نحن الجلاس الأزليون في مقهى الطرب الأصيل، الباحثون عن المتعة الخالصة في نسغ الأغاني ، نطيل بسماعها ما تبقى لنا من أعمار، وندرأ بكلماتها أشباح مستقبل غير معلوم الحساب والوحدة القاتلة وبقايا لهفات الحب. تصغي أفئدتنا قبل أذاننا لصوت الأحلام فيها ورنينها الأزرق ، مع روائح الليل والياسمين كأننا نستنطق الخلود، كتب علينا أن نمكث مصغين صامتين منذ ساعة وقوعنا في الغواية كمن يكفر عن ذنوب قديمة ، حاسري الرؤوس ، بحركة محدودة بغير وجهة وكأن قوة غير منظورة تراقب أفعالنا وسكناتنا دون أن تنتبه لأوجاعنا أو مخاوفنا أو كأننا نعيش خارج الزمن بينما تتسرب النغمات بجواباتها وقراراتها وأوجها حيث آخر ذرة من أقاصي النفوس وليالي الأنس المختزنة داخل أرواحنا منذ وقت الشباب مع الدوران اللامتناهي للأفلاك . تعلقت قلوبنا بكلمات تلك الأغاني وموسيقاها الراقصة التي تجوب الطرقات وقد أصابتنا بدوار أبدي حتى لم نعد نعرف شيئاً عن العالم ولون السماء وجمال الليالي وحياتنا الا من خلال ما تخفيه حروفها التي تزخر بالسحر في بواطنها وأرقامها وأوقات أذاعتها ومغازيها السرية، تأتي أحياناً أصداؤها من عالم سفلي مثل هدير موجة خادعة ، وأخرى كهدوء الوميض السماوي المتلألئ بين الضباب فوق بحيرة ساكنة وسط الظلام . مغنون جوالون ، عازفون وملحنون ، رواديد فرق الخشابة ، مصفقون ، دنبكجية وناقرو دفوف ، موسيقيون عميان ، صبيان عوالم ، سميعة متفاوتون في درجات التصوف وعشاق مجهولون أضنتهم الخمرة وأشجان الطرب .
كنا متسكعو ليل حيارى ، هائمين ، فلم نحاسب أنفسنا وقت أن دخلنا أبوابها أول مرة ، تلك الأبواب التي لا يعلم أحد مسالكها ومداخلها المتشابكة بين حارات وأحياء مهجورة وخلاءات موحشة وأطناب عزلاء تشبه تخطيطاً للكون، بعد أزمان أغلقت تلك الطرق وسدت المسالك وعتمت المحاور وتغير الندل الواحد بعد الآخر ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من تحولوا إلى رواد دائمين ينتظرون آخرة المصير ، لخبرتهم الفذة في التذوق وحسن الاستماع ومنهم تعلمنا تلكم الفنون الخالدة التي دأبت الأجيال على نكرانها والتشكيك المستمر في وجودها ، وبعضهم يرفض نسيانها .
أتذكر أننا دخلنا المقهى أول مرة من خلال بوابة ليلية صدئة مازلنا نجهل موقعها ، لا ندري كيف ولماذا جئناها، حيث لن يكتب لنا الخروج منها ثانية ، فصادفتنا الاستراحة الدافئة عند المدخل الأول المعتم بسلالم مدرجة، فما أن تجتازها حتى ينتظرك ومض فانوس كبير وشمعدانات طويلة تلونت بضوئها الجدران الرطبة والسقوف العالية، حيث رسمت صور لملائكة مغمضين عراة ونجوم على هيئة أبراج مجسدة بنظم كوكبية متراتبة وموازين ، وتدلت مصابيح صغيرة ، مرايا دائرية مبثوثة، ومكتبة فنية بشتى اللغات وفونغراف يشتغل ويدور حول أبرته طوال الوقت وكل الأيام حتى ينمحي النور الإلهي عن الوجود ، بجانبه وضعت زرافة برونزية ، بكرات أشرطة صوتية ملفوفة وبعضها كتبت نوتاتها على رقوق ، سجاجيد وزرابي كاشانية أشتغلها حرفيو بلاد فارس على مر العصور ، وضعت على الجدران وصفت على القنفات المتهالكة حيث يحلم النائمون أحلامهم الشرقية الدائمة التي علينا تقبلها كحقيقة ، وسط آنيات الورد المزروع ، معتكف أسمه ( مازندران ) لمن يشعرون بدنو الأجل ، وقف على بابه كلبا صيد بلون أسود ، وساعات قرب الزوايا تشير بعقاربها إلى توقف الزمن .
