنا معاً وسنموت معاً في هذا العالَم المتوحش.
هَبَّ واقفاً. أخذ معه بروازاً صغيراً فيه صورة أُمِّه وأبيه. وضعه في جيب سترته الداخلية. حملَ الرشاشَ وهَمَّ بالانطلاق. نظرَ في الغرفة. هل بقي شيء يريد أن يأخذه معه في رحلته التي قد لا يَعود منها ؟. رأى ورقةً تعج بالغبار موضوعة على طاولة خشبية هالكة. أمسكَها، وقرأ ما فيها. إنه رسالة حُب كتبتها له إحدى بنات الجيران قبل عقود. ضَحك سعد لِعِلْمه أن هذه الفتاة صارت جدةً. أعادَ الورقةَ على الطاولة، وآمن في تلك اللحظة أنه لا فائدة من الرومانسية، ولا فائدة من حياته كلها. قضى حياته يَكذب على الآخرين، ويَكذب عليه الآخرون. هذه هي حالة التعادل في مباراة الضياع التي استغرقت عمرَه كله.
كانت غريزةُ القاتل هي التي تحرِّكه في كل مراحل حياته. وكان هادئَ الأعصاب مثل قَنَّاصٍ محترف يمتلك الإرادةَ والتوقيتَ ولحظةَ الحسم. عُمْرُه حاجزٌ أمني بين الآلام في نهار الصيف والأحزانِ في ليل الشتاء. تحسَّس فخذَه اليمنى، لا تَزال فيها رصاصة تضايقه. فقد أطلقَ أحدُهم عليه النارَ لأنه سَبَّ الذاتَ الإلهية. ومنذ ذلك الحين، والرصاصة ساكنة في لحمه، لم يستطع إخراجَها، ولا يَقْدر على الذهاب إلى طبيب لإخراجها خوفاً من إخبار الشرطة والقبض عليه. فهو مطلوب للعدالة.
أرادَ الخروج فسمع أصواتَ عناصر الشرطة، وأحسَّ بوقع أقدامهم. وضعَ يَدَه على الزناد بصورة تلقائية. فِعلاً، إن الغريزة هي التي تحرِّكه. أيقن في تلك اللحظة المرعبة أنهم سوفَ يَكْسرون البابَ، ويَقتحمون المكانَ. انتظرَ الانفجارَ العظيم، لكنه لم يَحْدث. ابتعَدوا عن المكان، واختفت أصواتهم، وذابت أحذيتهم في رائحة المجاري المنبعثة من معدة الأرض المحروقة.
نظرَ من الشُّباك الصغير فرأى الزقاقَ خالياً تماماً. إنها اللحظة الملائمة للهرب. الانتظارٌ ممنوع، والتردد مستحيل. ((يا رُوح ما بعدكِ رُوح)). وفي آخر لحظة، خَطرت على باله فكرة جهنمية. قرَّر أن يَحرق غرفته ليلفتَ انتباهَ الشرطة إلى الحريق، وتبتعد الأنظار عن ملاحقته.
اشتعلت النارُ في المكان، وهربَ سعد بأقصى سُرعة ممكنة. كان يَرتطم بجدران البيوت كالفأر المحصور في عوالم المصيدة. عَلت ألسنةُ اللهب، وأضاءَ توهجُ النارِ الليلَ الغريقَ. ومن الواضح أن المكان كان يحتوي على مواد سريعة الاشتعال.
أرسلت المروحيةُ إشارةً إلى قائد العملية بأن هناك ناراً هائلةً في المنطقة الجنوبية. استقبل القائدُ الإشارةَ. فكَّر في استدعاء سيارات المطافئ، لكنه طردَ تلك الفكرة سريعاً، فهذه السياراتُ لا تستطيع اقتحام الأزقةَ الضيقة في هذا الجبل المحصور كعلبة السردين. كما أنه في سباق مع الزمن، ويقاتل على جبهتَيْن: إطفاء الحريق، والقبض على الشويني.
أمرَ عناصر الشرطة بالتوجه إلى المكان والتنسيق مع الأهالي لإطفاء الحريق. هُرع الناس إلى مكان الحريقَ كأن القيامة قد قَامت. فُتحت الحنفيات في البيوت. وها هُم يَنقلون المياه لإطفاء الحريق. صار جبلُ النظيف بحراً بلا شطآن. الناسُ يَسبحون في أزقته. وبعد ساعة تقريباً أُخمد الحريق بشكل نهائي. كانت ملحمة بطولية خارقة، شارك فيها خمسة وأربعون شرطياً، توفِّي منهم أربعة متأثرين بحروق بالغة. كما شارك فيها أكثر من مئتي رَجل وامرأة من الأهالي، توفِّي منهم خمسة رجال، وتسع نساء. والكثيرون نُقلوا إلى المستشفيات. لقد أطفأوا الحريقَ بأدوات بدائية للغاية، وهذا ما زاد من عدد الضحايا.
وقد تفاجأ سكانُ جبل النظيف بهذه الشجاعة التي لديهم. لقد هَبطت عليهم الجرأة دفعةً واحدة. كانوا يظنون أنفسهم مجرد أرقام منسية، يعيشون في العزلة السحيقة ويموتون فيها، لا أحد فيهم يَحمل شهاداتِ الشجاعة والبطولة، أو أوسمة عسكرية، أو تاريخاً من الانتصارات، حتى لو كان تاريخاً وهمياً. لكنَّ هذه الحادثة غَيَّرت كثيراً من قناعاتهم. صار السكانُ في العاصمة يُشيرون إليهم بالبنان، ويمدحونهم. ومَن كان يَخجل من إقامته في جبل النظيف لأنه مكان بائس وفقير، ويُخبِر الناسَ أنه من سكان الأحياء الراقية، صار يَفخر بذلك أمام الناس، ويقول بالفم الملآن إنني من جبل النظيف. سبحان مُغيِّر الأحوال.
وقد دَخل حريقُ جبل النظيف في التراث الشعبي. صحيحٌ أنه ليس بشهرة حريق روما أو حريق القاهرة. ولكنه صارَ أيقونة لدى السكان الباحثين عن رائحة المجد، أيِّ مجدٍ، - سواءٌ كان مجداً حقيقياً أو وهمياً -. إنهم متعطشون إلى صناعة التاريخ.
وصارت قصةُ إطفاء الحريق ملحمةً شعبية يرويها الآباء لأبنائهم ممزوجةً بالأساطير والمغامرات البطولية الخيالية. وَوُضعت أسماءُ الضحايا في لوحة الشرف،
وعُلِّقت هذه اللوحة على سور المقبرة أمام الناس، جميعِ الناس.
كان سعد يركض بصورة هستيرية. إنه يَغرق في هرمون الأدرينالين الذي يَغسل هذه الأزقة البائسة كالطوفان المرعِب. المناظيرُ الليلية تَلهث وراءه مثل ذئاب جائعة. والأطفالُ المتجمعون مع أهلهم على سطوح المنازل، فرحون برؤية هذه الطائرة. إنهم يَرقصون ويُصفِّقون. فهُم يُشاهدون طائرة لأول مرة في حياتهم.
اكتشفتْ مكانَه المروحيةُ. بدأ سعد بإطلاق النار عليها، وجاءه الردُّ صاعقاً. وابلٌ من الرصاص بدأ يَهطل كالمطر الحمضي. لم يُصَب سعد لأنه كان يحتمي بالأزقة الضيقة، وحيطانِ البيوت القريبة من بعضها. اختبأ في زقاق ضيِّق، فوجد رَجلاً طاعناً في السن يَجلس على عتبة بَيْته، ويستمتع بصوت الرصاص الذي يَضرب الجدرانَ كالإعصار. اقترب منه سعد، وقال له:
- يبدو أنكَ مستغنٍ عن حياتك.. سوفَ آخذكَ رهينة.
ضحك الرجلُ بشدة. ضحكته زلزال حارق، وبدت على وجهه علاماتُ السخرية، وقال ساخراً:
- خُذني بحنانك خُذني !.. خُذني رهينةً فربما أُقتَل وأرتاح من حياتي كلها.
وأردفَ قائلاً:
- اسمعْ يا سعد.. أعطني ديناراً لأشتريَ خبزاً لأُسرتي، وأعدكَ أني سأُعيده لكَ عندما أملك نقوداً.
نظرَ إليه سعد نظرةَ إشفاق. سَرت في جسد هذا المقاتِل المر قشعريرةٌ سامة. لقد احتقرَ نَفْسَه في تلك اللحظة المؤلمة، وشَعر أنه وغد. تجمَّع الدمعُ في عينيه اللتين كانتا تبرقان بشدة. كان بريقُهما يَخدش تجاعيدَ الليل. هذا الليلُ الذي يَظهر كإنسان يرتدي نظاراتٍ سوداء. ماتت وجوه البشرُ في هذا العالَم. ذابت الكلمات في الزحام. وصار الحبُّ عبر النظارات السوداء. والموتُ هو الضوء في نهاية النفق.
نسيَ سعد العالَمَ من حَوْله. ولم يعد يعبأ بمصيره. لم يعد يرى ذاته ولا ذوات الآخرين. انطفأ العالَمُ مثلما ينطفأ السراجُ الهالك في بيت أرملة فقيرة. انقطعت شرايينُ الليل كما ينقطع التيارُ الكهربائي في القرى المنبوذة. حواسُّه عاطلة عن العمل مثل الشباب في هذا الجبل.
وقفَ سعد كالشمعة السوداء، وقال لهذا الرَّجل الوحيد في حُرقة الليل:
- اسمعْ يا عمِّي.. خُذ هذا الرشاش وبِعْه، واشترِ كلَّ ما تحتاجه لأسرتك.
أخذَ الرَّجلُ الرشاشَ، وراحَ يَدعو لسعد بالتوفيق والبركة، وأن يَرزقه اللهُ الذريةَ الصالحة.
واختفى الرَّجلُ في رئة الظلام. رفعَ سعد يديه، ومضى إلى نهايته بقدمَيْه دون إكراه. قُبض عليه قبل أذان الفجر بساعة تقريباً. وانتهت هذه الأسطورةُ، وماتت الخرافةُ إلى الأبد. والآنَ " إسكوبار جبل النظيف " مُقيَّد. استسلم بملء إرادته، ولم يُظهر أية مقاومة لاعتقاله. طُوِيَ الفصلُ الأخير من مسرحية " سنوات الرصاص ".
كيف يُولَد الذبابُ قرب جثمان الرياح في آخر الليل ؟. انتهت هذه الليلةُ وبدأت الأحزانُ الشمسية. الناسُ يَذهبون إلى موتهم ثم يعودون منه. يُكمِلون الدائرةَ المحترقة. سيناريو ركيكٌ لكنه يتكرر باستمرار، ويصبح ذاكرةً للمصابين بالخرف.
الإشاعاتُ لا تنتهي في هذا الجبل. الكلُّ يَتحدث عن هشام الديزل بعد انتشار خبر وفاته في الدَّير. كلُّ شخص يمارس هوايته في اختراع القصص، وكأنهم في سباق مع الزمن لتأليف كتاب مغامرات وحكايات خيالية على غرار كتاب ألف ليلة وليلة. البعضُ يقول إن هشام تزوَّج راهبةً، وذهبا إلى الحج بعد اعتناقها الإسلام، وماتَ في طريق العودة. والبعضُ الآخر يقول إن هشام اعتنق المسيحية فقام أهلُه بقتله لاعتباره مرتداً، ودُفن في حديقة الدَّير. وآخرون يقولون إن المافيا قامت بتصفية هشام لأنها اكتشفت أنه " يَلْعب بذيله ". وهناك مَن يقول إن هشام حاول اغتصاب إحدى الراهبات، فقامت الراهباتُ بطعنه بسكاكين المطبخ حتى الموت.
(33)
لا مذاق للأحزان تحت شمس البكاء. تشابهت التناقضاتُ، وتساوت الأضدادُ. ولا منتصر في أزقة السراب سوى الدموع. الأحداثُ تتوالى كوخز الدبابيس. الأعمارُ تُطوَى مثل الدفاتر المدرسية للمراهِقات. مَن كان يَتصور أن معاذ أحمد حميد عدو المرأة ورافض فكرة الزواج سوف يتزوج ؟!. هذا الكهربائيُّ الفقير مِن أين جاء بالمال ؟!. أشياء غريبة تَحدث في الآونة الأخيرة. لم يعد التاريخُ يتحرك وفق مسار خطي بسيط. إنه يتحرك كمتوالية هندسية شرسة، تقفز فيها الأحداثُ قفزاً مثل بهلوان في سيرك مهجور. ولكنْ إذا عُرف السببُ بَطل العجبُ.
لقد تم استدعاؤه لإصلاح عطل كهربائي في إحدى الفلل الراقية في عَمَّان الغربية. فيلا كبيرة لا يعيش فيها سوى امرأتَيْن، صاحبة الفيلا والخادمة. وعندما انتهى من عمله لم تَدْفع له صاحبة الفيلا أُجرته، بل عَرضت عليه الزواج. هكذا مرة واحدة وبدون مقدِّمات. وقفَ معاذ كالأبله. لم يُصدِّق ما يَسْمع. لا بد أن هناك خطأ ما. ربما خانته أُذناه، أو أن هذه المرأة سكرانة أو فاقدة لقواها العقلية. ربما تكون هذه مزحة ثقيلة. هل هو يَحلم أم يعيش واقعاً حقيقياً ؟!.
لاحظت المرأةُ أمواجَ الدهشة التي تَضرب أعصابه بكل قسوة. فقالت وصوتها يُوحي بالجدية:
- سَيِّد معاذ، لقد أُعجبتُ بأمانتك وإتقانك للعمل. وإذا طَلبتَ يَدِي فلن أَرْفض.
ارتسم الذهولُ على وجهه، وقال بكل سذاجة:
- وزَوْجُكِ وأولادكِ ؟.
ضحكت المرأةُ، وقالت ووجهُها يَقذف الحممَ على جسد معاذ:
- فِعلاً إنك ابن حلال وطيِّب القلب.. أنا عزباء، لا زَوْج ولا أولاد.
وأردفت قائلة:
- كم عمرك ؟.
- أربع وعشرون سنة.
- عُمري ضِعْفُ عمرك تقريباً.. تسع وأربعون سنة، ولكني لستُ عجوزاً.
قال معاذ بنبرة كسيرة:
-ولكني لا أَمْلك المالَ، وربما يَرْفض أهلي موضوعَ الزواج بسبب فارق السن.
ابتسمت المرأةُ، وقالت وعيونها تَلْمع مثل عيون الساحرة:
- لا داعي أن تخبر أهلكَ بالموضوع.. سوفَ نتزوج زواجَ مسيار في السِّر، لا أُريد منك سكناً ولا نفقة. أُريدكَ أنتَ ولا أُريد شيئاً منكَ. أموالي ستكون أموالَكَ. العمرُ يَركض، ولا فائدة من المال إذا لم يَجْلب لنا السعادةَ. وهذه الفيلا واسعة، وأنا أشعر بالوحدة في النهار، والوحشة في الليل. أريد شخصاً يُشعرني بالأمان. يُنعِش قلبي في الصيف، ويُدفئني في الشتاء.
وأردفت قائلة:
- لا أُريد أن أضغط عليكَ.. فكِّر في الموضوع جيداً، وأنا في انتظار الرَّد. وتذكَّر أن الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة فقط، إمَّا أن تستغلها، أو سوفَ تَضيع إلى الأبد.
شَعر معاذ أنه في فوهة بركان كان خامداً، وعاد إلى الثورة. أعصابه تتساقطُ على الرخام الوهاج. نظرَ إليها كما يَنظر الطفلُ إلى مدير المدرسة، وقال ببساطة:
- أنا لديَّ مشكلة، وأرجو ألا تضحكي عليَّ.. أنا أكرهُ ليلةَ الدُّخلة.
- هل أنتَ عاجزٌ ؟.
- لستُ عاجزاً، ولكني أخافُ من ممارسة الجنس.
- ما دمتَ معي فلا تخف من أي شيء !.
ومضت في طريقها. ذاب وقعُ خطواتها في قلب البلاط. ولم تَدْفع له الأُجرة. سَقط معاذ في حَيرة نارية. لم يتخيل أن يُوضَع في هذا الموقف الغريب. لم يُخطِّط في حياته لهذا المشروع الخطير، ولم يقرأ عنه في الكتب. ولم يتم شَرْحُه في مجلس قيادة ثورة المقبرة. أحس بمغص رهيب في بطنه، وشَعر أنه بحاجة إلى التقيؤ. غادرَ المكانَ سريعاً وهو لا يَعرف ماذا يَفعل. ما هي الخطوةُ القادمة ؟. كل حياته تتوقف على كلمة واحدة وخطوة صغيرة. هل سَيَعود إلى هذه الفيلا مرة أخرى ؟. هو نَفْسه
لا يَعْرف.
كان معاذ ومازن عبد الله يمشيان على كورنيش جبل النظيف. وهذا الكورنيش لا يطل على البحر، وإنما يطل على المجاري الطافحة في الشوارع. أخبر معاذ صديقَه بكل ما حَدث، وطلب منه الرأي والمشورة. مازن عبد الله شاعر ومثقَّف، وهو الآن يَكتب في إحدى الجرائد، ولا بد أنه يَمتلك خبرةً في قضايا المجتمع، وشوؤنِ الناس.
ازداد جحوظُ عينَي مازن عندما سمع القصةَ، وصار وجهه مثل ثقوب الغِربال، وقال بحماسة:
- هذه فرصة ذهبية جاءتك يا معاذ، سَتُوَدِّع عالَمَ الفقر والبؤس إلى الأبد. يجب أن تستغلها الآن.. وإذا كنتَ لا تريدها دُلَّني على هذه المرأة لأتزوجها أنا !.
ظهرَ التردد على ملامح معاذ، فهو يَشعر أن الوضع غريب ومعقَّد، وهو غير مطمئن بالمرة لهذه العملية. وقد طَلب من مازن أن يَجد تفسيراً منطقياً للأمر بعيداً عن الفقرِ والغِنى والفرص واستغلالها. فقال مازن بهدوء واضح:
- هذه المرأة عانس وتمتلك أموالاً كثيراً. وتريد زَوْجاً تحبه ويحبها، يُشبعها عاطفياً ويُشبعها في الفِراش.. هذه غريزة متجذرة في الإنسان. ولا بد أنها أُعجبتْ بكَ لأنك شاب مليء بالحيوية والقوة، وهي تريد أن تعيد شبابها الضائع معك. إنها تستعمل أموالَها لتحقيق السعادة، وهذا عَيْنُ العقل.. لا تخف يا معاذ، أنتَ لا ترتكب جريمة، ولا تقترف إثماً.. زواج المسيار شرعي مئة بالمئة وليس زنا. توكَّل على الله، وودِّع جبلَ النظيف وسنواتِ الحرمان. وعِش معها في الفيلا، ولا تعد إلى هذا الجبل، وقُل لأهلك إنكَ وجدتَ عملاً خارج العاصمة. ارفض الذكرياتِ التي تأتي من حفر المجاري، وابدأ حياتك منذ هذه اللحظة.
تغلغل هذا الكلامُ في قلب معاذ. أعصابُه تتشرَّبه قطرةً قطرةً. سَيَفْتح صفحةً جديدة من كتاب حياته الضائعة. لكنه يَخشى كلامَ الناس إذا عَرفوا بالموضوع. سيقولون إنه زَوْج الست، وإن هذه المرأة اشترته بأموالها وتَصْرف عليه. أو سيقولون إنه تزوَّجها طمعاً في أموالها. كلامُ الناس لا ينتهي. اقتنع بأن عليه أن يعيش حياته كما يريد هو، لا كما يريد الناس. وَلْيَحْدُث ما يَحْدث. ((اللهم نَفْسي، وليكن بعد ذلك الطوفان)). هذا آخر ما توصَّل إليه.
وفي زحمة أفكاره المتصارعة، قال لصديقه مازن:
- ألم تقل لي إن العانس عليها أن تَفْرح لأنها أراحت الرجالَ من قرفها، واستراحتْ من قرفهم.
غضب مازن بشدة، وقال بحدة ظاهرة:
- يا حمار !.. ألم تحفظ من كلامي إلا هذه العبارة ؟!. هذه عبارة فلسفية جنونية قلتُها للاستهلاك المحلي، والفلسفة لا تُطعِم خبزاً.. يا سيدي، اعتبرني بيَّاع كلام.
وأردف قائلاً:
- اسمعْ يا معاذ، الآن ليس وقت الفلسفة والشِّعر.. الآن وقت الفرص والثروة. صَدِّقْني.. لي زميل في الجريدة قال لابنة وزيرٍ: ((ادفعي لي مبلغاً، وأنا مستعد أن أتزوجك لأنقذك من العنوسة، وتحافظي على مكانتك الاجتماعية)). وقد دَفعت له ليريحها من نظرات الناس. والآن، وضعهما ممتاز، وقد رُزقا ولداً وبنتاً. وحياتهما في منتهى الروعة.. الدنيا تغيَّرت يا غبي، اصْحَ يا معاذ، النسوان على قفا مين يشيل.
(34)
كان قيس زهدي يمشي في وسط البلد هائماً على وجهه. رموشُه الكلسية ترتطم بالواجهات الزجاجية للمحال التجارية. وفي ذهنه صورة بهلول عندما قَبضت عليه الشرطة، فقد قَدَّم قيس شكوى رسمية ضده متهماً إياه بالابتزاز، والقيام بأعمال غير مشروعة. ظَهر وجهُ بهلول كمزرعة من المسامير الصدئة. جبينُه مومياء قديمة، وأطرافُه مخالب حديدية. ما زال هذا المنظر محفوراً في عقل قيس. يُطارده في اليقظة والمنامِ، وكلما حاولَ إبعادَه ازداد رسوخاً.
صار قيس يخاف من العودة إلى بيته. بيتُه زنزانة انفرادية لا يَدخل إليها الضوءُ. لم يعد يُطيق النظرَ إلى وجه زوجته. إنه يَقضي وقتَه هارباً من نَفْسه. بنى عالَمه الخاص في الطرقات الحزينة التي تتشعب في بكائه الداخلي. إنه مثل لاعب التنس المهزوم الذي كَسر مضربه، ولم يَعرف هل هو خان مضربَه، أم مضربه هو الذي خانه. لقد أخبرته زوجته بقصتها مع بهلول من الألف إلى الياء. ومنذ ذلك الحين، وهو يَشعر بنار عظيمة تَقضم عروقَه الذابلة. الدموعُ تكاد تقتلع عينيه. كان يمشي مثل الرَّجل الآلي. خطواته ميكانيكية لا يَشعر بها. وأعصابُه قلاعٌ أثرية مهجورة. يَسير في متاهات هذه المدينة الصاخبة، ولا يَسمع إلا نبضات قلبه وهي تنحت اسمَ الحزن على جدران شرايينه. كلُّ شيء انتهى. آخرُ الدواءِ الكَي. قرَّر القيامَ بأخطر خطوة في حياته لكي يرتاح من العذاب، لكي تنام المساميرُ التي تَثقب حنجرته الخرساء.
أمَّا بهلول فكان يَغرق في الضوء الباهت في غرفة التحقيق. إنه يَخضع لتحقيق صارم من قبل الشرطة والأمن الوقائي. أدركَ أنه واقف على حافة الهاوية، ولا مجال للهروب إلى الأمام. وصل إلى نقطة النهاية. اعترفَ بكل شيء. ولم يحاول أن يلف ويدور. أخبرَ الشرطة بما يريدونه وما لا يريدونه. سَرد تاريخَ حياته منذ ولادته حتى هذه اللحظة بالتفصيل الممل. كأنه مستعد لهذا الموقف منذ سنوات طويلة. ألقى أرشيفَه الشخصي بكل تفاصيله، وهو يُصارع رغبةً جنونية في البكاء والصراخ.
تفاجأ المحققون بهذه الاعترافات المجانية. فقد جهَّزوا أنفسهم لمعركة طويلة الأمد مع هذا الشخص، ولم يتوقعوا أن ينهار بهذه السهولة. أُخضع لجهاز الكشف عن الكذب عدة مرات. ولم يَسقط في أية مرة. وكانت النتيجة أنه صادق فيما قاله.
تم استدعاء الدكتور جابر سيف الدين لتحليل شخصيته، وتشخيص حالته. وهو طبيب مشهور، يَحمل شهادات عليا في الطب الشرعي، والطب النَّفسي، ومتخصص في علوم الإجرام، ومعتمَد من قبل الأجهزة الأمنية. ودائماً ما يتم استدعاؤه لتحليل شخصيات المتَّهمين والمجرمين، وإبداء ملاحظاته العلمية الدقيقة.
وعندما قامت الشرطة باقتحام منزل بهلول ذُهلت مما رأتْه. كانت بيته الهالك عبارة عن مخزن للملابس الداخلية النسائية، موضوعة بشكل مرتَّب، ويَبدو أنها من أفخر الماركات. ومن الواضح أن هوايته المفضَّلة هي تجميع هذه الملابس. وقد علَّق أحد الضباط ساخراً عندما رأى هذا المشهد الغريب: ((الناسُ يَجْمعون الطوابع والعملات، أمَّا هذا المعتوه فيجمع الملابس الداخلية)).
والغريبُ أن بهلول ليس متزوجاً. وربما لو بِيعت الملابس التي جمعها، لغطى ثمنها تكاليفَ زواجه بالكامل.
كما لاحظت الشرطةُ ثقباً واسعاً في أحد الجدران، وبالقرب منه منظار لَيْلي أمريكي الصنع، لا يُمكن شراؤه من السوق، فهو يُعتبَر جزءاً من العَتاد العسكري. وهذه النوعية من المناظير لا تتوفر إلا لدى الجيوش. وقد قال بهلول إنه اشترى المنظار الليلي من أحد أقربائه الذي يَعمل في حرس الحدود. واعترفَ بأنه يَستعمله لمراقبة النساء وهُنَّ يُغيِّرْنَ ملابسهن، ورؤيتهن بقمصان النوم.
