أغلب سنوات العمر التى أمضيتها، محاولاً الوصول إلى كتابة جيدة كانت فى صحبة أرنست هيمنجواى، منذ الصبى المبكر سحرنى الرجل: حياته وكتاباته، ذلك التركيب السحرى الفريد بين الحياة والكتابة، عاش حياة عريضة.. وكتب كتابة عظيمة. الخروج من الكتابة الصحفية المميزة إلى الأدب الفريد الخالد.
قديم هو.. مرت بعده مدارس كثيرة، وخرجت اجتهادات فى الفكر والفن مختلفة ومتنوعة، لكننى أعود له كثيراً باحثاً فى الحلول التى قدمها لعلاقة الفكر بالكتابة الأدبية، أسلوب الكتابة، علاقة الحياة بالأدب، بالنسبة لى: كان وسيبقى إنساناً عبقرياً ساحراً، لم أفهم - ولم أغفر له - انتحاره، رغم كل التفسيرات الفكرية والجينية التى حاول العلماء والمفكرون تقديمها لتبرير هذا العمل الذى يبقى إلى الأبد غصة فى حلقى، ونقطة سوداء أصرفها ولا أحاول التفكير فيها.
أرنست هيمنجواى «1899-1961»، واحد من أهم كتاب القصة القصيرة والرواية والتحقيق الصحفى فى القرن العشرين: أشهر أعماله: الشمس تشرق أيضاً (1926) لمن تدق الأجراس (1940) العجوز والبحر (1950)، حصل على نوبل (1954)، وله عدد من مجموعات القصص القصيرة التى مهدت لكل تجارب وأشكال القصة الحديثة، إنجازه الأهم - بالنسبة لى - هو لغته: الحية، السهلة، المقتصدة التى وصلت إلى تركيب خاص بين الكلمة والصورة: بين التعبير الأدبى والحركة، والفن التشكيلى، كما مهد لدخول حلول وحيل السينما إلى الأدب.
أنا شخصياً، منحاز لعبقرية الرجل، أشعر تجاهه بفضل وامتنان، صنع فى حياتى حلماً حياً لا يفارقنى رغم العمر.
■ ■ ■
ما الذى جاء بهيمنجواى الآن، ولماذا أكتب عنه وسط هذا الصخب؟
صدر - أخيراً عن مكتبة الأسرة عمل فريد له: «الوليمة المتنقلة»، عمل خارج بحار الروايات والقصص القصيرة، سيرة حياة روائية كتبها فى مقتبل حياته عندما كان يبحث عن نفسه فى باريس (1921-1926) كتب ما يشبه اليوميات، مجموعة من الملاحظات والأفكار عن نفسه، عن باريس، عن الكتابة، عن الأصدقاء، خلال هذه السنوات التى يطلق عليها فى فرنسا السنوات الجميلة، أو سنوات الجنون، السنوات التى تقع بين انتهاء الحرب العالمية الأولى وسنوات الكساد المالى الكبير، كانت باريس ملاذًا للكتاب والفنانين الباحثين عن تعبير عن العالم الذى تغير: كل تجارب الفن التشكيلى الذى صنع العصر، أغلب محاولات الأدب الحديث، نشأت فى هذه الفترة: من جيمس جويس إلى إليوت إلى فيتزجرالد، إلى دوس باسوس: فى صالون السيدة الأمريكية الغامضة اجتمعت كل هذه التيارات: صالون مسز شتاين جيرترود، التى أطلقت عليهم تعبير «الجيل الضائع» وهو ما رفضه هيمنجواى، حيث كان يرى فيهم فنانين يصنعون المستقبل، إلى جانب تسجيل يوميات هذه الفترة كان هيمنجواى، الكاتب الشاب الفقير، مشغولاً بكتابة رواية من رواياته الكبرى، محاولاً كسب عيشه بنشر قصص قصيرة فى بعض المجلات التى تقبل نشر قصص لأسماء غير معروفة.
جمع الكراسات التى تحتوى أفكاره ومغامراته فى حقيبتين كبيرتين وتركهما فى آخر فندق نزل به قبل أن يرحل إلى أمريكا، فى طريقه إلى الشهرة والنجاح، بعد انتحاره فى 12 يوليو 1961، تحصلت زوجته الرابعة مارى على الحقيبتين المليئتين بالأوراق وصنعت منهما النسخة الأولى من «الوليمة المتنقلة» وأصدرتها فى كتاب سنة 1964، ثم أعاد حفيدا هيمنجواى إصدار نسخة منقحة من الكتاب عام 2009، عن هذه النسخة ترجم د. على القاسمى النسخة العربية التى بين أيدينا، د. القاسمى، أديب ومفكر عراقى كبير يقيم فى المغرب منذ 1978 ليعمل بالأدب والثقافة والترجمة فى أكثر الأماكن بعداً عن صراعات العالم العربى، صدرت الترجمة فى طبعات سابقة مع مقدمتها الوافية المفيدة، إلا أن صدورها فى مكتبة الأسرة فى مصر عيد لعشاق باريس وعشاق أدب هيمنجواى الحر.
