ترى من يكون البربري، أهو من فصيلة الإنسان، أم من فصيلة أخرى مختلفة؟ ولو فرضنا أنه إنسان، فهل من صفات خاصة تميزه عن غيره، وتسوغ وصمه بالبربرية؟ هل يتعلق الأمر بسجايا خِلقية تطبع البربري ولا تتوفر في غيره، أم أن المسألة ذات صلة بسلوكات وتصرفات يأتيها، وتخرج عن مألوف البشرية أو بالأحرى عن مألوف الجماعة المخول لها إطلاق الصفات وإصدار الأحكام التقويمية؟

قراءة في مفهوم "البرابرة"

عبد القادر ملوك

ترى من يكون البربري، أهو من فصيلة الإنسان، أم من فصيلة أخرى مختلفة؟ ولو فرضنا أنه إنسان، فهل من صفات خاصة تميزه عن غيره، وتسوغ وصمه بالبربرية؟ هل يتعلق الأمر بسجايا خِلقية تطبع البربري ولا تتوفر في غيره، أم أن المسألة ذات صلة  بسلوكات وتصرفات يأتيها، وتخرج عن مألوف البشرية أو بالأحرى عن مألوف الجماعة المخول لها إطلاق الصفات وإصدار الأحكام التقويمية؟

تطلعنا العودة إلى جذور استعمال هذا اللفظ على أن اليونان القديمة كانت تضع تصنيفا ثنائي القيمة يضع البربري نقيضا لليوناني، وكان مقياس هذا التمييز يتمثل في التمكن من اللغة اليونانية نطقا وفهما؛ فمن لم يكن يتكلم هذه اللغة، أو كان يتكلمها بشكل سيء، أو كان يجهل معانيها ويغيب عنه فهمها، كان يعد بربريا، يقف في الجهة النقيض لـ"النحن" اليونانية، وكأن الشعوب المؤلفة لبلاد اليونان كانت من الوحدة والانسجام بحيث يندر أن تجد بينها اختلافات أو تقف داخلها على تناقضات، والحال إن الفرقة كانت ميسمها، والخلاف وكدها؛ وفق ما لاحظه أفلاطون، فبدل لغة موحدة، كانت لها لغات متباينة لا يقوى على التكلم بها وإدراك فحواها إلا الناطقون بها، وبدل الوحدة السياسية والعسكرية كان التشرذم والانطواء على الذات والمحافظة على القيم الثقافية المتوارثة السمة الطاغية لكل شعبٍ شعب.

ولئن عددنا هذا المنظور منظورا إثنيا ساذجا يجسد نوعا من التمركز حول الذات وينطوي على إقصاء للآخر مبني على مبررات واهية، فإن الأسوء منه ما سوف يتولد عنه من تفريعات ثنائية أخرى تقوم في معظمها على تمييز تفاضلي يضع تراتبية بين الشعوب، أجلاها وأخطرها، في آن، ذلك التضاد الذي طرفاه: متوحشون/ متحضرون.

أما التحضر فقد نٌظر إليه باعتباره ميزة "إنسان معين" يحمل مواصفات مخصوصة، تم التواضع على تحديدها بناء على مبدأ مفرط في النرجسية وحب الذات، يهدف إلى رفعها إلى أقصى مستوى، بل وجعلها تسري على جموع البشرية أينما وجدت. وقد تحول هذا المبدأ إلى رغبة عارمة  اعترت بعض الشعوب التي كانت لها الغلبة في وقت من الأوقات، فدفعتها، في موقف خطير، إلى محاولة جعل العالم بأسره يفيد من مزايا التحضر الخاصة بمجتمعاتها، فسوغت لنفسها، في القديم، الاستعمار المباشر لبلدان أخرى، واستبدلته، في الفترة الراهنة، باستعمار غير مباشر أخد تسميات مختلفة، وكلا الاستعمارين يقومان على مبدأ شمولية القيم، قيم بلد أو بضعة بلدان ترى نفسها متحضرة، وترى في ما خالفها توحشا حددت له صفات ينماز بها وتتحدد بها هويته –فقد أضحت له هوية يعرف بها- حتى يسهل رصده وبالتالي التصدي لعدوانه التخيلي أو الحقيقي.

