كتب ناتسوميه سوسِكي رائعته الروائية كوكورو Kokoro في 1914، قبل وفاته بسنتين، وقد رحل مبكرا وهو في التاسعة والأربعين من عمره. اسمه الشخصي "كِنُّوسُكِه"، وأول مقطع في اسمه "كِنْ" معناه "ذهب"، ويقال إن الذهب لديهم طلسم لدفع الشر عن الطفل. لكن الكاتب تخلى عن اسمه الذهبي واختار من الصينية اسم "سوسِكي" ومعناه: عنيد، غريب الأطوار. ويعد هذا الكاتب بلا جدال رائد الرواية اليابانية الحديثة، حتى إن معظم النقاد والباحثين يعتبرونه أعظم روائي ياباني في القرن العشرين، وله مكانة مرموقة جدا في اليابان كلها إلى درجة أن صورته ظلت عشرين سنة مطبوعة على العملة الورقية اليابانية من ذات الألف ين، تتداولها ملايين الأيدي كل يوم، بدءا من سنة 1984 حتى 2004. ومرة سألت أحد طلاب الجامعة، إن كان قرأ روايات سوسِكي كلها. فأجابني باستغراب: "ألا ترى أني ياباني؟!"
ولد كِنّوسُكِه سنة 1867 في مدينة (إيدو) التي تحول اسمها في السنة التالية إلى طوكيو، مع مجيء الإمبراطور ميجي، رائد النهضة الحديثة في اليابان وانفتاحها على العالم. من سوء الطالع، أن هذا الطفل جاء متأخرا، إذ كان والده في الثالثة والخمسين وأمه قد تجاوزت الأربعين. والتقاليد الاجتماعية تعتبر الإنجاب أمرا شائنا في تلك السن المتأخرة. ولكي يتخلص الوالدان من تلك "الوصمة" المخجلة، دفعا بالرضيع إلى إحدى عائلات القرية لتتبناه، فكان يترك أمام الكوخ جائعا يبكي والوالدان المفترضان مشغولان في الحقل. ومرت أخته به يوما فأشفقت عليه وأعادته إلى بيت الأهل، لكنهم سرعان ما تخلوا عنه لأسرة أخرى تتبناه. وهكذا عاش بين الثانية والتاسعة في رعاية الأسرة الجديدة، ودخل المدرسة ليتابع دروسه بجد استثنائي. لكن سوء الطالع لاحقه لأن الوالدين الجديدين انفصلا، وأعيد الصبي إلى أهله، فتصور أن والديه الحقيقيين هما جداه، وهما يتركانه ينام في غرفة مستقلة عنهما وعن إخوته الكبار. وقد انعكست هذه الطفولة المضطربة على نفسيته وتركت أثرها السلبي البالغ في حياته كلها، سلوكا وإبداعا. ويقول في مذكراته إنه صحا في إحدى الليالي فجأة على صوت يناديه، أرعبه الشبح فظل ساكتا، ثم تبين له أنها الخادمة، وقد راحت تخبره همسا أنه في بيت والديه، وليس بيت جديه، ويقول إنه شعر بسرور لصدق الخادمة وثقتها به أكثر من معرفته بالحقيقة.
نظير دوستويفسكي
لا يزيد عمر سوسِكي الإبداعي عن عشر سنين إلا قليلا، لكنه استطاع خلال هذه السنوات القليلة أن يترك ثروة أدبية متميزة جعلت اسمه يقترن بأكبر الأسماء العالمية في مجال الإبداع، أمثال: ديستويفسكي وشكسبير. وقد ظل اسمه في طليعة النخبة الأولى من المبدعين طوال القرن العشرين. وفي العام 1968 جرى استطلاع بين خريجي أربع جامعات يابانية حول أهم الروايات اليابانية في إطارها العالمي، فكانت رواية "كوكورو" في المرتبة التالية لرواية ديستويفسكي "الجريمة والعقاب".
