إذا نظرنا للتجمعات العمرانية المصرية وأماكنها سنجد أن التقسيم الإداري العتيد يقسم الدولة تقسيماً هرمياً: محافظات كبيرة ذات هيئة مركزية كالقاهرة والإسكندرية ثم محافظات أصغر في المساحة والإمكانيات، وعلى الهامش منهما مناطق عشوائية تأوي أعداداً كبيرة من البشر بعيدة بشكل عام عن النظام لكنها بطبيعة الأمور تبني نظامها الخاص ثم المراكز الأقرب لـ(المدينة الكبيرة) ثم القرى ثم العزب والكفور والنجوع .. وإذا ركزنا نظرنا على الأخيرة -ربما بسبب الحنين- نجد أنه قد يتصادف أن تكون كل منازل العزبة أو النجع تنتمي في الأساس القريب أو البعيد لمؤسس واحد أو جد أول أو مؤسس لأسرة كبيرة أولى. فتكون بداية تكوين العزبة (بيت واحد) كما يقال، ثم تفرع وتعددت البيوت المنتمية إليه، فتسمع من يقول إن عزبتهم كانت في الأصل بيت الحاج فلان الذي قد يكون نازحاً من مكان آخر بعيد، ثم أصبحت العزبة حالياً ثلاثين بيتاً كبيراً وكلهم أولاد عمومة، والعصبية والقرابة لها اعتبار أقرب للقداسة والمعتقد حتى الآن.
كانت البيوت قديماً مكونة من الطوب اللبني ويسمى (الطين الأخضر: النَيْ) فكانت تصنع (معجنة) مخمرة بالتراب والتبن –المتخلف من الزراعة وهو نفسه غذاء للحيوان- ثم يُترك العجين لعدة أيام في الشمس حتى يتخمر وتُصنع قوالب خشبية ويُصَب فيها هذا الطمي ويُترك ليجف ثم تُبنى به البيوت، ومميزات هذا الطوب أنه رطب وبارد في الصيف ومحتمل في الشتاء (ويُحِسُّ الإنسان بالألفة مع هذه البيوت الطينية لأن الإنسان، حسب المعتقد الديني، خُلق من الطين) ويمسك بين كل طوبة وأخرى طمي لبني فيتماسك البنيان، ثم دق نفير الحضارة وتحولت مواد البناء إلى الأقل طبيعية والأكثر مادية –إن صح التعبير- فكانوا يصنعون ما يسمى بـ(القُمْران، جمع قَمير) وتسمى طينتها (حُمْرَة) وهي (كسر الطوب الأحمر المفتت ومعها جير أبيض) وهذا الخليط هو المازج بين الطوب الأحمر الذي ينضج في النار. كان ذلك قبل وجود مصانع الطوب الأحمر ذات الشكل الاسطواني الطويل التي تشبه البرج ويتصاعد دخانها الأسود في السماء. هذا الطوب الأحمر كان قبل هذه المصانع يُصنع يدوياً: تُبنى كتلة من الطوب اللبني ينفتح بها (عيون) من أسفل ، توضع بها (البلاك الأسود) ويُشعل فيها النار ثلاثين يوماً تقريباً، ويُترك هذا الطوب ليبرد (مع ملاحظة أنه يُبَرَّد بدون ماء). ونعود لكلام الجدود الذين فزعوا من الطوب الأحمر لأنه (قاسي) ويُصنع من النار أما الطوب اللبني فليِّن وأقرب للإنسان. لهذا قاوموا الطوب الحراري لفترات لصالح الطوب اللبني، وبعدما زحفت المدنية وفرض الطوب الحراري نفسه، كنتَ تستمع لمصمصة الشفاه والغضب على هذا الإنسان الذي يبتعد (عن أصله). هذا الإنسان الذي يعبث في الطبيعة ويفسد بكارتها ويخرج خبثها المخبوء، ويحل أوان هذه الحكمة مع اشتداد الحرارة في الصيف، فلو رش الناس الماء على حوائط البيوت تهل النسمات الطرية لكن مع الطوب الحراري، من أين تأتي النسمات والأساس (ناري)!! تحولت البيوت إذن من البيوت الطينية إلى الحديثة في أغلب المراكز والمدن ثم في القرى لكنك تجدها أيضاً في المدن الكبيرة ذاتها في بعض الأزقة والحواري الضيقة وكذلك مناطق وشوارع كاملة في القرى والعزب، ويدل استمرار هذه البيوت الطينية على الفقر المدقع وتدني مستوى الدخل حيث أن أول مظاهر تحسن الدخل وأول خطوة وأكبر حلم في الأماكن الطاردة للعمالة، وبعد السفر للعمل في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المحافظات الكبيرة ثم الدول العربية بعد مرحلة السبعينات، هو بناء بيت حديث يسمح ببناء أدوار فوقه لسكن الأولاد. هذه البيوت الحديثة يسميها الروائيون المصريون، خاصة في أجيال الستينيات والسبعينيات (العلب الأسمنتية) لأنها استبدلت البساطة والطيبة، وكذلك القرب من الطبيعة وصحة الإنسان، بالبرود والقبح وانفراط عقد التواد والتراحم واستبداله بوحدة الإنسان واكتفاءه بنفسه في سجنه الأسمنتي المسمط، ومن الوحدات التي فقدها النازح من القرية إلى المدينة: الفرن الطيني، الذي يقاد من عفش البوص وروث البهائم والذي كانوا ينامون فوقه في الشتاء.
