إلى الرسام العراقي الراحل أحمد أمير
وصلت إلى مدينة برلين الغربية في صيف العام 1980 قادماً من برلين الشرقية عاصمة "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" التي اندثرت تماماً منذ ربع قرن. وكان الشاعر العراقي مؤيد الراوي هو الذي نصحني بمغادرة برلين "الشيوعية" والذهاب إلى برلين الرأسمالية الحرّة آنذاك واليوم أيضاً. وأوضح لي بأنّ أهل المدينة الشيوعية غير الفاضلة لا يختلفون كثيراً عن أشكال مبانيهم المربعة والخالية من أي منحى جمالي أو إنساني، بل إنّ مهمتها وظيفية صرف وهي إيواء الناس كما تأوي السجون النزلاء. بيد أنّ بعضاً من الشيوعيين العراقيين المقيمين في تلك الدولة الاشتراكية طلبوا منّي العودة إلى بيروت من حيث أتيت أصلاً، وإلا فإنني سأتحول في برلين الغربية إلى لصّ أو بائع مخدرات على حدّ قولهم. لكنني التزمت برأي مؤيد الراوي الذي ساعدني في الحصول على إقامة مؤقتة في ألمانيا الشرقية.
وحالما وصلت إلى برلين الغربية أدركت بأنني انتقلت فعلاً إلى عالم آخر، مختلف تماماً عن كلّ ما كنت اعرفه عن عالمنا هذا. فأثار انتباهي عدد المقاهي والمطاعم ودور السينما والمكتبات والأسواق التجارية الفخمة ومنها متجر Ka De We الشهير. وكنت أحمل في جيبي ورقة نقدية من فئة مئة مارك ألمانيّ غربيّ ليس إلا، ورسالتين صغيرتين كتبها لي شخص اسمه أبو علي درعا، وهو من العراقيين المعارضين الذين التحقوا مبكراً بالمقاومة الفلسطينية عندما كانت قيادتها في الأردن، إحداهما كانت معنونة إلى منوّر المهداوي، ابن رئيس "محكمة الشعب" فاضل عبّاس المهداوي، والأخرى إلى شخص كان يكنّى باسم أمّه. وعندما سلمته الرسالة ألقى عليها نظرة سريعة ثم ألقاها جانباً ولم يسألني سؤالاً واحداً عن أوضاعي ومكان إقامتي وسبب قدومي إلى ألمانيا، ولم يعرض تقديم أيّ خدمة. فشعرت بالإحباط وخيبة الأمل منذ البداية، لكنني آثرت الصبر والاطلاع على وضع العراقيين المنفيين في الغرب عن كثب، وقررت أن لا أسلم منوّر المهداوي الرسالة الثانية والتي مازلت احتفظ بها إلى يومنا هذا، على الرغم من أنه طلبها منّي مراراً وتكراراً.
كان العراقيون يجتمعون آنذاك في "مطعم الطلبة" التابع لجامعة "برلين الحرّة"، والمعروف باسم "منزا" التي تعني "المائدة" باللغة اللاتينية، وكان معظمهم من المعارضين، الشيوعيين والإسلاميين والقوميين العرب والأكراد والمهجرين الإيرانيين والمستقلين والليبراليين. وعلى الرغم من تنوّع أطياف المعارضة، لكنني شعرت بالصدمة الأولى، صدمة اللامبالاة والإعراض والجفاء لدى العراقيين عموماً، فأدركت بأنني سأكون وحيداً ومعزولاً في منفاي الجديد. وكم كنت مسروراً عندما انتقلت إلى ألمانيا الغربية، خارجاً من جزيرة برلين الغربية المحاصرة والمنكفئة على ذاتها.