وفي مطلع القرن العشرين أرسلته الحكومة في بعثة دراسية إلى إنجلترا، فلم ينسجم مع الجو الأكاديمي، وكان عزاؤه الوحيد أن يغرق نفسه في القراءة وسعة الاطلاع. كانت هذه التجربة، رغم قسوتها، نقطة انعطاف هامة في حياته. فقد عاد من إنجلترا بعد ثلاث سنوات ليعمل أستاذا للأدب الإنجليزي في الجامعة، لكنه لم يحتمل طويلا هذا العمل، فتفرغ للكتابة في الصحافة اليومية، بدءا من عام 1907، وكان ديستويفسكي قدوته في ذلك. وقبل مرحلة التفرغ كان قد أصدر عملين روائيين، أولهما يعد من الهجائيات الساخرة في الأدب الياباني وعنوانه "أنا قِط"، والثاني "المعلم الصغير" المترجم إلى الإنكليزية بعنوانه الياباني "بوتشان" وهو اللقب الساخر الذي أطلقته الخادمة عليه. والعملان ينهلان من تجربته الخاصة في التدريس.
وتشير الدراسات العديدة عن هذا الرائد إلى أنه كان بارعا في دراسته للأدب الصيني، لا سيما الشعر، منذ أيام الجامعة، حتى إنه كان قادرا على كتابة القصيدة بالصينية "كانشي" كما كتب الهايكو في اليابانية. ولكن تألقه برز وتفرد بكتابة الرواية والقصة القصيرة إلى جانب المقالة النقدية.
التفرغ للكتابة
كان سوسِكي ضد المؤسسات وأغلالها الاجتماعية والبيروقراطية، بدءا من البيت حتى الجامعة. لذلك آثر التفرغ للكتابة، بعيدا عن قيود وأعباء أية مسؤولية أخرى. إن المحلل النفسي الدكتور تايكو دوي خص سوسِكي بكثير من الدراسات المستفيضة، وخاصة في كتابة الموسوم بـ"عالم ناتسوميه سوسِكي النفساني"، ولا يتردد الدكتور دوي في أن يضع اسم الكاتب إلى جانب اسم فرويد في مقدرته على تحليل شخوصه المعطوبة. لكننا ندرك بوضوح أن منشأ ذلك العطب المدمر ليس ذاتيا، إنما هو نتيجة منطقية من نتائج الاستلاب أمام الغرب وتقاليده في كل شيء من الأزياء حتى الأخلاق والفلسفة والمثاليات. ولعل هذا هو موضوعه الدائم والمتكرر بأشكال وأسماء مختلفة، وموقفه من الثقافة الغربية وطغيانها موقف الاستنكار والسخرية واجترار الأسى. ومنذ أن جعل من نفسه قطا يرصد سلوك صاحبه معلم اللغة الإنجليزية الذي أطلق عليه اسم "كوشامي"، ومعناها "عطاس"، وهو يسخر من نفسه بلا رحمة كما يسخر من الآخرين. وتقع الرواية في ثلاثة مجلدات. وقد أنجز هذا العمل الطريف خلال سنتين، وهو في الأربعين من عمره، كما كتب خلال تلك الفترة عدة قصص قصيرة لجأ في إحداها إلى الخرافات التقليدية، لا لشيء إلا ليواصل سخريته من المجتمع المعاصر، وما استحدث من بدع مستوردة. ويتحدث، على لسان إحدى الشخصيات، عن كتاب من تأليف "غُرير" يصور فيه كيف قامت مدرسة حيوانات الغُرير بخداع الشعب الياباني طوال أجيال، وكيف تستعمل بعض هذه الحيوانات "أساليب التنويم" المستعارة من حيوانات الغرير في الغرب. ولا يتردد "مؤلف" الكتاب أن يعلن أسفه واستنكاره لذلك، ولكن بصورة سرية.