في رواية "الزانية" لباولو كويلو يورد هذا الأخير على لسان ليندا بطلة الرواية مقطعين دالين على المنظور المتداول حول مفهوم البرابرة، تقول في المقطع الأول: "نحن مسرورون (في سويسرا) لغياب حشود البرابرة"(1) دون أن تعرض لمن هم هؤلاء الذين وسمتهم بالبرابرة، هل تقصد بهم غير السويسريين على الإطلاق، فنكون أمام تعريف للبرابرة يقترب من التعريف اليوناني القديم، أم تقصد بهم شعوبا أخرى بمحددات ومواصفات واضحة ينبغي تسطيرها وتحديدها بدقة؟!!

تنتصر ليندا للطرح الثاني وتضعنا أمام جملة مواصفات للبرابرة يضمها المقطع الثاني: "فهكذا نتمكن من صون أسلوب حياتنا خمسة قرون أو ستة، قبل أن يجتاز البرابرة جبال الألب آتين بأدواتهم الالكترونية، وشققهم بغرف النوم المتناهية الصغر وغرف المعيشة الواسعة للتأثير في الضيوف، ونسائهم، اللائي يفرطن في التبرج؛ ورجالهم، الذين يتكلمون بصخب ويزعجون جيرانهم؛ وأولادهم المراهقين، الذين يلبسون ثياب التمرد لكنهم، في الصميم، يرتعبون من ظنون أهلهم"(2)

هكذا تكون بطلة باولو كويلو قد وفرت علينا تعب السؤال، وجنبتنا عناء البحث، حين وضعتنا أمام قائمة بمواصفات البرابرة، تمكننا من تمييزهم من غيرهم، وتسعفنا في أخذ الحيطة والحذر من كل شعب يمتلك شققا بغرف نوم صغيرة، وغرف معيشة واسعة، ونساؤه يفرطن في التبرج، ورجاله يتكلمون بصخب، وشبابه بثياب ثائرة ونفسية خائفة خانعة. فهل هؤلاء هم البرابرة فعلا؟ أم أن هناك مواصفات أخرى غابت عن صاحب "الخيميائي" وأدركها غيره؟

فتش تودوروف في ما هو متداول بين الوثائق التي تصدت للمفهوم، بشكل أو بآخر، فطلع علينا بمواصفات أخرى للبرابرة، تقربنا من سماتهم أكثر، وتسمح بتمييزهم عن غيرهم بيسر؛ مقتضاها أن البرابرة هم الذين يتجاوزون القوانين الأساسية للحياة المشتركة (يقتلون الأب أو الأم، أو يرتكبون زنى المحارم...)؛ وهم الذين يضعون قطيعة فعلية بينهم وبين سائر البشر (بدل تعزيز صداقتهم وممارسة الضيافة في حق الآخرين، يلجؤون إلى العنف والحرب لحل خلافاتهم)؛ والبرابرة هم الذين لا يكترثون بعيون الآخرين ونظراتهم، ولا بمنظورهم، لأن الحياء ليس من شيمهم (يمارسون الأفعال الأكثر حميمية على مرأى ومسمع من الآخرين ولا من ذرة حياء)؛ والبرابرة هم من أنصار الفوضى  والتعسف، ويقترب من معناهم أولائك الذين يخضعون لاستبداد طاغية، ولا يتمكنون من المشاركة في تسيير شؤون البلاد(3).

وفي المجمل، إن البرابرة هم أولائك الذين لا يعترفون بأن الآخرين هم كائنات بشرية مثلهم، بل ينظرون إليهم باعتبارهم أقرب ما يكونون للحيوانات، وهم الذين يتخذون من القتال وسيلة لحل الخلافات بدل التفاوض والحوار، وهم الذين لا يروقهم أن يعيشوا وينعموا بالحرية، فيفضلون الرضوخ للاستبداد، وهم الذين لا يعاشرون إلا من تربطهم بهم رابطة الدم ويجهلون، أو تأنف نفوسهم من الحياة المدنية المبنية على قواعد العيش المشترك. وباختصار، نقول  إن البرابرة هم الذين ينكرون على الآخرين صفة الإنسانية و يبقون عليها لأنفسهم فقط(4).