وقبل رحيليّ عن برلين قبل أربعة وثلاثين عاماً أثار انتباهي شاب عراقيّ كان يرتدي قمصاناً واسعةً فضفاضةً مثل قمصان القراصنة ويضع نظّارةً شمسيةً سوداء على عينيه، ويقف أمام باب مطعم الطلبة، فلم أستطع التعرّف على ملامحه على نحو جيّد. وبدا لي شخصاً منغلقاً أيضاً، بل ومغروراً بعض الشيء، يفتعل وضع مسافة بينه وبين الآخرين، فكان يتلفت حوله بسرعة وجديّة، كمن أضاع شيئاً ثمنياً للتوّ. وعرفت من مظهره وسلوكه بأنّه معارض أيضاً، لكنني لم أتبين بعد موقفه السياسي، وكدت أجزم منذ البداية بأّنه لا يمكن أن يكون شيوعياً، لأنّ سلوكه الظاهر تراءى لي منافياً لما عرف به الشيوعيون من تواضع ودماثة الأخلاق وبساطة المظهر على العموم. فسألت عن هذا الشاب الوسيم المتبجّح قليلاً، فقيل لي إنّه الرسّام أحمد أمير. ومن هو أحمد هذا؟ إنّه أخو الفنّانة رملة الجاسم، وكنت قد سمعت باسمها في بيروت، وقيل إنها آثرت البقاء في العراق. وبسبب حساسيتنا المفرطة إزاء نظام البعث فقد كنّا نحسب بانّ كلّ من فضّل البقاء في العراق، لابد أن يكون متعاوناً مع هذا النظام بهذا القدر أو ذاك.
العودة إلى برلين
أمضيت نحو خمس سنوات في ألمانيا الغربية، ثمّ عدت إلى برلين والتقيت بأحمد أمير في مهرجان فنّي هذه المرّة، ورأيته يحتسي نوعاً من الخمر الأصفر، فقدم لي الزجاجة، فأخذت منها رشفةً، فبدأ أحمد يسألني، وكعادة العراقيين، عن الناس الذين أعرفهم، فاتضح له بأنني كنت أعرف جميع أصدقائه المقربين. وبدا عرق التفّاح الألماني الأصفر يترك أثراً إيجابياً طغى على تلك الانطباعات الأوّلى عن أحمد أمير وشخصيته الغامضة.
وشيئاً فشيئاً تكشّف لي بأنّ فنّاناً حقيقياً وناضجاً يختفي وراء هذه الشخصية المثيرة، فازددت فضولاً لمعرفة المزيد عن أحمد الإنسان والفنّان والشاعر. وكنت كلّما اقتربت منه قليلاً تجلّى لي عمق معرفته بالفنّ والأدب والشعر خاصةً، فكان يحفظ قصائد كاملة من شعر أدونيس مثلاً، بل يحفظ معظم قصائد ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" الصادر في بيروت عام 1961. وقال لي ذات مرّة بأنّ هذه القصائد هل أفضل ما كتبه أدونيس على الإطلاق. وكان أحمد يرتبط أيضاً بعلاقات صداقة مع كتّاب وشعراء عرب أكبر منّه سنّاً ومنهم أدونيس نفسه وغايب طعمة فرمان وسعدي يوسف وعبد الرحمن منيف. وصرت أشعر بالندم، لأنني ضيعت أعواماً طويلةً دون أن أتعرّف على أحمد أمير بشكل جيّد، لكنني، وفي السنوات الأخيرة من حياته، اقتربت منه تماماً، فصرت أتصل به بشكل يوميّ تقريباً. وعندما كنت أزور برلين فإنني كنت أذهب مباشرة لزيارته في داره. فأراه وقد تمكّن منه الشرب، خاصةً الكونياك والفودكا، وهو يجلس وسط سريره، عاجزاً عن الحركة، ويصغي إلى الأغاني والموسيقى الكلاسيكية في شريط يشبه أشرطة أفلام السينما من نوع 16 ملم، ويحتوي على ثمان أو تسع ساعات من الموسيقى المتواصلة؛ فتستحوذ الموسيقى على مشاعره، فيصبح شخصاً حالماً ورومانسياً وعاطفياً للغاية، فيبدو كلامه وكأنه قد تشبّع بهذه الموسيقى فأصبح هو نفسه لحناً. فكان يتحدث بجديّة وحجج منطقية كما لو أنّه لا يريد أن مغادرة العالم دون التأكد من سلامته وصلاحيته منطقياً وفنيّاً ولغوياً، تماما مثلما فعلت إحدى شخصيات راينر ماريا ريلكه المحتضرة في "يوميات مالته لاوريدس بريغه" والتي أوقفت موتها بعدما أدركت بأنّ هناك هفوةً لغويةً شابت وصيتها الأخيرة. وعرفت بأنّ أحمد كان سخيّاً جدّاً في التعامل مع الآخرين، فكان يهدي لوحاته للجميع تقريباً، الأمر الذي أثار دهشتي، فانتابني الخوف من ضياع تركته الفنيّة. وطلب منّي ذات يوم أن أختار ما أريد من اللوحات التي كانت موضوعةً أمامه إلى جانب جهاز التسجيل. فرفضت ذلك وقلت له ما معناه إنّ فنّك ملك للناس كلّهم وأنا لست أنانياً إلى هذا الحدّ لأجرؤ على مصادرة لوحاتك! فقال إنّ هذه اللوحات لم تعد تعنيه شيئاً، "فخذ منها ما تشاء"، فكررت رفضي. واليوم فإنني لا أعلم فيما إذا كان موقفي صحيحاً يومئذ. وبالطبع أنّني كنت أتمنى أنّ أكون ثرياً مالياً لأقتني ما أشاء من لوحات الفنّانين العراقيين والعرب، مثلما يفعل جامعو اللوحات الأوروبيون.