ومع أن الكاتب لا يكتم إعجابه بالحرية الفردية ولا يخفي احترامه للنظام الليبرالي في الغرب، لكنه يرى أن من الحماقة التخلي عن التقاليد اليابانية العريقة. وإذا كان قد اختار بعض الحيوانات أبطالا لأعماله، فليس ذلك إلا إمعانا في السخرية. وفي روايته القصيرة "أحلام الليالي العشرة"، يتناول عشرة أحلام مختلفة باختلاف لياليها. ويصور في إحداها طفلا في السادسة من عمره يركب على ظهر السارد ويقوده إلى المكان الذي كان هذا الرجل، قبل مئة سنة، قد ارتكب جريمة قتل رجل أعمى. وحالما يتحقق السارد من ارتكابه الجريمة يصير الطفل على ظهره "ثقيلا مثل هيكل من الحجر". إنه يرمز بذلك إلى "عبء الماضي" وتبعاته المرهقة. ونرى أن جميع تلك الأحلام حافلة بصور سوريالية ملتبسة من اللامعقول، لكنه يكشف بها ما يكنه عالم الأسطورة من جمال وقد دمره العصر الحديث وتجاوزه.
ثلاثية أولى
في مستهل تفرغه كتب سوسِكي ثلاثيته الأولى. عنوان الجزء الأول منها "سانشيرو"، وهو اسم الشخصية المحورية فيها: شاب في أوائل العشرينيات من عمره، وهو قادم من منطقة بعيدة إلى طوكيو ليدرس في الجامعة، وفي القطار يلتقي الأستاذ "هيروتا" الذي يوجه انتقادات ساخرة للمجتمع الحديث، ومع ذلك يبدو ساذجا وغير واقعي. واحد من زملاء البطل يطلق على هذا الأستاذ صفة "الظلام الحالك" لأنه قرأ كل شيء، ولكن "لا يصدر عنه أي ضوء!" ومع أنه لا يقوم بأي عمل، فإن "سانشيرو" يقع تحت تأثيره الساحر، ويغدو مثله رافضا للمجتمع الذي سيعيش فيه. وهذا أول عمل روائي للكاتب يشتمل على تحليل عميق لشخصية الانطوائي الذي عزل نفسه عن الواقع المحيط به واستسلم لنزعة أنانية شديدة في أن يجعل من أوهامه مثالا له. وهو لا يكتفي بالانجراف وراء أفكار "هيروتا" الخاوية، لكن المرأة أيضا تغدو في نظره شيئا مثاليا في محيط مثالي. وهكذا يصير العالم الواقعي عبثا لا واقعيا وتضيع الحدود والمعايير.
الجزء الثاني من الثلاثية بعنوان "أما بعد"، وبطلها "دايسكي" أكبر من "سانشيرو" بسبع سنين، ويختلف عنه اختلافا كبيرا. إنه شخص واثق من نفسه، وهو أكثر أناقة وذكاء، ويمتاز بشخصية إنسانية محببة. لكنه ميال إلى البطالة والعزلة ويزدري بأن يكون التعليم وسيلة للعمل البيروقراطي، وهذه صفة عامة تكاد تشمل معظم أبطال سوسِكي. ورغم تعلق البطل بحبيبته "ميتشيو"، إلا أنه يتخلى عنها فيتزوجها صديقه. ولا يكتشف غلطته إلا بعد أن يرغمه أبوه على الزواج من إحدى الفتيات لأسباب نفعية، إذ يوفر له حاجاته المادية لقاء ذلك. وحين يسعى البطل لاستعادة حبه الأول، أملا في إكمال الحياة معها بعيدا عن المجتمع، يكتشف أنها متزوجة من صديقه، ويفاجأ بأن الزمن تخطاه ولم يعد إصلاح الخطأ ممكنا. إن الكاتب هنا يثير أسئلة عميقة حول طبيعة الفرد وعلاقته بالمجتمع. هناك خلل ما داخل النفس البشرية يشبه العطب في شخوص شكسبير التراجيدية، وهذا العطب يتنامى حتى يؤدي إلى دمار الشخصية، أو يدفعها إلى الخيبة والانكسار في نهاية المطاف. وإذا استطاع البطل إصلاح غلطته، فإنه معرض للوقوع في جريمة أكبر من الخيبة والخذلان.
