يتأمل الكاتب المغربي في هذه المراجعة لديوان الشاعر الأخير مسيرة شاعر لم يحظ بما يستحق من اهتمام، ويكشف عن خصوصية هذه المسيرة وعن علاقة تلك الخصوصية بطبيعة العالم الشعري الذي يبلوره، ونوعية اللغة التي يصوغ منها صوره ورؤاه، ويربط هذا كله بمسيرة القصيدة الحديثة في الشعر المغربي واستشرافاتها لآفاق القرن الجديد.

مآلات القصيدة السبعينية في القرن الحادي والعشرين

عنيبة الحمري أنموذجا.. الشاعر والإنسان.

عزالـدين بـوركـة

أثْـنِ على الـخَمْـرِ بآلائِهـا

وَسَمِّهـا أحـسَـنَ أسْمـائِهَا- أبو نواس.

تقول فما لي وللكأسِ

تأخذني- م. عنيبة الحمري.

 

كمقدمة:
عرفت القصيدة المغربية في بداياتها، فيما بعد القرن التاسع عشر، تأثرا واضحا في مسارها الأول بالحركات المشرقية التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين (البعث والإحياء، والرومانسية...). وما تبعها من حركة التجديد في القصيدة على يد كلّ نازك الملائكة والبياتي ... وغيرهما من الشعراء المشارقة. ظلّ هذا التأثر قائما ومتصلا بالقصيدة المغربية، يمنع عنها لمستها الخاصة، إلى حدود العقد السابع من القرن المنصرم، وما قبله بنيّف من الزمن.

عرفت القصيدة المغربية منعطفا واضحا، عن أختها المشرقية - في ذلك العقد. فبزغ ضوء شعراء تحوزهم الكتابة المتجددة والجادة، وإن ظهر من بعد في سنوات الثمانينيات حركة متأثرة بما وصلت له "قصيدة النثر" من كتابة وتنظير، على يد كل من أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما. فتبنى هذا الخطاب ونظّر له محمد بنيس، وتلاه مجموعة مِن مَن تأثروا به وبشعره..

لقد خلق شعراء من أمثال محمد بن أحمد القري (1900-1937م)، وعلال الفاسي، ومحمد المختار السوسي (1900-1965م)، ومحمد بن إبراهيم ... وغيرهم، واقعا جديدا كان إيذانا بميلاد شعر النهضة في المغرب، وهو شعر يلتقى في صيغته بصيغة المدرسة الإحيائية. تبع هذا جيل من الشعراء تحوزهم التطورية في الشعر، والقطيعة المنهجية مع البنية القديمة، والاستمرارية في الشعر، سُمِيُوا "بالرومانسيين". وأواسط العقد السادس من القرن العشرين، ظهرت بالمغرب، مباشرة بعد الاستقلال، ببعض السنوات، حركة تجديدية تنحو خارج التيارين المحافظ والرومانسي، إلى الكتاب المتجددة، متأثرين بحركة الشعر الحر التي انطلت من العراق على يد: بادر شاكر السياب ونازك الملائكة والبياتي عبد الوهاب.. عبر الاطلاع على مجموعة من المجلات الثقافية والصحف، التي تبنت التنظير وتبليغ هذه القصيدة المعاصرة (على حدّ تعبير نازك الملائكة). من أمثال أحمد المجاطي، والخمار الكنوني، وعبد الكريم الطبال.

مع مطلع السبعينيات ظهر ثلة من الشعراء، وإن تبنوا تلك البنية الكتابية للقصيدة (قصيدة التفعيلة) وانزاحوا بها إلى "الحرة أكثر" من سابقاتها ، من حيث التكثيف الصوري، والاستعمال الفكري والإيديولوجي: السياسي منه خاصةً، لما عرفته البلاد من حركات ثورية، وانتفاضات شعبية، وقمع بوليسي (مخزني)، وما سمي بسنوات الرصاص. فكان الاهتمام بقضايا المجتمع أهم ما يميّز هذه الحقبة من الشعر، أسماء هي متعددة ولا يمكن حصرها في مقال، تبنت هذا المسار. غير أن المشكل أنها ظلت حبيسته، لا تنزاح عنه من حيث الجمالية داخل القصيدة. بينما أسماء أخرى تبنته وأخذت على عاتقها "تطوير الحاصل"، من حيث البنية والصور والانفتاح عن مآلات الحداثة، أمثال: محمد الأشعري، محمد بنيس، محمد بنطلحة، بنسالم حميش، أحمد بنميمون، ومحمد عنيبة الحمري...

عند هذا الاسم/ الشاعر الأخير نقف ونستقصي ما آلت إليه الإنكتابية القصائدية عند جيل السبعينيات من القرن الماضي، في القرن الحاضر.