ومن أبرز اعترافاته، أنه كان يقف أمام محلات الملابس الداخلية النسائية ليرى النساءَ وهنَّ يَتَفَحَّصْنَ البضاعةَ، ويَستعرضنَ كافةَ الأحجام. كما أنه اعترفَ بأنه كان يَسْرق حمالات الصدر عن حبال الغسيل، ويُصنِّفها في بيته حسب اللون والحجم.
وعندما سُئل عن سبب قيامه بهذه الأعمال، قال إنه يُريد الانتقامَ من النساء لأنهن سَخِرْنَ منه بسبب دمامةِ خَلْقه وقُبحِ منظره، ونظرنَ إليه باحتقار، ولم يَحترمنَ مشاعرَه. وقال إن حياته بالكامل هي عُقد نفسية تجاه النساء منذ الطفولة حتى الآن، وقد قرَّر منذ مدة بعيدة أن يصبح سادياً ومهووساً جنسياً، لينتقم من النساء، ويثأر لكرامته. وبعد أن انتهى بهلول من تفريغ كل شحناته الداخلية انفجر باكياً، وحاولَ تناول مادة سامة كانت موجودة في خاتمه، لكنَّ المحققين قَفزوا عليه، ومنعوه من إدخال أي شيء إلى جَوْفه.
القلوبُ حجارةٌ كريستالية. كيف تبدأ الأشياء ؟. كيف تنتهي ؟. لا خارطة للنزيف المتفجر في حناجر العشب. إنه عشبُ الأحزان يَنبت على تجاعيد المطر السري. البشرُ كومةٌ من الدموع، يَدورون حول حجر الرَّحى. والجلودُ البشرية رُقعة شطرنج، واللاعبون قد مَاتوا.
كان قيس يَرمي شظايا قلبه على الشموس المصلوبة في أزقة جبل النظيف. آلامُه المتكاثرة كالرياح الشمسية صارت خطوةً مصيرية في أرشيف الحزانى. قرارُه المرعِب هو كأسُ السم الذي سيشربه مرغَماً. طلبَ من زوجته أن تذهب إلى بيت أهلها. وبعد أن غَادرتْ عالَمه المتهاوي، جهَّز حقيبةَ سَفره كاللص، وغادر المكانَ. خَرج من جِلْده، ودخل في جِلد الذكريات.
لم تدرك هند أبعاد كلامه. وبالتأكيد هو غاضبٌ منها، ويُريدها أن تبتعد عنه لبعض الوقت. لا بأس.. زوجٌ يُريد معاقبةَ زوجته. وعندما تهدأ أعصابُه سيأتي ويصالحها، وينتهي الموضوع، ويُغلَق الملف، وتعود المياهُ إلى مجاريها. هكذا كان التصورُ في ذهن هند. جَلست في بيت أبيها قرب النافذة الوضيعة. الأبوابُ الحديديةُ تتكاثر حَوْلها كخلايا العتمة، والجدرانُ تقترب منها شيئاً فشيئاً. حُرقة الانتظار تتلاعب بها، وأُمُّها لا تجرؤ على الكلام معها. لا تريد الأمُّ الدخولَ في التفاصيل القاتلة. ستبقى على بَر الأمان دون اقتحام هذا البحر الهائج. الجلوسُ على الشاطئ أكثر راحةً من السباحة في تاريخ الحزنِ والقلقِ. تمتزج دموعُ هند بصدأ النافذة الذي يمتص الوجوهَ المسحوقة تحت مخالب الضباب. نافذةٌ تطل على القلوبِ الممزَّقة، وتطل - في نَفْس الوقت - على الطرقات المنسية.
حَدَثَ ما لم يكن بالحسبان. استلمتْ هند ورقةَ طلاقها. وبالتأكيد لم تكن رسالة غرامية من زوجها، ولا فاتورة الكهرباء. إنها ورقة طلاق جاءتها من المحكمة. لم تصدِّق عينيها. لا بد أن هناك لبساً في الموضوع. الاسم الرباعي صحيح، والعنوانُ صحيح. كل البيانات دقيقة لا خطأ فيها. وطبعاً، هي ليست أُمية. إنها تَعْرف القراءة جيداً. قرأت الورقةَ جيداً، كما لو كانت امتحاناً في اللغة العربية. لقد تشرَّبت الكلامَ حرفاً حرفاً، حزناً حزناً.
جاءت أُمُّها من المطبخ بعد أن أنهت غسلَ الصحون. سَمعت جرسَ الباب لكنها كانت منهمكة في شؤون المطبخ. سألت ابنتَها عَمَّن قَرع الجرسَ. فقالت البنتُ الذبيحة إنه شخص من المحكمة سَلَّمني ورقةَ طلاقي. لم تَقْدر هند على البكاء. كانت الحواجزُ الأمنية منصوبة في قلبها وتمنعها من الإحساس الحقيقي. السدودُ مُشيَّدة في أعصابها، وتمنع الدمعَ من الجريان. أمَّا الأم فأخذت تُوَلْوِل وتَلطم خدودَها بشكل جنوني، وصوتُ بكائها يمزِّق الجدرانَ المرتعشة. شَعرت المرأتان أن سقف البيت سيقع عليهما. سَقطت الأقنعةُ عن ملامح الأشياء. وظَهرت الأشياءُ بصورة هستيرية مرعبة. الدموعُ لم تعد دموعاً، إنها حمم بركانية. الغرفُ الضيقة لم تعد غرفاً، إنها زنازين انفرادية. حبلُ الغسيل لم يعد حبلَ غسيل، إنه حبل مشنقة. الأنوثةُ لم تعد أنوثةً، إنها وباء غامض. كان الألَمُ يُغلِّف البيتَ مثل قطعة الشوكولاتة الملوَّثة بِحِبر الضحايا. حاولتْ هند أن تبكيَ، لكنها أَخفقت في امتحان الدموع. شظايا قلبها تترسب في قاع الهزيمة، كما تترسب جزيئاتُ السُّكر في كوب الدماء الخضراء. الأمُّ تتابع مسلسلَ انهيارها حلقةً حلقةً. ترسمُ سيناريو انهيار أعصابها بحرفية عالية. دموعُها تَغسل البلاطَ، لم تجد الأمُّ رايةً بيضاء لترفعها في حربها الخاسرة. لقد رَفعت شرايينَ دمها رايةً للهزيمة. جاءت النهايةُ صاعقةً وغير متوقَّعة. لا تكمن الخطورةُ في البكاء، وإنما تكمن فيما وراء البكاء. الكارثةُ ستبدأ بعد جفاف الدمع.
كان المساءُ شعلةً من الأحزان. عادَ أبو بسام من عمله الشاق. وجد البيتَ حديقةً من الجماجم الخرساء. الوجوهُ الذابلة كتلٌ حجرية لا يَستطيع علماءُ الآثار تحديدَ موعد انتحارها. أُصيب أبو بسام بالرعب من منظر هذه الوجوه الكالحة. سألَ زوجته عن الأمر فأخبرته بالأمر بدون مقدِّمات، ولا وصفات تجميلية. لم يُعلِّق على الموضوع، وطلبَ من زوجته أن تُحضِّر له العَشاء.
إنه يأكل ولا يَشعر بنكهة الطعام. براكينُ الغضب تثور في أوردته الصحراوية. هذه حالة طلاق وليست مزحة. إنها أول حالة طلاق في عائلة المخلوسي طوال تاريخها. وهذه سابقة خطيرة. إنها نذير شؤم. لا بد أن أحدَهم قد حسد هذه العائلةَ وأصابها بالعَيْن. هذا هو التفسير الوحيد في عقل أبي بسام. سوفَ تكون فضيحتهم على كل لسان. كيفَ سيمشي في أزقة جبل النظيف ؟!. كيف سَينظر إلى وجوه الناس ؟!. ماذا سَيقول للناس وهو الذي يُسدي لهم النصائح ويحل مشكلاتهم ؟!. أسئلة عنيفة تهوي على دماغه بمطرقة الصدى. كان يأكل بطريقة ميكانيكية، لا يَشعر بشيء حَوْله. لا يحس بأصابعه التي تَسْبح في الصحون. أطرافُه براميلُ بارود.
إنه يَغْرق في بئر أفكاره. تتساقطُ أوراقُ حياته في أحشائه المتشظية. عاشَ حياته مستوراً، والآن جاء وقتُ الفضيحة. عليه أن يَدْفع ضريبةَ تاريخه الشخصي. إنه أبو البنات، وهذا يعني له الكثير. عاشَ حياته مكسوراً. شيءٌ مشروخٌ في داخله. لم يَشعر بالقوة في حياته، فلا يوجد أبناء يَسندونه في هذا المجتمع الذي يختزل القوةَ في كثرة الأموال والأولاد. طالما شَعر بعُقدة النقص أمام إخوانه الذين أنجبوا الكثيرَ من الأولاد الذكور، أمَّا هو فظلَّ محصوراً في " أبو البنات ". أحسَّ طيلة حياته بأن أظافره مقلَّمة، وبقي خاضعاً - بشكل أو بآخر - لإخوانه الذين يُنجبون الأولادَ، أمَّا فهو فيُنجب الإناثَ. وطالما وَقع تحت استغلال إخوته وأبنائهم الشاعرين بالقوة الذكورية. راحَ أبو بسام يُنقِّب في تاريخ عائلته القديم. تذكَّر كيف كان أخوه الأكبر عمران يَسطو على صناديق الفواكه والخضار التي يُحضرها أبو بسام لأسرته. كان يأخذها من قلب بيت أبي بسام، وبناته الصغيرات يُحدِّقنَ في وجه عَمِّهن القاسي. ومع هذا لم يكن يُثير الموضوع احتراماً لأخيه الأكبر. إنها القوانين القاسية في المجتمع الذكوري. والكلُّ سعيدٌ بهذه القوانين في جبل النظيف - تلك البُقعة المعزولة -.
بَدت صحونُ الطعام مرايا زمنية، نَقلت أبا بسام إلى الماضي السحيق، جَعَلَتْه يُفكِّر في تفاصيل حياته التي طالما هَرب منها، وحاول جاهداً طَرْدَها من ذاكرته. هكذا تصبحُ الصحونُ شريطاً سينمائياً يُعيد الحزنَ للحزانى، ويَفتح بابَ الجروح على مصراعَيْه.
وفي اليوم التالي ذَهب أبو بسام إلى بيت أخيه زهدي لإيجاد حَل للموضوع. ولكنْ بلا فائدة. أخبره زهدي أنه لم يَعرف بالموضوع إلا بعد فوات الأوان. وقيس حملَ أشياءه وعادَ إلى أمريكا، ويبدو أنه لا ينوي العودةَ مُطْلقاً. وراحَ زهدي يصب جام غضبه على ابنه:
- الله يغضب عليه، ويُغلق كلَّ الأبواب في وجهه. أخزانا بين الناس وهَرَبَ.
وهنا تدخَّلت زوجته قائلةً:
- لا تَغضب على الولد.. العيبُ ليس في ابني.
ظَهرت علاماتُ الغضب على وجه أبي بسام عندما سَمع هذه الجملة، وقال:
- ماذا تقصدين يا أم قيس ؟.
- لا أقصد شيئاً.. وبَيْن البائع والشاري يَفتح اللهُ.
هاجَ زهدي عندما سمع هذا الرَّد، وقال بحدة:
- اخرسي يا حُرمة.. أنتِ مَن أفسدتِ الولدَ. فِعلاً، إنه تربية نسوان. وأكيد الأمريكيات لَحسنَ عقلَه، وعاد إليهن.
وراحَ يَدعو:
- الله يُخلِّصني منكِ ومنه في يومٍ واحد.
تركهما يتقاتلان، والصراخُ يَعلو ويعلو. وخرجَ من المكان مثلما يَخْرج الضبابُ من جِلْده. لا مكان للحوار في هذه العائلة. الضجيجُ هو لغة الحوار. هكذا يصبح الصراخُ هو المشكلةَ والحل في آن معاً. تجتمع الأضدادُ على جثة المكان، ويهاجر الضوءُ من أعصاب الأسمنت.
أغلقَ أبو بسام بابَ التاريخ، واعتزلَ أشعةَ الشمس. حبسَ نَفْسه في بيته، وقرَّر عدمَ الخروج. إنه منقوعٌ في الخجل. لا يَجرؤ على النظر في وجوه الناس. تمنى في قرارة نَفْسه لو أنه ماتَ مع أُمِّه ودُفن إلى جانبها. وقد ازداد انكساراً عندما علم بالشائعات التي تنتشر حول أسباب طلاق ابنته. هذا المجتمعُ لا يَرْحم. سَيَعتزل في بيته حتى تمضي الحكايةُ وينساها الناسُ. الحمدُ لله على نِعمة النسيان. هكذا يصبح النسيانُ هو البلسم الشافي. ولا يوجد مخلوق قادر على هزيمة النسيان.
أمَّا بسام فصار يَذهب إلى مدرسته عبر طريق التفافي. يَعبر الجبالَ الحزينة، والكسَّاراتِ المخيفة. وكل هذا من أجل الهروب من عيون الناس. لا يريد أن يتعرف عليه أحد. إنها رحلة الهروب من الذات. وبسبب طول المسافة صار يصل إلى مدرسته متأخراً. وكلُّ هذا التعب ذَهب أدراج الرياح. فالطلابُ رَاحوا يُعيِّرونه بسبب طلاق أخته. وصار لقبُه الرسمي" أخو المطلَّقة " بعد أن كان لقبه " العبقري". وكلَّ ساعة يَدخل في عِراك بالأيدي والأرجل مع طالبٍ ما بسبب كلمة السر القاتلة " أخو المطلَّقة ".
وما زالت عبارة أحد الطلاب ترن في أُذنيه: ((شحَّاذٌ وأخو مطلَّقة ويظن نَفْسه عالِماً مثل أديسون)). وللأسف، انطلقت هذه العبارةُ من فم طالب مجتهِد يَغار منه، ويَحسده على اهتمام المعلمين به.
قَرِفَ بسام من هذه الحالة. كَره الذهابَ إلى المدرسة. وقرَّر الاعتزال في المقبرة أُسوةً بأبيه المعتزل في البيت. سوفَ يُطبِّق نظريةَ أبيه في النسيان. النسيانُ هو الدواء. سيغيب عن المدرسة لمدة معيَّنة ثم يَعود إليها. وعندئذ تكون النارُ قد هَدأت.
وكلَّ يومٍ يَحمل بسام حقيبته، ويَخرج صباحاً، ولكنه لا يَذهب إلى المدرسة، بل يَذهب إلى المقبرة، ثم يَعود إلى بيته بعد الظُّهر. وهو يُريد إعطاء انطباع بأنه يَذهب إلى المدرسة كالمعتاد. وهذه الحِيلة انطلت على أهله. وهذا هو المطلوب.
يمارسُ في المقبرة هوايته في التأمل والتفكير وإعداد المشروعات العلمية. وكانت الفكرةُ الرئيسية في ذهنه هي الوحدة. إنه ولدٌ وحيد بين بنات. طيرٌ مهيض الجناح لا أخ يَسنده بين رجال العشائر. سَيَرِثُ الانكسارَ عن والده، ويَقضي حياته هارباً من ماضيه. هل تَقْدر الرياضياتُ على ملء هذا الفراغ القاتل ؟!. هل تستطيع شواهدُ القبور أن تصبح رِجالاً يُحيطون به في المجالس ؟!. يُلقي هذه الأسئلة على أشجار الصنوبر، ويَنتظر الصدى كي يأتيَ بالإجابة، فلا الصدى يأتي ولا الإجابة.
(35)
تحسَّنت الأمور المالية لمازن عبد الله (شاعر جبل النظيف). إنه يَعمل الآن كاتباً في إحدى الجرائد. قضى وقتَه - أيام زمان - متسكعاً في الأزقة. أمضى لياليه في السهر مع النَّور (الغجر) الذي يَسكنون في هذا الجبل. يَرقص معهم، ويَشرب الخمر معهم، ويَكتب القصائدَ للغجريات. متعةٌ مجانية دون أن يَدْفع أيَّ قِرش، هذا هو تعريفه للتكافل الاجتماعي.
كان مفتوناً بالراقصة صبرية، وهي شابة غجرية، عَشِقَتْه وَعَشِقَها. كانت تَرقص له وَحْدَه في ليالي جبل النظيف اللامعة تحت خدود القمر، ثم تَرمي نَفْسها في أحضانه. عشقته بكل جوارحها، وسيطرَ عليها إلى درجة الاستغلال. كانت تنفق عليه، وتدفع أُجرةَ بيته، حتى إنها كانت تشتري له ملابس العيد. فهي تعمل في ملهى ليلي، وتَكسب أموالاً كثيرة من الرقص. وعلى الرغم من كثرة الزبائن والمعجَبين إلا أنها لم تكن تسمح لأحد بوضع يده عليها. وَحْدَه مازن كان يضع يَدَه عليها. وهذه المرأةُ مستودع للتناقضات. فقد كانت تدفع لفقراء جبل النظيف رواتب شهرية، وتساهم في رعاية الأيتام، كما أنها بَنت مسجداً لكن الناس قالوا
إن أموالها حرامٌ، وخافوا من الصلاة فيه.
وقد طَلبت من مازن في إحدى المرات أن يتزوجها، فقال لها بصراحة:
- أنتِ نزوةٌ في حياتي، مجرد نزوة. كنتُ سكران، والآن استيقظتُ. ولا يمكن أن أتزوَّج نورية دايرة على حَل شَعْرها.
وعندما سَمعتْ هذا الكلامَ فَقدت أعصابَها، وصَفَعَتْه على وجهه، وقالت وهي تبكي:
- اخرس يا حقير.. أنا اشتريتُكَ بفلوسي.. ألف رَجل مثلك يتمنون حملَ حذائي.. ولكني وضعتُ ثقتي فيك يا تافه.
ابتسم مازن، وقال بحرقة:
- لن أرد لكِ الصفعة حفاظاً على العِيش والملح الذي بيننا، كما أن أخلاقي لا تسمح لي بضرب امرأة.
قالت صبرية والدموعُ تَحْفر قسماتِ وجهها كخنادق الحرب:
- كلُّ الناس راقصون وراقصات، والفرقُ الوحيد هو نوعية الملهى، ملهى نهاري أم ملهى ليلي. أليس هذا كلامُك أيها الشاعر الرومانسي يا فيلسوف الكذب والخداع ؟!.
ثم بَصقت عليه. ومَضت إلى حال سبيلها. تمشي وتتعثر بدموعها الساخنة التي تَقلي خطواتها الصغيرة. وفي صدرها أزيز مثل أزيز الرصاص.
هذه هي حياته العاطفية في زمن الفقر، وعالَمِ الطرقات القذرة. حياةٌ عابرة في رئة السراب الجارح. أمَّا الآن فصار يَسهر مع الوزراء والنواب في الفنادق الفخمة، ويُدعى إلى أكبر الحفلات التي يَحْضرها عِلْية القوم. إنها سُلطة القلم، والصحافةُ هي السُّلطة الرابعة التي تَفتح لكَ أبواب باقي السُّلطات. والأشخاصُ الذين كان يراهم على شاشة التلفاز، صار يُقابلهم وجهاً لوجه، ويُصافحهم بكل سلاسة. الدنيا دولاب يَدور، وأحوالُ الزمن متغيرة، ونفوسُ البشر لا تستقر على حال.
والمضحكُ المبكي أن مازن عبد الله يُصنَّف كعدو للمرأة. وقد قال في إحدى مقالاته إن المرأة ستظل ممسحةً لحذاء زوجها، وستذهب إلى النسيان في إحدى زوايا المطبخ. ومع هذا فلم يَتْرك جمعيةً لحقوق المرأة إلا وانضم إليها. وكلَّ شهر تقريباً يُشارك في ندوة حول دور المرأة في بناء المجتمع. إنه عالَم الغرابةِ والسخريةِ المرة.
وربما يكون قد ورثَ التناقضَ عن عمِّه الذي ظلَّ يُحدِّثه عن صِدام الحضارات والحرب بين العرب وأمريكا (بلاد الكُفر)، ثم هاجرَ إلى أمريكا، وتزوَّج امرأةً أمريكية، وهو الآن يَحمل الجنسية الأمريكية، ويملك محطة وقود في بوسطن.
يصبح العشقُ كالفحم الحجري، كلاهما سيحترق في ليالي الشتاء الحزينة. إنه يَجْمع الخياناتِ كالعملات النادرة. هاتان هوايتان رافقتا مازن منذ صغره. إنه ضائع، أضاع النساءَ من بين يديه، فكيفَ يَجد نَفْسه ؟. شخصيةٌ قلقة ووسواسية. في بعض الأحيان يقول إنه يريد الزواج ليكوِّن أُسرةً صالحة، وفي أحيان كثيرة يقول إنه لا يُريد الزواجَ، ولا يُريد امرأةً يُورِّطها معه. يحبُّ أن يتعذب لوحده، وأن يَدْفع ضريبة جنونه لوحده.
ينتحرُ تدريجياً مثلَ لفافة التبغ في قبضة امرأة مقتولة في الكراهية ومقتولة في الحُب. عطرُ امرأةٍ فوَّاح، لكنه قاتلٌ. تاريخُه الشخصي غرفة إعدام بالذكريات، وبراويزُ قلبِه مطليةٌ بالطحالب الذهبية. وكلُّ الحيطان التي تحاصره مطلية بالعناكب المضيئة.
مازن عبد الله شخصية مضطربة، متذبذبة بين الوعي والهلوسة. وهو سعيد بهذا المرض، فهو يَعتقد أن العباقرة والشعراء كلهم كانوا يُعانون من مشكلات صحية، أو أمراض نفسية، أو حالات جنون. لذلك يَعتبر مرضَه مؤشراً على عبقريته وتميزه عن باقي الناس.
وبصراحة، لقد تعرَّض مازن لظلم كبير في جبل النظيف. فقد تمَّ اتهامه بسرقة جثث الموتى، وبَيْعها لطلاب كلية الطب لكي يتدربوا على تشريحها. وهذه تهمة باطلة أُلصقت بمازن كما يُلصَق طابع البريد بالرسالة. ولكنْ - كما يقال - لا يوجد دُخان بدون نار. وأصلُ الحكاية أن مازن كان يَدْعو سكانَ الجبل إلى التبرع بأعضائهم بعد وفاتهم، فبدلاً من ذهاب الأعضاء إلى الدود والترابِ، تذهب إلى الناس المحتاجين إلى أعضاء من أجل استمرار حياتهم بشكل طبيعي. والبعضُ فهمَ هذه الدعوة على أنها متاجرة بالأعضاء، ثم ازدادت الإشاعاتُ لتصل إلى قصة بيع جثث الموتى. وما زاد الطين بلة أن الكثيرين سمعوا مازن عبد الله يقول: ((تنبش الشمسُ القبورَ، وأبيعُ أحزاني وجثثَ الموتى للمراهِقاتِ والغرباءِ)). وهكذا ثَبتت التهمةُ عليه من وجهة نظر السكان. وأصدر الناسُ حُكْمَهم القاطع بإعدام الشاعر معنوياً. وقد حاولَ الدفاعَ عن نَفْسه، وشرحَ الأبعاد الرمزية لقصيدة النثر، ولكن بلا فائدة. فقد أُدين في محكمة جبل النظيف الشعبية. ولم يَجد خياراً أمامه سوى الهجرة من الجبل، وتوديعه بشكل نهائي. وداعٌ لا لقاء بَعْده، هكذا قال في نَفْسه.
خَرج يجر أذيالَ الخيبة. يَسحب خطواتِه كالقائد المهزوم. ألقَ نظرةً أخيرة على شمس جبل النظيف، ووَدَّع عالَمَ المقبرة، حيث كانت تنعقد اجتماعات مجلس قيادة الثورة. ((لا يوجد احترامٌ للمثقفين والثقافة في هذا الجبل)). هذه القناعةُ الأولى التي توصَّل إليها. ((رَضينا بِالْهَم، والهمُّ لم يرضَ بنا)). هذه القناعة الثانية التي تَوَّجت رحيلَه الأبدي الحاسم.
كان مازن في مكتبه، يَنظر إلى الفضاء الأرجواني عبر النافذة. وبينما هو مندمج في تأملاته، رن جرسُ الهاتف. رئيسُ التحرير يريده فوراً. شَعر مازن بالغرابة، فليس من عادة رئيس التحرير أن يَطلب منه الحضور إلى مكتبه. بدأ يُفكِّر في كتاباته. إنه يُنقِّب في منجم كلماته. هل انتقدَ أحدَ السياسيين ؟. هل تجاوز الخطوطَ الحمراء ؟. الوساوسُ تَلعب به. لا يمكن لرئيس التحرير أن يَطلبه بشكل عاجل إلا إذا كان لديه اعتراض على مقالٍ ما.هذه هي الفكرة التي سَيطرت على ذهن مازن.
ذَهب مازن إلى مكتب رئيس التحرير، والقلقُ ظاهر على ملامحه، وهو يتوقع سيلاً من الانتقادات الحادة. جلسَ كالطفل الذي يتصنع الأدبَ في حضرة والدَيْه، وهو ينتظر مطرقةَ التوبيخ تهوي على رأسه.
لاحظ رئيسُ التحرير حجمَ القلق المتفجر على وجه مازن. أراد أن يخفِّف عنه فطلب له عصير ليمون، وقال بنبرة هادئة:
- لا تقلق يا مازن.. لا توجد أية مشكلة في مقالاتك. وقد طلبتُكَ لمهمة إنسانية أرجو أن تقبل القيامَ بها.