"البوابة" هي الجزء الأخير في هذه الثلاثية، وتروي قصة رجل أكبر من "دايسكي" بكثير. وهو يشبهه في بعض التصرفات، ونرى أنه ارتكب في شبابه جريمة اختطاف زوجة صديقه الحميم. ورغم مظاهر الحب المخيم على العلاقة الزوجية بين البطل الآثم وقرينته، إلا أنه يكتشف أنها عاقر، وهكذا يبدو مستقبلهما قاحلا وبلا معنى، وكثيرا ما تغشاه صور قاتمة من أحداث الماضي كالكوابيس. وهنا أيضا يطرح الكاتب مفهوم الشخصية الانطوائية المعزولة، دافعا إياها إلى نهايتها الخانقة، كنتيجة منطقية لما تعانيه من خلل نفسي. لكنه لا يكتفي هنا بنموذج واحد بل جعلها انطوائية مزدوجة، وبدل أن يكون الحب عزاء ودافعا لفتح النوافذ والآفاق على الحياة ومشاركة الآخرين، كان وسيلة للانغلاق ومجافاة الناس وضياع المستقبل. ويبحث البطل عن خلاص روحي في أحد المعابد، أملا في إيجاد طريق ما. لكنه يظل عاجزا عن فتح البوابة، فلا يحظى بالإشراق الذي كان يرجوه. إن فتح بوابة المعبد أو انفتاحها يعني الاستسلام الكلي والتخلي عن النفس والتلاشي في الكون (صوفية الزِّنْ البوذية) لكن الإشراق يعطى ولا يؤخذ. وهو يدرك أن القرحة في معدته لا بد أن تؤدي به إلى الهلاك. ويذكرنا ذلك بالقط، بطل الرواية الأولى، إذ كان يشير إلى صاحبه بأنه مصاب بالقرحة، وهي علة الكاتب أيضا.
الثلاثية الأخيرة
في 1911 بدأ سلسة من المحاضرات برعاية صحيفة "أساهي"، وفيها يهاجم نزعة الاستلاب المذعورة أمام تقاليد الغرب وقيمه التي تدعو إلى الانخلاع من الجذور. ثم بدأ في كتابة ثلاثية جديدة أنجز منها الرواية الأولى "حتى الاعتدال الربيعي وأبعد"، والثانية "عابر سبيل". في الأولى يبدو البطل مسكونا بالحياة الرومانسية في بلاد غربية بعيدة، لكنه مجبر على كسب العيش في أي عمل إلى أن يستأجره أحدهم لملاحقة رجل عجوز والتجسس عليه. ومع أنه يكتشف الخدعة التي وقع فيها، إلا أن اللعبة تستهويه ويغدو مهووسا بمعرفة أسرار الآخرين. تتركه الرواية في حالة "المتفرج" على الحياة، وتتجه إلى صديقه الانطوائي الذي لا يقوم بأي فعل حاسم، بل يبقى عاجزا حتى عن البوح بحبه لابنة عمه، وهو يمضي في طريقه إلى الانهيار العصبي، إلا أن عمه ينصحه باتباع حياة العبث حتى يحافظ على توازنه العقلي. لكن البطل يبقى عاجزا عن ذلك، لعلة في تركيبه النفسي. وبذلك يبحر سوسِكي عميقا في رسمه لنفسيات شخوصه بعبقرية متفردة.
في "عابر سبيل" يبدو البطل في حالة مرضية أشد سوءا من أي شخصية أخرى. إنه جنون الارتياب حتى بأقرب الناس إليه. والبطل أستاذ جامعي كذلك. لكن جنونه يمضي به في طريق الدمار التدريجي، حتى يسعى أحد الأصدقاء إلى إنقاذه بأن يصحبه للعيش في الريف أملاً في شفائه. ويرى الصديق أن حل المشكلة يكمن في التسامي فوقها. لكن البطل يرى أن "كل حادثة في حياته هي خلاصة مقطرة للاعتلال الذي يعاني منه الجنس البشري بأكمله". إن حالة كهذه تستعصي على المعالجة والشفاء.