بدا أحمد أمير متعباً جسدياً في سنواته الأخيرة، ومدمناً على الكحول، وأخذ جسده النحيل يتداعى يوماً بعد آخر، حتى بات حطاماً. وذات ليلة سهرنا معاً في بيت صديق مشترك، وحالما استيقظ أحمد من النوم، هرع إلى زجاجة الفودكا، وصار ينشد: "إلا هبّي بصحنك فاصبحينا / ولا تبقي خمور الأندرينا"
ما بعد الرحيل
ذكرت زوجتي على نحو عابر بأنّ شخصاً لم يذكر اسمه اتصل بها تلفونياً وأبلغها بأنّ أحمد أمير قد توفيّ في برلين، ولم تكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل. وبعدما رأت حجم الصدمة التي ولدها هذا النبأ، أصيبت هي نفسها بالذهول، لأنّها لم ترني مفجوعاً بهذا الشكل من قبل. فذهبت في الليلة ذاتها من مدينة كولونيا، حيث كنت أقيم، إلى برلين، لكي أودع صديقي الراحل. وأمضيت الطريق الطويل باحتساء النبيذ، متذكراً تلك المناسبات القليلة التي جمعتني بأحمد أمير.
وطوال مراسم التشييع انتابني إحساس عارم بالفقدان وعدم الانتماء للآخرين كما لو أنّ هذا الفنّان كان الإنسان الأخير الذي يربطني بعالم برلين الغريب. فلم أجرؤ ساعتها على النظر إلى أحمد ميّتاً ومسجّى في صومعة المقبرة، والمشيعون يطوفون حوله، إنما وقفت بمفردي، أتطلّع إلى قبور الغرباء الحديثة الخالية من الشواهد، وإلى فوهة القبر المفتوح الذي سيلتهم بعد قليل جثمان أحمد أمير، وفكرّت كذلك في أعماله وموسيقاه وصديقته وتركته.
بيد أنّ الفنّان لم يخلّف وراءه سوى عدد صغير من الرسوم والصور والقصائد القديمة، ورأيت أيضاً قصيدة لأبيه بين الأوراق التي عثرنا عليها في قبو داره، وشكلّت "هيئة" تعتني بهذه التركة، لكنني لم أسمع بنشاطها وعملها في إحياء ذكرى أحمد فيما بعد، باستثناء كتاب أصدره عبد الحسين الهنداوي، ضمّ بعضاً من قصائد الفنّان.
الجرّح المفتوح
وفاة أحمد أمير المباغتة تركت جرحاً عميقاً غائراً لم تندمل آثاره إلى اليوم، على الرغم من أنني حاولت مرّات عديدة معالجته بالخمر والكتابة والتذكّر. وكنت أعلم بأنّ هذا الفنّان عاش حياةً بوهيمية مركّزة، وذات نزعة وجودية متفردة، وكان غير عابئ بما يحمله الآخرون من تصورات وتقييمات حول نمط حياته الملتصق بالحياة ونبضها الدافئ، وبذلك بدت هذه الحياة غنيّة في أدقّ تفاصيلها ومحتواها العميق، حتّى وجدت بعضاً منها يتسلل خلسةً إلى روايتي الأولى "اعترافات تاجر اللحوم" التي كتبتها قبل عشرين عاماً، وتناولت فيها ملامح من شخصية أحمد أمير: "صاحبي الرسّام مات، صاحبي الوحيد الرسّام مات، وأنا بقيت وحيداً. وربّما أصبحت أقلّ من وحيد، أصبحت وحيد قرن بلا قرن. وهذا العالم، عالمي، لم يعد عالمي. ومات صاحبي قبل أن ينطق كلمة الوداع. فكان يضحك وينصحني أن لا أقترب في حياتي إلا من الفودكا، فلمَ الفودكا يا صاحبي؟ لمَ الفودكا؟ والآن لا أحد غيره ينصحني. كان قويّاً وجميلاً، لكنّ روحه كانت أكبر من جسده، فصار جسده ينصهر يوماً بعد آخر تحت روحه. ولو أنّه رفع الأثقال بدلاً من ضحكته المجلجلة، لما أتيت أنا إلى هنا. فما الذي أفعله هنا في هذه البراري المجهولة المقطوعة! فهل أهرب من صحرائي إلى صحرائي؟ تلا على روحه مقرئ تركيّ آياتٍ بلغة عربية مكسّرة، ثمّ أقعى عند فوهة القبر وكبّر (الله إتشبر، الله إتشبر) الله إتشبر؟ يا للعجب! لقد حمل صاحبي ضحكته معه ورحل هذا الصاحب المنفيّ، رحل بعدما أصبح عقله راجحاً. وكان الناس كلّهم يعلمون بأنّه سيرحل. فكانوا يتهامسون كالمتآمرين، لكنّ لا أحد منهم استطاع إيقاف موته. فمشى موته وحده سريعاً متعجلا. وكانت أصابعه ترتجف، والفرشاة تسقط من يده. فلمَ اللوحة يا صاحبي؟ لمَ اللوحة؟ هو نفسه كان لوحة. كان صاحبي لوحةً، طيفاً ومقلة! لكن ماذا ينفعني هذا الهُراء؟ لو كنت مغنيّاً لغنيّت، غير أن لا صوت لي سوى رنين العظام".
إليزابيث
عندما أعدت كتابة هذه الرواية باللغة الألمانية أفردت مساحة واسعة لأحمد أمير وأهديت له الرواية، فكتبت: "إلى أحمد أمير، الناصرية / العراق 1952برلين 1994“
وذات مرّة وجدت رسالةً بعثها ناشري وصديقي الألماني عبر البريد الإلكتروني وفيها إشارة إلى رسالة بعثتها سيّدة ألمانية إلى دار النشر، وتطلب فيها التحدث إلى كاتب رواية "اعترافات تاجر اللحوم" باللغة الألمانية. وجاء في الرسالة: "السيّدات والسادة المحترمون في دار النشر، هل من الممكن إقامة اتصال بمؤلف هذا الكتاب؟ وإذا لم يكن راغباً في الكشف عن معلوماته الشخصية، الأمر الذي أتفهمه تماماً، فإنني سأقدم له معلوماتي كاملةً. وأرجو إبلاغه بذلك، ومن المهم جدّاً، ولأسباب شخصية محض، أن يتصل بي للتحدث حول هذا الكتاب بالذات، وخاصةً فيما يتعلّق بالشخص الذي أهدى له الرواية. وهذه قضية تنطوي على أهمية كبيرة فعلاً بالنسبة لي. ولكم منّي جزيل الشكر على جهودهم.
إليزابيث […].“
تجاهلت رسالة السيّدة الألمانية أياماً طويلةً، وحتّى بعد أن قرأتها فكّرت في عدم الردّ عليها، لأنني خشيت من أن الحديث عن أحمد أمير سينكأ الجرح القديم الذي خلفه رحيله المبّكر والذي لم يندمل أصلاً. بيد أن التفكير في الماضي دفعني من ناحية أخرى للتفكير في السيّدة نفسها، فواجبي إزاء الفنّان لم ينته برحيله بطبيعة الحال، فاتصلت بها.