أن تكتب عن شاعر:

لتكتب عن وحَوْل الشاعر "محمد عنيبة الحمري" يلزمك أكثر من قلم وممحاة، يلزمك الشعر كلّه والنثر .. يلزمك فصاحةٌ أشد من تلك التي امتلكها المتنبي، وشعرا أبلغ من الذي امتلكه أبو فراس الحمداني، وسُكر المعنى في مجاز أبو نواس، وتكثيف الشعر عند محمود درويش وأقصى من سريالية المعنى عند محمد مقصيدي. ولعلّك بعد كل هذا وذاك، باقع في سطرك الأول وأنت تتأمل القصيدة عنده، لعلّ نبع الكتابة هناك في أقصى كتب البلاغة وأقرب كتب الحداثة وما بعدها، يوحي إليك ببيت أو نثر..

القصيدة.. إيقاع:
لعلّ عنيبة الحمري لا يتخذ من النثر أسلوبا لانكتاب القصيدة لديه (إلى حدّ ما تطلعت عليه) وإنما يوظفه، توظيفا أنيقا محتشما، لتكسير البنية التفعيلية داخل القصيدة. وهذا واضح المعالم في ديوانه الأخير "تكتبك المحن":

-بالأمس الغابر/ عنتْ لي فكرهْ/ أن أغمد قلبي/ في النخلهْ/ ففصمت الجذع/ إلى نصفين/ وأنا قربَ ماء الآسن/ أعصر عمْرا/ لكني/ لم أغمدْ قلباً/ لم أفصم نخلاً/ لم أحلمْ أصلاً. (ص81/83).

تكسير هو بسبق الإصرار والتأمل: (ففصمت الجذع/ إلى نصفين).

الشاعر أو الإنسان..
الشاعر أو الإنسان.. كلاهما واحد عندي.. لا فرق بينهما، فهو المتعدد الواحد. مفردٌ بصيغة الجمع.. وجمعٌ بصيغة المفرد.
الشاعر الباحث .. والباحث الشاعر، هو.. معجمٌ من المعرفة وقصيدة/ الشعر يمشيان جنبا لجنب.. يحدثك عن الشعر واللغة في فصاحتها وأسرارها.. يحدّثك عن التاريخ والسياسة.. باحثٌ هو في هذه الأخيرة .. إلى درجة توظيفها في أوائل قصائده، صوراً بليغة..

-أستريح إلى قدري/ بنجوم تهاوتْ إلى المنتهى / وعلى فلكِ البرج ترسو/ سفينة عشقي/ أقود حماقة ظنّ/ بأني أقوى على صدّ قلبي عنِ الخفقان (ص 24).

فرحٌ وابتسامة عريضة، وعناق لذيذ، شبيه بالنبيذ، الأحمر المعتق، الذي يلتقي وأوسط اسمه، في تناص بديع، مع اللامنتهى العنب الملائكي .. المعتق كشِعْره الخمري أحيانا، والفائض عن لزوم اللغة غالبا، والحداثي الجاهلي في تناقض باذخ.. وأليس أبدع الشعر ما يحمل في طياته المتناقضات الجمالية؟

تكتبك المحن: عودةً إلى الإيقاع داخل القصيدة:

لا يتخلى عنيبة الحمري عن الإيقاع الصوتي داخل القصيدة، ولو أنه يكسره أحيانا.. كما أسلفنا القول والإشارة .. إنما الإيقاع لديه هو "عنصر هيكلي في الشعر"، كما يقول الكاتب عبد الناصر لقاح، ويضيف، "إلا أن ثمة شعراء .. ومنهم الكبار أمثال أبي القاسم الشابي يمارسون هذا الإيقاع في الغالب الأعم وفق قوالب جاهزة محفوظة.. الأمر الذي تبدو معه إيقاعاتهم رتيبة في أحايين كثيرة بل ثقيلة على الأسماع ... ويكفي في هذا المقام الوقوف عند قصائد الشعراء الرواد بالمغرب وبغيره المكتوبة على المتقارب والمتدارك..

في أعمال الشاعر محمد عنيبة الحمري -يضيف لقاح- الإيقاع يخدم الصورة لا العكس، ولهذا فليس ثمة رتابة ولا ثقل .وهذا واضح كلّ الوضوح حينما نقلب صفحات ديوانه الأخير "تكتبك المحن" الصادر عام 2013، في حلى أنيقة، صغيرة "ديوان الجيب" (إن نحن أردنا التوصيف).

إنه إيقاع دلالي وموسيقى بهذا المعنى، لا تستوقفه النغمة الواحدة داخل التفعيلة الواحدة، ولا الصورة الواحدة داخل القصيدة.. تتعدد الصور كما التفعيلات، مما يضفي على القصيدة لديه نوع من البذخ الشعري الزائد والمفيد.. تناصٌ في المعنى مع ذلك الصوفي (صاحب الفتوحات المكية)، لنقل بدل الكون: "الشعر فائض عن اللزوم".

الشاعر.. الإنسان: أو من الزمنية إلى الحساسية.