في الصميم
بعد هذه الإطلالة السريعة على بعض الجوانب البارزة في عالم سوسِكي الروائي، نقف عند الرواية الأخيرة "كوكورو" Kokoro من ثلاثيته الأخيرة. هناك كلمتان في اللغة اليابانية بمعنى القلب: "شِنْزو"، ومعناها العضلة القلبية التي تضخ الدم، و"كوكورو" (وتلفظ: كُكُرو، بلا مد)، ومعناها: اللب، مركز المشاعر والأفكار أو صميم الأشياء. لذلك نرى أن الذين نقلوا هذه الرواية إلى اللغات الأجنبية حافظوا على عنوانها الياباني. والرواية بلسان المتكلم، لغة البوح والمكاشفة، وهذا يجعلها أشد قربا من قلب القارئ وعقله. إنه يتماهى مع بطليها مباشرة: الأستاذ والطالب. الرواية من ثلاثة فصول: الأستاذ وأنا، والِدايَ وأنا، الأستاذ ووصيته. الراوي في الفصلين الأولين طالب متخرج حديثا من الجامعة، وأبوه يرجو أن يساعده الأستاذ في إيجاد عمل، ولكن دون جدوى. والفصل الثالث يغطي نصف حجم الرواية، وهو عبارة عن رسالة يوجهها الأستاذ إلى الطالب، ويوضح له فيها جميع الأشياء التي كانت تبدو غامضة أو غير مفهومة خلال لقاءاتهما وأحاديثهما في الفصل الأول. والرواية بلا أسماء. هناك طالب يلتقي أستاذا انطوائيا لا يمارس أي عمل ويخاطبه الطالب بصفته "سِنسِيه"، ومعناها: أستاذ أو معلم.
مشكلة الأستاذ أنه يحمل في أعماقه شعورا بالخيانة وآلامها بسب مصرع صديقه وزميله الجامعي (ك). فقد كانا يسكنان أثناء الدراسة عند أسرة مؤلفة من سيدة أرملة وابنتها الصبية وخادمة. يقع الصديقان في حب الفتاة، من دون علمها. لكن (ك) يخبر صديقه بقصة حبه الذي بلغ حد اللوعة حتى إنه مشرف على الهلاك ولا يعرف كيف يتصرف. لكن الصديق المنافس يسخر منه ومن حبه، ولكي يقطع عليه الطريق يبادر إلى طلب يد الفتاة من أمها، في غياب صديقه ومن دون علمه أو استشارته. وحين يعلم الصديق (ك) بذلك ينتحر في غرفته، تاركا رسالة اعتذار من الجميع، كما يطلب من صديقه أن يقوم بكل ما يلزم بعد موته. والجملة الأخيرة تقول: "لماذا انتظرت كل هذا الوقت حتى أموت؟" هذا هو السر الذي يخفيه الأستاذ حتى عن زوجته ولا يعلم به أحدا إلا هذا الطالب في نهاية الرواية، وبعد انتحار الأستاذ الذي يقول في رسالته أو وصيته الأخيرة: "كيف أستطع الهروب إلا من خلال الإيمان أو الجنون أو الموت؟"، هذه العناصر الثلاثة تتكرر في جميع روايات سوسِكي. إنه يرصد الإنسان في وحشته العصرية الخانقة، ولا يجد له خلاصا إلا في الإيمان الديني أو الخلاص من العقل أو الفرار من الحياة. لقد اختار الأستاذ المقبرة التي دفن فيها صديقه، وكان يزوره في يوم محدد من كل شهر طوال حياته، من دون أن يطلع أحدا على تلك الزيارة. الخوف من الآخرين وإيثار الانطواء على الذات، بعيدا عن الناس وأهوائهم الطفيلية وعيونهم المترصدة وألسنتهم اللاذعة، والاستغراق في جمال التراث وروعة الإبداع.. ذلك هو الهاجس الملح والسكينة الغامرة.