قالت المرأة إنّها شعرت بصدمة شديدة بعدما عرفت بأنّ أحمد أمير فارق الحياة، وقد اتصلت بشخص يحمل الاسم ذاته، وكان عراقياً، رغم أنّ صوته بدا لها مثل رجل عجوز، وأبلغها بأنّه يعرف الراحل أيضاً، مؤكداً لها وفاة الفنّان قبل عشرين عاماً تقريباً. وذلك فإنّها أرادت أن تعرف منّي كيف كانت ملابسات الوفاة وسببها. فتحدثت لها عن زيارتي الأخيرة له في برلين، وكيف أنّه توقف تماماً عن الرسم، وعن النشاطات الإبداعية الأخرى، لأنّه لم يعد يرى فيها مخرجاً لأزمته الروحية وعزلته ومنفاه، إنما عثر على بعض من الحلّ في الخمر والموسيقى. فمات سكرانَ، وكنت أتمنى أن رحيله كان بلا آلام. لكنني سمعت بأنّ الدماء كانت تقطر من جسدته حتى بعد وفاته. فصمتت السيّدة لحظةً، ثمّ قالت إنها كانت زوجة أحمد أمير، وقد تزوجا في باريس عندما كانت في سنّ التاسعة عشرة، وانتقلا إلى برلين، غير أنّها غادرت المدينة خوفاً من أن يعتدي عليها أحمد جسديّاً في نوبات غضبه. وروت لي بأنّها لم تنه العلاقة به تماماً، ولم تطلب منه الطلاق، لأنها كانت ستحرمه في هذه الحالة من الإقامة في ألمانيا، وطلبت منه الطلاق بعدما حصل على الجنسية الألمانية. وكانت قد هربت إلى "الغابة السوداء" في جنوب ألمانيا، حيث تزوجت رجلاً ألمانياً وانجبت منه ولدين، لكّنها طلقته مجدداً بعد أربع سنوات من الزواج. وذات مرّة ذهبت مع ولديها لزيارة أحمد، وأمضت معه ليلة في داره ببرلين. وعندما أدركت بأنّه كان متعلّقاً بها، هربت منه مجدداً، ولم تلتق به فيما بعد، حتّى قرأت خبر وفاته في روايتي.
أخبرت المرأة بأنني لا أعرف عنها شيئاً ولم أسمع إلا باسمها، لأنّني سمعت شقيق أحمد أمير يتحدث عن لوحة بعنوان "إليزابيث عارية". فقالت: "نعم، أنا إليزابيث، وكان يرسمني عاريةً طوال الوقت. فكنت أجلس على ملاءة كبيرة بيضاء، فيتأمل جسدي من جميع الجهات ثم يبدأ بالرسم ساعات طويلة. فانجز عدداً كبيراً من اللوحات بهذا العنوان، وأهدى البعض منها إلى والديّ، لكنني استعدتها حالما سمعت بنبأ وفاته، تخليداً لذكراه".
إليزابيث لاحظت بأنني لم أكن راغباً في مواصلة الحديث على هذا النحو، فسألتني: هل تسمح لي برجاء أخير؟ وهل تعرف المقبرة التي دفن فيها جثمان أحمد؟ قلت إنني لم أزرها ثانيةً منذ يوم الدفن، ولا أعلم أين تقع بالضبط، وسأبلغك عن مكانها. ثمّ ودعتها على أمل الاتصال مرّة أخرى.
قبر الفنّان
وفي اليوم التالي، قرأت في صفحة التواصل الاجتماعي، فيسبوك، خبراً مفاده أن رفات أحمد أمير نقلت من مقبرة Karow في برلين، إلى مقبرة النجف في العراق. واتضح بأنّ بعض أفراد الأسرة اتخذوا هذا القرار على حين غرّة، في حين رفضه البعض الآخر، ومنهم رملة وحيدر الجاسم، الفنانان شقيقا أحمد أمير. وبرر أصحاب نقل الرفات هذه الخطوة بأنهم لا يريدون نيسان أحمد، وتركه وحيداً "ورقماً يلتحفه البرد في مقبرة بضواحي برلين، بعيداً جدّاً عن دفء الجنوب وأحضان الناصرية" مثلما ورد في رسالتهم.
وكان أحمد أمير نفسه قد أسرّ لي ذات ليلة بأنّ أباه كان مدفوناً في مقبرة النجف، فجاءت قوّات نظام صدّام حسين بعد الانتفاضة الشعبية التي أعقبت هزيمة العراق في "حرب الكويت"، فسوّت القبور بالأرض، لتفتح ممرات وسط المقبرة العملاقة، ولأسباب أمنية، لكي لا تتحول القبور إلى متاريس "للثّوار والمنتفضين"، وكان من ضمن القبور التي هدّمت قبر أبي أحمد أمير. ومازلت أتذكّر جيّداً ما قاله لي في ذلك المساء، وأعيده الآن كما لو أنّه بمثابة وصيته الأخيرة: إذا كان هناك إنصاف في العراق وضمير وعدالة فيجب أن يطلق اسم الوالد على أحد شوارع النجف أو الناصرية.
وبالطبع لم أبلغ إليزابيث بنقل رفات زوجها السابق وحبيبها الراحل إلى العراق هذه المرّة، ولم أتصل بها تلفونياً، لأنّ صدمة نفسية واحدة تكفي لتحطيم سيّدة أخلصت في حبّها لهذا الرجل، فتركتها تتأمل لحظات عشقها الأوّل، وربّما الأخير، في لوحات الفنّان أحمد أمير.