ازداد منسوبُ القلقِ والتشتتِ في شرايين مازن. مهمة إنسانية ؟!. لا بد أنه سيرسله إلى أماكن القتال ليعمل مراسلاً حربياً، أو ربما يرسله إلى مخيمات اللاجئين في مكان ما ليقوم بإعداد تقارير صحفية.
نظرَ مازن إلى رئيسه بانكسار، وقال:
- ولكني لا أحب السَّفر.
ابتسم رئيسُ التحرير، وقال:
- سَفر ؟!.. وما علاقة السَّفر بموضوعنا ؟!.
وأردف قائلاً:
- اسمعْ يا مازن، ولا تقاطعني.. ابنتي عنود مصابة بمرض قاتل لا علاج له. وقد أكَّد لي الأطباء في واشنطن ولندن وميونيخ أنها ستموت بعد عدة أشهر. وهي في حالة اكتئاب شديدة رغم أنها لا تَعْلم بالموضوع. وأريدكَ أن تخرجها من هذه الحالة. فربما تقاوم عنود المرضَ إذا تحسَّنت نفسيتها وارتفعت معنوياتها.
ازدادَ قلقُ مازن أكثر فأكثر، وقال وعلاماتُ الحيرة بادية عليه:
- وكيف يمكن أن أساعدها ؟.
- لا تنسَ يا مازن أنكَ شاعر، وتتقن كتابة الشِّعْر الرومانسي. أريدكَ أن تخدعها بالحب.. تكتب لها قصائد غرامية. أرجوكَ.. اضحكْ عليها، قُل لها إنك ستتزوجها بعد شهر أو شهرَيْن، وإنك لا تَقْدر على العيش بدونها.. مجرد كلام في الهواء. ربما ترتفع معنوياتها، ويزول اكتئابها، وتستطيع مقاومةَ المرض بكل عزيمة.
ارتبك مازن بشدة، وأخرج من جَيبه منديلاً ورقياً، ومَسح عَرَقَه الذي كان يتساقط على قميصه، وقال بصوت مرتعش:
- الوضعُ غريب، وذهني مشوَّش.. وأنا غير قادر على استيعاب الموقف. وبصراحة.. الموضوع يبدو كقصة خيالية، أو فيلم سينمائي بعيد عن الواقع.
- لا تستعجل يا مازن.. الموضوعُ سيظل سراً بيننا. كما أنني سأدفع لكَ خمسين ديناراً مقابل كل قصيدة تكتبها لها. ولقاؤكما سيتمُّ في بيتي. سوفَ تزورني في البيت بحجَّة مساعدتي في إعداد المقالات والدراسات. وهكذا ستلتقي بها.
دَخل مازن في حسابات التجار والسماسرة. صفقةٌ مربحة، إمَّا الربح وإمَّا الربح. لا يوجد مجال للخسارة. صفقةٌ نظيفة مئة بالمئة. خمسون ديناراً مقابل كل قصيدة. سِعْرٌ مُغْرٍ. لو كَتب لها كل أسبوع قصيدة، فسوفَ يجني مئتي دينار في الشهر. ولو افترضنا أنها ستموت بعد خمسة أشهر، فهذا يَعني أنه سيحصل على ألف دينار بدون تعب. هذا هو المنطق الذي سيطر على مازن في تلك اللحظة. لأول مرة في حياته يُدرك أن الشِّعر قادر على جني المال، وأن الرومانسية تُطعِم خبزاً.
(36)
هل ذَهبت جهوده أدراج الرياح ؟. هل يركض عمرُه وراء السراب اللذيذ ؟. فقد بسام ثقته بنفْسه. معنوياته في الحضيض. المصائبُ لا تأتي فُرادى. ضربتان في الرأس موجعتان. الضربةُ الأولى: طلاقُ أخته، والضربةُ الثانية: عدم حصوله على براءة اختراع. أُعجب الدكتور عبد اللطيف الشواري باختراع بسام. وقرَّر مساعدته بكل ما أُوتيَ من قوة. لكنَّ الإجراءات البيروقراطية حالت دون حصوله على براءة اختراع، فقد أضاعَ أحدُ الموظفين معامَلة الحصول على براءة الاختراع، وتاهت الوثائقُ الرسمية في الروتين الوظيفي. وهكذا ضاع الوقتُ، وذَهبت الجهودُ سُدى. وفي النهاية لم يَعترف أحد باختراع بسام. وهذا سَبَّب له حزناً عميقاً.
ومن حُسن حظ بسام أن الدكتور عبد اللطيف كان يُسانده بكل قوة، واستطاع أن يُخرجه من هذه المصيبة الصادمة.
أخذ الدكتور عبد اللطيف زمام المبادرة، وقال:
- أنتَ عبقري يا بسام، لكنك تدفن ذكاءكَ في جبل النظيف. وسوفَ تَضيع إنجازاتك العلمية في الفساد الإداري، وكثرةِ المعامَلات، والفوضى العارمة. وقد خطر لي فكرة رائعة.
لَمعت عينا بسام بشدة. تفجر الوميضُ الهائل فيهما. جُذب إلى هذا الكلام. ماذا تكون هذه الفكرةُ الرائعة ؟. ظَهرت على قسماته اللهفة والشوق والحماسة. إنه يَغرق في عذابات الانتظار الشهية. يَنتظر الكلامَ القادم من فم الدكتور، مثل طير مُهاجِر يَنتظر رائحةَ عُشِّه.
قال الدكتور بعد أن لاحظَ اللهفةَ في تلك العينين الصغيرتين:
- هناك معرض عالمي للمخترعين الشباب في كوريا الجنوبية، سوفَ نذهب إلى السفارة لتسجيل اسمك من أجل المشاركة.. هذه هي فرصتك للظهور أمام العالَم.
أحس بسام أن له مكاناً تحت الشمس. صار واثقاً بنفْسه أكثر من أي وقتٍ مضى. شَعر أن الفرصة قادمة، وسينفض غبارَ السنوات عن وجهه، ويُحدِّق في الأفق بعينين لا تخافان. المنبوذُ الجالسُ في محطة القطارات لم يُضيِّع وقتَه، فقد جاء القطارُ الذي سَيَنقله إلى الشفق البعيد.
عادَ بسام برفقة معلِّم العلوم إلى جبل النظيف. الآن، عليه أن يُقنع والده بجدوى هذه المشاركة. لا بد من موافقة والده على كل كبيرة وصغيرة، ولن يتم الموضوع بدون تلك الموافقة، لأن بسام تحت السن القانونية.
بقي بسام يتقلب على الجمر طيلة ذلك اليوم الطويل الذي بدا وكأنه لن ينتهيَ أبداً. ينتظر قدومَ والده ليشرح له الموضوع بالتفصيل. شرحَ الموضوعَ لأُمِّه وأخته الكبرى من أجل مساعدته في إقناع والده. هذه فرصةُ العمر، إذا ضاعت فلن تأتي مجدداً. إنها طوقُ النجاة، وإذا لم يتشبث به بسام، فسوفَ يَغرق حتماً.
كانوا يَجلسون حول طاولة العَشاء. ملامحُ أبي بسام توحي بأن مزاجه غير متعكر. إنه في حالة نفسية جيدة. هذه هي اللحظة المناسبة لكي يتحدث بسام. عليه أن يَستغل لحظة الصفاء النادرة لمحادثة والده بالموضوع.
خرجَ بسام من بين الركام، ركامِ أحزانه، وقال بصوت ذابل:
- هناك موضوع يا أبي.. أرجو أن توافق عليه.
توقف أبو بسام عن الأكل، ومَسح فمَه بطرف كُمِّه، وقال بصوت خشن:
- هل هناك مصيبة جديدة ؟.. هذه العائلة لا يأتي من ورائها إلا المصائب.
بلع بسام ريقَه، وقال كأنه متسول يستجدي الناسَ:
- هناك معرض عالمي للاختراعات في كوريا الجنوبية، وأريد الذهاب لأعرض الآلة التي اخترعتُها.
نظرَ أبو بسام إلى ابنه باستخفاف واضح، وقال:
- وما المطلوبُ مني يا عالِم عَصْرِك ؟.
اقتحمت أمُّ بسام الحوارَ، وقالت بحماسة شديدة:
- لا تستهنْ بعبقرية ابنك، ولا تَكسر معنوياته. الولدُ سيذهب يعني سيذهب.
ضحك أبو بسام بسخرية، وقال:
- بِيعي ذهبكِ، واشتري تذكرتَي سَفر، وسافري معه لكي أرتاح منكما.
لم تَقدر هند أن تظل صامتة، فقالت بحرارة بالغة:
- أنا سأدفع ثمن التذكرتَيْن، فلا تقلق يا أبي.. اذهب مع بسام إلى هذا المعرض لأنك ولي أمره، وربما يُغيِّر هذا الاختراع حياتنا إلى الأبد.
وبالطبع، كانت هند تَعني ما تقول. فقد كان لديها مبلغ من المال، (المؤخَّر) الذي حَصلت عليه بعد طلاقها.
تغيَّرت نظرةُ أبي بسام إلى الموضوع بعد أن رأى الإصرارَ المتدفق على وجوه أفراد أُسرته. وصار يَعتبر الموضوعَ حقيقةً واقعة، ولا مجال للسخرية أو الهروب.
السَّفرُ هو الطريقُ الأبدي، والمصير الحتمي. ماتَ ضوءُ الذكريات، لكن الأمور تسير بسرعة الضوء. ثلاثة غرباء في طائرة الأحلام. الدكتور عبد اللطيف، وأبو بسام، وبسام. كلهم يَركضون باتجاه قوس قزح الذي يزداد غموضاً كلما اقتربتَ منه أكثر. لم يجدوا أية جهة تَدعمهم. إنهم يتحررون من جاذبية العناصر، لا ذاكرةٌ وراءهم، ولا أحزانٌ أمامهم. أبو بسام وابنه يسافران لأول مرة في حياتهما. أمَّا الدكتور عبد اللطيف فقضى جزءاً كبيراً في حياته مسافراً، عاشَ في الطائرات، وغرفِ الفنادق. العلماءُ يَعيشون غرباء، ويموتون غرباء. غربةٌ في الروح، وغربةٌ في الزمانِ والمكانِ.
لم تكن رحلة سياحية. نقطتا البداية والنهاية معلومتان مسبقاً. مهمةٌ محدَّدةٌ لا مكان فيها للتعرف على المناظر الجميلة، أو مشاهدة ثقافات الشعوب الأخرى. هذه الرفاهية بحاجة إلى مال، وأبو بسام وابنه لا يَملكان مالاً لهذه الأشياء. إنَّ هند مَوَّلت الرحلةَ من أحزان طلاقها، ولا يمكنهما الاستمتاع بأحزان هذه المرأة المعذَّبة، أو بناء المجد على آلام الآخرين.
سيتم عرضُ اختراع بسام في المعرض. إذا فازَ ستُفتَح له أبوابُ المجد، وإذا خسرَ سيعود مثل القائد المهزوم يجر أذيالَ الخيبة. الحياةُ مغامرةٌ لا مقامَرة. كلُّ إنسان يأخذ نصيبَه كاملاً غير منقوص. قضى بسام وقتَه في قراءة القرآن على نية التوفيق. كان الأفقُ يمتد فوق أجنحة الفراشات المقصوصة. الأحلامُ تَقترب وتَبتعد. والفرحُ يقف على مسافة واحدة من كل الحزانى. والذكرياتُ تقف في منتصف الطريق بين الحياةِ والموتِ. يجب على الإنسان أن يموت عشرات المرات لكي يعيش. هذه الضريبة الباهظة لا بد من دفعها. كلُّ واحد سَيَدْفعها بإرادته ورغماً عنه.
كان معرضاً ضخماً. وما إن رآه بسام حتى سَرت في جسده رعشةٌ قاتلة. ازداد التعرقُ، وبدأ يَرتجف حقيقةً لا مجازاً. شَعر أنه حشرة ضئيلة أمام هذا الطوفان المرعب. بشرٌ من أنحاء العالَم يَتحدثون لغاتٍ مختلفة. والعبقريةُ ينابيع تتفجر في وجوههم، يَسوقون اختراعاتهم مثل قطعان المها. أحس بسام أنه صغير للغاية. مجرد ريشة في مهب الريح. وفي تلك اللحظة احتقر اختراعَه، ونَظر إليه بازدراء. فكَّر أن يَعود إلى بلده. يُريد أن يَختبئ في المقبرة، ويُخفي دموعَه بين أوراقه وتأملاته. تذكَّرَ أصواتَ باعة الخضار في جبل النظيف الذي لا يمكن رؤيته على الخارطة لأن الشمس لا تَعترف به. تمنى بسام لو بقي في عزلته، فهي - على الأقل - تَحفظ ماءَ وجهه. ماذا سَيَفعل أمام هؤلاء المخترِعين القادمين من أعظم بلدان العالَم ؟. لا بد أنهم سَيَضحكون عليه. تخيَّلَ فريقَ كرة قدم من حارة شعبية سيقابل البرازيل. ما هي النتيجة ؟!. وساوس مجنونة ترتطم بعقله بلا هوادة. قدماه لم تستطيعا حَمْلَه، فجلس على كرسي مجاور. آمن في تلك اللحظة الحرجة أنه في المكان الخطأ، وندم على قدومه. لكن أحاسيسه انقلبت ثلاثمائة وستين درجة عندما تذكَّر وصايا فايز ابن عمِّه: ((قَاتِلْ حتى النهاية. العبْ الجوكر، ولا تخف من الهزيمة. الخوفُ هو الهزيمة. شرفُ المحاولةِ يَكفيك. الموتُ سوفَ يَحصد العباقرةَ والأغبياءَ معاً. لكنَّ الموتَ بشرف أفضل من الموت بدون شَرف)).
اقتحمَ بسام هذا العالَمَ بثقة عالية. ليس لديه ما يَخسره. انتظر دَوْرَه بهدوء مخيف. وعندما سَمع اسْمَه صَعد على المسرح. ألقى شرحاً موجزاً عن اختراعه باللغة العربية، وكانت هناك ترجمة فورية. وجاءت اللحظةُ الفارقة. فقد سأله المشرف عدة أسئلة، كان من بينها: ((ما هو المكانُ الذي تُولَد فيه أفكارك ؟)). نبعَ الجوابُ المدوِّي: ((الأفكارُ الفيزيائية تُولَد في القبو، والأفكارُ الرياضيةُ تُولَد في المقبرة)).
أُعجب المشرفُ بهذا الجواب، وقال للحاضرين: ((إن هذا المخترِع الصغير فيلسوف عظيم، فهو يُعبِّر عن انهيار الحضارة بالقبو، ويُعبِّر عن المأزق الوجودي للإنسان بالمقبرة. نريد تصفيقاً حاراً لهذه الفلسفة العميقة)).
وعلا التصفيق بصورة هستيرية، ودام قرابة عشر دقائق بلا انقطاع. ونسي الحضورُ اختراعَ بسام، وصار تركيزُهم منصباً على عباراته التي ألقاها في الفضاء كالقنبلة. لم يتوقع بسام أن يُعجَبوا بكلامه. فهو كلامٌ عادي يَصف الحقيقةَ بدون مكياج. فهو يفكر في المسائل الفيزيائية في قبو منزله، أمَّا مسائل الرياضيات فيقوم بحلها في المقبرة. وهذان المكانان يوفِّران له الهدوءَ، ويُريحان أعصابَه، ويُخلِّصانه من مشكلات أُسرته، وفوضى العالَم الذي يعيش فيه أو يموت فيه. وقد اعتقد المشرفُ أن بسام يتحدث بصورة مجازية ذات دلالات رمزية.
وصار كلامُ بسام عن القبو والمقبرة مثل الشعارات السياسية أو الحِكم المأثورة. تناقلته وسائل الإعلام، ووضعته الجرائدُ كما لو كان حِكمةَ العَدَد. وأسالَ كثيراً من الحِبر، وأثارَ نقاشاتٍ حادة بين الباحثين حول قضية سقوط الحضارات، ونهايةِ التاريخ. واقترح بعضُ العلماء على بسام أن يتوجه إلى مجال الفلسفة، ونسيانِ عالَم الاختراعات العِلمية، لأنه مواهبه الفلسفية أكبر من مواهبه العِلمية.
انتهى المعرض. وأُعلنت نتائج المسابقة. أُصيب بسام بخيبة أمل كبيرة لأنه لم يتمكن من الفوز بأي مركز من المراكز الثلاثة. تحجَّر الدمعُ في عينيه، لكنه لم يَندم على المشاركة. وبعد أن تم تسليم الجوائز لأصحاب المراكز الثلاثة، أَعلن عريفُ الحفل عن وجود جائزة تشجيعية تُمنَح من قِبَل لجنة التحكيم. وكَم كانت المفاجأة صاعقة عندما تم إعلان الفائز بهذه الجائزة الخاصة.
نعم.. لقد ذَهبت الجائزةُ إلى بسام. تجمَّد بسام في مكانه، وتدفقَ الدمعُ من عينيه. ولكنْ، هذه دموعُ الفرح لا الحزن. نالَ شهادةً من لجنة التحكيم، ومبلغ سبعة آلاف دولار. كانت هذه اللحظةُ تتويجاً لمسيرته، وتعويضاً عن آلامه وأحزانه. لا يمكن وصفُ تلك المشاعر الخاصة التي تفجَّرت في قلب بسام. لأول مرةٍ في حياته، يَشعر أنه إنسان مهم في هذا العالَم، وأن وجوده ليس عابراً. لن يَكون رقماً في قائمة البشر. لن يكون شبحاً في أزمنة الإنسان. لن يَكون شاهدَ قبرٍ مُرقَّماً في غابة الأرقام. لن يكون قبراً مجهولاً في أرشيف صنوبر المقابر. هذه الـ " لن " هي قيمة الرفض. تتكرر في حياته، لأن حياته هي الرفض.
عادَ بسام إلى جبل النظيف محمولاً على الأعناق. تم استقباله مثل القائد المنتصر العائد من المعركة. أجسادُ البشرِ أقواسُ نصرٍ. لقد وَضع اسمَ جبل النظيف على خارطة العالَم. يَحمل الشهادةَ في كفِّه مثل الصولجان. أمَّا المالُ فقد أخذه أبوه ليسد ديونَه. فرحةٌ عارمة تنتشر في أعصاب الأسمنت، أسمنتِ الوجوه البشرية، وأسمنتِ البيوت القديمة.
الناسُ يَرقصون ويُغنون كأن المنتخب الوطني قد فاز بكأس العالَم. في هذا المكان، يُنقِّب الناسُ عن الفرح، ويَبحثون عن النصر. فإن لم يَجدوا فرحاً، اعتبَروا حُزنهم فرحاً، وإن لم يجدوا نصراً، اعتبَروا هزيمتهم نصراً. وفي أحيان كثيرة يَخدعون أنفسهم عن سبق الإصرار والترصد. ويصبح الخِداعُ هو نشوةَ الفرح والانتصار.
(37)
فَرغتْ ماريا الأرمنية من قراءة ديوان ابن زيدون. كانت تَشرب حِبرَ الأبيات الشعرية قطرةً قطرة. لم يكن اختيار هذا الديوان عبثياً، فقد أرادت الاطلاع على الموسيقى الشعرية الأندلسية. ومن وجهة نظرها، ابن زيدون أفضل مَن يأخذ بيدها في هذا المجال.
وقد استعارت الكتابَ من مكتبة المسجد المجاور لِبَيْتها. أو بالأحرى، طَلبت الكتابَ من الشيخ عبد الرحيم عمران إمام المسجد، فأعطاها إياه، وأمهلها أسبوعين لإعادته. وجميعُ سكان الحي يَعْلمون أن مكتبة هذا المسجد ضخمة للغاية، وشديدة التنوع، فهي تشتمل على أربعين ألف كتاب تقريباً في شتى المجالات. لذلك يَقصدها عددٌ كبير من الناس، مثقفين وغير مثقفين.
انتهى الأسبوعان. ذَهبت ماريا إلى مكتبة المسجد لإعادة الكتاب. لم تجد الشيخ عبد الرحيم. وَجدت إماماً جديداً، فَسَلَّمَتْه الكتابَ، وسَألتْ عن الشيخ عبد الرحيم. ظَهر على وجهه علاماتُ الأسى، وأخبرها أنه في السجن.
صُدمت ماريا بهذا الجواب. ومَضت إلى بيتها كالمغمَى عليها. انطفأ عالَمُها بشكل صاعق. تَسيرُ على غير هدى كأنها واقعة تحت التنويم المغناطيسي. خطواتها ميكانيكية، ولا تَشعر بأطرافها. عقلُها في وادٍ، وقلبها في وادٍ، وجسمُها يُحارِب نَفْسَه بلا رحمة. وَصلت إلى بيتها، وهي لا تَعرف كيف وَصلت. ارتمت على الأريكة الناعمة التي بَدت في تلك اللحظة كأنها كَوْمة من المسامير. أعصابُها تُقلَى على صفيح ساخن. أَجْرت اتصالاتٍ عديدة مع مسؤولين كِبار، وأخبروها أن الشيخ تجاوز الخطوطَ الحمراء، وتحدَّث في مواضيع سياسية حساسة. وقد سُمح لها بزيارته بعد أن أخبروها بمكان سجنه، ورقم زنزانته.
كان الشيخُ يقرأ القرآنَ في الزنزانة. أخبره الحارسُ أن هناك امرأةً تريد زيارته. اعتقد الشيخُ أنها أُمه، وأن أهله عَلموا بأمره، وجاؤوا لزيارته. لكن المفاجأة كانت من العيار الثقيل. بَزغ وجهُ ماريا كالشعاع الذي يَقتحم قضبان السجن الصدئة. وقف الشيخُ على قدميه بصعوبة بالغة. كانت قدماه ترتجفان. ويداه صارتا قطعتين من الخشب. كان منظره يوحي بأن نهايته اقتربت. مشاعرُه مثل مشاعر السجين الذي طُلب منه الاستعداد للإعدام.
شَعرُ ماريا الأشقر يَلْمع مثل عيون السيافين الذي يَقتحمون الزنازين ويَدخلون على السجناء بلا موعد. خصلاتُ شَعرها سيوفٌ من الشمع الجارح. فَتح الحارسُ بابَ الزنزانة، فَدَخلت ماريا، وهي تَحْمل في يدها طعاماً وحلوى وزجاجة عصير. امتص الشيخُ الصدمةَ، لكنه لم يَقْدر على الكلام.
تقدَّمت منه ماريا، وقالت له:
- هل هذه طريقتك في استقبال الضيوف ؟.
عكَّرتْ هذه الزيارةُ مزاجَ الشيخ، ولم يستطع هَضْمَ الموقف، وقال وملامحه تزداد قسوة:
- لماذا جِئتِ يا ست ماريا ؟.
لم تتأثر ماريا بهذا الاستقبال الجاف، وقالت بكل ثقة:
- أولاً، أنا اسمي ماريا وليس ست ماريا. ثانياً، جئتُ لأشكرك على إعارتي ديوان ابن زيدون، وقد أعدتُه إلى مكتبة المسجد لئلا تظن أني سَرقتُه. ثالثاً، إذا كُنتَ لا تحب استقبال الضيوف، فاطردني، وسوفَ أَخْرج، ولا أعود أبداً.
جلس الاثنان وبينهما الطعام. كان الشجرُ يَنْبت في سقف الزنزانة، والجدرانُ تمشي إليهما بخطوات واثقة. والفراشاتُ دَخلت في مرحلة المراهَقة، وحَطَّت على كتف الضوء الباهت. والدهشةُ تَقضم وجوهَ الحراس الذين كانوا يُراقبون المشهدَ بخبث. عيونهم مثل عيون الذئاب، وتاريخهم يتحرك تحت الطاولة. لم يَقْدروا على استيعاب الموقف: إمام مسجد وأرمنية في زنزانة واحدة. ما نوعُ هذه الرومانسية ؟!. ما هو العامل المشترك بينهما ؟!. لقد تابَعوا الكثير من المسلسلات المكسيكية والتركية لكن هذا المشهد لم يجدوه في أية حلقة.
أجالت ماريا النظرَ في الزنزانة، ثم قالت بصوت مكسور:
- لو كنتُ أعرف أنكَ تصلِّي على الأرض لأحضرتُ لكَ سجادةَ صلاة.
رَمى الشيخُ بصرَه إلى الأرض، وقال:
- جِئنا من التراب، وسنعود إلى التراب. عِشْنا على ظهر الأرض، وسوفَ نُدفَن في بطنها.. كلُّ الأحلام سيتم ابتلاعها، والحياةُ الحقيقية بعد الموت. الدنيا أكذوبة، ونحن أكاذيب.
ثم نظرَ إلى ماريا وملامحُه تزداد خشونةً، وقال:
- ست ماريا.. هذا المكانُ لا يناسبكِ، أرجو أن تأخذي الطعامَ، وتغادري المكان.
نَظرت إليه وعيناها تَسْبحان في كتلة الفراغ، وقالت بصوت هامس:
- هل تخافُ على سُمعتي أم على سُمعتكَ ؟.
كانت الشموعُ في قلب الحيطان القذرة تزداد احتراقاً. وشلالاتُ الحزن تصب في شرايين الضوء البلاستيكية. ارتسمَ على فم ماريا نصفُ ابتسامة، وقالت:
- هذا المكانُ لا يناسبني ولا يُناسبكَ.. ولستُ هنا لكي آخذ الطعامَ، أنا هنا لآخذكَ معي.
تأفَّف الشيخُ، وظَهرت عليه آثارُ الاستياء والتعب، وقال بحدة:
- أنا سعيدٌ هنا.. سجني مكان للتأمل، ولا أريد الخروج.
أطرقتْ ماريا لبرهة، ثم قالت:
- لم أكن أعرف أنكَ عنيد لهذه الدرجة.. ولكنْ عليكَ أن تعرف أنني عنيدة أكثر منكَ، وقد رَتَّبْتُ مسألةَ خروجكَ، وسوفَ تخرج اليومَ بعد إتمام بعض الأوراق الضرورية.