إن أساس العذاب الذي يعاني منه الأستاذ يكمن في خيانة العلاقة بين الصديق وصديقه الحميم. وتكتمل حلقة التناقض والازدواجية في نهاية الرواية بالإشارة إلى الجنرال نوجي الذي انهزم في أحد المعارك واستأذن الإمبراطور بالانتحار، لكن الإمبراطور لم يسمح له بذلك. وبعد موت إمبراطوره، بادر إلى استرداد شرفه بالانتحار، وكان هذا مثلا يحتذى للأستاذ الذي أنهى حياته أيضا. ونرى هنا أن سوسكي يطرح، ولو بطريقة غير مباشرة، المبدأ الكونفوشيوسي الملتزم بضرورة إحسان الأبناء للوالدين، واصفا التخلي عن هذا الإحسان بأنه خيانة أو وصمة عار خلقي. والطالب الذي لم يحسن معاملته لوالديه وتخلى عنهما وهما يعانيان مرض الموت، يحاول أن يتخذ الأستاذ قدوته الحسنة ومثله الأعلى، لكنه يفاجأ بانتحار قدوته مؤكدا له في وصيته أنهما "من عصرين مختلفين.. ولا يمكن جسر الهوة بينهما".
الحداثة المدمرة
إن الكاتب يوحي بطريقة غير مباشرة أن الحداثة التي اقتحمت بلاده كانت وراء تدمير الشخصية اليابانية: لقد دمرت القيم والتقاليد العريقة، ولم تؤسس قيما إنسانية بديلة. إن حالة المجتمع الياباني، من خلال روايات سوسِكي، تشبه أحوال معظم المجتمعات العربية والإسلامية في وقتنا الحاضر: محنة الهوية والقيم. يقول الأب المريض لابنه الذي تخرج من الجامعة ولم يجد عملا بعد: "في أيامنا، كان الأبناء يقومون بإعالة والدهم. أما اليوم، فالأبناء يعيشون إلى الأبد عالة على والديهم". ويصف هذا الخريج الجامعي نصائح أبيه بأنها "محاضرة!" إن تقليد الغرب لم يكتفِ بتدمير الأسرة والقيم الأصيلة، وإنما جلب معه عدم احترام الأجيال الناشئة لجيل الآباء.
وفي آخر مقالة قبل نزف القرحة المعدية التي أودت بحياته، قدم محاضرة لطلبة النخبة في الجامعة بعنوان "النزعة الفردية" تناول فيها العلاقة بين الحرية الفردية والشعور بالواجب، قائلا: "لا قيمة لتطوير نزعتنا الفردية ما لم نحتفظ بقدر معين من الثقافة الخلقية". ويضيف: "أعتقد ببساطة أن الحرية من دون حس الواجب لا يمكن أن تكون حرية حقيقية، لأن الحرية التي ينغمس صاحبها في ملذاته الذاتية لا مكان لها في المجتمع". ويلقي مزيدا من الضوء على موضوعه مبينا أن "فلسفة النزعة الفردية تستعيض عن مبادئ الجماعة بقيم تضع التقدير الشخصي للصواب والغلط هو الأساس في مسألة السلطة والمال". والرواية تستكشف أشد الزوايا ظلمة في القلب الإنساني، الزوايا التي تتعرض للضوء حين يحطم الجشع المالي الحرية الفردية. ونرى أن الكاتب، في غمار معاناته الشخصية، يشن حربا ضد النفاق في الوسط البيروقراطي، وميل اليابانيين لتقليد الغرب تقليدا أعمى. وهو يستعمل عبارة "تقليد القرود" حرفيا.
لقد كرس هذا الكاتب السنوات العشر الأخيرة من حياته للكتابة الإبداعية والنقدية، مضحيا بكل شيء آخر، فعاش حياة شبه منقطعة عن الآخرين. ويروى أن علاقته الاجتماعية لم تزد عن التواصل مع اثنين من الكتاب الشباب، واثنين من الكهنة البوذيين. رسائله إلى الكاتبين كانت حافلة بالنصح والتوجيه، أما رسائله إلى الكاهنين فكان يلتمس لديهما شيئا من سكينة الروح في حياة لم تعرف الاستقرار إلا بين القلم والكتاب.