مرّات قليلة تملّكه مثل هذا الشعور، يمكن أن يعدّها على أصابعه مستذكراً إياها واحدة بعد الأخرى، في مقبرة الحسن البصري مثلاً حينما كان التراب يسقط على جسد الشاعر القتيل محمود البريكان ـ ما كان جسده قبل يوم واحد فحسب ـ أو في الطريق إلى شرق البصرة، في واحدة من ليالي الشتاء شديدة البرودة خلال الشهور الأخيرة من حرب الثمانينيات، في اللحظة التي سمع فيها صيحة الطائر، يتراءى له وهو يكتب حكايته أنه سمع الصيحة في المقبرة أيضاً، مفاجئة قريبة خاطفة، وإن لم يكن قد رفع رأسه في هدوء المقبرة ونظر إلى السماء بشمسها الساطعة محاولاً أن يرى الطائر، أوقات لم يكن يتوقع أن يحياها يوماً وهاهو يرويها كما يروي حكاية عابرة بعد سنوات من وقوعها، من دون أن يدري إن كان ساعتها المسحاةَ التي تهيل التراب على الجسد أو حفنةَ التراب التي تصطدم بحافة الحفرة قبل أن تسقط في جوف القبر. لم يكن يسمع صوتاً في العراء الفسيح غير صوت التراب وهو يتهاوى ثم يستقر في القاع الجاف قريباً من الجسد البارد الضئيل وقد نخرته الطعنات، وإن كان الجنديَ الذي يضم قبضتيه في جيبي قمصلته متكوّراً على نفسه في حوض الناقلة الروسية وقد ملأت رائحة دخان المحرّك الخانقة صدره، إنها أكثر الأوقات التي شعر فيها بالوحدة في حياته، وهو يمضي منفصلاً عن ظلمة بدت بعيدةً من خلفه متوجهاً لأخرى أمامه تضيؤها بين وقت وأخر نيران قصف متقطع، لا يسمع منها إلا صدى انفجار تبدّده الريح كما لو كان أحد ينفخ قريباً من أذنه فينتقل صوت النفخة بين صوان أذنه وقناتها موغلاً بين مطرقة وسندان وركاب، إنها اللحظة التي يتضخّم القصف فيها ليُصبح مثل هزيم رعد متقطع منزلقاً في موجات بين هلال وقوقعة يملؤها السائل مثل بحيرة صغيرة، سريعاً ما تتحوّل الموجات إلى إشارات حاملة معها شحنة مخاوفها قبل أن تتلاشى شيئاً فشيئاً وتغيب في أعماقه، أو هو الطائر الذي يصيح محلّقاً تحت سماء الليل بعتمتها الرمادية، كان الطائرَ لا ريب، طالما حدّث نفسه بذلك فما زال يُحسُّ دهشة الطائر المحلّق الصغير وهو يرى نيران شرق البصرة تومض وتختفي وناقلات العسكر تواصل اندفاعها مطفأة المصابيح على شوارع متربة.
ما أصعب أن يكون أحدنا في مكانين منفصلين في وقت واحد وأن يعيش حياتين مختلفتين ولو لوقت قصير، تتلبسنا في أوقات متباعدة أحاسيس لا نكون فيها كما نحن، أو كما نشعر دائماً إننا نكون، حالات ننفصل فيها عن طبائعنا ونغادرها لندخل طبائع أخرى كما لو كنا نفتح باباً في حكايات الطفولة، فتتحول بنا العوالم وتتبدّل من حولنا الجهات، لكنها ليست حكايات ولا قصصاً، إنما هي مشاعر تتملكنا فتغيّر أحوالنا، نخرج عن أجسادنا ونسكن أجساداً جديدة مدهشة، فنغدو ببساطة وعلى نحو مفاجئ بشراً آخرين، كما يمكن أن نغدو حيوانات أو نباتات أو جمادات، يحدث ذلك أحياناً مثلما يحدث لأحدنا أن يرى وجهاً غريباً أمامه في المرآة، يشعر حال تمدّده على السرير وقد غرق العالمُ في صمت أول الليل بأنه ليس هو، إنما هو الجدجد الذي أطلَّ برأسه من حفرة ضيّقة في حديقة المنزل، عينان صغيرتان تتفحصان العالم، تنظران نحو العشب وقد نسج فوقهما سقوفاً خفيضة معتمة، إنه يُدرك بفطرته الدودية إنها نظرته الأخيرة لكل ما حوله فلم تعد تفصله عن ضربة المنقار الموجعة سوى لحظات وهاهو يقطع خطواته الأولى باتجاهها ساحباً جسده من رطوبة الحفرة محرّكاً أقدامه القصيرة المشعّرة وقد أغمض عينيه في سلام.