استسلم الشيخُ للأمر الواقع. ولم يُرِد أن يَدخل في سِجال مع هذه المرأة " المجنونة ". لم تعد الحياةُ بسيطةً كما كانت أيام زمان. صار الواقعُ شبكةً معقَّدة، والشيطان كامن في التفاصيل. كلُّ خطوةٍ في الحياة تشكِّل ضغطاً على الأعصاب. القلقُ وضغطُ الدمِ وحُرقةُ الأعصابِ هي العملات المعتمَدة في سوق الذكريات. لا يمكن إراحةُ الجسد إلا باقتطاع جزء من الجسد. يشتري الإنسانُ الدماءَ بالدماء. يحمي لحمَه عن طريق حرق لحمه، ويُريح أعصابه باستخدام أسلوب حرق الأعصاب. هذا هو القانون الرسمي في مُدن الصدى.
الأوراقُ لا تنتهي. يجب إنهاء قضية الشيخ وعدم إحالتها للمحكمة. هذا الأمرُ جاء من جهات عليا. كانت الدوائر الأمنية تملك ملفاً كاملاً عن حياته ودروسه. وقد جاءت التعليماتُ بضرورة حرق ملفه، وإنهاء هذا الموضوع للأبد. لكن هذا الأمر بحاجة إلى وقتٍ.
خرجَ الشيخُ من السجن في الساعة الثالثة والنصف صباحاً. الدنيا شعلةٌ من الغبار. عواءُ الذئاب يَجرح ذراتِ الأكسجين. وعيونُ الضباع تَلمع كالألعاب النارية. هذا السجنُ في قلب الصحراء، ولا يوجد أي سجين يُفكِّر في الهروب منه. ولو فُتح بابُ السجن على مصراعيه فلن يَهرب أحدٌ. فالهروبُ يعني أن يصبح السجين كومةَ لحمٍ في فم ضبعٍ جائع، أو ذئب مجنون. وفي أحسن الحالات يموت السجين من العطش والجوع في عالَم الرمال اللامتناهي، وتستقر جثته في بطن نسرٍ.
وقفَ الشيخُ على باب السجن يَنتظر السرابَ أو الرمال المتحركة. لم يَعرف أين يذهب. وحيدٌ في قلب الغبار. تمنى - في تلك اللحظة المليئة بالخوف - لو بقي في السجن. اقتربت سيارة الأرمنية منه. أَنزلت الزجاجَ الأسود، وقالت له:
- اصعد يا عبد الرحيم.
تعمَّدت أن تخاطبه باسمه المجرَّد دون ألقاب.
تجمَّدت رِجْلاه في هاوية العاصفة. وعقاربُ الساعة - التي تَحفر الرمالَ - راحت تَلدغ جوارحه بلا رحمة.
تضايقت من جموده، فقالت بحدة:
- اصعدْ قبل أن تأكلك الضباع.. وبعد ذلك اكرهني واحقد عليَّ.
ركبَ الشيخُ في السيارة، وجلسَ مُشَبِّكاً أصابعه. لم تَصدر عنه أية حركة، كأن على رأسه الطير.انطلقت السيارةُ في زحمة العواصف الترابية. كان الصليب المعلَّق على المرآة الأمامية يهتز بشدة، إنه يتأرجح مثل بندول الساعة.
هذا اللمعانُ الأصفر يَشتعل كعود الثقاب. ركَّز الشيخُ بصرَه في الصليب الذي يَقطر لهباً. لاحظت ماريا هذا المشهدَ، فنزعت الصليبَ وخبَّأته في جيب بنطالها. سادَ الهدوءُ العاصف في هذا المناخ المرتعش. غرق الاثنان في فراغ رهيب لا قَعر له، وبينما كانا يَسقطان دون إبداء أية مقاوَمة، قالت ماريا وقلبها يَحترق ألماً:
- أنا أعرف أنكَ تكرهني لأنكَ مُسْلِم وأنا غير مُسْلمة، وأعرف أنكَ تقول في نَفْسك: هذه امرأة نصرانية مُطلَّقة تعيش حياتها بالطُّول والعَرْض، وسوفَ تجعلني مشبوهاً. أليس هذا صحيحاً ؟.
انتفض الشيخُ. طارت جمجمته في فضاء اللهب، وقال بصوتٍ مُزَلْزِل:
- ماريا !.. لا تقولي هذا الكلام.. لا تتركي الوساوس تلعب بِكِ.
وانفجرتْ باكيةً مثل طفلة تَترك والدَيْها وتَدْخل المدرسةَ لأول مرة. مشاعرُها تَسقط في بئر الصدى. والغربةُ العمياء تَبلع أعصابَها تدريجياً. كانت دموعُها تَصهر هيكلَ السيارة، وتَمتزج مع التراب فيصير طِيناً يُزيِّن ذاكرةَ الهاوية. أعطاها منديلاً ورقياً لتمسح دموعَها العنيفة. والشهقاتُ الحارة تواصل الغليان في قِدْر عواطفها المبعثَرة.
قالت بصوت متقطع يَغرس البكاءُ فيه خناجرَه المسمومة:
- سوفَ أُوصلكَ إلى أقرب نقطة لكيلا أُلَوِّث سِيرتك العطرة، أمَّا أنا فلتذهبْ سُمعتي في الوحل.. لا مشكلة.
ازداد غضبُه بشكل واضح، وقال والنيرانُ تَقضم شفتيه:
- ماريا.. لا تقولي هذا. سُمعتكِ من سُمعتي، ولا أسمح لأحد أن يَمَسَّكِ بسوء.
نَظرت إليه، ثم قالت بسخرية:
- اضحكْ عليَّ بكلمتَيْن.
- أنا لا أضحكُ عليكِ. ماريا.. نحن سنتزوجُ على سُنَّة الله ورسوله، وعندئذ لا نضحك على بعضنا، ولا نَهرب من بعضنا.
سَيطرَ الصمتُ. ولم تنبس ماريا ببنت شفة. كان قلبُها يَقفز من الفرح، أمَّا لسانُها فغاطسٌ في بركة اللعاب الحارق دون حِراك. إنها مفاجأة متوقَّعة وغير متوقَّعة في آنٍ معاً. كان بركانُ العواطف يثور بشدة. ومن كثرة المشاعرُ لم تَظْهر المشاعر. نعم، كثرة المساس تُذهِب الإحساسَ. والسكوتُ العنيف أَحكم قبضته على فضاءات الذاكرة. وكما قيل: كلما اتَّسعت الرؤيةُ ضَاقت العِبارةُ.
(38)
الرمادُ هو مستقبل الطيور المسافرة. كلُّ إنسانٍ طائرٌ بلا أجنحة، يسافر في نَفْسه، ويسافر في الحياة. وهاتان الرحلتان يتم تتويجهما بالموت (السَّفر النهائي).
هذه الفلسفةُ كانت تنبعث في قلب الدكتور لؤي عطوة كالحمم البركانية. يسافرُ في نَفْسه السحيقة ولا يَصل إلى قَعْرها، ويسافر في الحياة فيعود أكثر حَيرةً. وقد تمنى في تلك اللحظة الخشنة أن يأتيَ الموتُ ليصبح السَّفرُ نهائياً وحاسماً. ذهابٌ بلا إياب. نعم، إنها لحظةٌ قاسية للغاية، لأنه اكتشف فيها أنه زوجٌ ساذج، تجري المياه من تحته وهو غاطسٌ في الأحلام الوردية.اكتشفَ خيانةَ زوجته بمحض الصُّدفة. لا يحتاج شهوداً لإثبات الخيانة. الخيانةُ مُثْبَتة، وقد جاءته دون أن يَطْلبها. ما أصعب أن يكتشفَ الرَّجلُ خيانةَ زوجته !.
بينما كان يُفتِّش عن ربطة عنقه الخضراء في خزانة الملابس، وَجد صورةً على أرضية الخزانة. والظاهرُ أنها وَقعت من ثياب ميادة. التقطها، وحدَّق فيها بعينَيْن ذابلتين. كانت زوجته في أحضان الأستاذ رأفت. وقد التُقطت الصورةُ أثناء رحلتهما إلى وادي رَم. وعلى ظَهْرَ الصورة كَتب رأفت: ((حبيبتي ميادة، لن تكوني لغَيْري، ولن أكونَ لغَيْركِ. عاشقُكِ إلى الأبد.. رأفت المخلوسي)).
سيطرَ الدكتور لؤي على أعصابه. أُسرته تَضيع تدريجياً، وأحلامُه تتساقط مثل حجارة الدومينو. لم يعد هناك شيء في حياته يبكي عليه. ماذا سيقول لزوجته ؟!. هل سَيُعطيها محاضرة في المبادئ والأخلاق ؟. إذا فَعل ذلك فسوف ترد عليه زوجته بمحاضرة في الشرف والقيم النبيلة.مَن كان بيتُه مِن زُجاج لا يرمي الناسَ بالحجارة.
قرَّر الدكتور أن يتعامل مع رأفت مباشرةً. ارتدى ملابسه بسرعة بعكس عادته. فهو معتاد على الوقوف أمام المرآة لمدة طويلة، وفحص ملابسه نقطةً نقطة. لا يريد أن يَترك شيئاً خارج السيطرة. كلُّ تفاصيل جسمه وملابسه يجب أن تَخضع لحسابات دقيقة. أمَّا الآن فلم تعد للحسابات أية قيمة.
سقطَ نظامُ حياته، وعمَّت الفوضى المهووسة. نزلَ الدرج قفزاً. حركاته تتزاوج مع مهارة لاعب السيرك الذي يَسير على الحبال، ولا يَدري متى تحين لحظة السقوط القاتلة.
لاحظت زوجته حركاته الغريبة واندفاعه الجنوني. سألته عن وُجهته فلم يُجبها. وفي الواقع، لم يَسمع كلامها لأنه كان محصوراً في عالَم آخر، يَغرق في الضجيج الهائل، ويَسقط في ضوضاء دقات قلبه المتفجر. الفضاءاتُ تتلاشى أمام عينيه الغارقتين تحت ركام السنين، وأنقاضِ الذاكرة.
وصلَ إلى جبل النظيف بسيارته الفارهة. والجميعُ يَنظرون إلى سيارته، فالسكانُ لم يتعودوا على رؤية هذه السيارات الفخمة في هذا الجبل البائس المنبوذ. سأل أحدَ البقَّالين عن منزل رأفت المخلوسي، أستاذ اللغة الإنجليزية. فقال له البقال:
- اسمحْ لي يا باشا أن أُغلقَ الدكانَ وآتِيَ معك لإرشادك. فالطريقُ إلى بيته يمر عبر أزقة كثيرة، سوفَ تَضيع فيها لوحدك.
وصلا إلى البيت. أعطى الدكتورُ البقالَ عشرة دنانير، وشَكره على جهوده. انطلقَ البقالُ ولسانُه يَلهج بالدعاء للدكتور بالبركة والتوفيق. مبلغُ عشرة دنانير في رُبع ساعة يُعتبَر رقماً قياسياً، وإنجازاً يستحق إغلاق الدكان من أجله.
كانت الروائحُ الكريهة تُزكم أنفَ الدكتور. إنه يُجيل بصرَه في هذا الزقاق المقرِف، وعلاماتُ الاستياء ظاهرة على محيَّاه. قرعَ الجرسَ فجاءه صوتُ رأفت من الداخل مثل مسامير قاربٍ غارق. فتح رأفت البابَ، وصُدم برؤية الدكتور. وانعقد لسانُه للحظة، ثم رحَّب بالدكتور ترحيباً حاراً، وأدخله إلى غرفة الضيوف. ومن المجاز تسميتها بغرفة الضيوف، فهي غرفة ضيقة، جدرانها كالحة، وأثاثها مهترئ. ولكنها - على أية حال - تظل أفضل من اللاشيء.
جلسَ الرجلان في فوهة المواجَهة الحتمية. كانا يتجنبان النظرَ إلى بعضهما البعض. شَعر الدكتور بالقرف من منظر الغرفة القبيح، وبدا حريصاً على ثيابه بعد أن لامست الأثاث المتهالك. وفي زحمة الهدوء الجارح، قال الدكتور بنبرة مليئة بالأسى:
- أستاذ رأفت.. أريد أن أكون معك صريحاً ومباشِراً. لقد عرفتَ أنكَ تقيم علاقة مع زوجتي، ولن أُلقيَ عليك خُطبة في الشرف والترابط الأسري.. أنا مستعد أن أدفع لكَ خمسة آلاف دينار مقابل الابتعاد عن زوجتي.
ارتبكَ رأفت بصورة واضحة، وبدأ العَرَقُ يفترس رموشَه رصيفاً رصيفاً. استجمع قواه الذهنية والبدنية، ولم يجد مفراً من حتمية المواجَهة، فقال:
- صحيحٌ يا دكتور نحن أُناس فقراء، ولكننا لَسْنا للبيع.
بلعَ الدكتورُ ريقَه، وقال:
- يبدو أن مبلغ خمسة آلاف قليل.. فليكن المبلغُ عشرة آلاف.
قرَّر رأفت أن يَرفض بشدة. وبينما كان يَهم بالكلام رأى صورةَ أُمِّه على الحائط الذابل. إنها بحاجة إلى عملية جراحية ثانية. مبلغ عشرة آلاف دينار سوفَ يفي بالغرض. خاتمُ ميادة غطَّى تكاليفَ العملية الأولى. وهذا المبلغ سيُغطِّي تكاليفَ العملية الثانية. لا بد من دفع ضريبة الشفاء. سقطَ بين نارَيْن، لكنه قرَّر أن يُخرِج أُمَّه من عذابها.
«لا يمكن للرومانسية أن تنتصر على الموت». نَقشت العواصفُ المتدفقة في شرايينه هذه العبارةَ على حائط ذاكرته. ومع هذا لم تستطع ذاكرته أن تجد ارتباطاً بين هذه العبارة وبين الواقع. كان مُشَتَّتاً إلى أبعد حَد. والصورُ البصرية تهوي على أعصابه بمطرقة الهلوسة. كانت الصورُ الْمُشَاهَدَةُ تَخدع عقلَه، وتَغرس في رأسه الصداعَ الشامل. لقد وَقعت حواسُّه في الانفصام، وكلُّ أعضائه تتقاتل فيما بينها. وفي النهاية، استسلمَ للأمر الواقع، وقرَّر أن يَرفع الرايةَ البيضاء أمام إغراء المال. لقد كان البياضُ في راية الهزيمة مُلوَّثاً كالرصاص المطاطي.
أدركَ الدكتورُ أن رأفت قد وافقَ على العَرْض. فالسكوتُ يدل على الموافقة. استغل الموقفَ، فأخرجَ دفترَ الشيكات، وكتبَ شيكاً بالمبلغ المتفق عليه. أعطاه لرأفت فَقَبَض عليه بكلتا يديه. ولكنْ يَبدو أن الأمر لن يقف عند هذا الحد. أخرج الدكتورُ الصورةَ التي تجمع زوجته مع رأفت. وضعها على الطاولة تحت عيون رأفت، ثم قال له:
- أريدُكَ أن تَشطب ما كَتَبْتَه على ظَهْر الصورة، وتكتب كلاماً يُفيد بإنهاء علاقتك مع زوجتي، وتوقِّع تحته.
أيقنَ رأفت أنه وصلَ إلى نقطة اللاعودة، ولا مجال للهروب أو التراجع. وآمن في تلك اللحظة بعدم جدوى النقاش أو التفلسف. لقد حُسم الموضوعُ، وسَبق السيفُ العذلَ. أخرجَ قلمَ حِبر أزرق من جيب قميصه، وشَطب ما كَتبه، ثم كَتب تحته ويده ترتجف: ((كنا نَضحك على بعضنا، وهذا الحبُّ انتهى لأنه أكذوبة، والأكاذيب تذوبُ مثل مكعَّب الثلج تحت الشمس)). ووقَّع تحته.
قبضَ الدكتور على الصورة كأنها كنز ظهرَ فجأةً في مغارة غامضة. ومضى في طريقه نحو شمسِ الاحتضار مثل شخص في القرون الوسطى يمسك صكَّ غُفران، ويسأل نَفْسَه: ((هل الحياةُ حقيقةٌ أم مهزلة ؟))، لكنه لا يجد جواباً.
الأزقةُ تتشعب مثل شرايين الضباب التي حَفر المساءُ القاتلُ اسمَه عليها. لكل بدايةٍ نهايةٌ. هكذا تُولَد الأشياءُ من موتها، وتموت العناصرُ في لحظة ميلادها. تصبح الأضدادُ متعادِلةً، وتتجاذب الأقطابُ المتشابهة، وتتساوى الذكرياتُ المتنافرة. يؤول كلُّ شيءٍ إلى اللاشيء، ويصيرُ اللاشيء شيئاً في مكان ما. الإنسانُ شخصٌ واحد في هذا العالَم، لكنه بالنسبة لشخصٍ ما هو العالَم. هكذا تندلعُ الحربُ الطاحنة بين النسيان والذكريات.
كان رأفت يُمسك الشيك ويبكي بكاءً مراً، كأن دموعه تَكشط الكلماتِ والأرقام المزروعة في قلب الشيك. يُريد الدواء الشافي، وهو لا يَعْرف هل النسيان هو الدواء، أم الذكريات هي الدواء، أم سيصبح لسانُ حاله: ((دَاوِني بالتي كانت هي الداء)). وعلى أية حال، سوفَ يظل الوباءُ يَضربُ أعصابَ الشموس الحزينة.
دخلَ الدكتور لؤي الفيلا مثل القائد المنتصر. المهمةُ العسكريةُ تكلَّلت بالنجاح، وأقواسُ النصر تتناثر حَوْله. ولكنْ لا توجد نساء يَرْمين عليه أكاليلَ الغار والورودَ الحمراء. ومِن حُسن الحظ يوجد سجادٌ أحمر ليبدوَ الاحتفالُ بالنصر أكثر واقعيةً.
كانت زوجته تبرد أظافرَها، وهي تشاهد إحدى أغنيات إلفيس بريسلي. نظرَ إليها بشماتة، وقال لها بسخرية:
- أحضرتُ لكِ هديةً ثمينة، سوفَ تُعجبكِ بالتأكيد.
لم تفرح ميادة بهذا الكلام على عكس عادتها. فقد رَأت الرعبَ في عيون زوجها، وهذا جعلها تخاف بشدة وتنسى الهديةَ. عيناه تأكلان مداراتِ الألم مثل فوهة مَدْفع أثري، وقُطعانُ الديدانِ تَخرج من وجناته السحيقة مثل القطارات الكهربائية. أخرجَ الصورةَ من جَيْب سُترته، ووضعها على الطاولة مثلما يَضع لاعبُ القِمار المحترِف الورقةَ الرابحة. أدركتْ ميادة الأمرَ بكافة أبعاده، وقرَّرت أن ترميَ كلَّ أوراقها. لقد كُشف المستورُ، ولم يعد هناك شيء تُخفيه، ولم يعد هناك شيء تَخسره.
قالتْ له بكل ثقة، وبأعصاب باردة مثل أعصاب قاتِلٍ محترِف:
- مُنذ متى تفتِّش في أغراضي الشخصية ؟.
قال الدكتور والبراكينُ الخامدة في صدره تعود إلى الثورة:
- أنا آسِفٌ.. شخصٌ حقير مِثْلي لا يَملك الحقَّ أن يُفتِّش في أغراض امرأة شريفة طاهرة مثلكِ.
ابتسمتْ ميادة، وقالت وأسنانُها البيضاء تتفجر في ذرات الأكسجين:
- هذه أول مرة تَصْدق في كلامكَ.
أمسكَ الدكتورُ أعصابَه وقال:
- اقرئي كتاباتِ حبيب الروح الذي باعكِ بسِعْر عشرة آلاف دينار.. أستاذ الأجيال الذي سَيُعلِّمهم الأخلاق الحميدة.
امتدت يدُ ميادة نحو الصورة، وراحت تقرأ بكل حواسها، ثم لاحظت التوقيعَ. لم يساورها أدنى شك بأنه خط رأفت، كما أن التوقيع هو توقيعه. لكنها-رغم هذا- لم تتأثر. وازدادت ثقتها بنفسها بصورة جنونية، وقالت بملء فمها:
- هذا الكلام لا يَنْبع من قلبه. لقد قمتَ بابتزازه.. أعرف أساليبك القذرة يا لؤي. أنا أعشقُ رأفت وهو يَعْشقني. لا يمكن أن تحاكمني. اللصُّ لا يُحاكِم لصاً. لقد سَرقنا الطهارةَ من أجسادنا.. كلنا خائنون، بِعنا أنفسَنا للشيطان، ونعتقد أننا أطفال أبرياء.
ارتسمتْ على شفاه الدكتور ابتسامة تُشبه ابتسامة القناص قبل أن يُطْلق
رصاصةَ الموت أو رصاصة الرحمة. وقد تكون تلك الابتسامة الغامضة تُشبِه ابتسامةَ الذئب قبل أن يَنقض على فريسته. حقنَ ابتسامته المخيفة بفاصل من الصمت والشظايا، ثم قال:
- صرتِ فيلسوفة.. هذا الشاب القذر غَسلَ دماغكِ بكل سهولة.
ألقى هذه الكلماتِ، وأطرق لبرهة، ثم لطمَ ميادة على وجهها بكل ما أُوتيَ من قوة. كادَ وجهُها يَطير من شدة الضربة. ولسوء حظها كان الدكتور يَضع في بنصره خاتماً غليظاً، وقد أثَّر بشدة في خدها. جُرح هذا الخد الناعم، وامتزجَ الدمُ مع المكياج. ولم تملك ميادة في تلك اللحظة إلا أن تلوذ بالبكاء المر. كانت تبكي بحرقة، وبعد انتهاء جرعة البكاء خرج صوتُها من بين أنقاض روحها:
- أنا حرة، سأفعل ما أشاء.. أكرهُكَ وأعشقُ رأفت.. ولو كنتَ تملك ذرةً من شرف لطلَّقتني.
- أملُ إبليس في الجنة.. سوفَ أجعلكِ ذليلةً حقيرة، تعودين إِلَيَّ مثل الكلبة. هل تظنين نفسكِ الأميرة ديانا أو جودي فوستر ؟!. أنتِ مجرد امرأة اشتريتُها بفلوسي للتسلية في وقت الفراغ. لكل شخصٍ سِعْرُه يا مَدام. أنا اشتريتُكِ بفلوسي وأنا أُحدِّد موعدَ البيع.. لا وقت للمشاعر، ولا أحد يجرؤ على اللعب معي.
وأطلقَ ضحكةً مدويةً بشكل مباغت، وقال باستهزاء:
- الشرفُ يأتي ويَذهب.. المهمُّ الصحة.
انتفضتْ ميادة كاللبؤة المصابة بعيار ناري، وقالت بصوتٍ يَلْمع كالبارود:
- سوفَ أَرفع دعوى خُلع في كل المحاكم، وسأَكسبها رغمَ أنفكَ.
ضحكَ الدكتور ضحكةً مجلجلة، وقال ساخراً:
- صرتِ تَفهمين في القوانين والمحاكم يا فضيلة الزوجة الطاهرة !.
وأردفَ قائلاً:
- اعملي ما تشائين.. بَلِّطي البحرَ. سأُحضر كلَّ المحامين في البلد، ولن تأخذي مني شيئاً. أنتِ جاريةٌ وأنا سَيِّدُكِ، وفي قبضتي صكُّ حريتك أو عبوديتك.
(39)
الضبابُ فوقَ جبل النظيف يَغزل ثيابَ الحزن. ضجيجُ الآلات يَنبعث من الكسَّارات التي تشق الجبالَ، وتنتزع أرواحَ الصخورِ والحجارةِ. العُمَّالُ يَستخرجون قوتَ يَوْمهم من أعصابهم المنثورة تحت الركام. يعودون مُرهَقين إلى زوجاتهم وأبنائهم. في عيونهم تعبُ السنين العطشى. يَربتون على أكتاف أبنائهم لتشجيعهم في المدرسة، ويَمسحون بأكفهم الخشنة على أجساد زوجاتهم المنقوعة في رائحة البصل والبهارات وأواني الطبخ. إنه قانون الحياة الروتينية. لا جديد تحت شمسِ الألم. رائحةُ العَرَقِ التي تَخدش الملابسَ لا تتغير. إنها العاملُ الثابت رغم تغير الأزمنة والأمكنة. وقد جاءَ الوقتُ لكي ينكسرَ الروتينُ، ويَحدث التغييرُ المؤلم. جاءَ الزلزالُ الذي لم يتوقعه أَحد. توقفَ العمالُ عن العمل، وعلا الصراخُ بشكل هستيري.
أسرعَ الجميعُ إلى أبي بسام بعدما رأوه يَسقط على الأرض. كان يتلوى من الألم. صراخُه يَنحت في قلب الحجارة نزيفَ العصور. انتشرَ الظلامُ في جسمه. انطفأت العناصر حَوْله، وكان الشمعُ الأسود الذي يَسيل من قلبه الذابل، يُحنِّط عناكبَ الذاكرة على جدران شرايينه العمياء. خَسر أربعة أصابع في يده اليمنى. أصابعُه ملقاة على الأرض كأنها قِطَع شوكولاتة. أصابعُ مبتورة تتراقص على صفيح ساخن، وتَرتجف كأجنحة الفراشات الباكية. لم يَستوعب الموقفَ أَحدٌ، ولم يَعرف العمالُ كيف حَدث هذا. فأبو بسام أقدمُ عاملٍ في هذه الكسارة، وهو بمثابة المشرِف على عمليات تفجير الجبال، وقطعِ الصخور. فهو يَملك خبرة طويلة في هذا المجال. ولكنْ، غَلطة الشاطر بألف. دَخلوا في محرقة الحزن للتطهر والخلاص. ولكنهم لم يَنالوا الخلاصَ، وكلما اقترَبوا ابتعَدوا. حَمله رفاقُه إلى أقرب مستشفى بسرعة بالغة، وحَملوا أصابعه كما لو كانت وساماً عسكرياً اعتراه الصدأ الأبدي.