كانت البيوت القديمة -الكبيرة منها بالذات- تتميز بالسقوف العالية وذلك لزيادة التهوية، أو لكي يدور الهواء براحته وبلا حواجز كما كان يقال، وكانت الحيطان عريضة والنوافذ عالية يصل بعضها لـ2 متر طول 1.50 xمتر عرض والأسقف كانت قديماً تُصنع من الخشب (عروق رفيعة وطويلة وألواح مسطحة وعريضة) وقديماً أكثر، كانت هذه الأخشاب من (حزم جريد النخيل الناشف). وتتميز الأخشاب بالمتانة والمرونة بما يسمح بتعدد الأدوار المعقول، لكن الأمر اختلف كلية في المباني الحديثة فأصبحت التقسيمات أشبه بالمربعات الأضيق وسيئة التهوية وبالتالي برزت مشكلة الحرارة التي تحتاج معها البيوت للمراوح والتكييف بعد ذلك وهو ما لم يكن مطروحاً قديماً. وعموماً يحب المصريون أن تكون بيوتهم (بَحْرية) وليست (قِبْلية) أي أن يكون البيت أقرب لاتجاه الشمال وليس للجنوب تجاوباً مع اتجاه سير الهواء الطبيعي.
بالنسبة للدهان كان قديماً من الجير الأبيض وبعد ذلك أصبحت طبقة من البلاستيك تمتزج به لتضمن له العيش أطول ثم دخلت الدهانات الحديثة وتنوعت طرقها وألوانها. وكانت الإضاءة عبارة عن لمبة بشريط من القطن والغاز الأبيض في علبة زجاجية وبها رأس زجاجي أقل في السُمْك في أعلاها. وعند تواجد الضيوف كان أصحاب البيوت يطلبون من بعضهم (فانوس بكبَّاس) وبداخله (رتينة) وهي (فِتَل حرارية) تخلق إضاءة أقوى. ثم دخلت الكهرباء كل البيوت والأماكن.
وتختلف منازل العائلات الكبيرة سواء في المدن أو في التجمعات الأصغر عن بيوت الفقراء، حيث تكون الأخيرة عادةً أقرب للتشابه والتماثل والعادية والبساطة في تكوينها المعماري أما الأولى فتُشاهِد فيها نقوشاً رومانية أو منحوتات لأطفال أقرب للملائكة وتماثيل متفاوتة الأحجام على بدايات سلالم المداخل وورود منحوتة على النوافذ التي يصل حجمها في البيوتات العريقة لحجم وطول الإنسان ذاته، وتكون الأبواب من فوق على هيئة نصف دائرة أو مسطحة ويكون المزلاج على شكل تمساح أو أبو الهول أو كف مضمومة تحمل كرة. غرف هذه القصور متسعة جداً والسقف عال تزينه الرسوم والنقوش، وتسمى غرف الدور الأول (المنادر: جمع مندرة) وهي الغرف المعدة للضيوف دائمي حضور الأمسيات الصيفية، أو لضيوف المناسبات. ويكون بهذا الدور المطبخ وملحق به غرف للخزين وكذلك أكثر من دورة مياه (كانت تسمى "المحل" أو بيت الراحة) أما الدور الثاني المعد للنوم فتتجاور فيه غرف النوم المتعددة وبينها (طُرُقات: جمع طُرْقة وهي الممر بين وحدتين) وحمامات يربط بين الدورين سلم ضخم دائري عادة ومزين بالنقوش في بدايته تمثال وعند نهايته كذلك ودرجاته واسعة وعريضة. وتتميز البلكونات بأنها عادة على شكل نصف دائرة كبيرة ومتسعة ومزينة طبعاً بالنقوش وعالية بشكل ملفت (لتطل على الخدم والفقراء من عَلٍ!) لكن المشهد المؤسف والمحزن أن يرى المرء عملية هدم لبيت بمثل هذه الفخامة وهذا الفن والجمال والإتقان الفني الملفت في سبيل بناء عمارة سكنية تتكون من عدة طوبق متماثلة متراصة كأنها علب بلا فرق بينها ولا تمييز.