المرّة الأكثر وضوحاً التي تلبّسه فيها مثل هذا الشعور هي المرّة التي وقف فيها على رصيف محطة قطار المعقل في السنتين الأوليين للحرب، كان ما يزال طالباً في السادس الإعدادي يعيش تجاربه المتأخرة نسبة لما عاش أقرانه من تجارب في الحياة والسفر، ولم يكن يعلم بالطبع إن بينه وبين الدخول إلى الحرب أشهر قلائل يخلع فيها حياة ويرتدي حياة. كان وحيداً أيضاً يحمل حقيبة جلد صغيرة بحزام، أعلى عمود المحطة الخرساني المضلّع على يمينه ساعة مستديرة بيضاء، عقاربها السود تسير متمهلة، وعلى يساره، أعلى عمود آخر، جرس النحاس الكبير الذي لم يمض وقت طويل على دقّته معلناً قدوم قطار جديد، أمامه يمرّ القطار عرباته بلا كراسٍ، أبطأ من سرعته حتى توقف لتكون بمواجهته نافذة واسعة لإحدى العربات التي وضعت بدلاً من كراسيها أسرّة حديد بطبقات مثبتة إلى الجدار، على كلِّ سرير منها جريح صامت ينظر نحوه وقد غطت أجسادهم شراشف بيضاء مبقعة، عشرات العيون المجهدة توجّه نظراتها نحوه، لم تكن نظرات بشريّة على نحو دقيق كما لم تكن تشبه نظرات الجدجد وهو يتفحص العالم من حوله للمرّة الأخيرة كأن ألم الأجساد بدّل طبائعها، ذلك ما أحسَّه وقتها وما سيقوله لنفسه بعد وقت طويل.
على الرغم من شعوره بعمودي المحطة المضلّعين، بالساعة المستديرة، بجرس النحاس الكبير، وبحركة القطار وقد عاود اندفاعه البطيء فقد شعر الصبي إنه هو، قطار الجرحى الذين يواصلون النظر بعيون مجهدة نحو الصبي الواقف على الرصيف، وقد حملت نظراتهم معنى أن يمضي الإنسان جريحاً ممدداً على السرير من مدينة إلى أخرى، إنها اللحظة التي أستعاد فيها حكاية دوّنها في دفتر الملاحظات، لم يعد يتذكر وهو يروي ذلك إن كان قد عثر عليها في كتاب قديم في مكتبة المدرسة أو التقطها من صحيفة أو نشرة معلّقة على جدار، دوّنها كما هي بعد أن منحته إحساساً غريباً بنفسه وبالأشياء الكثيرة من حوله وهي تتحدث عن تشونغ تسي، حكيم الصين الذي عاش خلال حكم الممالك السبع المتحاربة وقد كان يتنزه يوماً صحبة هوي تسي على شاطئ نهر، تمسح الريح أكمام ثوبه الواسعة فيلتمع قماشه وتحلّق أزهاره البيض مثل فراشات صغيرة تنوّر العالم، هكذا تبدأ الحكاية فالحكماء يتنزهون على الدوام، ينصتون للعناصر ويُحسون رفيف الأجنحة الهشّة لكل ما حولهم. حدث الحكيم هوي تسي بعد صمت طويل عن سمك الفضّة الصغير وهو يسبح في النهر كما يحلو له، وهذه مسرّته.
قال هوي تسي وقد أذهلته كلمة الحكيم:
ـ أنت لست سمكة يا تشونغ تسي، فكيف عرفت مسرّته؟
ردَّ تشونغ تسي:
ـ إنك لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف مسرّة السمك.
لم يكن صبي الحكاية مثل تشونغ تسي يمضي متنزهاً على شواطئ الأنهر الهادئة منصتاً لحديث العناصر بعد حروب طويلة، كانت حياته أضيق من ذلك لكنها منحته أوقاتاً قصيرة نادرة يخرج فيها من طبيعته ليكون حفنة تراب أو قطار جرحى أو طائراً محلّقاً ينظر للنيران البعيدة تومض وتختفي.