لم يَستطع الأطباءُ مساعدته. سيقضي حياته بدون أصابعه. سيُخفي كفَّه عن الناس كأنها وصمةُ عارٍ أو نقطة سوداء في سِجله. ولطالما ساعدَ الناسَ بهذه الكف، ودافع بها عن الفقراء والضعفاء. وقد كان يساعد الأطفال والعجائز في حمل الأشياء الثقيلة. والآن، ذَهبت هذه الكف إلى غير رجعة.
كانَ حريصاً على مغادرة المستشفى بأقصى سرعة لأنه لا يَملك المالَ. عادَ إلى بيته في المساء، وهو يَحمل أصابعَه في كيس أسود كما لو كانت بطيخة يعود بها إلى أُسرته. تحولَ بيتُه إلى بركة من الدموع. ويَبدو أن هذا البيت صار معتاداً على المصائب. الأحزانُ لا تُجدي نفعاً، ولا تُعيد الماضي، ولا تُرجِع الذكرياتِ. الذي راحَ قد رَاحَ، لن تُعيده الدموع، ولا يمكن إرجاعه بأية وسيلة أخرى.
حاولَ أبو بسام التخفيفَ عن أُسرته، ورفعَ معنوياتها، وتصوير الأمر كمسألة عادية على الرغم من قناعته التامة بأنها مسألة كارثية شَطبت مستقبله إلى الأبد. لكنه لم يشأ أن يُسبِّب أيةَ مشكلة لعائلته. حمدَ اللهَ وشكرَه على بقاء كفِّه اليسرى سليمة دون أذى. أمرَ أفرادَ عائلته بالكف عن الدموع، فالأمر - كما قال - لا يستحق الدموعَ. دَخلَ إلى غرفة النوم، وألقى نَفْسَه على السرير. خبَّأ رأسَه تحت الوسادة، وانفجرَ باكياً.
ما حَصَلَ قد حَصَلَ. والحياةُ سوفَ تستمر رغم كل المصائب. الشموسُ التي تَطلع من قفصنا الصدري وتَغيب في دمائنا اللزجة، ستبقى أكبر من الأحزان والأحلام. لن تَمتنع الأرضُ عن الدوران حُزناً على أي شخص، ولن ترتديَ الأشجارُ ثيابَ الحِداد أبداً. كلُّ دمعةٍ لها نقطة بداية ونقطة نهاية. لا توجد دموعٌ أبدية. النسيانُ سيأتي حاملاً في يديه البلسم الشافي. هذه الأُسرة تتعامل مع الأمر الواقع. ولو كان البكاءُ يُعيد أصابعَه المقطوعة لصار البكاءُ عنواناً جديداً لهذه الأُسرة الغارقة في الآلام. ولكن البكاء مجرد مرحلة عابرة، إنه يُشبه حكومة تصريف الأعمال. فهو محطةُ انتظار، انتظار شيء غامض، قَد يكون مؤلماً، وقد يكون مُفرِحاً.
أُغلقت الأبوابُ في وجه أبي بسام. صاحبُ الكسَّارة لم يُكلِّف نفسَه عناء زيارته في البيت والاطمئنان على صحته. وليتَ الأمور وقفت عن هذا الحد. لقد قام صاحبُ الكسَّارة بتوبيخ العمال الذين تركوا العمل لإنقاذ أبي بسام، وراحَ يُسمعهم كلاماً قاسياً، ويُعدِّد أمامهم خسائره جرَّاء توقف العمل. وقد اعتبرَ أن المسؤولية كاملةً تقع على كاهل أبي بسام. اتهمه بالتقصير والإهمال، ورفضَ منحَه أيَّ تعويض أو مكافأة نهاية خدمة. وهكذا خرجَ أبو بسام من المولِد بلا حُمُّص. وذَهبت سنواتُ عمره أدراج الرياح. جلسَ في بيته كالأرملة التي تَنتظر أيَّ شخص يسأل عنها أو يزورها، حتى لو كانت زيارة خاطفة بلا مشاعر. وقد خافَ غالبية العمال أن يَزوروه في البيت لئلا يَفقدوا أعمالَهم. أمَّا الذين غامَروا بمستقبلهم، فقاموا بزيارته تحت جنح الظلام مثل اللصوص، وضمن إجراءات شديدة السرية.
لم يقم أبو بسام برفع دعوى قضائية ضد صاحب الكسَّارة لعلمه أن أمور المحاكم تستغرق وقتاً طويلاً، وهو لا يَملك مالاً لكي يُوكِّل محامياً، ويَدخل في متاهة القوانين، ودهاليزِ المحاكم. كما أنه مقتنع تماماً بأن صاحب الكسَّارة قد حَبَكَ الأمورَ منذ مدة طويلة، ولديه جيشٌ من المحامين القادرين على إخراجه من كل مأزق مثل الشِّعرة من العجين. لم يعد هناك مكانٌ للضعفاء في هذا العالَم. القويُّ يَفرض شروطَه، والجميعُ يؤدون له التحيةَ. القوانينُ مثل شِباك العنكبوت لا تَقع فيها إلا الكائنات الصغيرة، أمَّا الكائنات الكبيرة فتمزِّقها. وكَّل أمرَه إلى الله، ونسيَ الإصابةَ التي تعرَّض لها، لكنه لا يزال محتفظاً بأصابعه مثل طابع بريد نادر.
في اليوم التالي جلس أبو بسام مع زوجته. كان يُخفي في أعماقه حزناً رهيباً، وانكساراً عنيفاً. بقايا الدموعِ القديمةِ تتلألأ في عينيه الغارقتين في السراب الكثيف. نظر إلى زوجته مثلما يَنظر الطفلُ الذبيحُ إلى أُمِّه، وقال بصوت بائس:
- اسمعي يا أم بسام.. أنا الآن شِبْه مشلول. وأمامي خياران، إمَّا أن أَحفظ كرامتي وأجلس في بيتي فلا يَنظر إِلَيَّ الناسُ نظرة شفقة، أو أمد يدي على باب الجامع.
ارتعشت أمُّ بسام، وسَرت في جسدها الذاوي كهرباءُ الأحلامِ الضائعةِ، وقالت بصوت مجلجل:
- لا تقل هذا يا سَيِّد الرجال، ستظل عزيزاً كريماً لا تمد يدكَ لأحد. الناسُ هُم الذين يمدون إليكَ أيديهم.
أخذَ أبو بسام نَفَساً عميقاً، وحدَّق في الأفق البعيد الذي كان يَرحل شيئاً فشيئاً، وقال:
- هذا الكلامُ لا فائدة منه. سبحان مُغيِّر الأحوال.. يُغيِّر ولا يتغيَّر. أبو بسام الحقيقي ماتَ يا حُرمة، وأنا الآن قطعة قماش بالية.
انقطعَ نَفَسُ أبي بسام. وسكتَ لبرهة كأنه يَستخرج ذكرياتٍ قديمة من بئر عميقة. كانت الحروفُ تَضيع على شفتيه، وأحلامُ الماضي العريضةُ تتراقص أمام عينيه كالأشباح المعجونة بالرعب والحزن.
استجمعَ قواه الذهنية التي كانت مُشتَّتةً، وقال:
- بصراحة يا أم بسام، أنا أُفكِّر أن أُخرج بسام من المدرسة، ونَجد له صَنعةً يَكسب منها المالَ.. يساعد نَفْسَه ويُساعدنا.
ارتبكت أمُّ بسام، ولم تُرِد أن تَدخل في جدل عقيم مع زوجها المنهَك الذي يَنتحر أمامها كزهرة برية أصابها مرضٌ غامض. قالت بصوت يُشبه صوتَ امرأةٍ دَخلت نادي الأرامل حديثاً:
- الولدُ ما زال صغيراً، كما أنه عبقري في المدرسة، ويريد أن يصبح عالِماً. وعلى أية حال، الموضوع بينكَ وبَيْنه. اجلسْ معه.. إمَّا أن تُقنعه، وإمَّا أن يُقنعكَ.
ارتسمت على شَفَتَي أبي بسام ابتسامة ساخرة، وقال:
- عالِم ؟!. يا حُرمة.. العِلمُ ليس للفقراء، العِلمُ للأغنياء. هنا لا فائدة من العِلم والكتب والمدارس. في بلاد الأجانب هناك مستقبل للعلماء، أمَّا نحن فنأكل ونشرب ونتزوج ونموت. هكذا عاشَ آباؤنا، وهكذا نحن نعيش.
وأردفَ يقول:
- هل تعلمين أن ما يَحْصل عليه الميكانيكي في اليوم يُعادل راتب موظف حكومي في شهر كامل ؟. انظري حَوْلك.. حمدان الميكانيكي الذي لا يَعْرف فَكَّ الخط اشترى بيتاً برُبع مليون، ورأفت ابن أخي أستاذ لغة إنجليزية، وقضى حياته في المدارس والجامعات لا يَملك مالاً لكي يَتزوج.
في هذه البيئة المسحوقة، من الطبيعي أن يُخرِج الآباءُ أبناءهم من المدرسة في سن مبكرة لكي يَعملوا في مهن مختلفة، ويساعدوا أهلَهم مادياً. لذلك لم تستغرب أمُّ بسام كلامَ زوجها رغم ارتباكها للوهلة الأولى، ولم تتفاجأ به، ولم يُشكِّل لها أي صدمة أو حَرَج. لقد أَخذت الأمرَ بكل روح رياضية، وبدون أي تشنج، وبلا أدنى انفعال.
ولو تَرك بسام المدرسةَ أو أُجبِر على تركها، فلن تكون هذه سابقةً في عائلة " المخلوسي ". فالكثيرُ من أبناء هذه العائلة تركوا المدرسةَ، وعَملوا في مهن مختلفة. وما زال هذا التقليدُ مستمراً حتى الآن. وهو قانونٌ مفروضٌ بِحُكم الأمر الواقع، وينال شرعيته من ممارسته اليومية التي لا يُنكِرها أحدٌ في هذا الجبل. والعملُ ليس جديداً على بسام. فهو يَقضي عُطلة الصيف في بيع العلكة على إشارات المرور. وهذه مهنته التي تبدأ عندما تُغلِق المدرسةُ أبوابَها. ويبدو - هذه المرة - أن عائلته ستغلق أبوابَ قلبه في وجه المدرسة للأبد.
ومن الأمور التي لا يمكن نسيانها، أنه في أَحد المرات، وبينما كان بسام يَبيع العِلكة على إشارة المرور في رأس العَيْن، وهي منطقة قريبة من جبل النظيف. وَقفت سيارة فارهة أمام الإشارة الحمراء. كان فيها سيدة تَجلس في المقعد الخلفي، وقد أَمرت سائقَها أن يُعطي هذا الطفل (بسام) عشرين ديناراً دَفعة واحدة. أشفقتْ عليه، وحَزنتْ عندما رأت ثيابَه الرثة. والغريبُ أن هذه المرأة هي زبيدة سليم المخلوسي ابنة عمِّ بسام. لم تَعْرف ابنَ عمِّها، ولم يَعْرف ابنةَ عمِّه. وقد سمعَ بسام عن ابنة عمِّه أحاديث كثيرة، لكنه لم يرها مُطْلقاً. لقد تزوَّجت رَجل أعمال، وأدارت ظَهْرَها لعائلتها لأنهم أُناس بسطاء، وتنكَّرت لجبل النظيف مسقط رأسها وحاضنة ذكرياتها. وهي تقول للناس إنها وُلدت في نيويورك، لأن والدها كان مسؤولاً كبيراً في الأمم المتحدة !.
جاءَ المساءُ الملتهبُ. غَرقت الشمسُ في دموع الشفق. وتعانقُ الحزنُ مع أسمنت القلوب المذعورة. أخبر أبو بسام ابنَه بموضوع ترك المدرسة. وكَم كانت المفاجأة عظيمة !. لقد وافقَ بسام بلا تردد. صُدم الأبُ بهذه الموافقة السريعة، فهو يَعلم مقدار حب ابنه للعِلم والمدرسة.
أدركَ بسام أن والده الآن شِبْه عاجز، وبما أنه الولد الوحيد، فعليه أن يُضحيَ بمستقبله من أجل إعالة أسرته. صحيحٌ أنه عبقري، والجميعُ يتوقَّعون له مستقبلاً باهراً في مجال العِلم والاختراعات، لكنه جاء في الوقت الخطأ، وَوُلد في المكان الخطأ. وفي جبل النظيف، الكل سَيحترمك ما دمتَ تملك المالَ. لا أحدٌ هنا يُقدِّر قيمةَ العِلم. المستقبلُ - في هذا المكان المنطفئ - للمال والسيارة والبيت. الجميعُ يَغرقون في نظام استهلاكي قاسٍ، ولا أحد يفكِّر في الخروج منه، أو التمرد عليه.
حسمَ بسام أمرَه، وقرَّر تركَ المدرسة نزولاً عند رغبة والده. فكَّر أن يَنتقم من صاحب الكسَّارة لأنه أدار ظَهْره لأبيه، وتَخلى عنه في أشد لحظات ضَعْفه، ولكنه وَلدٌ وحيد بين بنات، ولا حَوْل له ولا قوة. عرفَ في تلك اللحظة المؤلمة أهمية كثرة الأولاد في هذا المكان القاسي. لن تَكونَ مرهوبَ الجانب إلا إذا كَانت أُسرتكَ مليئة بالرجال. قرَّر في نَفْسه - عندما يَكبر - أن يتزوجَ أربع نساء لكي يُنجِب أولاداً كثيرين يَسُدُّون عَيْنَ الشمس. وهكذا لن يجرؤ أحدٌ على التعرض له، أو المساس بأُسرته.
كانت عَيْنا هذا الطفل مثل المقلاة التي تقفز فيها الدموعُ الساخنة. عليه أن يبدأ حياته من جديد. يُصفِّر العدَّادَ، ويُودِّع عالَمَ الاختراعات، وينسى ذكرياتِ العلماء الذين عاش معهم روحياً. عَلَيْه أن يمارسَ الموتَ في الحياة، وأن يَعيشَ النهايةَ في البداية. يجب أن يتأقلم على الانتحار المعنوي بكل صمته وضجيجه. هكذا أَقنع نَفْسه.
(40)
هل هذا الشخصُ هو حارس المقبرة ؟!. هل هذا الشخصُ هو صاحب مكب النفايات ؟!. الكثيرون لم يُصدِّقوا أعينهم. إنه يَرتدي ثياباً نظيفةً. ولا بد أن الماركة عالمية. وتُحيط برقبته الوهاجة ربطةُ عنق حريرية تلتف كالأفعى الذهبية ذات الجِلد النادر، وتلامسُ جِلْدَ رقبته الناعم. شَعْرُه مُصفَّف بعناية فائقة كأنه نجم سينمائي مشارك في مهرجان عالمي. حذاؤه الأسودُ مُلمَّع. ورائحةُ العِطر تحيطه بسياج أرجواني، وتَرسم حَوْله هالةً من البريق. ولا أعرفُ هل هو بريقٌ حقيقي أم مُزيَّف.
الكثيرون لم يُصدِّقوا الخبرَ عندما سَمعوا به. قالوا إن هذا مستحيل. وقد جاؤوا ليتحققوا من الأمر، ويَروا بأُم أعينهم. وبالفعل، كان الخبرُ صحيحاً. لقد رشَّح نَفْسَه في انتخابات مجلس النواب!. إنها مفاجأة من العيار الثقيل.. خبر الموسم.
قال البعض بصوتٍ قريب للهمس وبكل سخرية: ((أبو المزابل رَشَّح نَفْسَه للانتخابات.. هذا ما كان يَنقصنا !)).
إنه مهرجان انتخابي حاشد مقام في الشارع الفاصل بين مسجد طارق بن زياد والمقبرة. أُغلقت الشوارع بسبب كثرة الحضور. وراحَ السائقون يَبحثون عن شوارع بديلة. كان الحاضرون أكثر عدداً من الكراسي، فبقي الكثيرون واقفين، وانتشرت وجوهُ النساء فوق سطوح المنازل. اللافتاتُ العريضة تَحرق أسمنت جدران البيوت. " انتخبوا نصير الفقراء مرشحكم هويمل حسون ". " هويمل حسون لن يتخلى عن أبناء منطقته ". " ألف نعم للمصلِح الاجتماعي هويمل حسون ".
انتشرت اللافتاتُ كانتشار النار في الهشيم،كانتشار الأحزان في قلوب الفقراء. إنها موجودة في كل مكان. وأينما التفتَّ وَجدتَ لافتةً أو أكثر تبتلع الفضاءَ، وتسيطر على أكسجين الهواء.
كما أن مكبِّرات الصوت الضخمة استولت على المكان، واحتلت تفاصيلَ المشهد. وفي إحدى الزوايا، كانت المشروباتُ الغازية وأكوام الحلوى (الكنافة وغيرها) تقف كأنها جَبل لا يمكن الوصول إلى قمته. إنه مهرجان ضخم للغاية، ولا بد أن أموالاً كثيرة قد صُرفت لإخراجه بهذا الشكل.
والشيءُ الجذاب في اللافتات المتكاثرة، والذي استوقفَ الكثيرين، ليس الشعارات والكلمات الرنانة. وإنما اسم " هويمل حسون ". كان الاسمُ جديداً على مسامع الناس. فالجميعُ يَعرفون هذا الشخص بوصفه حارس المقبرة -سابقاً-، وصاحب مكب النفايات - لاحقاً -. ولم يُفكِّر أحدٌ أن يسأله عن اسمه. صحيحٌ أنه عاشَ في جبل النظيف فترةً طويلة ولا يَزال. لكنه عاشَ غريباً وغامضاً. والناسُ اعتبروه مشبوهاً وغريبَ الأطوار، حتى لو لم يُصرِّحوا بذلك. وهذا سببُ ابتعادهم عنه، وابتعاده عنهم. لكن الأمور تغيَّرت في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد إنشاء مكب النفايات واتساعه بصورة مذهلة حتى صار أشبه بمصنع لإعادة التدوير. وكلُّ العمال فيه - صغاراً وكِباراً -، جاؤوا من جبل النظيف.
صعد هويمل حسون على المنصة. ألصقَ ظَهْرَه بسور المقبرة. أمسك الميكروفون بكلتا يديه مثل شخص يُمسك مقود السيارة لأول مرة في حياته. وراحَ يَخطب: ((يا سكان جبل النظيف الكرام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أنا ابنكم هويمل حسون، حارس المقبرة الذي كان يُدافع عن الأموات. وصاحبُ مكب النفايات الذي وفَّر فرصَ عمل لأبنائكم، وصار يُدافع عن الأحياء. وهذا هو واجبي الوطني تجاه أبناء شعبي. أيها الأخوة في الكفاح، والزملاء في التنمية الوطنية. لستُ خطيباً مفوَّهاً، ولستُ عالِماً من العلماء. لكني ابنُ هذه الأرض، قد ترشَّحتُ لانتخابات مجلس النواب نزولاً عند رغبة الجماهير، مع أني زاهد في الشهرة والمناصب. ولكنْ خدمةُ إخواني وأبنائي فوق كل اعتبار. برنامجي الانتخابي واضح، وسأُقوله بشكل مختصر: 1- تحرير الأندلس وفلسطين بأسرع وقت. 2- إيصال المنتخب الوطني إلى كأس العالَم والفوز بالكأس، أو الحلول بالمركز الثاني بعد البرازيل. 3- تحويل جبل النظيف إلى منطقة سياحية مثل البتراء وجرش. 4- إيجاد فرصة عمل لكل عاطل عن العمل. 5- إيجاد زوج لكل عانس، وتوفير زوجات لمن يُخطِّط لتعدد الزوجات. هذه نقاط سريعة، وأعدكم بعد الفوز بالانتخابات أن أُطوِّر برنامجي الانتخابي لتصبح بلادُنا مثل أمريكا أو بريطانيا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)).
وما إن أنهى كلامَه حتى انطلق التصفيقُ الحار كقطعان الرصاص الحي، وتفجَّرت عبارات التأييد مِن قبيل: ((امشِ يا هويمل ونحن وراءك))، ((هويمل وبَس، والباقي خَس))، ((هويمل حسون، صاحب القلب الحنون)). والشبابُ يُردِّدون هذه العبارة بكل ما أُوتوا من قوة. حبالُهم الصوتية أسلاكٌ مُكَهْرَبة، وشفاهُهم قنابل ضوئية رهيبة.
وفي واقع الأمر، كان هويمل حسون قد استأجر بعضَ الزعران والعاطلين عن العمل، واستغل فَقرَهم، ودفع لهم أموالاً طائلة مقابل توفير الحماية له، والتصفيق، وترديد الشعارات، وإشاعة جو من البهجة والتفاعل في المهرجان الانتخابي، وتوزيع المساعدات على المحتاجين، حيث تمَّ تقديم كراسي متحركة للمشلولين، وتوزيع الأرز والسُّكر والزيت على الأُسر الفقيرة. وبالطبع، فهؤلاء الناس لا أَحد يتذكرهم إلا في موسم الانتخابات، وبعدها يذوبون في عالَم النسيان والإهمال. كما أنه وعدَ كلَّ أزعر بزجاجة شمبانيا مجانية من النوع الفاخر.
لكنَّ الغريبَ هو عبارات التأييد التي خَرجت من حنجرة " عَبْلة الهَبْلة "، وهي امرأة مُطلَّقة نصف عاقلة ونصف مجنونة، تَدور في الأزقة، وتتسوَّل من الناس، وتَشحذ على باب الجامع بعد كل صلاة.
استغربَ الناسُ هذا الأمر، حتى إن أحدَ الحضور قال ساخراً: «لم أكنْ أَعْلم أن عبلة الهبلة لها اهتمامات سياسية، فهي تَقضي وقتَها في الشِّحاذة، وملاحقة أبنائها في الشوارع وشتمهم، ونشر الغسيل وهي بقميص النوم».
وهويمل حسون - شخصياً - كان في غاية الاستغراب. فَقَبْل عدة أشهر، رآها بقميص النوم، فقرَّر أن يَطلبها للزواج، وعندما فاتحها بالأمر قالت له بالحرف الواحد: «هل تريد لبنت الحسب والنسب أن تتزوج شحَّاذاً مثلك ؟!». وقد انتشرت هذه القصة، وصار الناسُ يتندَّرون بها في مجالسهم.
انتهى المهرجانُ مثلما ينتهي كلُّ شيء. الناسُ واقفون على الخط الفاصل بين العقلانية والجنون، بين الفلسفة والهلوسة. يَتساءلون عن الكفاح المسلَّح، هل سَيَدخلون الحربَ قريباً ؟!. إنهم يَعيشون في دوامة الأسئلة المتكاثرة كألسنة النار. لم يَعرفوا هل يَعيشون حُلماً أم كابوساً. هل يُعقل أن يترشَّح هذا الشخصُ للانتخابات ؟. لقد صار جبلُ النظيف منبعاً للأضداد والغرائب. ولكنَّ الزمن قد تغيَّر، ولا شيء يَستطيع أن يُوقِف حركة عقارب الساعة حتى لو كَسرتَ الساعةَ. إن الزمن يتحرك في داخلنا، يَلدغنا، ويَجرفنا، ويَسخر مِنَّا، نحن الواقفين أمام هاوية الحضارة مبتسمين. إننا ساعةٌ معلَّقة على حائط النهاية في قلب القشعريرة المهجور.
مضى أبو بسام مع ابنه في دروب جبل النظيف التي تَنبعث منها روائحُ الحزن الخشنة.ها هُوَ يُخفي كفَّه اليمنى في جَيبه لئلا يَراها أَحد. حضرا المهرجانَ الانتخابي، وأكلا الكنافةَ بصورة جنونية، وسَكبا المشروباتِ الغازية في أمعائهما كما يَسكبُ الشفقُ الأحلامَ الضائعة في رُوح هذا الجبل الضائع. إنهما يتنفسان بصعوبة. معدةُ كلِّ واحد منهما براكين ثائرة. كان الموقفُ المكوَّن من الكنافة والمشروبات الغازية مغرِياً إلى حد بعيد. فالكنافةُ لا توجد كلَّ يوم. عليهما أن يَستغلا الفرصة قبل ضياعها، وهذا ما حَصَلَ.
قال أبو بسام والسخريةُ تسيطر على كلامه:
- أبو المزابل فَقد عقلَه، يَتحدث كلاماً أكبر منه. لقد جاءَ ليَضحك على الناس. هذا الدَّجال جَمع مالاً من أعمال القُمامة، ويُريد أن يُصبح شخصاً مهماً في المجتمع، يَجلس مع الوزراء والأغنياء، ويَظهر على شاشة التلفاز، يَكذب على الناس، وتَظهر صورُه في الجرائد والمجلات.. أنا أعرفُ هؤلاء النَّصابين.
نظرَ بسام إلى والده، وقال بِحُسن نية:
- لماذا لا تَعمل يا أبي معه في إعادة تدوير النفايات.. سَتَحصل على مال كثير.
احمرت عَيْنا والده، وصار الشَّرر يتطاير من وجهه. وقال بِحِدَّة:
- اخرسْ يا وَلد. أنا أبو بسام.. ابن عائلة المخلوسي شيوخ جبل النظيف، أشتغل في الزبالة مع هذا الأجرب الذي يُريد أن يُصبح نائباً في البرلمان.