ماذا أكتب وأنا أتلعثم وترتجف يداي من دهشة القصيدة، ورونق الشعر.. غَيْر قصيدةٍ.. لكن الوحي (شيطان الشعر) لا يطاوعني، هنا، لذلك. لهذا أستعير ما قاله هو.. هو الشاعر/القصيدة.. والشاعر مسيح يبوح بالشعر.:

- حين تسيحُ في جسدي/ حرقي/ أتفيأ طلّ الكآبة حبّرا/ يفيض على ورقي/ وأسيحُ كأي مسيح تكللهُ ومضةٌ/ قد تكون نهايتها في عشاهُ. (ص13).

القصيدة تنحو منحى الوجودي والفلسفي البادئ من الخمري والهارب عنه، لديه. مما يجعل من الكتابة عند عنيبة الحمري تسير في خط تصاعدي (خطي linéaire)، وهذه الصفة تجعله ينزاح بالنص لديه إلى داخل ما نصطلح عليه اليوم "بالحساسية الجديدة"، هذه الحساسية التي لا تحوزها التوقف عند أفق واحد في التعبير/الخطاب الشعري. وهذا واضح بعد تأمل في أعمال هذا الشاعر. مما يجعل منه هاربا من ذلك التصنيف "الزمني" المقزّم للأفق الشعري عن الشاعر وجاعلٌ منه حبيس ظرفية زمنية مَضَت، بين ما يُحدد الشاعر لا زمن كتابة القصيدة بالحساسيتها الشعرية.

الشاعر.. ديونيزوس:
إنك وإن تلاقيه أبدَ الصُدفة .. كما التقيته أوّل مرّة، مرحاً فرحاً سعيدا وديعاً .. إلا أن القصيدة عنده نهرٌ يجري، يصبّ فيه عنيبة تلك الكآبة التي تصيب الشاعر دائما.. إنه حضور يتناقض مع الذات/ الإنسان والذات/ الشاعر .. داخل وخارج القصيدة.. إلا أنه لا ينفك يذهب بها إلى سُكّر المجاز الشارب من سُكْر الحانة. فحين تقتحم عوالمه تجد الحانة حاضرة، والسكر مرقاة المتبتل نحو القاب، لتنشد معه تراتيل حب الحياة، وحب الأصدقاء، وحب كل ما هو جميل.. فهو يعلمنا-كإنسان بابتسامته وضحكته الفريدة، وكشاعر بشموخ إنسانيته- أن في هده الحياة -الحبلى بالألم- ما يستحق أن يعاش حتى الثمالة، وحتى آخر رمق.

بداية بديوانه، «الحب مهزلة القرون» الصادر في 1969، مرورا ب «الشوق للإبحار» (1973) و«مرثية للمصلوبين» (1977) و«رعشات المكان» (1996) و«سم هذا البياض» (2000) إلى «انكسار الألوان» (2006)، [وديوانه الأخير «تكتبك المحن» (2013)] ظل الشاعر محمد عنيبة الحمري ينحت أسلوبه الشعري بتأن ورصانة فائقين، باعتماد لغة في غاية الفخامة والشفافية، برؤية متيقظة، بقدر ما تَسْبِر أَغْوار المشاعر الذاتية، بقدر ما تنفتح على العالم، لتُنشد أبهى الصور، بتمام الصدق والحِرَفِية التي لا تقوم على دُربة جمالية وشعرية فحسب، بل أيضا على رصيد علمي ينبني على البحث المستديم في علوم التربية والأدب التراثي خاصة، ولعل كتاباته المنشورة ضمن حلقات مسلسلة بجريدة الاتحاد الاشتراكي: «إعدام الشعراء»، «مع الشعراء ذوي المهن الحرة»، «الشعراء الظواهر»، بقايا دم في يد الشعراء»، «نزوات السلطة»، تُحيلنا على حسه المعرفي الحاد للغوص في مثل هذه المواضيع الجادة والطريفة في الوقت ذاته. كل ذلك يصبح لديه منبتا مُزْهِرا لتحقيق أناقة مضاعفة، تنصهر عبرها أناقة الشعري والإنساني." كتب ذات مقال، في ذات لقاء ديونيزوسي، الناقد بنيونس عميروش، وهو يتناول بحب نص عنيبة الحمري..

عنيبة ذلك الديونيزوسي (إن أسعفنا القول) الثامل شعراً .. "ودائم الصحو، كما يقول عنه صديق الشعر والحانة بوجمعة أشفري، واليقظة حتى في أشدّ حالات الانتشاء .. لا تكاد تقول هو ذا الشاعر حتى يتوارى عن الأظهار ساحبا معطفه، تاركا صدى محنه تقرع أجراس الكلمات.."

والمتماهي .. هو.. في غياهب اللغة الجاهلية وناقل لها بشكل حداثي/ فصيح، يرتقي بالنص عبرها وبها إلى مستوى شاعري وامض.