حياتنا ما هي إلا لحظات من عبث الخيال، قد تمر مثل ومضة وقد تنقضي في لحظات ، قد تمر بنا مجازات نحسبها حقائق ، وحقائق تمر لكننا سنحسبها مجازات ، المقهى التي كنت احسبها قد افترست تأريخ حياتي ، هاهي تعود لافتراسها مرة أخرى من خلال الذكريات المعلقة على هوامش حيطان نسيانها، وقد تحولت أشياؤها إلى ماض وطعم لا يمكن استعادته أو مفارقته وهو على أهبة الزوال ، العالم المستوحد الفريد لسقاتها المتجهمين الطيبين ، بعصائب رؤوسهم الكركوكلية وشواربهم الكثة المفتولة وهم نظراء بعض ، يقدمون الشاي بالمجان متغاضين عن المفلسين الدائميين ، زوالي القنفات الحائلة الألوان والأرائك المائلة منذ شاهدتها لأول مرة ،السماورات الأصفهانية المصفرة ، الراديو القديم ماركة فيليبس وساعات الحوائط المتوقفة على زمن غابر ، رائحة ذروق العصافير عند السقوف المتلاشية في العتمة الشبحية ، غرف السطح الموصدة بلا أقفال ، مجازاتها وأواوينها المتقاربة التي تشغل مساحتها ما يقارب نصف مدينة ، كصورة الممالك القديمة، المتحاورون المتلاصقون على أرائكها كتفاً لكتف وعيونهم ترنو إلى أشياء غير منظورة خلف الزجاج ، وهم يهزون رؤوسهم بحركات متواشجة يميناً وشمالاً والى أمامهم والى الوراء ، لا يعرفون الكلام، حتى أن قمصانهم تصدر هفهفة وهي تتماس فيما بينها لفرط الالتفات، أنوار الغروب وهي تخفت على واجهات الزجاج العريضة المطلة على وجوه كالعقيق الأبيض الطافي، وعلى مقرنصات منارة الجامع المقابل وزخارفها الحادة التراكيب عند نهاية الدرب الحلزوني وفضائه المفتوح، بدت ملامح روادها كلوحات برونزية تذكارية أو أشبه بخطوط لشخصيات وهمية في روايات العصر الفكتوري، متى آخر مرة كنا هنا، ها أنني أرى أحلامنا الماضية على تخوتها ومراياها البراقة ، كانت تضيء عبثا ً وتتبدد على أبهائها الخالية ، حيث رسمت جدران مطبخها الخلفية بحدة باللون الأزرق الشاحب لدخان نار الموقد الخشبي والنارقيلات وأحلام الأجيال الموءودة . تنتشر على الموائد مع قصاصات الأشعار الما وراء الزمن أو التي سبقتها بسنوات ،المقالات والقصص المتهرئة لكثرة ما حملت إلى صحف رفضتها، الأشعار النوابية وكلمات الأغاني الممنوعة، الجرائد والكتب التي دخلت مؤخرا خلسة إلى البلاد ، مصورة وأصلية مع آخر الأخبار والفضائح تتناقلها سرا الأفواه وتوصد عليها أبواب السمع وقد علت مسحة كئيبة وجوه الرواد المياومين أبان فترات الانتفاضات الكبيرة وأضطرابات العاصمة والحروب المتوالية وفترات الجوع، بينما كان ممكنا من الكوى العالية رؤية السماء المتوشحة بلون المساء ، لم نتحسس وقتها بعمق فورات الوهم اللذيذة التي عشناها والتي تناثرت مع الأيام على أديم جدرانها الداكنة التي تبرقشها حمرة