يرى الكاتب أن النهضة نتاج عملية دينامية، ركنها المثقف العقلاني، وأن الحداثة الغربية جاءت كنتيجة للنهضة، بينما انطلقت النهضة العربية من التقليد والرغبة بالتحديث، لذلك فإن دور المثقف العربي ينهض على تمثله للنهضة للخروج بتصوّرات عقلانية تعبر عن الذات العربية.

النهضة الأوروبية ـ المفهوم والنموذج

قراءة في ثنائية العقل والمثقف

رامي أبوشهاب

أسهمت النهضة الأوروبية بوقوع الغرب على أسباب أزمته الحضارية التي عانى منها لقرون خلت. فمع نهاية القرن الثالث عشر أدركت أوروبا أن أزمتها تكمن في العقل، وتعطّله، فما كان من إطلاق طاقات العقل إلا أن يسهم بالانعتاق من قيود كبلت تحقيق قدر أفضل للإنسان، ولعل هذا ما دفع هيغل إلى القول بأن «العقل يسيطر على العالم»، فالنهضة نتاج التنوير المتأتي من العقل، ولعل هذا يدفعنا لأن نختبر هذا المسلك بشكل دقيق، ولا سيما حين نحاول تحديد مفهوم النهضة، الذي يبدو من التعقيد مما لا يمكن أن تحيط به مقالة عابرة، فهو يحتاج إلى منظومة من الدّراسات التي يتطلب منها أن تختبر مفاصل فعل تشكل النهضة ما يقودنا إلى فهم عميق لما تعنيه النهضة حقيقة، والتي غالباً ما تبتسر إلى إجراء بسيط، يتمظهر بعدد من المظاهر التي تنهض على تفعيل تشكيلات نصية، أو أنساق ثقافية، أو مادية، في حين أن العملية تتطلب تحولا نحو ما يمكن أن نطلق عليه التفكير الجذري. فأوروبا انحازت للعقل دون سواه، ولا سيما في ما يتعلق بالرؤية التي تحكم كل شيء، خاصة تجاه الكون والإنسان، وهذا يتطلب تحديد مسارات تنهض على التضحية بممارسات فكرية لم تعد مجدية، أو أنها لم تعد تلبي حاجة الإنسان، ولعل أبرز ملامح ذلك الوعي بالأنا، ومقدار ما يرتبط بها من بنى ثقافية أفضت إلى نبذ الكثير من الفاعلية النصية، والتجرؤ على ما يمكن أن نطلق عليه المسكوت عنه، فالنهضة عملية مستمرة، كما أن نتائجها لا تقتصر على مظهر التحديث كما نجده ماثلاً في النهضة العربية التي بدت أقرب إلى نتيجة حتمية لحركة التاريخ وتطوره. في حين أن الحداثة الغربية كانت نتيجة لفعل النهضة، وإطلاق العقل، على عكس النهضة العربية التي انطلقت من فعل التقليد والرغبة بالتحديث، نتيجة الإعجاب بالمنجز الأوروبي، وبذلك فهي عملية لم تتولد من واقع مُعاين، أو مُحايث، إنما من واقع ملاحظ، ينبغي الاقتداء به، وبهذا فقد أتت النهضة عربياً بوصفها مجالاً للتأثُّر، والتثاقف الأفقي لا العمودي، وبذلك فقد كانت مشوهة، وغير منجزة، ولا سيما أن اكتشاف الذات أتى من خلال فعل تقابلي، لا وعي بالأنا، على عكس ما نلتمسه في أوروبا التي أتت نهضتها بتمثل عمودي نتيجة الحفر في الأنا، وحدودها على كافة المحاور.

تحضر النّهضة في سياق التّاريخ الأوروبي بوصفها مصطلحاً يعبر عن تطور الحضارة الغربية، وانتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، ولاسيما بعد أن أعيد اكتشاف وقراءة التّراثين اليوناني والرّوماني، بالتزامن مع منظور النّزعة التي تذهب إلى أن الإنسان يمثل مركز الكون، مما أوجد تحولات عميقة، خاصة في ما يتعلق بالبنى الثقافية، كما تذكر موسوعة كولومبيا.

تشير معظم المصادر إلى أن القرن الرابع عشر يمثّل زمن ولادة النهضة الحقيقية، وبوجه خاص في إيطاليا، نظراً للازدهار التجاري، وتشجيع العائلات الحاكمة للعلم والعلماء (Carney ix)، وبحلول القرن الخامس عشر شملت النهضة معظم أوروبا التي بدأت تدرك حاجتها، وضعفها ما جعلها تبحث عن كل ما من شأنه أن يفضي إلى تفوقها، خاصة في ظل وجود أجزاء من العالم لم تكتشف بعد، لذلك يذهب بعض مؤرخي المركزية الأوروبية إلى أن النهضة نتجت بفعل عاملين: الشّخصية الأوروبية، والبيئة، كما جاء في المركزية الأوروبية (بلاوت)، غير أن بعض الدارسين يرفض هذا التفسير ومنهم على سبيل المثال بلاوت، الذي يحيل النهضة الغربية للعامل الاستعماري حيث أفادت أوروبا من ثروات المستعمرات، ولاسيما الأمريكيتين، وذلك لقربهما الجغرافي، مما سهل استغلال مواردهما، وليمنح ذلك أوروبا أفضلية على باقي أمم العالم، وشعوبه، وتحديداً في سياق الهيمنة العسكرية والتّقنية.