كان الجميع، سواء في المدن أو القرى، يحرصون على تزيين واجهات المباني بالنقوش والرسوم فنقابل مثلا رسماً (للزناتي خليفة) بتكوينه الأقرب للسبع وشواربه الطويلة، أو ينقش الشخص وهو يبني منزله صورة ثعبان أو حمامة وهي أمور متوارثة من أيام الفراعنة، أو رسم (مارجرجس) وهو يصرع التنين ونقش للصليب فوق الباب الرئيسي، هذا بالنسبة للمسيحيين. ويعتبر الحج وزيارة الكعبة والرسول عند المسلمين هو الفرحة الحقيقية، فتجد رسمة الباخرة (حالياً الطائرة) على واجهة البيت وبجوارها صورة الكعبة وتكتب عبارات من عينة حديث الرسول (ص) "من زار قبري وجبت له شفاعتي" أو "جيتك يا نبي الله" أو "مقامنا بقى عالي بزيارة النبي الغالي"، و كذلك "ألف مبروك يا حاجة فلانة" أو "الحاج فلان" مع تغليظ كلمة الحاج أو الحاجة في الكتابة. وعند خروج هذا الحاج أو الحاجة إلى السفر المقدس يتوافد أهالي البلدة جميعاً للسلام عليه وقراءة الفاتحة معه على أن يدعو لهم ويخرج الحاج في زفة إلى مكان مغادرته، وتتكرر نفس الطقوس إذا عاد فالجميع يستقبله والجميع يصير بعدها يتبرك به ولا ينادونه بدون اللقب الغالي "الحاج".
وعندما نذكر الزواج نتذكر أن شكله الوحيد قديماً كان أن يُمنَح كل ولد غرفة تسمى (مقعد) في نفس البيت، فوجود الأسرة كلها في حيز واحد هو الطبيعي والمعتاد أما سكنى الولد بعيداً عن أبيه فدلالة على عقوق الابن وغضب الوالد عليه. ومهما كان عدد أولاد الأسرة الذين هم نتاج زواج الأبناء كبيراً، إلا أن الجميع كان يحرص على التجمع في أوقات الطعام (على طبلية واحدة). وفي الأعياد يجلس الجد الكبير في الصدارة ويتدافع الأولاد والأحفاد ليأخذوا (العيدية) بعد تقبيل يد كبير العائلة. وتجدر الإشارة هنا أنه، إن كان للرجل الصدارة والاحترام المبدئي والطبيعي غير القابل للتغير والتبدل إلا أن المرأة سواء في المدن أو في القرى والنجوع وما شابه، هي المحرك الحقيقي لكل الأمور الحياتية حتى لا ينزل الرجال لمستوى المهام الصغيرة حيث يكفيهم الزراعة (التي تعاون المرأة فيها أيضاً!). ولوقتٍ قريب كان أهل البلاد الصغيرة لا يرحبون بتحديد النسل لسبب قديم يتجدد مع ثبات الأحوال الصعبة هو أن يساهم الجميع (بما فيهم الأولاد) في تسيير سفينة الأسرة الاقتصادية.
في النهاية سنجد أن مصر لازالت تتبع الترتيب (الهيراركي): فالقاعدة هي المدن الكبيرة التي تتمتع بوجود المصالح الحكومية المركزية وتوافر فرص العمل ثم المحافظات ثم المراكز ثم القرى ثم الكفور والنجوع والعزب. لكن الهجرات الداخلية والخارجية وتغير أنماط وأشكال الكسب وفرص العمل وثورة الاتصالات وتطور وسائل المواصلات يغير ويبدل في التركيب الديموجرافي بل ويعيد رسم وإنتاج التوازنات التي تُسَيِّر الأمور وتخلق الأعراف والعادات كل يوم.