معدنية في لون الصدأ المغبر وأبخرة الشاي المغلي ، وقد كستها صحائف من الخزف الملون ، ذابت تلك الحوادث والأفكار والمنازعات ،وانحشرت مع حقائب المسافرين الأبديين والمغادرين مع قصائدهم التي نظموها عن الأمل ، والمودعين إلى لهيب المعارك والجبهات تصحبهم الأناشيد الصاخبة المتوعدة، حتى يحين الميعاد الموقوت لعودة الأجسام والوجوه الضامرة بعد سنين مع الطيور الشاردة إلى أرائكها الأليفة تحت ظلال المقهى البستانية وشتائها الدافئ ، وتقلب ما تبقى لها من صفحات في كتاب اللوح الأزلي المحفوظ ، لنسجلها معا ثانية قبل أن تدثرها أو تجرفها في طرقاتها الملتوية المتسارعة ، كأوراق ذابلة ، وتضيعها تحت أتربتها المستديمة عواصف رياح الأبد.
كان مؤسسو المكان الأوائل يتصورونها عاصمة عالمية لعرش الألحان ، وأن الكون عبارة عن أغنية خرافية يديرها الرب لكي يصلح وفقها الخلل الأول . يتذكرها الآباء يوم بنيت عند بداياتها فاتحة القرن الماضي أو في زمن لا يعرف مبتدأه أو منتهاه أو تحديده من سعف النخيل والجذوع الغليظة وجريد النخيل ، أما الآن فما عادت تفتح تلك الأبواب المغلقة بعد أن أنتشر الوباء المعدي الثالث بين البشر ، فآثر زبائنها من قباطنة الخيال قضاء ما تبقى لهم من سنوات وأيام بين أواوينها المتصلة وجنباتها السرية المعتمة وأعمدتها المرمرية ، إلا من واجهات زجاجية سميكة بلون القهوة الداكنة تطل على فضاء واسع تتغير أطيافه بتغير ألوان النهار ، وفي الليل يصمت الحاكي لساعات طويلة فلا تسمع إلا الآهات المترددة والترنيمات الصغيرة ونحنحة لآخر الساهرين، بعد أن أغلقت حانة الخمرة الرخيصة المجاورة للمبنى، ثم تتوقف الأصوات عدا همسات متصلة مترددة تأتي عبر البوابات التي ليست لها مخارج .
كنا صغاراً ونحن نحوم حول المقهى الذي منعنا من دخوله ، نحتشد قربه لساعات منذ بزوغ الصباح إلى طلعة الليل حتى يأذن لنا بوابها أن نقترب قليلاً لكي نرهف السمع من خلف الجدران لأصوات زهور حسين، فلفل كرجي، صالح الكويتي داخل حسن وصديقة الملاية ، بأصواتهم النادرة المبحوحة التي لا تبرح القلب كرقى سحرية، ثم دخلناها وقت الشباب، لنستمع إلى فيروز وأسمهان وشادية وفائزة ووردة ونجاة وهانحن على عتبات الشيخوخة وآلام الجسد المتناوبة والشيب ، مازلنا نتذكر تلك الأيام البعيدة وذلك الصوت الإلهي الذي زار بغداد ذات مرة وغناها قلعة الأسود، أتت من أرض الأهرام ووصلاتها الليلية داخل المقهى وهي تلف رأسها بعصابة مزركشة أو عقال مؤدية أغنياتها الصوفية وكأنها من زمن آخر، غنائية صافية ، تشعرك بالراحة وبمرور الوقت البطيء في الأماسي القديمة التي كادت تنفصل عن أزمانها، أنها يقظة الأسى الأخيرة ونبع صلاتها ونبض التاريخ المشترك لأحلامنا .