بناء على هذه السمات التي حدد بها تودوروف لفظة "بربري"، تصبح هذه الأخيرة لفظة مرنة وليست صفة قارة لاصقة بهذا الشعب أو ذاك، إنها خاصية كل فرد وكل جماعة أو دولة أو شعب يرى في نفسه الكمال الإنساني ويرى في غيره انعدام الإنسانية، ويتخذ، وياللمفارقة، من لفظة "بربري" نعتا يرمي به غيره، إما بغرض تشويه صورة أولائك الذين لا يروقون له، أو بنية تحويل القوة إلى حق، أو تمويها لرغبة التسلط عن طريق التدخل الإنساني والنضال من أجل العدالة، يساعده في ذلك ما يمتلكه من نفوذ سياسي أو عسكري أو إعلامي أو كلها مجتمعة.

لهذا، و إدراكا منا أن "البربرية" لا يمكن أن تستأصل نهائيا من التداول بمجرد تحديد مدلولها، وإن كان البعض يرى أن ضبط مفهوم أو ظاهرة بدقة هو بداية تقويض لأركانها، فإن غاية ما نأمله أن يقع الكف عن إلصاق هذه الصفة بهذا الفرد أو ذاك أو بهذا الشعب أو ذاك، لكي لا تتحول إلى نوع من الكزينوفوبيا، أي كره الأجانب المبني في أساسه على أسباب، ربما ارتبطت موضوعيا بحالات جزئية، لكن جرى تعميمها، بغير وجه حق، لتطال أحيانا شعوبا بأكملها (مثلما هو الحال في ما بات يعرف بالاسلاموفوبيا) وأن نردد مع مونتاني "أنه ما من شيء متوحش وبربري (...) سوى أن كل واحد يعتبر بربريا كل ما لا يتلاءم مع عوائده"(5)، وأن نؤمن، مع تودوروف، بأن البربرية موجودة فينا كما لدى الآخرين، ولتسمح لنا جوليا كريستيفا بأن نحور عبارتها الشهيرة لنقول:"إن البربري يسكننا على نحو غريب"(6)، هو ليس خارجيا أجنبيا بل داخليا، إنه يوجد فينا، ونحن إذ نتعرف على البربري فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته.

وإذا نحن أدركنا ذلك، علمنا أنه ما من شعب أو فرد محصن ضد إمكانية القيام بأعمال بربرية(7)، وقد لمسنا ذلك حتى لدى أعرق الدول في الديمقراطية والمنافِحة بضراوة عن حقوق الإنسان، إذ خلال سعيها لمحاربة من تسميهم بالبرابرة تحولت إلى أعتى البربريات؛ عذبت بأبشع الصور، أرهبت، قتلت، رملت، يتمت، شردت...الخ. ورغم ذلك لم يجردها أحد من صفة الإنسانية، لأن الإنسان ليس شرا خالصا أو خيرا محضا، بل هو مزيج من هذا وذاك، يمكن أن يفعل الخير كما يمكن أن يفعل الشر، ما دام "الخير والشر يجريان من النبع ذاته" على ما يقول روسو(8)، لذلك فحين يتصرف بعض الناس بطريقة مشينة، وفق معايير معينة، فإن ذلك لا يخلع عنهم بأية حال صفة الإنسانية، طالما ان أفضل مزايا الإنسان وأسوأ معايبه، والتي نسميها "إنسانيته" و"لاإنسانيته" تعودان معا للأصل نفسه الذي هو الإنسان.

(باحث من المغرب)

* * * *

الهوامش

(1) باولو كويلو، الزانية، ترجمة رنا الصيفي، شركات المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، الطبعة الأولى 2015، ص22.

(2) نفسه، ص21.

(3) تزفيتان تودوروف، الخوف من البرابرة،  ما وراء صدام الحضارات، ترجمة جان ماجد جبور، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى 2009، ص21.

(4) نفسه، ص22.

(5) نفسه، ص26.

(6) Julia Kristiva, Étrangers à nous –mêmes, Fayard, 1988, p.7.

(7) نفسه، ص26.

(8) نفسه، ص27.