خبَّأ بسام نَفْسَه في شرنقة الصمت السحيق، وتمنى لو أنه لم يَنطق بأي حرف. لقد كان يحسُّ بالغليان المرعب في صدر والده الذي بدا في تلك اللحظة المخيفة كأنه جثة متفحمة تنطلق منها ألسنةُ اللهب كدببة مذعورة. تفقَّد بسام ثيابَه. خَشِيَ أن تكون ألسنةُ اللهب قد وَصلت إلى جسمه وحَاصَرتْ ذاكرته المهزومةَ.
نسيَ الناسُ المهرجانَ الانتخابي عندما رأوا موكبَ السيارات الفخمة يَغزو أحزانَ جبل النظيف. سياراتٌ متتابعة مثل قطيع غزلان هادئة. المرسيدس والرنج روفر والجاكوار تقف على ضفاف نهر المجاري. لا بد أن هؤلاء قد جاؤوا لزيارة ابنتهم لميس زوجة علاء فرَّاج. هذا الشابُ الفقير الذي عاش يتيماً، والذي يَدرس الهندسةَ المعمارية ضربَ ضَرْبته، وتزوَّج زميلته في الجامعة. عشيرتها من أهم العشائر في البلد، وأقاربُها يحتلون مناصب عليا في الدولة. وقد تفاجأ الجميعُ لأنها رَضِيت به، ووافقت على الإقامة في هذا الجبل البائس، وهي ابنة العائلة الغنية المتنفذة. حقاً، إن الحب أعمى. لقد فَرَضت كلمتها على أهلها، وأجبرتهم على الموافقة. «بنات آخر زمن»، هكذا علَّقت أُمُّها عندما عَلمت بالموضوع. وقد خافَ والدُها أن تتزوج زميلها من وراء ظَهْره، وتتحول القصةُ إلى فضيحة، فوافق على هذه الزيجة (الصفقة الخاسرة) مُكْرَهاً.
وبصراحة، هناك ألف فتاة تتمنى الزواج بعلاء فرَّاج. صحيحٌ أنه فقير وانتهازي، ويشارك في المظاهرات للتحرش بالطالبات، ويردِّد شعاراتٍ رنَّانة لنيل إعجابهن، إلا أنه شاب وسيم وذكي ومجتهد في دروسه، وغالبيةُ الطلاب يأخذون دفاترَه لتصويرها قبل الامتحانات، كما أن يحل مسائلَ الهندسة لزملائه بدون مقابل. وهذا جعلهم يحبونه ويلتفون حَوْله.
(41)
كانت ميادة سمير تَذرع المكانَ جِيئةً وذهاباً. إنها تَشوي أعصابَها على جمر الانتظار، انتظارِ الأشياء الغامضة الجارحة. تحوَّلت حياتها إلى جَحيم لا يُطاق. الوساوسُ تَعصف بذاكرتها بشكل رهيب. صار النومُ عملةً نادرة في حياتها، فازداد إدمانُها على الحبوب المنوِّمة. انقلب عُمرها رأساً على عَقب. لم تعد تَشعر بوجود أعضائها، كأنها في ثلاجة منذ مئات السنين. تحاول الاتصال برأفت منذ عدة أيام، ولكنه لا يرد على الهاتف. ازداد احتراقُ أعصابها،وأسرابُ الدُّخان تطير في وجهها، وتمزِّق خدودَها. دَخلت في التوتر الهستيري. لم تكن الشهوةُ هي التي تُسيِّرها. الذكرياتُ هي التي تُحرِّكها. هذه المرأةُ قطارٌ بخاري يَحرق نَفْسَه بِنَفْسه.
رَفعت الرايةَ البيضاء أمام الوسواس القَهري. القلقُ يدقُّ أوتادَه في قلبها المتشظي. فكَّرتْ أن تَكسر الهاتفَ. فكَّرت أن تَذهب إلى بَيْته، وتضعه أمام الأمر الواقع، وتُخبره بكل الكلمات التي تتأجج في داخلها. ولكنْ.. ماذا ستقول له ؟!. هي شخصياً لا تَعرف ماذا ستقول له. كما أنها لا تَعرف عنوانَ سَكنه. أَمسكت الهاتفَ، وقرَّرت الاتصالَ به للمرة المليون. وإذا لم يَرُد هذه المرة فسوفَ تحصل على عنوان بَيْته، وتَذهب إليه، وتدمِّر حياته وحياتها، وتَقلب الطاولةَ على الجميع. لقد وَصلت إلى نقطة اللاعودة، وهي الآن تَغرق في رمال الفراغ. لا يوجد أيُّ ضوءٍ في آخر النفق. ورغم إحساسها بأن حياتها نَفَقٌ بلا نهاية، إلا أن حياتها كانت تنتهي كعود ثقاب تافه.
رَنَّ الهاتفُ في غرفة رأفت. لَدَيْه شعورٌ غريب بأن ميادة تتصل به. إنها غريزة القاتل أو الضحية. حاسته السادسةُ طابورٌ خامس يخترقه من الداخل. كان يَنتظر هذا الاتصال على أحمر من الجمر. قرَّر هذه المرة أن يَرفع السماعةَ ليريح عروقَه من الاحتراق في غابات الصدى المجنون. الذاكرةُ تَدخل إلى مذبحة الذكريات لكي تَكسر المرايا. والليالي المسجَّلةُ في أرشيف الأحزان تتبخر لكي تنالَ الطهارةَ. يَدُه ترتجف بصورة رهيبة. الطريقُ بين يده وسماعة الهاتف غابةٌ من اللهيب. أمسكَ السماعةَ كطفلٍ يُمسك جثةَ أُمِّه المتحللة. جاءه صوتٌ عميق وحزين. صوتٌ قادم من حضارات غابرة مدفونة تحت الرمال. كان صوتُها المكسور يتشظى في أُذنه. لم يَنبس بحرف. اكتفى بسماع اسمه يَخرج من أعماق هذه المرأة الهاربة مع الضوء الباهت. كانت تنادي عليه بحرقة مشروخة. نداؤها النازفُ استغاثةُ غريقةٍ تنطلق من أعماق البحر. لقد سمعَ رأفت هذا النداءَ قبل هذه المرة، ولكنه لم يَقدر على تحديد المكان والزمان. نداءٌ قديم يُسيطر على أعماقه كالوساوس القاتلة. شَهرزاد تَنتصر على شهريار. سينتهي الاثنان لتبدأ هيمنةُ الغبار على سطوح القبور، وتَصعدَ نبضاتُ القلوب من آبار التاريخ.
- رأفت.. رأفت.. يا رورو !. أنا حبيبتكَ ميادة.
وما إن سمعَ رأفت هذا الكلام حتى تذكَّر أُمَّه عندما كانت تنادي عليه وهو طفلٌ، وتُريد استدراجه للقبض عليه. كان الطُّعمُ قطعةَ شوكولاتة، أمَّا الآن فلا يَعْرف ما هو الطُّعم.
تجمَّد رأفت في مكانه كالمعتوه، ثم أفاق من غيبوبته الكريستالية، وقال بصوت ممزوج بالأزهار الذابلة:
- يجب أن ننهيَ علاقتنا يا ميادة. أنا لستُ لكِ، وأنتِ لستِ لي. لا يمكن أن نكون وَجْهَيْن لعُملة واحدة.
كانت ميادة تصارع رغبةً شرسة في البكاء.انطلقت الكلماتُ من فمها كطيور مرتعشة تحت وابل من الرصاص الحي:
- رأفت.. أرجوكَ لا تقل هذا. دَعْنا نَلتقِ لمرة واحدة فقط، وأعدكَ أن تكون المرة الأخيرة، وسأختفي من عالَمكَ إلى الأبد. سَيَغيبُ وجهي، وسيختفي صَوْتي.
تشجَّع رأفت عندما سمع هذا الكلام. لقاء لمرة واحدة فقط وستنتهي القصةُ إلى الأبد، وتَدخل أعصابُه في ثلاجة التاريخ.
اتَّفقا على الذهاب إلى العقبة، تلكَ المدينة الساحلية التي تَغْسل دَمَها الأحمر في البحر الأحمر، بعيداً عن ضجيج العاصمة. سيكون البحرُ شاهداً على رِحلتهما. وَعدته ميادة أن تكون هذه الرحلة هي الرحلة الأخيرة، وسينتهي كلُّ شيء بهدوء.
مَشيا على الشاطئ الذهبي. الصمتُ القاتل نَصَبَ بينهما الحواجز العسكرية. لم يتكلما بشيء. نظرا إلى غروب الشمس.دموعهما تَبلل زجاجَ النظاراتِ السوداء التي تحتل عيونهما. رَميا الذكرياتِ في رئة الأمواج. وعادا إلى الفندق.
حَجزت ميادة غرفتين متجاورَتَيْن. رَقْمُ الغرفة الأولى 4 مثل عدد حروف كلمة " رأفت "، ورَقْمُ الغرفة الثانية 5 مثل عدد حروف كلمة " ميادة ".
اتصل رأفت بأهله، وأخبرهم أنه في العقبة لعقد دورة مُحادَثة باللغة الإنجليزية لطلاب المرحلة الثانوية. وأنه سيعود إلى العاصمة يوم غَدٍ، فلا داعي للقلق عَلَيْه.
فالعِلمُ يستحق التضحية من أجله، هكذا قال.
جلسَ رأفت على كرسي أمام النافذة. إنه يَرى البحرَ كمسافرٍ في زحمة الوداع. أمسكَ قَلماً وورقة، وراحَ يَكتب: [ المقطع الأخير من خواطر رَجل تافه أحب زوجةً خائنة. كنتُ أضحك على المرضى النفسيين، وأُؤلف النكاتِ عنهم، ولم أكن أعرف أني سأكون واحداً منهم. لَيْتني بقيتُ طفلاً ولم أَكْبر. عندما كنتُ صغيراً كنتُ أعتقد أن جميع النساء مخلِصات لأزواجهن. حقَّاً، كنتُ مُغفَّلاً. نَشعر بالسعادة الزائفة لأننا نضحك على أنفسنا كالبُلهاء. المرأةُ الذكيةُ لا تحبني، بل تحتقرني. وتلكَ الأمواجُ تَعرف دِيَتي وسَتَقْتلني. أخافُ أن أعود إلى بيتنا فأسمع بكاءَ أُمِّي. وعندما أنسى اكتئابي أنظرُ إلى المرآة لأتذكر اكتئابي. وما زلتُ أُشمُّ رائحةَ الملوخية التي كانت تطبخها أُمِّي في شتاءات طفولتي. وما زلتُ أسمع صوتَ المذياع يَنبعث من أعماق طفولتي، ويَنطلق في عَتمة بيتنا في جبل النظيف. نُديرُ ظهورَنا للذكريات، والدموعُ تَنحت الوسادةَ، والسريرُ بئرُ أسرارِ الزهورِ الذابلةِ. وتحتَ ضباب الخريف، تتبخر العقدُ النفسية لِرَجل فقدَ ثقته بِنَفْسه، وفقدَ ثقته بالنساء. كنتُ متوقِّعاً أن أُدمَّر وتكون نهايتي مأساوية، لكني لم أتوقع أني سأحترقُ وَعُودِي أخضر. لقد جاءَ الدمارُ مُبكِّراً. ربما تصيرُ الضحيةُ كابوسَ القاتِلِ، وربما يُصبح القاتلُ ضحيةً للضحية. هل يمكن للمحكوم بالإعدام أن يُفكِّر في الزواج أو الرومانسية ؟!. حياتي كُلُّها هِيَ حُكم بإعدامي. سَجينٌ يَمْلك مِفتاحَ السجن، ومع هذا لا يَستطيع الهربَ، أو لا يُفكِّر في الهرب. ستنتهي المعركةُ، وسنسرقُ ملابسَ الجنود، وساعاتِ اليد. سَنُفتِّش ملابسَهم الداخلية بحثاً عن الأوسمة العسكرية الصدئة. ذاكرةٌ للسراب، والفراشاتُ رَفعت الراياتِ البيضاء. امرأةٌ تتزين بالذَّهب أمام زوجها المغفَّل وعشيقها الأبله، لكنها لا تَعرف جُثثَ عُمَّال مناجم الذهب الذين يموتون تحت الأرض. كأنني عشتُ في الشارع، وسأموتُ في الشارع. فما فائدةُ إشاراتِ المرور ؟!. أغرقُ في اكتئابي، وأبيعُ مضاداتِ الاكتئابِ للعصافير النحيلة. أنا مقامرٌ مبتدئ ألعبُ بمصيري. تمرُّ أعمارُنا كالبارود على خارطة القلب، أو كالسرو المتشبث بدواخلنا في نهاية شتاء الومض. لم أعد أعرف هل أنا عائش أم ميت، لكني أعرفُ أننا نمشي إلى الأضرحة الشمعية تحت شمس الخريف. ].
نظرَ رأفت إلى ساعة يده. إنها الواحدة بعد منتصف الليل. الأرقُ يسيطر على تفاصيل الغرفة، وأضواءِ قلبه الباهتة. كان يَسمع صراخَ البحَّارة الغرقى. في أُذنيه تتقاتل أصواتُ السفن الغارقة. حَدَّق في البحر المرعِب. شَعر أنه وُلد في البحر، وسيموت فيه. جاءَ من البحر، وسَيعود إليه. أحس أن البحر هو أُسرته الحقيقية.
وبينما كان يَغرق في تأملاته، قُرع بابُ غرفته. البحرُ هاجرَ مِن جِلده، والحوتُ الأزرق يَمشي على السِّجاد. ظَهرت ميادة كالإعصار المدمِّر. جسدُها مُكثَّفٌ في فُستانها الأزرق. إنه الأزرقُ القاتل. هذا اللونُ صار شَبحاً يُطارد رأفت في اليقظة والمنام.
ارتبكَ رأفت، وتجمَّد في مكانه. أمَّا ميادة فاقتحمت الغرفةَ مثل القائد العسكري، وهي تُمسك كوبَ يانسون في يدها اليمنى، وزجاجةَ نبيذ في يَدها اليُسرى، وأصدرت المرسومَ الإمبراطوري:
- أَغْلِق البابَ !.
غَرقت خدودُ رأفت في وجهه الذاوي، وتحجَّر لعابُه، وصارت قدماه عمودَيْن من رُخام مخدوش. إنه أمرٌ مفاجئ وخطير. ما الذي تريده هذه المرأةُ بالضبط ؟!.
عادت الحياةُ إلى أوصال رأفت، وقال بصعوبة بالغة:
- ميادة.. اخرجي من الغرفة قبل أن يرانا أَحدٌ، ولا تتهوري يا ابنةَ الحلال.
استخدمَ رأفت عبارة " ابنة الحلال " عَمداً لكي يُبعِد أية أفكار سيئة عن ذهن ميادة التي بَدت في تلك اللحظة مثل فرسٍ جامحة لا تبالي بشيء.
ابتسمتْ ميادة، وقالتْ بلامبالاة واضحة:
- لا تخف يا ابنَ الحلال !. أَعْرف ماذا يَدور في رأسكَ. اطمئن.. لن أَطلب منكَ أن ننام معاً !.
تفاجأ رأفت بهذه الصراحة التي هَدَّأت من مخاوفه بعض الشيء. أَغلقَ البابَ وأصابعه ترتعش. ونظرَ إلى ميادة كالطفل اليتيم الذي يَنتظر الصَّدقةَ.
قالت ميادة:
- شعرتُ بالأرق والوحدة في غرفتي، فجئتُ إليكَ لكي نتسلى معاً.. نشربُ شيئاً، ونَقتل الوقتَ بالكلام.
دارت ميادة حول نَفْسها، ونَفشت ريشَها كالطاووس، لكي يَرى رأفت فستانها الأزرق، وقالت:
- الأزرقُ لَوْني المفضَّل لأنه لونكَ المفضَّل.
لم ينطق رأفت بأية كلمة. احتضنَ الصمتَ الحارقَ، واحترقا معاً.
كأن ميادة تُكلِّم نَفْسَها وتحاور ذاتها. رأفت موجودٌ وغير موجود في آن معاً. تابعتْ ميادة حديثَها:
- أودُّ أن أشكركَ لأنكَ أحضرتَ لي هديةً في عيد ميلادي. لقد نسيَ زوجي تاريخَ ميلادي، أمَّا أنتَ فلم تَنْسَه.
ثم قالت ورأفت واقفٌ كالصنم لا يتحرك:
- كنتُ أُريدُ أن أخلع زوجي لكي تتزوجني، فأنتَ الوحيد الذي اطلعتَ على نقاط ضعفي.. أنتَ الوحيد الذي رأيتَ وجهي بدون أقنعة. ولكنْ للأسف، تجري الرياحُ بما لا تشتهي السُّفن. وعلى أية حال، فقد أحضرتُ لكَ كوبَ يانسون من صُنع يَدِي لكي يُريح أعصابكَ، رغم أن العشاق لا يَشربون اليانسون. أمَّا أنا سأشربُ النبيذَ.. أعرفُ أنكَ لا تَشرب الخمرَ. فكَّرتُ أن أخلط النبيذ واليانسون معاً كحَل وسط، لكني لستُ عالِمة كيمياء لأعرف ما هو المشروب الجديد الذي سَيَظهر.
تناولَ رأفت الكوبَ من يَدِها. حَرصت ميادة أن تَلمس أصابعه الممتدة إلى الكوب. اشتبكتْ أطرافُ أصابعهما في لحظة نحس مهووسة. راحَ رأفت يَشرب بجنون كالقادم من عطش الصحراء. لقد قال الإعصارُ كلمتَه. أحسَّ رأفت بألم رهيب في بطنه. إن أمعاءه تتقطع مثل حبال غسيل تالفة ضربتها صاعقةٌ عنيفة. سَيطرَ الغبشُ على عينيه. والمناظرُ تَغيبُ شيئاً فشيئاً. سَقط على الأرض جثةً هامدةً.
نظرتْ إليه ميادة، وعلى شفتيها ابتسامةٌ ميكانيكية، وقالت:
- أنا آسفة يا حبيبي، كان عليَّ أن أقتلكَ. هذا هو العشقُ القاتل. سَيُخلِّد الموتُ قصةَ حُبِّنا. لقد قُلتُ لكَ: لن يَكونَ هتلر وإيفا براون أكثر رومانسيةً مِنَّا.
صَبَّت ميادة النبيذَ على ضفائرها، وألقتْ كبسولةَ السيانيد في فمها كشخصٍ يُلقي أحلامَه في أرشيف المطر الملتهب.
اختلط لونُ الجثَّتين بلون الموكيت. لقد انتصر البحرُ على رمال الذاكرة. صوتُه الهادرُ يَضرب الزجاجَ. الأمواجُ تثأرُ من الذكريات البلاستيكية. يصبح العنفُ صمتاً بنفسجياً، وتبزغ البراعمُ في الأجساد الخرساء. ستكون أجسادُ الموتى مزرعةً للسنابل المحروقة، وتُزهرُ الجثثُ في فصول الدم.
طُويت هذه الصفحة إلى الأبد. لن يَلتقيا مرةً أخرى. هذا هو الموعدُ الأخيرُ. غبارُ الرومانسيةِ انتصر على الرومانسية. وصارَ الموكيتُ الشاهدُ على النهاية طاولةً في مطعم للوجبات السريعة. وهذا الموتُ السريعُ هو الوجبةُ الدسمة النهائية الحاسمة.
(42)
جاءَ الصباحُ المؤلم. انكشفَ المستورُ. رائحةُ الموتِ تخيِّم على الأرجاء. هُرعت الطواقمُ الطبية والأجهزةُ الأمنية إلى المكان. ضُرب حصارٌ مرعب حول المكان. أُخذت عَيِّناتٌ من كل شيء. لم يتركوا صغيرةً ولا كبيرة.
كان الدكتور جابر سيف الدين يسيطر على مسرح العمليات، ويوجِّه فريقَ العمل. لقد نَجح في فك شيفرة عشرات القضايا المعقَّدة. لا يمكن أن تستغنيَ عنه الأجهزة الأمنية. إنه طبيب شرعي وطبيب نَفْسي في آنٍ معاً، ذو سُمعة عالمية، ويَمتلك خبرةً هائلة. إنه بنك المعلومات والأسرار. ويتم الاستعانةُ به في دول كثيرة. وقد تلقى أوسمة عديدة من رؤساء دُوَل، وحصل على شهادات تقدير من جامعات عالمية.
سوفَ يَستغرقُ تحليلُ العينات، والحصولُ على إفاداتِ الشهود، وتشريحُ الجثَّتين بعضَ الوقت. الأمورُ تحتاج إلى دقة بالغة، وعدم التسرع. وكلُّ جزءٍ في القضية لا بد أن يَخضع لإشراف الدكتور جابر سيف الدين. إنه المسؤول عن جمع فسيفساء هذه اللوحة، وإيجاد روابط منطقية بين شظايا القضية.
مرَّت الأيامُ سريعةً. أزمنةٌ تتساقط مثل برتقال المجازر. تَمَّ التعرفُ على هوية الجثتين. رأفت سليم المخلوسي، مُجرَّد نَكرة من سكان جبل النظيف، عاشَ أم ماتَ لا مشكلة. لكنَّ المشكلة الحقيقية تَنبع من الجثة الثانية. إنها ميادة سمير، صاحبة الدماء الزرقاء، ابنة العائلة الأرستقراطية، عمُّها أحد الوزراء المهمِّين في الحكومة، كما أن ابن خالتها قائد عسكري بارز. وهكذا بَدأت المشاكلُ. أُحيطت القضيةُ بالسرية التامة. أُخفيَ اسم " ميادة سمير " بشكل كامل، وظهرَ للواجهة اسم رأفت سليم المخلوسي فقط.
أثبتَ تشريحُ الجثَّتين وجودَ السُّم، لكنه ليس من نَفْس النوع. المادةُ التي وُجدت في جسم رأفت هي الزرنيخ، أمَّا المادةُ التي وُجدت في جسم ميادة فهي السيانيد. تم فحصُ السرير واللحاف بدقة متناهية. لم يَجدوا أي أثر للسائل المنوي، أو سوائل أنثوية. يعني أنهما لم يُمارسا الجنسَ.
أخذَ الدكتور جابر سيف الدين إذناً من المحكمة بتفتيش مَنْزل رأفت فقط. وَجده بَيْتاً بائساً مختفياً في الأزقة الباهتة التي لا تصل إليها أشعة الشمس. وما إن رأى الدكتورُ هذا البيتَ حتى فَقد حماسَه للقضية على غير عادته. شعرَ أن الأمر برمته لا يستحق عناء البحث. لقد وُضعت العراقيلُ في طريقه، وتم تقييد حركاته. وهذا الأمر لم يتعود عليه. دَخل إلى غرفة رأفت برفقة أفراد من البحث الجنائي، والشُّرطة. تمَّ تفتيشُ الغرفة. لا يوجد فيها شيء مهم. كُسرت أدراجُ مكتبه. وجدوا الأوراقَ التي كان يَكتبها رأفت، وهي مرقَّمة بقلم الرصاص. أخذها الدكتورُ وأضافها إلى الورقة التي وُجدت مع رأفت في غرفة الفندق. هذه الأوراقُ كنزٌ ثمين، سيتمُّ عَرْضها على خبير خطوط. وإذا أكَّد الخبيرُ أن الخط هو خط رأفت، فسيأخذها الدكتورُ جابر إلى منزله، ويقوم بقراءتها وتحليلها سطراً سطراً، من أجل الوقوف على أسرار شخصية رأفت، وخبايا هذه القضية. هذه الأوراقُ وثيقة مصيرية لأنها مكتوبة بخط اليد.
جبلُ النظيفِ على حافة الجنون. انتشرَ الخبرُ كالزلزال. لا شيء يَختبئ في هذا الجبل. الأخبارُ نارٌ متأججة تحت شموس الألم. كيفَ انتشر الخبرُ ؟!. لا أَحد يَعرف. الكلُّ يَتحدثون في الموضوع. كيف عَرَفوا بالأمر ؟!. لا إجابات واضحة.
صارت قصةُ رأفت مثل ألف ليلة وليلة. الجميعُ يؤكدون أنه وُجد ميتاً مع امرأة مجهولة في نَفْس الغرفة في أحد فنادق مدينة العقبة. مَن هذه المرأة ؟!. هل هي زوجته أم عشيقته ؟!. جبلُ النظيف دَخل في الهلوسة المحترقة. راحَ الناس يَخترعون قصصاً خيالية ومغامراتٍ عاطفية. البعضُ يؤكد أن هذه الأنثى إنسية، والبعضُ الآخر يَجزم أنها من الجن. هناك مَن يقول إنها خادمة في الفندق، وهناك مَن يقول إنها امرأة غنية. أدمغةُ الناسِ تكاد تنفجر. الوساوسُ تسيطر على الأزقة، والهلعُ يَضرب القلوبَ المكسورة. هل للأمر علاقة بتجار المخدرات أو تجار الأسلحة ؟!. هذا السؤال طَرَحه أحد عُمَّال النظافة بعد أن سَمع بالموضوع. وقد كان البارحة يشاهد فيلماً أجنبياً، ويَبدو أنه متأثر بقصة الفيلم.