تربت أذاننا في موروث السماع دون أن تتغير الأغاني التي لم نمل ترديدها كطقوس وثنية، دون أن يستحوذ على نفوسنا الضجر ، مختلف الأغاني رددها البحارة والخدم والطهاة والرعاة والعمال المياومين ، والزائرات الطارئات والأمهات المنتظرات، رغم أننا لم ننتبه مرة واحدة إلى لحنين متطابقين خلال أغلب الوصلات، فالألحان أنتجت كلماتها، والكلمات أنتجت ألحانها التي باتت تدور بشكل لانهائي في فضاءاتها عبر الوقت والأزمنة الخاصة وفق جاذبية كل حنجرة وموعد صعودها وتطوراتها وتبدلات بروجها في غضون وآونة متعددة فلا نتعرف في الغد أننا سمعناها. ولم يكن غريباً أن تنتقل الأغاني مع تبدل الرياح مثل حبوب لقاح الأقاحي فتتهادى خارجاً دائرة بين الأشجار البعيدة وعلى الطريق الفاصل الموصل للمقهى المنزوي ومتاهاته المتعرجة في مختلف الجنبات والمنحدرات الأرضية.
يا مشرق البسمات ، أضئ ظلام حياتي ... هكذا بدأت الكلمات ، كلها دروب تقود إلى دروب تزداد متاهاتها بين كل منعطف ومجرة ، تربطها شعرات صغيرة مثل قناديل دامسة أو رؤوس مقطوعة علقت على الزوايا. كان شيخنا الأول أبو العلا يحفظنا الكلمات وأغاني أبي الفرج الأصفهاني والآيات بالفلقة فانطبعت في أذهاننا منذ الصغر آلاف الأبيات المنتقاة في الغزل وموشحات مختلف العصور الأندلسية وأقوال حكماء مختلف الأزمنة، ديك الجن، جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي والخيام والسطور المنتقاة من ألف ليلة وليلة والعقد الفريد وأجوبة الألغاز الكبرى مع طقاطيق ومنلوجات وأدوار بشتى الأساليب، كانت صورة زرياب محفورة بمعدن له بريق الألمنيوم فوق صدورنا من جهة القلب، يتغير معدنها حسب تسلسل المصغي السميع وتقدمه في عمر السماع وأجادته وقوة حافظته، حيث كنا نلعب الزورخانه وفق طقوس سماع خاصة أو على وقع أنغام سنطور أو ناي أو جوزة أو قانون وقت الشباب ، بعضنا قدم من مناطق بعيدة وأراض وعرة وأقاصي مجهولة ، تكتنف رحلاتهم الأخطار ، بوجوه مختلفة وعروق نادرة وأزياء غريبة ، كانت الأغنية ذاتها تعاد على أسماعنا مئات المرات ، تأتينا من أقدم العصور ، كأنها تحتوي على شفرات متكررة دون انتهاء ، حتى بتنا نحن الجالسين الأوائل ننتظر تغيير الأغنية التي بدأت منذ خلق العالم ، صبح مساء ، رغم أننا قد فقدنا السمع منذ سنوات طويلة ، لكننا مازلنا نحلم ونحن نراقب الشريط اللولبي متوقعين أن تحركه ذبذبات الحاكي المهجور، بعد أن ضعفت حواسنا وتوقفت ذاكراتنا وقدراتنا على التخيل منذ دهور ، وتيبست عروقنا على الكراسي المتحركة بكل العدة والاستعداد على أعتاب شيخوختنا بمصائر مختلفة وترنيمة وحيدة لاستقبال الطارئ الغريب ذي الطلعة المتخفية والذي لم تغره الأغنية إذ لا يمكننا مهما فعلنا أن نتحاشاه ..