ما من شك في أن النهضة الأوروبية نتجت بفعل ظهور الطّباعة، وانتشار القراءة، وغير ذلك العوامل (Carney x) غير أن العنصر الإنساني الممثل بالمثقفين والعلماء والخبراء، يبقى عاملاً مركزياً، خاصة من حيث الارتكان لقيم عقلانية أدت إلى بروز نموذج الدولة الحديثة، بعد قرون من الجهل والتخلف نتيجة هيمنة الكنيسة، وممارساتها، فمع ظهور مارتن لوثر كينغ برزت الدعوة لضرورة إعادة النظر في موقع الكنسية، وسلطتها، وهذا أتى بالتّزامن مع ظهور أفكار جديدة تتمركز حول الكون؛ مما أحدث تحولات بنيوية في العلوم، وتاريخها، ومنها مساهمات كوبرنيكوس، وغاليلو، وكبلر، وبيكون، وغيرهم (Carney x). إن أهم سمات النهضة بروز ذلك الوعي المنهجي لثنائية العقل والتجربة كأداتين للوصول إلى المعرفة اليقينية (أطلس الفلسفة، كونزمان، 95)، نستدل من ذلك إلى أن فعل التطبيق لمنهجية استعمال العقل، والتجربة تتطلب موقفاً يناط بالمثقف–العالِم- لكسر أنماط من الجمود التي تعوق فعل التقدم الإنساني، فتكوين المثقف هنا يتحدد بمدى قدرته على كسر قوالب من الأحافير الفكرية التي مارست هيمنة على تحييد العقل، ونبذه إلى حدود كونه خادما لمفاهيم تؤسس لهيمنة السلطة بغض النظر عن تمظهرها سياسياً، أو دينياً، أو حتى ثقافياً، العقل نقيض الفعل المؤسسي الذي يخضع لأهواء النخب المسيطرة، وأي أجواء للهدم لا بد أن تتشكل في ظلال الأطاريح التي يضطلع بها عدد من المفكرين الحالمين بما وراء الحدود، وهذا يستجلب منا إطلاق طاقات العقل لأقصى حدودها، مع ما يعتور هذا الإجراء من مخاطر، وتضحيات كبيرة جدا، فالتورية هنا لا تبدو شرعية، أو هي منبوذة، كونها تحيل إلى أفعال من التضليل، وهذا ما يعني أشكالا من الإرجاء المستمر لفعل النهضة، التي لا تعني تكريس القائم، وعدم المس بجذوره، والاكتفاء بتحديث ما يبدو منه للعيان، والكفيل بصون الأنساق «السلطة» القائمة، في حين أن النهضة هي القدرة على إكساب الحقيقة تأثيرها القوي بغض النظر عن تداعياتها.

إن الأدوار التي اضطلع بها مثقفو النهضة الأوروبية تطلبت الكثير من التّضحيات والجهود من منطلق الالتزام بالدور الأخلاقي، الذي ميّز روح النهضة التي وُصفت بأنها مزيج من التّحدي والمثالية (Wilkinson, Resistance, 3)، ولعل هذا ما دفع جوليان بندا للإشادة ببعض رجال عصر النهضة، ولا سيما من حيث مقاومتهم للثقافات السّائدة، والمهيمنة (Wilkinson, 3)، ومع أن النهضة في أحد مفاهيمها تقوم على تحدي السّائد، غير أنها تتجاوز أيضاً عملية التحديث إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ هي معنية بعملية اكتشاف الذّات، وماضيها، وموقعها في العالم، ومن هنا فلا عجب أن تشير مفردة النهضة في اللغة الفرنسية إلى معنى الولادة جديدة (Rundle, Renaissance, ix).

وهكذا تتبدى النهضة بوصفها نتاج عملية دينامية داخلية، أحد أهم أركانها المثقف المؤمن بالعقل ودوره، وما يتمتع به من قدرة على التّحدي والابتكار والمعرفة، ومن هنا فإن البحث في أدوار المثقفين في عالمنا العربي ينهض على مدى استجابة هؤلاء المثقفين النهضويين -كما تصفهم الدّراسات التاريخية- لمواصفات ومفهوم المثقف الذي يعدّ من الإشكاليات البحثية المهمة، كونه يعيد طرح أسئلة تتعلق بأدوار المثقفين من حيث قدرتهم على تمثّل النهضة وتحقيق أهدافها بخلق نماذج حضارية متقدمة، وهذا يحيلنا إلى فرضية قوامها أن هذه الأدوار، ربما أخرجت النهضة العربية عن مسارها تبعاً لانحراف المثقف عن دوره المثالي، الذي ينبغي أن يضطلع به من حيث الارتكان لقيم العقل. وهكذا يتحدد السّؤال المحوري الذي نتغيى الإجابة عنه عبر قراءة نقدية لتتبع الأدوار التاريخية لرواد النهضة العربية من حيث الاستجابة للتحديات، وقدرتهم على الاضطلاع بمهمة المثقف الحقيقي، أو الرسولي وإدراكه لمعنى الأزمة الحضارية، والخروج بتصوّرات عقلانية للأسئلة التي تعبر الذات العربية بمعزل عن أي ارتهانات خارجية.

 

(كاتب فلسطيني، الأردن)