باعةُ الخضار في ساحة مسجد طارق بن زياد يؤكدون أن رأفت كافر لأنه نامَ مع امرأة غريبة. سائقو سيارات الأُجرة اتَّفقوا على أنه زانٍ وليس كافراً، لكنهم اختلفوا حول مسألة وجود سرير أو سريرَيْن في غرفة الفندق. وهذا الأمرُ - من وجهة نظرهم - ذو أهمية بالغة في القضية. صاحبُ المخبز - وهو رَجل أُمي - قال إن رأفت زنديق، وهو بالطبع لا يَعرف معنى هذه الكلمة، لكنه التقطها من أحد المسلسلات التاريخية. وإحدى المتسوِّلاتِ أدلت بدلوها في الموضوع، وقالت إنه مارقٌ. وهي لا تَعرف معنى هذه الكلمة، لكنها سَمعت خطيبَ الجمعة يَذكرها في إحدى خُطبه. صارت الأحكامُ تُوزَّع يَمنةً ويَسرة. والجميعُ يُفتون في القضية. في كل زُقاق أُقيمت محكمة، وانعقدت محاكمة. حتى إن الأطفال الذين يَلعبون في الأزقة، رَاحوا يَتداولون قصة رأفت مع المرأة المجهولة. كما أن أبناء الشوارع أَخذوا يُفتون في القضية، وسمُّوها " حكاية رأفت مع الجنِّية ". وحَدثت بعضُ الاشتباكات بالعصي والأيدي بعد أن اختلف الناس حول موضوع الصلاة عليه. وانقسمَ الناسُ إلى ثلاث طوائف. طائفةُ تَرفض الصلاة عليه، وطائفة تريد الصلاةَ عليه، وطائفة قالت إنها سَتَحْسم أمرَها بعد وصول الجثمان إلى جبل النظيف.
صفيرُ قطار الذكريات يمضي بعيداً. لا فائدة الآن من العتاب. كُسرت مزهرياتُ الحُلم، وخُدشت أيقونةُ الأيام. الجميعُ سيُلقون محاضراتِ الشرف والأخلاق، وسوفَ يُنظِّرون في قضايا الأسرة والمجتمع، ويَطرحون أحدثَ النظريات في الترابط الأسري والتكافل الاجتماعي. ولكنْ -للأسف- لن يَسمع رأفت وميادة هذه المحاضرات، لأنهما الآن في عالَم آخر. لقد سَبق السيفُ العذلَ. وانتهت كلُّ الأحلام.
الشخصُ الوحيد الذي امتدح رأفت هو يونس، ابن زليخة الأرملة، صاحب مطعم " وحش الفول "، وقد قال إن رأفت انتقم من الأغنياء، وثأرَ من الطبقة الراقية. إنه انتقام الفقراء من الأغنياء، وانتقام الطبقة العاملة الكادحة من الطبقة الأرستقراطية.. إنه الثأر الدموي.
ويونس كان يَعمل ميكانيكي دبابات في الجيش، لكنه أُحيل إلى محاكمة عسكرية، وطُرد من الجيش بدون أي تعويض. فقد كان يُزوِّر شهاداتِ الوفاة من أجل الحصول على إجازاتٍ للتهرب من الجيش. وكل مرة يَدَّعي أن أحد أقاربه قد ماتَ. فمرةً مات أبوه، ومرةً ماتت أُمُّه، ومرةً ماتت خالته، ومرةً ماتَ أستاذه في المدرسة الابتدائية، ومرةً ماتت زوجته - رغم أنه غير متزوج -، ومرةً ماتت صديقته.. إلخ. وقد قَضى على نصف سكان جبل النظيف بهذا الشكل. وما زاد الطين بِلة أنه قُبض عليه وهو يُهرِّب شفراتِ الحلاقة. يَسرقها من المعسكرات، ويَبيعها في السوق السوداء عن طريق أحد الوسطاء.
استقرت أوراقُ رأفت على مكتب الدكتور جابر في بَيْته. أكَّد خبير الخطوط أن هذه الأوراق مكتوبة بخط يد رأفت. مضى الدكتورُ في رِحلته وحيداً في ليالي الأرق. يُسافر في كلمات رأفت، ويَشرب حِبرَ فلسفته المنثورة على الورق القاتل. تتساقطُ الرموزُ، وتتهاوى الإشاراتُ.
كان الدكتورُ يَعقد مقارنةً مخيفة بين صورة رأفت الخارجة من بين السطور، وبين جثته التي كانت ملقاة في غرفة الفندق. شَعَرَ بأحاسيس غريبة متضاربة. لقد كرهَ هذه القضية، وندمَ على قبول الإشراف عليها. وهذا أمرٌ غريب يَحدث لأول مرة في حياته. فالدكتورُ يملكُ خبرةً هائلة في العمل تحت الضغوط، وهو معروفٌ بصلابته الذهنية وقوة أعصابه في أحلك الظروف وأكثر القضايا دمويةً وتعقيداً. وربما تكون هذه القضيةُ هي القطرةَ التي أفاضت الكأسَ، والقشةَ التي قَصمت ظهيرَ البعير.
حملَ أوراقَ رأفت معه، وقرَّر أن يَحرقها في حديقة المنزل، ويُنهي علاقته بالقضية بشكل نهائي. وبينما هو في طريقه إلى الحديقة جاءته مكالمةٌ هاتفية عاجلة، فألقى الأوراقَ على الطاولة أمام التلفاز بلا تفكير، وخرجَ من بيته مسرعاً. ويبدو أن خبراً مفجِعاً جاءه. وللأسف، فالمصائب لا تأتي فُرادى.
وبعد نصف ساعة من مغادرة الدكتور، عاد ابنُه سلمان من الجامعة مرهَقاً. رمى نَفْسَه على الأريكة مثل قطعة القماش البالية. لاحظَ وجودَ أوراق مبعثرة على الطاولة. أدركَ أن هذه الأوراق خاصة بوالده. فهو يُحضِر إلى البيت - بين الحين والآخر - أوراقاً ووثائق خاصة بالجرائم التي يحقِّق فيها. سيطرَ عليه الفضولُ القاتل. أمسكَ الأوراقَ، ورتَّبها، وراح يقرأ ما فيها. لقد سُحر بهذه الكلمات. وَقع في أسرها بإرادته ورغم أنفه. هذا هو الصيدُ الثمين الذي كان يَبحث عنه. لقد جاءه مجاناً دون أي مجهود.
قرَّر سلمان أن يُعيد كتابةَ هذه الأوراق على شكل قصيدة نثرية، ويُرسلها إلى إحدى المجلات العربية في لندن. سيضع اسمَه على هذه القصيدة. والعنوان جاهز " خواطر رَجل تافه أحب زوجةً خائنة ". عنوان جذاب يَصلح لمرحلة ما بعد الحداثة. ولا مشكلة إذا عرفَ والدُه بالموضوع. المهم ألا يَعرف الناسُ بالموضوع. آمنَ في تلك اللحظة بأن هذه هي الانطلاقة الحقيقية لمسيرته الأدبية.
كان واثقاً بقدرته على التذوق الفني، وتحليل النصوص. إنه يَسمع نداءَ غريزته الأدبية. وهذه الأشياء ليست غريبة عنه. فهو قارئ نهم للأدب رغم تخصصه في العلوم السياسية. ولطالما تمنى أن يصبح كاتباً معروفاً يَظهر اسمه في الصحف والمجلات. قرَّر أن يستغل هذه الفرصة المجانية، وسوفَ يَضرب ضربته في دنيا الأدب والثقافة.
وبينما كان سلمان يَبني مجدَه الأدبي على جثة رأفت، كان والدا رأفت يحدِّقان في عَتمة البيت الخشنة. أُمُّ رأفت طريحة الفراش، وضائعة في متاهة قلبها الذابل. لقد أنهكها سرطانُ الثدي، وجعلها شبحاً. خَضعت لعدة عمليات جراحية، وتم استئصال ثَدْيَيْها. صدرُها أرضٌ جرداء مستوية.. أرض محروقة. سَقطت رموزُ الأنوثة في تواريخ الجسد المحترق بالأحلام الضائعة. أمَّا زوجُها فكان يَغرق في ماء عيونه. إنه يحاول جاهداً ألا يَنظر إلى صدر زوجته. وما زالت تلك الصورة المرعبة في المستشفى ترجُّ جوارحَه رجَّاً عنيفاً. لقد رأى عاملَ النظافة - بعد انتهاء عملية الاستئصال - يُمسك ثَدْيَي زوجته، ويُلقيهما في صندوق القمامة. كان منظراً رهيباً لم يَقْدر على التحرر منه. أحسَّ أبو رأفت في تلك اللحظة القاتلة أن تاريخه غبارٌ يتطاير في الهواء، وأن حياته بأكملها خدعة سينمائية. شعرَ باقتراب النهاية، وتذكَّر آباءه الذين رَحلوا. إنه يَرحل معهم بروحه. كان الإحساسُ بالنهاية مسيطراً على تفاصيل الزمان والمكانِ.
سَألت الأمُّ عن ابنها رأفت. لم تره منذ مدة بعيدة. ظَهر الترددُ على وجه زوجها الذي كان على عِلم بموت ابنه. تفجَّرت الدموعُ السرية في عينيه الغائرتين. بلعَ ريقَه الجارحَ، وأخبرها بأن رأفت يَعمل في مدينة العقبة. دَعت له بالتوفيق، وأن يَرزقه اللهُ ابنةَ حلال تُسعده وتُنجب له الذريةَ الصالحة. وقالت إنها تتمنى أن ترى أولاده قبل أن تموت. حاولَ زوجُها التخفيفَ عنها، وأخبرها بأنه سَيَخْطب لرأفت فَوْر عودته من العقبة. فالأمرُ لم يعد يَحتمل التأخير. وخيرُ البِر عاجله. هكذا قال بالحرف الواحد.
غادرَ أبو رأفت الغرفةَ وهو يصارع رغبةً جنونية في البكاء. وفي الممر المعتم سَكب دموعَه على البلاط. كانت الدموعُ الساخنة تَحفر البلاطَ مثلما يَحفر المطرُ الحمضي ذاكرةَ الحجارة. مضى الأبُ إلى غرفة ابنه. راحَ يشمُّ ملابسَه في الخزانة قطعةً قطعة. يتحسس الأماكنَ التي كان يَجلس فيها. حَدَّق في صورة ابنه المعلَّقة على الحائط. الذكرياتُ الحيةُ تصير رصاصاً حياً. والأحلامُ الصاخبة تتحول إلى براويز خرساء.
كان يخاف أن يَخرج من البيت. لقد عرفَ أن سيرة ابنه على كل لسانٍ، وأن الناس يَنهشون جسدَ ابنه الراحلِ، والجميعَ يتحدثون في الموضوع، ويؤلفون القصصَ والمغامرات، حتى إن البعض صار يؤلف النكاتِ عن رأفت وعشيقته.
تنكَّر أبو رأفت في ثياب امرأة، وذَهب إلى حمودة الأقرع. وهو الكذابُ رقم واحد في جبل النظيف، ويُلقَّب بإمبراطور الإشاعات. دخلَ عليه بلا مقدِّمات ولا موعد مسبق. أخرجَ من جَيْبه مئة دينار، وقال له بنبرة حادة:
- هذه مئة دينار يا أقرع. أُريدكَ أن تَنشر في جبل النظيف أن رأفت استشهد في فلسطين، ودُفن مع الشهداء.
قَبض حمودة الأقرع على المبلغ بكلتا يديه. وقال بعد أن جَحظت عيناه:
- من الآن فصاعداً، سيكون ابنُكَ هو الشهيد البطل رأفت سليم المخلوسي.
أمَّا الطرفُ الثاني للمعادَلة التي ليس لها حَل، فكان تلك المرأة التي قَتلت نَفْسَها في غُربة المرايا. نعم، إنها ميادة سمير. عاشت وحيدةً وماتت وحيدةً. لم يكن الصخبُ حَوْلَها غير ظلال نازفة، ولم يكن الناسُ حولها سوى أشباح.
تحتشدُ الأحزانُ في هذا اليوم. إنه يوم دَفْنها. تبرَّأت عائلتها الراقيةُ منها. لم يَحضر دفنَها غير مجموعة صغيرة من الأقارب، وبعض صديقاتها. أمَّا زَوْجُها فكان يراقب عمليةَ دفنها من وراء زجاج السيارة الأسود. وعلى الرغم من طول المسافة بين القبر وسيارته إلا أنه كان قادراً على الرؤية بوضوح.
كان الدكتورُ يَعرف أن سيارته مميَّزة، ورَقْمها مميَّز كذلك. وهذا جعله يستأجر سيارةً سياحية، فلم يَنتبه أحدٌ إلى وجوده. وهكذا نَجحت خطته التي رَسمها مسبقاً.
وعندما عادَ إلى البيت سأله ابنُه رمزي بلهفة جارحة:
- بابا.. أين ذَهبت ماما ؟!.
اشتعلت الدموعُ السرية في عينيه، وشعرَ بغُصَّة في حَلْقه. بلعَ ريقَه كما يَبلع قطيعاً من الخناجر، وقال بصوت ذابل:
- لقد ذَهبت إلى مزرعة خالك لقضاء بعض الوقت، وسوفَ تَعود.
كان زوجُها يَخوض حرباً داخل جسمه لكي يمنعَ جسمَه من الانهيار، ويحبسَ الدموع في عينيه الحارقتين. ما زالَ محتفظاً بملابسها. إنه يَنظر إلى فستان العُرس المعلَّق في الخزانة. أمسكَ فرشاة أسنانها بكلتا يديه. نظرَ إلى صورتها على الحائط. امرأةٌ مبتسمة بثقة ينتظرها مستقبل باهر. ذهبَ الماضي وذهبَ المستقبَلُ.
(43)
تضايقَ الشيخُ عبد الرحيم عمران من كلام الناس المنتشر كالنار في الهشيم. صارت سُمعته على المحك. إنهم يؤكدون أن هناك امرأةً أوصلته إلى صلاة الفجر بسيارتها المرسيدس. الشيخُ ليس متزوجاً، ولا يَملك سيارةً. إذن، فالوضعُ غير طبيعي. بدأ الناسُ يمارسون هوايتهم في الغِيبة والنميمة والتحقيقات الأمنية.
استطاعَ البعضُ معرفةَ المرأة عن طريق معرفة السيارة. فهذه السيارةُ الفارهة ذات الرقم المميَّز تعود إلى الأرمنية التي تسكن قريباً من المسجد الذي كان إمامه الشيخ عبد الرحيم. ((واحدة مطلَّقة ودايرة على حَل شَعرها)). هكذا وصفها أحدُهم ثم تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم.
الإشاعاتُ تَكبر مثل كرة الثلج. تركَ الناسُ أعمالَهم، وصاروا يُحقِّقون حول أسباب طلاق هذه المرأة. وتمَّ إقحامُ الشيخ في الموضوع. يقول البعضُ إن الشيخَ أحبَّها عندما كانت متزوجةً، فساعدها على الطلاق من زوجها ليخلوَ له الجو ثم يتزوجها. والبعضُ الآخر يقول إن الشيخ قام بالتفريق بينها وبين زَوْجها عن طريق السِّحر، وعملَ لها" حِجاب ". الناسُ يمارسون هوايتهم في تأليف قصص المغامرات.
شعرَ الشيخُ باستحالة العيش في هذه البيئة الموبوءة. الكلُّ يَطعنكَ في الظَّهر ثم يَبتسم في وجهكَ كأن شيئاً لم يكن. سيتزوجها ويَذهبان للعيش في مكانٍ آخر.
إنه في سباق مع الزمن، ويُريد أن يُنهيَ الموضوعَ سريعاً. أخبرَ والدَه بالأمر، فَرَفض بشدة.
- كيف ستتزوج امرأةً كافرة وبنات جبل النظيف مُسْلِمات وعوانس ؟.
هكذا قال والدُه بالحرف الواحد.
فكان رَدُّ عبد الرحيم:
- إن الشرعَ أباحَ للمُسْلم الزواج من نساء أهل الكتاب.
وهذا الكلامُ فوق قُدرات والده العقلية. فهو لا يَعرف معنى أهل الكتاب، ولا نساء أهل الكتاب. ولم يُرِد أن يَدخل في جِدال مع ابنه، فقال لابنه:
- افعلْ ما بدا لَكَ، تزوَّجْها واغربْ عن وجهي.. سافرْ مثلما سافر أخوك المجنون فايز. لا أُريد رؤيتك ولا رؤيتها.
قال والدُه هذه الكلماتِ، واختفى في عَتمة البيت. لقد انصهرَ مع الحيطان الكالحة.
كان الشيخُ عبد الرحيم قد تلقَّى قبل مدة وجيزة عَرْضاً بالإشراف على أحد مراكز تحفيظ القرآن الكريم في تركيا، وفي نَفْس الوقت عُرض عليه أن يكون إماماً لأحد مساجد لندن. لكنه أجَّل هذين الموضوعَيْن. ويَبدو أن الوقت قد حانَ للتفكير في موضوع السَّفر.
تزوَّج عبد الرحيم وماريا دون حضور أي شخص من أقاربهما
لم تعتنق ماريا الإسلامَ لكنها غطَّت شَعْرَها، وارْتَدت جلباباً فضفاضاً. وقد أخبرَها عبد الرحيم أنه لا يَستطيع أن يَجبرها على اعتناق الإسلام. فهذا الأمرُ عائدٌ إليها.
قَرَّر أن يسافر إلى تركيا، فهو يَعْشق هذا البلدَ. وعندما كان صغيراً كان يَرى في المنام أنه يتزوَّج امرأةً تركية في إحدى ليالي الشتاء، ويبكي على صدرها أمام الموقدة حتى الفجر، ثم يَذهب إلى صلاة الفجر في إسطنبول. لكنه لم يُدرك في تلك الأيام أنه سيتزوج أرمنية، وأن هذه الأرمنية سَتَرْفض الذهابَ إلى تركيا.
رَفضت ماريا الفكرةَ، وقالت إن الأتراك ارتكبوا مجازر بحق الأرمن، وهي لا تَقْدر على العيش معهم، لأن الكوابيس ستظل تطاردها. لم يشأ عبد الرحيم أن يَدخل في جدل تاريخي حول هذا الموضوع، وليس لديه وقت لمناقشة ماريا في هذه القضية الواقعة بين النفي والإثبات. ولم يَبْقَ أمامه إلا الذهاب إلى لندن.
(44)
كان بسام مستلقياً على ظَهر الحافلة التي انطلقت من وسط البلد باتجاه جبل النظيف. إنها ممتلئة بالرُّكاب. الناسُ فوق بعضهم البعض. بَدت الحافلةُ كعلبة سردين مضغوطة. استغل بعضُ الشباب الفرصة للتحرش جنسياً بالنساء. أمَّا السائقُ فكان ذهنُه مشغولاً بحساب الأُجرة، واكتشافِ الرُّكاب الذين لم يَدْفعوا.
ترك بسام المدرسة بشكل نهائي، وهو الآن يَعمل ميكانيكياً عند أحد أقاربه، وقد استأذنه للعودة إلى البيت بسبب شعوره بالتعب والإرهاق. إنه يَستلقي على ظَهر الحافلة، يتأمل في السماء العظيمة، ويُراقبُ حركةَ السيارات، ويُفكِّر في ضجيج الناس. أخرجَ من جَيْب بنطاله أصابعَ والده التي حَنَّطها باستخدام مادة كيميائية. إنه يَحتفظ بهذه الأصابع باعتبارها تذكاراً متمرداً على النسيان. صارت الأصابعُ تُجسِّد فلسفةَ البراويز التي تضمُّ صورَ الأحبة الراحلين.
وعندما وَصلت الحافلةُ إلى شارع المصدار، هاجت الذكرياتُ في قلب بسام. رأى طالباتِ مدرسة راهبات الوردية يَخرجنَ من المدرسة، فتذكر تلك الطالبة التي كان يَحل لها أسئلة الرياضيات. انقطعت أخبارُها. ربما وَجدت مدرساً خصوصياً لمادة الرياضيات. وبصراحة، لم يَذهب بسام إلى المقبرة منذ مدة طويلة. لقد تَمَّ حَلُّ مجلس قيادة ثورة المقبرة. فايز ابنُ عَمِّه اختفى فجأةً، وأهلُه يؤكدون أنه سافرَ إلى جهة غير معلومة، والناسُ فرحون لأنهم ارتاحوا منه. غرابةُ أطواره جَعلته إذا حضرَ لا يُذكَر، وإذا غابَ لا يُفقَد. وحارسُ المقبرة تنكَّر لماضيه، وأدارَ ظَهره لسكان جبل النظيف الذين منحوه أصواتهم، وأوصلوه إلى البرلمان. وشاعرُ جبل النظيف مازن عبد الله صار اسمه يَظهر على صفحات الجرائد. ومَن يُريد رؤيته أو الاتصال به، فلا بد أن يَصطدم بمديرة مكتبه أو سكرتيرته. أمَّا معاذ أحمد حميد فيعيش مع زوجته في عَمَّان الغربية. انتقلَ من كوخ الصفيح إلى فيلا ذات قِرميد أزرق كدماء الأثرياء. نَعَم، لقد تَفرَّقوا مثلما تفرَّقت فرقة البيتلز، وذهبَ كلُّ واحدٍ في طريقه. كأنهم قد كتبوا أسماءهم على خناجر الحُلم، ونسوا أن يَحلموا.
شعرَ بسام أنه جالس على بِساط الريح.الهواءُ المنعِش يُداعبُ أعضاءه نهراً نهراً. كأنه متحرر من الجاذبية. يشعرُ أنه يَطير، وأن حياته شريط سينمائي، أو أرشيف ملقى في بئر مهجورة. دخلَ في حفلة العُمر التنكرية. يُريد استعادة ذكرياتِه من قبضة الزمن. فضاؤه الهاربُ هو غرفة الإعدام بالذكريات. طوفانُ الأحلام الضائعة يَجرف نبضاتِ قلبه. لم يكن يَعرف أن استلقاءه على ظَهر الحافلة سَيَكسر بابَ تاريخه الشخصي، فتنهمر الذكرياتُ على رأسه كالمسامير.
ورغمَ تَرْكه للمدرسة وابتعاده عن أولاد صَفِّه، ما زال يتذكر ركلة الجزاء التي أضاعها في حصة الرياضة. إنها كابوس يُطارده باستمرار، وصفارة إنذار تتفجر في صدره المحترق. تذكَّرَ عَمَّته رسمية التي ظَلَّ زَوْجُها يُعيِّرها طيلة عمرها بأنها لا تُنجِب. وقد قَضت حياتها خائفةً أن يتزوج عليها زوجُها. لكنها اكتشفت - بعد إجرائها الفحوصات الطبية - أن زوجها هو الذي لا يُنجِب، وقد استغل جَهْلَها وكَوْنها أُمية، ولا تَعرف قراءة التقارير الطبية، وجعلها تعيش في حالة رعب دائم. سنواتٌ مَرَّت كغبار المعارك الخاسرة، والجميعُ ضحايا للوهم.
كان يَلعب كرةَ القدم مع أقاربه على سطح بَيْته. يأتي أقاربُه من كل حدب وصوب. يَقفزون من سَطح إلى سطح بسبب تلاصق المنازل. وعندما يبدأون باللعب، ويَزرعون الضجيجَ في ذاكرة الأسمنت، تخرج جَدَّته الحاجَّة سارة- المنزعجة من أصواتهم المجنونة - وهي تَحمل عكازها لتوبيخهم. وما إن يَسمعوا صوتَ أقدامها على الدَّرج حتى يَهربوا في كل الاتجاهات. وتظل الأمورُ بين كَر وفَر. أيامٌ ذَهبت إلى غير رَجعة.
لا يزال مطرُ الذكريات يَهطل على أجفانه. تذكَّرَ حادثةً غريبة حصلت معه شخصياً، وهي حادثة مضحكة مبكية. فقد قال في أحد الأيام أمام الناس إنه فيلسوف، فصاروا يُعيِّرونه بذلك وكأنها تهمة. لقد استخدموا الكلمة " فيلسوف " كشتيمة. وكلما رآه أحدٌ قال له بسخرية: ((إيش يا أبو فلسفة.. يا فيلسوف جبل النظيف !)).
حتى إن يوسف صاحب بقالة الخيَّامي أخبر أبا بسام أن ابنه يقول إنه فيلسوف، فما كان منه إلا أن قال: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الشرُّ بَرَّه وبعيد. ابني سليمٌ، وزَي الفُل !)). وكلما تذكرَ بسام هذه الواقعة ضَحك من أعماق قلبه. أيامٌ تَهرب مِن بين الأصابع ولا يمكن الإمساك بها. عُمرٌ ضائع. تساوى الضدان. انتهت الأيام الحلوة والمرة. كلُّ شيء رايح.
وصلَ بسام إلى جبل النظيف. انتهت الحلقة الأخيرة من مسلسل الذكريات. بدا الجبلُ كئيباً ومهجوراً. اختفت الحيويةُ من الشوارع والأزقة. الناسُ مشغولون - هذه الأيام - بالبحث عن الذهب. لقد سَقطت حُمَّى البحث عن الذهب على سقوف قلوبهم. وكلَّ يوم، يَخرج الرجالُ والنساءُ والأطفالُ للبحث عن الذهب في الجبالِ، والمغاراتِ، والكهوفِ، وحُفرِ المجاري، والبيوتِ المهجورة.
ولم يكن أحدٌ يهتم بموضوع الذهب، إلا أن الثراء المفاجئ الذي هبطَ على بائع الترمس، وتأكيد الناس أنه كان يَبحث عن الذهب ليلاً، وأنه وجدَ صندوقَ ذهب يعود إلى أيام الأتراك. هذا الأمرُ جعل الناسَ يَغرقون في هلوسة المعدن الأصفر، ويُصابون بهذه الجرثومة المجنونة (الثراء السريع). ومع هذا فإن البعض يقولون إنه باع أرضَه في فلسطين لليهود، وحصل على الملايين.
كان بائعُ الترمس يَنتظر صدقاتِ الناس. وكان يستأجر بيتاً بائساً من غرفتين وحمام ومطبخ، يعيش فيه مع زوجته وأربعة أبناء وخمس بنات. ولم يكن يَملك أُجرة هذا البيت الوضيع. أمَّا الآن فقد اشترى لكل ابن سيارة، كما أن بناته يَدرسنَ في جامعات ومدارس خاصة. واشترى منزلاً في إحدى المناطق الراقية. وزوجته تأتي إلى الأعراس، ويداها مثقلتان بالأساور الذهبية، وأصابعها منقوعة في خواتم الألماس البراقة. وصار الناسُ يَطمحون إلى مصاهرته، وهُم الذين كانوا يَنظرون إليه على أنه شحَّاذ ووصمة عار، وأن بناته مجرَّد عوانس ومتسوِّلات. سُبحان مُغيِّر الأحوال.
