أبعد من ممارسته الفعل الدراماتورجي والإعلامي والنقدي يشتبك عبد الحق ميفراني بالشعر. يراكم على امتداد عقدين قصائده في ديوانين: "صمت الحواس" و"أكواريوم من الألم". في شعره يقوم الإحساس في مساحة المابين/ التشاؤل، فالكتابة لديه واعية تتكئ على بصر وبصيرة نافذة، حيث لا حيز لحشو على امتداد القصيد.

ماتبقى للشاعر من ماء الألم

محمد أبو العلا

تقديم:
مذ تلقيت الديوانين إهداء من زميلي الشاعر عبد الحق ميفراني وأنا أبحث عن مسافة بيني وبين المقروء، درءا لتهمة على المقاس تختزل القراءة في خانة نقد محاب، حيث شغلني سؤال اختراق صداقة راسخة بمقاربة عابرة نحو قارات متخيل عشت إشراقاته مذ كان مخاضا إلى أن استوى منجزا باذخا، بل كيف أتحرر من نقد نقاد وشعراء انتصروا لجمالية انكتابه دون شبهة التماهي.

خارج هذه الدائرة وقبل قراءة شعر الشاعر أحب أن أقف عند منجز عبد الحق ميفراني المتعدد، فهو إعلامي ثقافي أو لنقل: مساح طبوغرافي لما أنبتته هذه الأرض من كتاب وشعراء، وتقديم منتوجهم في مجلات أدبية وازنة بصفته عضوا في رئاسة تحريرها، أو محررا ثقافيا لموادها، نذكر من هذه المجلات المحكمة: مجلة الكلمة اللندنية، مجلة الدوحة، الثقافة المغربية.. وهو أيضا شاعر راكم على امتداد ما ينيف على عقدين من الزمن قصائد ماتعة دونها في ديوانين وسمهما بـ"صمت الحواس" وديوانه الأخير "أكواريوم من الألم" الصادر مؤخرا عن وزارة الثقافة المغربية، وإن كانت صفة الإعلامي تواري كانشغال يومي صفة شاعر مقل، فصفة الشاعر أيضا تواري ناقدا متعددا للمنجز الشعري والسردي والمسرحي، كلل بإصداره لكتاب نقدي وازن موسوم "بشعرية متخيل الحرب" إضافة إلى إعداده الدراماتورجي لمجموعة من العروض المسرحية منها "الطيف" لفرقة همزة وصل بأسفي، في هذا السياق سيضع قيد الطبع كتابا شرفني والدكتور ابراهيم الهنائي بقراءة مسودّته، حيث سيعاين القارئ حتما بعد النشر كاتبا ودرماتورجا "حرايفيا" مقتنصا للشخوص والحبكة ومشيدا لدرماتورجيا النص ببصمة كوميدية جليّة، هذا إضافة إلى اشتغاله على السرد الفيلمي كتابة ونقدا وتحكيما في مهرجانات سنيمائية..

هذا غيض من في فيض شاعر منذور للكتابة في تعددها وإن كان منحازا لما له باع فيه، هذه قراءة لعينة منه:

"صمت الحواس" أو تعطيلها بالمرة ليتكفل القصيد بترميم ما تشظى من ذات تستنفر ما تبقى من مجاز البوح حاسة ميفراني الوحيدة نكاية في واقع مبلد للإحساس، لا حيز لحشو على امتداد القصيد فقط كلمات تقيم للمقيم في حبرها المقتر أكوانا تتسع وترحب ثم تضيق لتغدو في الديوان الثاني"اكواريوم من الألم"، تسيح العبارة في حيزه محدود ة كما سمكة ملونة بكل ألوان الطيف في ماء يشرئب إلى أكسجين، هو ذاته ماء حياة الشاعر وقد أمسى لا يليق بحياة، يتنطع صوفيا طافيا بزعانف العبارة، مبللا جسد القصيد بجسد من رذاذ منغسل على امتداد البوح من كلح الوقت.

لا وسما للديوان يعلو في تقديرنا على فائض من ماء يهيج إلى أعلى النص "بحرا تشتهيه اللغة" أو ينزاح "جسدا منسكبا بالخطأ" على نصوص تحت، لا مكانا بالقاع يليق بكائنات نورانية منذورة للإبحار في المابين، ماء أو هواء: سيان، أسماك وفراشات، استعارات كينونة هشة ضاق بها الأديم، فلاذت بالعبور في حقول من ضوء:

البحر هنا

ليكن في عمرك النوراني

مدى لسهوه

حين ينكسر على صخرة..

حينها

تريح النوارس مهد الأفق عل يقينك...

الآن على حدود الجنوب

الفراشات تودع الصمت

تحت أفق العصف

وتضم المنافي إلى سبات الثورة

لعل الحديقة

تفتح رموش العين النائمة ليبدأ الرحيل الآن.

وعلى امتداد شرائط الخيبة يراوح الحرف بين تقتير وتأطير، من انسكاب/ انكتاب للذات، إلى كتابة واعية تشكل حرفها مسبقا في أطر برانية واشية بحاسة أخرى/ عين الكاميرا، نكاية هذه المرة في عين الشاعرذاته وقد أمست لا تسع ما يرى، أو ما لا يرى،لا تمعن في عتمة، أو تبئر ما نأى، في تساوق مع ما ذهب إليه الراحل درويش ذات قصيدة:

أرى ما أرى

دون أن أنتبه

وإذا، لا أرى ما أرى

يورطنى القلب به وأحيا كأني أنا

أو سواي

ولا أنتبه.

تفتر مؤقتا لغة جوانية أمام سرد براني لشرائط الخيبة، عناوين ونصوص على صفحة أمست صورة لفيلم مهجن باللغة، أو قصائد مهجنة بلغة موليير وبأطياف الصورة: زوم، كاستينغ، جينيريك، سينوبسيس، سيكانس..

يكتب أفقيا لوصف لقطة ثم عموديا للتوهيم بجنيريك أسماء غير التي سميتموها بحلة إخراج أخرى، ممهورا أسفل بتوقيع مخرج متشائل/ ايميل حبيبي، مفارقة تشي بتوريط المتلقي حد السخرية من انتظاراته، سرد يعبر الشعر ليتشعرن، وإن ظل وفيا لنصه الغائب مؤطرا بومضة ضوء، بلقطة مكتنزة بالتوغل في مالم تدركه حاسة الشاعر (عينه)، أو عينه شعرا  استعارته)، أو هو الإحساس عينه وقد انتهى مقامه ثالثة في مساحة المابين/ التشاؤل، مفشيا ختم الديوان من فاتحته، موضوعيا في انتصاره لموضوعة التشاؤل هو الذي عبر بنا وأيدينا على القلب في شريط على حافة التشاؤم، مماهيا السارد بالناظم عند نقطة التقاطع في حكي سعيد أبي النحس المتشائل:

جينيريك

البدء: كؤوس الخسارات

الأخطاء: صمت الحركة

الضوء: صراخ الإيديولوجيا

الماكياج: ضور.. ري.. مي..

المخرج: متاشائل إميل حبيبي

في الأخير أهمس للقاريء الذي سيقف مترددا على عتبتي ديواني "صمت الحواس" و"أكواريوم من الألم" بين أن يزرّر كدأب ميفراني حواسه، أو يتماهى بالسلمون شاحذا زعانف اللغة، قبل الإبحار في ما تبقى للشاعر من ماء الألم.

(ناقد من المغرب(

* * *

هامش:

"أكواريوم من الألم"، شعر: عبدالحق ميفراني، منشورات وزارة الثقافة، ط1/ 2014.