يقول واحد من أكبر أعمدة النقد الأدبى فى مصر الشيخ أمين الخولى بعد أن قرأ عدداً من قصص هيمنجواى القصيرة المترجمة إلى العربية، يقول أستاذ الأمناء، معلقاً على قصص هيمنجواى وأسلوبه:
«ليست القصة القصيرة ديباجة مرصعة، ولا ألفاظاً منمقة، ولا أحداثاً لافتة، ولا حركة عنيفة، ولا هى عقدة دقيقة، ولا حبكة متينة بل هى: همسة، أو لمسة أو خفقة، أو مسقط ظل، أو شعاع ضوء، أو فتنة لون.. أو ما إلى ذلك من إيحاء الفن.. لذا ليست القصة عملاً هيناً».
أما هيمنجواى فهو يقدم الأوراق التى لم يكن يفكر أن تكون كتاباً بقوله فى رسالة إلى صديق: «إذا كنت محظوظاً بما فيه الكفاية لكى تعيش فى باريس مثلى وأنت شاب، فإن ذكراها سيبقى معك إلى الأبد أينما ذهبت لأن باريس وليمة متنقلة».
الكتاب رغم احتشاده بأفكار عن الأدب والكتابة إلا أنه يشتمل أيضاً على وصف تفصيلى لشوارع باريس فى ذلك الزمن الجميل، الشوارع والمطاعم والمقاهى والبارات، ووصف للشقق الباريسية الفقيرة والفاخرة، ولأنواع الطعام والشراب، وحشود الرسامين والكتاب والصعاليك، وأنواع الجرسونات الطيبين والأشرار، ودكاكين البقالة والمشروعات، وشاطئ النهر والحدائق، والمكتبات التى تبيع أقدم الكتب وأحدثها.
■ ■ ■
كل هذه التفاصيل زخارف حول الموضوع الأصلى الذى هو الكاتب والكتابة، وأفكاره المتناثرة حول أسلوب العمل، وقته ومتاعبه، وسأسرد فيما بقى لى من مساحة بعضاً من تلك الأفكار، تاركاً المتعة الكاملة للقارئ لكى يجلس إلى هذه الوليمة، التى أعدها هيمنجواى وأحسن تقديم ترجمتها العربية الدكتور القاسمى:
■ تعلمت من رسم سيزان الذى أزور صوره كل يوم فى «اللوفر» أشياء عديدة مكنتنى أن أكتب قصصى فى عبارات بسيطة حقيقية لكى أضمن للقصص أبعاداً غير محدودة، ولكننى لم أكن أملك البلاغة الكافية التى تملكها لوحات الفنان، كما أننى أحتفظ لنفسى بهذا السر ولا أبوح به لأحد.
■ أحياناً أشرع فى كتابة قصة ما ولا أتمكن من التقدم فيها، أجلس أمام المدفأة متعباً، وأعصر قشور البرتقالات الصغيرة فوق أطراف اللهب، وأشاهد الرذاذ الأزرق الذى يتصاعد مع الرائحة، ثم أقوم وأحدق فى أسطح بيوت باريس وأقول لنفسى: «لا تقلق.. لقد كتبت دوماً.. كتبت كثيراً من قبل وسوف تكتب من جديد، كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة، اكتب أصدق جملة تعرفها، هناك دائماً جملة حقيقية واحدة على الأقل، جملة واحدة رأيتها أو سمعتها، إذا بدأت الكتابة بتكلف كمن يمهد لتقديم شىء فإننى أتوقف، أحذف الزخارف والمقدمات والالتواءات اللفظية، أرمى بها بعيداً، لكى أبدأ بأول جملة خبرية حقيقية بسيطة.
■ أتوقف عن الكتابة وأنا أعرف ماذا سيحدث فيما بعد، لا أصل إلى قاع البئر، أترك ماء فى القاع.
■ عندما أترك الكتابة لا أفكر فيها أبداً، أترك كل العمل للعقل الباطن، لا أتحدث عنها ولا أفكر فيها.. سيمدنى العقل الباطن بالجديد.
■ على الكتاب أن يكتبوا وهم واقفون، فى هذه الحالة سيكتبون جملاً قصيرة.
■ يحتاج الإنسان إلى سنتين لتعلم الكلام وإلى خمسين سنة ليتعلم الصمت.
■ السعادة: صحة جيدة.. وذاكرة ضعيفة.
■ تعلم ألا تخلط بين الحركة.. والفعل.
■ يمكن تدمير الرجل.. ولكن لا يمكن هزيمته.
كان للرجل هوايات كثيرة ومشاغل دائمة: الملاكمة، مصارعة الثيران، سباق الخيل.. وعلاقات نسائية متنوعة «تزوج أربع مرات»، وتأتى الكتابة قبل كل شىء، وبعد كل شىء، الكلمات هى عشقه الأول والأخير، من أجمل ما قاله فى هذا الخصوص:
أنا أنظر إلى كل كلمة، وكأننى أراها للمرة الأولى.
الوليمة المتنقلة - أرنست هيمنجواى - ترجمة د. على القاسمى - مكتبة الأسرة - القاهرة 2014