(45)
الأيامُ تنهمر كأوراق الخريف. الحضاراتُ تتساقطُ كأجنحة الذباب. الحديثُ عن الذكريات يصبح جزءاً من الذكريات. ومَن يَحمل نعشَ الميت سيصبح ميتاً. تنتقلُ البندقيةُ من كتفٍ إلى كتف كما تنتقلُ المومس من زبون إلى زبون. وَحْدَه الجنون مَن يفك شيفرة هذه الأحزان اللانهائية. التاريخُ يَرفع الرايةَ البيضاء على جثث الجنود الهاربين. والجميعُ يسألون دموعَهم، ويَبحثون عن الإجابة بين قبورهم.
مازن عبد الله ومعاذ أحمد حميد صارا من عِلْية القوم. كانت المقبرةُ نقطةَ انطلاقهما نحو القمة. لم يكونا يمتلكان مالاً لحلاقة شَعرهما، أمَّا الآن فتمتلئ جيوبهما بالبطاقات المصرفية. وكلُّ واحدٍ يَركب سيارةً فارهة.
مازن حَوَّل قَلَمَه إلى دجاجة تبيض ذهباً، وباع حِبرَ كلماته للقادرين على الدفع. وهذا جعله يَجني ثروةً ضخمة في مدة قصيرة.
أمَّا معاذ فزوجته تشتري له كلَّ ما يحتاجه، وقد اشترت له هذه السيارة الفخمة في عيد الحب، رغمَ أن معاذاً لا يؤمن بعيد الحب، وطالما وَصفه بأنه ((عيد اخترعه الكفارُ لنشر الفواحش في بلاد المسلمين)). وهذه الجملةُ اقتبسها من إمام المسجد حرفياً. فِعلاً، هذه الدنيا لا تكف عن الدوران !.
لم يتركا كوفي شوب في عَمَّان الغربية إلا جَلسا فيه. ولم يتركا فندقاً فخماً إلا تناولا الطعام فيه. ومع هذا فما زالا يشتاقان إلى جبل النظيف، هذا المكان الذي ليس له من اسمه نصيب. هناك حنينٌ حارق يملأ صَدْرَيْهما، حنين إلى وجوه المسحوقين، ورائحةِ الأزقة القذرة، وأكواخِ الصفيح العشوائية، وطَعمِ الغموض في نور الشمس الذي يَرتطم بالبشر والحجر. لم يَقدرا على التخلص من هذا الحنين رغم كل المحاولات. إنهما يَشعران أن أزقةَ جبل النظيف تحوَّلت إلى لعنةٍ جاذبة كالمغناطيس، وكلُّ شخصٍ مشى في هذه الأزقة لا بد أن يعود إليها حياً أو ميتاً، حاملاً أو محمولاً.
كان لقاؤهما في بُقعةٍ يتزاوج فيها ضوءُ القمر مع ظلال سور المقبرة. إنهما يمشيان في جبل النظيف، مسقطِ رؤوس الفقراء، ومأوى قلوب الأيتام، كلُّ واحدٍ أوقفَ سيارته في مكان قريب، وقرَّر أن يُعيد اكتشافَ هذا المكان الواضح الغامض.
قال مازن عبد الله بعد أن تناولَ جُرعةً من هواء المقبرة المزدحم بالذكريات:
- صَدِّقْني يا معاذ، هناك شيءٌ غريب يَجذبني إلى جبل النظيف. وكلما قررتُ الابتعادَ عنه ونسيانه، شعرتُ بأحاسيس قاتلة تسحبني إليه. أحسُّ أن الأحلامَ القديمةَ تنوِّمني مغناطيسياً، ثم تجرُّني إلى هذا الجبل السحري.
خرجَ معاذ من بئر مشاعره، وقال بصوتٍ مغموس في الأحزان الخفية:
- هذا شيء طبيعي يا مازن. هذا المكانُ أحبَّنا واحتضنَ أيامَنا وقَبِلَ بنا عندما كنَّا فقراء، ولم يَخجل من ثيابنا الرثة. أمَّا الأمكنة الأخرى فهي تحبُّنا لأننا نملك المالَ، ونلبس أجملَ الثياب، ونركب السياراتِ الفخمة. جبلُ النظيف أحبَّ وجوهَنا، أمَّا الأماكن الأخرى فأحبَّت أقنعتنا.
وسادَ صمتٌ خشن في أكسجين الذكرى رغم ضجيج الناس، وحركةِ السيارات.
قال مازن محاولاً التخفيف من منسوب الأحزان:
- دَعْكَ من هذا الكلام يا معاذ، لا نريد تحويل لقائنا إلى رواية البؤساء.
وما إن أنهى كلامَه حتى توهَّجت عيناه بشكل غريب، ثم قال بحماسة:
- اسمعْ يا معاذ. أُريد أن تساعدني في أمر مهم، ولن أنسى هذه المساعدة طوال حياتي.
غطسَ معاذ في بحر الفضول. لم ينبس ببنت شفة، لكنَّ عينيه كانتا تتساءلان عن طبيعة هذه المساعدة، وجوارحَه كانت تنصهر في اللهفة الشاسعة.
قال مازن وجبهته تتفجر عَرَقاً:
- هناك صراعٌ مرعب في الوسط الأدبي، وهذا الوسطُ تحوَّل إلى عصابات متناحرة، وشلل متقاتلة على الشهرة والريادة والنفوذ. وفي الآونة الأخيرة ظهرَ ولدٌ حقير يظن نَفْسَه شاعراً، اسمه سلمان جابر سيف الدين. وهذا الشابُ - الذي حَظُّه يَفلق الصخرَ - كَسَّرَ الدنيا بقصيدة عنوانها " خواطر رَجل تافه أحب زوجةً خائنة ". وقد حقَّق شهرةً واسعة، وسرقَ الأضواءَ مني، وصارت وسائلُ الإعلام تَجري وراءه. وأُريد أن أرد له الصاع صاعَيْن.
قال معاذ وعلاماتُ الحيرة تَحفر خدودَه المرتعشة:
- وما علاقتي بالموضوع ؟!.
ظهرَ التوترُ على ملامح مازن، وقال بنبرة حادة:
- لا تقاطعني يا رَجل، ودعني أُكمِل. شُهرةُ الكُتَّاب تعتمد على الفضائح، فلا يوجد قُرَّاء هذه الأيام ولا ثقافة. الكلُّ يَلهث وراء الفضائح لتحقيق مجده الأدبي. لذلك قررتُ أن أصنع فضيحةً لتسليط الضوء عليَّ، والترويج لكتاباتي.
ضحك معاذ من أعماقه، وقال:
- لم أفهم أيَّ شيء مما تقوله، وإذا فهم سورُ المقبرة كلامَكَ، فأنا فهمتُ كلامَكَ !.. لا تُحدِّثني بالرموز والطلاسم. ادخلْ في الموضوع مباشرة.
ازداد منسوبُ الغليان في دم مازن، وقال بحدة:
- يا غبي !، سأدخل في الموضوع مباشرة. قبل يومين صَدرت مجموعتي الشعرية الجديدة " أزقة الجرذان "، وأريدك أن ترسل رسالةً إلى دائرة الإفتاء تخبرهم بأن هذه المجموعة تحتوي على أشياء مخالفة للإسلام. وبالطبع، سيتم منعُ الكتاب، وعندئذ تَحدث ضجة إعلامية، ويتم تسليط الأضواء عليَّ، ويزداد الطلبُ على الكتاب، لأن كل ممنوع مرغوب. فهمتَ القصةَ يا غبي ؟.
اتَّفق الرَّجلان على هذا الأمر. وانتهى اللقاءُ القاتلُ كما تنتهي صلاحيةُ عُلب المكياج. غادرَ معاذ المكانَ. أمَّا مازن فذهبَ إلى مطعم " وحش الفول " ليشتريَ سندويشة أو اثنتين. كان الجوعُ يَقضم أعصابَه، فهو لم يتناول الطعامَ منذ مدة بسبب كثرة أعماله، ومواعيده التي لا تنتهي.
كان كلُّ شيء عادياً. المللُ في أَوْجِه، والروتينُ يتحرش بذرات الهواء. القتلى يَجلسون على الطاولات، ويَغرقون في صحون الحمص والفول، ويتناولون أقراص الفلافل كما لو كانت حبوباً منوِّمة. لكنَّ المفاجأة تفجَّرت عندما أراد مازن أكلَ السندويشة التي اشتراها، فقد لاحظَ أنها ملفوفة بورق قديم عليه كتابات. وقعَ أسيراً للفضول، وطارَ الجوع من ذاكرة معدته الخاوية. بدأ بقراءة هذه الأحرف الذابلة، فأُصيب بصدمة رهيبة. أدركَ أنه يقرأ صفحةً من مخطوطة نادرة تعود للقرن الثامن الهجري. سقطَ في بئر الجنون. لم يعد يَشعر بأعضائه. صارَ يشكُّ في وجوده. دخلَ في مدارات الهلوسة. تجمَّع الزبدُ على شفتيه، وتكاثرت قُطعانُ اللعاب في فمه المتصلِّب.
سألَ العاملَ عن هذه الأوراق التي يلفُّ بها السندويشات، فأخبره أنه يشتريها من منصور خليل. طلبَ مازن من العامل إعطاءه كل هذه الأوراق بأي ثمن يُريده. شكَّ العاملُ بالأمر للوهلة الأولى، لكنه سُرعان ما نسيَ شكوكه عندما رأى لمعانَ الأوراق النقدية. وهذا العاملُ ليس له علاقة بعالَم القراءة والكتابة، فكثيراً ما يَمسح الزجاجَ بالجرائد وصفحات الوَفَيَات المحتوية على آيات قرآنية، ثم يَرمي الأوراق في حاوية القُمامة بكل بساطة. وبالنسبة إليه، يُعتبَر لفُّ السندويشات بأوراق الكتب والمجلات والصحف أمراً عادياً لا يستحق الانتباه.
اشترى مازن مخطوطتين كاملتين، كان يَحضنهما كما لو كانتا صندوقين من الذهب. أدركَ في تلك الساعة الرهيبة أنه عَثَرَ على كنز حقيقي. فهذه المخطوطات النادرة يمكن أن تَجلب له آلاف الدنانير. وبصراحة، لم يتوقع أن يحتويَ جبلُ النظيف - المكان المنسي المنقطع عن دنيا الثقافة - على هذه المخطوطات المدهِشة.
قرَّر مازن الذهابَ إلى بيت منصور خليل لشراء كل المخطوطات التي لديه. رفضَ الانتظارَ إلى الصباح، فهذا الأمرُ لا يَحتمل التأجيل. كان يَشعر أنه سيطير من الفرح بسبب اكتشافه لمغارة علي بابا. وعلى الرغم من سعادته الغامرة إلا أنه لم يتحرر من الدهشة والاستغراب. فمنصور خليل لم يُعرَف عنه اهتمامه بالعِلم والثقافة، فهو بائع طحين، يَنقل أكياسَ الطحين على حِماره الهزيل الذي يَقتحم أزقة جبل النظيف الضيقة بكل ثقة. ولطالما سرقَ الأطفالُ حمارَه منه، وركبوا عليه. وفي تلك اللحظات المضحكة لا يَملك إلا أن يَشتمهم كالمجنون، ويَجريَ وراءهم كالمهرِّج.
وصلَ مازن إلى بيت منصور. بابٌ مهترئ من خشب القرون الوسطى. سقفٌ هالك سرقته الطيورُ المهاجرة. لا يوجد جرسٌ، ولا يوجد شيء !. سمعَ صراخاً معجوناً بالرعب. لا بد أنه صراخ زوجته. ما زالَ مُتمسكاً بعادته القديمة في ضرب زوجته. ولطالما سمعَ مازن الناسَ يقولون إنه لا يُجامِع زوجته إلا بعد أن يَضربها !.
(46)
جبلُ النظيف في بؤرة الحدث العالمي !. القنواتُ الفضائية العربية والعالمية هَجمت على هذا المكان دون سابق إنذار. هذه حقيقة وليست حُلماً. قد يكون الأمرُ كابوساً، ولكنه بالتأكيد ليس حُلماً. الرعبُ يسيطر على الوجوه الخشنة، والأحلامُ الضائعةُ تغرس سيفَ الحزن في غِمد التاريخ. مَن كان يظن أن جبل النظيف سيصبح مكاناً شهيراً مثل لندن وباريس ؟. مَن كان يتوقع أن يتحول فايز عمران من "خمراوي" إلى "أبو طارق النظيفي" ؟.
الناسُ تائهون في مدارات الذهول. لم يُصدِّقوا عيونهم عندما رَأوا فايز عمران على شاشة التلفاز، وهو يُهدِّد أمريكا وأوروبا، ويُعلِن الحربَ على اليهود والنصارى. الجميعُ قرأوا اسمه، أقصد اسمه الجديد " أبو طارق النظيفي ". وقرأوا كذلك العبارة تحت اسمه "قيادي في تنظيم القاعدة."
صار الناسُ يشكُّون في أنفسهم. هُل هُم مستيقظون أم نائمون ؟!. لم يُصدِّق الكثيرون الأمرَ، واعتبروا ذلك أحد مقالب الكاميرا الخفية، أو إحدى حركات فايز الغريبة. أمَّا الذين صَدَّقوا الأمرَ فقد انقسموا إلى فريقين: فريق يَعتبره إرهابياً مجرماً، وفريق يَعتبره بطلاً قَوْمياً ومجاهداً في سبيل الله. وهذان الفريقان دَخلا في حرب بالأيدي والسلاح الأبيض والكراسي والطاولات.
وفي اليوم التالي تأكَّد الجميعُ أن ما شاهدوه حقيقة، فقد أَسقطت الحكومةُ الجنسيةَ عن فايز عمران باعتباره إرهابياً أساءَ لسُمعة بلده وشعبه، وتدفَّقت وسائلُ الإعلام من كل حدب وصوب إلى جبل النظيف للتعرف على شخصية فايز وبيئته ومقابلة أهله والأشخاص الذين يَعرفونه. لكنَّ أجهزة الأمن انتشرت بكثافة في الجبل، ومَنعت وصولَ أجهزة الإعلام إلى بيت فايز، ولم تسمح بعقد أية لقاءات صحفية أو تلفزيونية مع أُسرته ومعارفه. وقد كانت الصدمةُ مسيطرةً على أفراد عائلته، والذهولُ يَأكل وجوهَ السُّكان. هذا الشخصُ النكرةُ صار شخصيةً عالمية مثل نجوم السينما وأبطالِ الرياضة. هذا الشخصُ الذي قَضى وقته في المقبرة، وعاشَ قريباً من حُفر المجاري صار يُهدِّد أكبرَ دولة في العالَم. وقد خصَّصت الإدارةُ الأمريكية مبلغ خمسة ملايين دولار لمن يُدلي بمعلومات تؤدي إلى قتله، أو القبض عليه.
وعندما سمعَ يونس (صاحب مطعم وحش الفول) بهذا المبلغ قال: «لو كنتُ أعرف أن هذا الحقير - يَقصد فايز عمران- يساوي خمسة ملايين لأمسكتُه بأظافري وأسناني. ولكنْ، الذي ليس له حَظ، لا يتعب ولا يشقى».
وفي عاصمة الضباب، كانت المعاناةُ تحاصر الشيخَ عبد الرحيم. لم يُمنَح فرصة لالتقاط أنفاسه، أو ترتيب شؤونه. كان يظن نَفْسه في شهر عسل مع زوجته الأرمنية. ولكنْ، يا فَرحة ما تَمَّت. لقد اعْتُقِل هو وزوجته للتحقيق معهما بخصوص شقيقه فايز " الإرهابي الجديد ". والمخابراتُ البريطانية (الداخلية والخارجية) كانت تَملك تصوراً بأن الشيخ عبد الرحيم جاء إلى بريطانيا في هذا الوقت لتنفيذ عمليات إرهابية بالتنسيق مع شقيقه فايز القيادي بالقاعدة. الأحداثُ تتدحرج مثل كرة الثلج. والمصائبُ لا تأتي فُرادى. اعتقدَ الشيخُ أن إقامته في لندن ستكون فرصة لإراحة أعصابه، وفتح صفحة جديدة من حياته، والاستمتاع مع زوجته في هذه العاصمة الجميلة. ولكنْ يَبدو أن حساباته لم تكن دقيقة.
(47)
جمعَ عمران (أبو عبد الرحيم) إخوته في بيته. كان هذا الاجتماع ضرورياً لدراسة الضربات المتتابعة التي تلقتها عائلة المخلوسي. فالمصائبُ تَنْزِل عليهم كالمطر، ولا بد من اتخاذ خطوات ملموسة. فسُمعة هذه العائلة على المحك.
جلس الإخوة الأربعة في ذاكرة الأحزان. وجوهُهم غاطسة في ماء الآلام الحارق. إنهم يَحملون ميراثَ هذه العشيرة (آل المخلوسي) على أكتافهم، ولا مفر من الدفاع عنه حتى الرمق الأخير. لقد وصَّاهم أبوهم الحاج لطفي سعيد المخلوسي - رحمه الله - وهو على فراش الموت بأن يحافظوا على سُمعة عشيرتهم التي تُعتَبَر رأس الهرم الاجتماعي في جبل النظيف. وبالطبع، لم يكن المرحوم يتصور أن يأتيَ يومٌ تصبح فيه سُمعةُ العشيرةِ مهدَّدةً. لقد تلقَّت ضرباتٍ موجعة في فترة وجيزة.
نصَّب عمران نَفْسَه رئيساً للجلسة، باعتباره الأخ الأكبر، وقال بلا مقدِّمات:
- عين وأصابتنا. الناسُ حسدونا.. قلوبهم مليئة بالغيرة والحسد والحقد.
وأردفَ قائلاً:
- اللهم لا تَجعل الناسَ يشمتون بنا.. يا رَبَّ العالَمين.
كان عمران هو المتحدث الرسمي باسم الذكريات. وكان وَحْدَه القادر على الكلام. أمَّا باقي إخوته فكانوا عاجزين عن الكلام، يَشعرون بالحزن والخوف. كان الرعبُ يَقضم أعضاءهم عضواً عضواً، والألمُ يَعقد ألسنتهم. كان وجودُهم كعدمه، وظهر عمران وحيداً في هذا الفراغ الموحش، كأنه يُكلِّم نَفْسَه.
قال عمران بصوتٍ حزين:
الذي فاتَ ماتَ. نحن أولاد اليوم. وسواءٌ ضحكنا أم بكينا، لن يعودَ الماضي، ولن ترجع عقاربُ الساعة إلى الوراء. ولو كان البكاءُ يُرجِع الذين رَحلوا لقضينا حياتنا باكين.
كان عمران يتكلم ويَسكت.. يَسكت ويتكلم، فلا يقاطعه أحدٌ ولا يُعلِّق على كلامه أحدٌ، على غير العادة !.
وصلَ إلى الجزء الأخير من محاضرته، وقال بصوت واثق:
- لقد صار اسمُ عشيرتنا يتردد في كل وسائل الإعلام الداخلية والخارجية. ويجب استغلال هذا الأمر لصالحنا. وقد قَرَّرْنا إنشاءَ متحف لعائلة المخلوسي للحفاظ على وزن العشيرة بين العشائر، ونشر صِيتها في كل مكان.
تفشَّى الصمتُ. لم ينبس أحدٌ بكلمة كأن على رؤوسهم الطير، وانتهى اللقاء الصامت بلا صراخ، على غير العادة !.
وبعد مضي شهر تقريباً صار المتحف واقعاً ملموساً، وأضحى الحلمُ حقيقةً ماثلة للعيان. استأجروا بيتاً صغيراً لإقامة هذا المشروع المصيري بالنسبة لهذه العشيرة. وضعوا لافتة بالخط العريض " متحف آل المخلوسي "، وتحت هذا العنوان كُتبت عبارة موجزة " من التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءً ". كما أن الشارع أمام المتحف تمَّت تسميته باسم الحاجَّة سارة.
اشتملَ المتحفُ على مُتعلِّقات شخصية، وكتابات بخط اليد، وصور تذكارية. وهذه قائمة بمحتويات المتحف: دروع تقديرية للشيخ عبد الرحيم عمران بمناسبة إسهاماته في مراكز تحفيظ القرآن الكريم. عكازة الحاجَّة سارة، ومذياعها القديم، وبعض العملات الأثرية التي كانت تملكها (من أيام الدولة العثمانية). كتابات " الشهيد البطل " رأفت سليم باللغتين العربية والإنجليزية. صورُ فايز عمران أثناء مرحلة الطفولة،ودفاتره المدرسية، ومذكراته في المقبرة(قبل أن ينضم إلى"القاعدة "). أفكار بسام خميس في الرياضيات والعلوم، وهي مكتوبة بخط الرصاص على ورق رديء، والآلات التي صَمَّمها. أصابع خميس (أبي بسام) المحنَّطة، وتَمَّ عرضها باعتبارها رمزاً للإرادة والتحدي. بعضُ الرسوماتِ الفنية لحورية خميس. عشراتُ الصورِ العائلية، ومئاتُ الرسائلِ الشخصية.
افتتح المتحفَ سعادةُ النائب هويمل حسون، الذي ألقى كلمةً موجزة، عبَّر فيها عن سعادته بافتتاح هذا المتحف، ووصفه بأنه يَدعم مسيرة التنمية الثقافية في جبل النظيف، ويعزِّز الوحدةَ الوطنية، ويَرفع مستوى الدخل القومي، ويَدعم حقوقَ الإنسان، ويَحفظ حقوقَ المرأة، ويَدفع عجلةَ التقدم والإصلاحِ إلى الأمام.
هجمَ الناسُ على المتحف بصورة هستيرية. يُريدون اكتشافَ أسرار هذه العائلة. سِعرُ التذكرة للمواطنين والأشقاء العربِ دينار واحد، أمَّا سِعرها للأجانب ثلاثون ديناراً.
وكان لافتاً حضور السياح الأجانب من كل الجنسيات. يُريدون التعرف على حياة فايز، وزيارة بيته، والاطلاع على أغراضه الشخصية. فقد أصبح شخصيةً مشهورة عالمياً بعد انضمامه إلى تنظيم القاعدة. وقد تلقَّت إدارةُ المتحف عَرْضاً من إحدى دور المزادات الأوروبية لشراء صور فايز وأوراقه الشخصية. والأمرُ ما زال قَيْد البحث.
وكان من اللافت حضور الشاعر مازن عبد الله، لكنَّ أحداً لم يتعرف عليه بسبب نظارته السوداء (الريبان). لقد باعَ في الآونة الأخيرة " شوالات " من المخطوطات لأحد المستشرقين، وحصلَ على أموال طائلة.
أمَّا المفاجأة المدوية فكانت حضور الشيخ عبد الرحيم وزوجته لمشاهدة محتويات المتحف. فقد تَمَّ الإفراجُ عنهما لعدم وجود أي دليل ضدهما. وقد رَفعا دعوى قضائية ضد الحكومة البريطانية، ووكَّلا محامياً لمتابعة القضية.
(48)
تمرُّ الأيامُ كالسراب المفعم بالمشاعر المحروقة. جبلُ النظيف يَغرق في عاصفة ثلجية. لم يأتِ الثلجُ إلى هذا المكان الغامض منذ مدة طويلة. الثلجُ الأزرقُ يُغطِّي جسدَ هذا الجبل وأعصابَه المرميةَ في الشوارع والأزقة. يحتل الزمهريرُ سطوحَ البيوت، والحاراتِ الكئيبة. فَرضت الثلوجُ حظرَ التجول على السكان. الفراغ يعمُّ الأرجاءَ، والعَدَمُ يَحصد رومانسيةَ الضحايا. اختفى الضجيجُ في العاصفة، وذابت الضوضاءُ في الرعب اللذيذ.
اختبأ الناسُ. كأنهم ذَهبوا لتسلية القطط المذعورة. العجائزُ اللواتي كُنَّ يَجلسنَ على أبواب البيوت غِبْنَ بين جدران المنازل المتهاوية. التجارُ أغلقوا أبوابَ المحال التجارية. السائقون تركوا سياراتِهم في الطرقات. الأطفالُ يَحْتمون بأمهاتهم المرتعشات أمام مواقد الحطب. بعضُ المعاقين كانوا يَنظرون من الشبابيك، ويتمنون أن يَلعبوا بالثلج في هذا الجو العنيف.
هذا الانطفاءُ الصارخُ حاصرَ الزمانَ والمكانَ، وأسرَ الذكرياتِ التي رَفعت الرايةَ البيضاء. رَكضت الثلوجُ إلى شواهد القبور. رائحةُ الموتِ تتغلغل في كل شيء. تختلطُ رائحةُ الموتِ برائحة القهوة. ينامُ الضبابُ على رغوة الدماء، ويصبح الأسمنتُ يتيماً مثل الكستناء. وَحْدَه الموتُ كان يُضيء فوق أسوار مقبرة جبل النظيف. الطيورُ المتجمدةُ تحلِّق فوق صنوبر الأمجاد الوهمية.
وهناك، عند قبر الحاجَّة سارة، كان أرشيفُ المطر الحمضي يتناثر كأظافر اليتيمات الغارقة في زحمة الفراغ السحيق. قطةٌ عمياء تنام إلى جانب قبر الحاجَّة سارة. إنها القطةُ التي ربَّتها في حياتها، وها هِيَ تنام إلى جانبها النومة الأبدية. آثارُ أقدامها الصغيرة على الثلج، وجسدُها الطري ممدَّد في دموع العاصفة.
عَمَّان، 3/1/2014 م.