يواصل محرر (الكلمة) هنا استكمال دراسته النقدية لرواية «الطلياني» ويكشف فيها عن دور الشخصيات في رسم خريطة العلاقات المعقدة في الواقع التونسي، والكشف عن سريان العطب في مؤسساته وفي نفوس أبنائه معا، وكيف أدى هذا إلى تدمير طاقته وقدرته على النمو والتطور، وملأه بالغضب الكظيم.

«الطلياني» .. لعبة مرايا بأقدار الشخصيات المعطوبة

صبري حافظ

يطرح أي تناول نقدي جاد للشخصيات في الرواية، أي رواية، مجموعة من الأسئلة الأساسية: «هل الشخصية إنسان يعيش حياته العفوية الحرة؛ أم أنها جزء من حبكة سردية ما؟ وهل تستطيع أي حبكة أن تحاكي الحياة الحقيقية في اعتباطيتها وتشتت وقائعها؟ هل يتحول الشخص في الحبكة إلى أحد عناصرها ويذوب أو يتحلل فيها؟ أم أن الحبكة تبدو في أحد مستوياتها وكأنها التجلي المتعين للطبيعة الداخلية للشخصيات؟ وكيف نفهم شخصيات رواية ما حينما يتضح لنا بجلاء أنها بنت خطة مسبقة أو نمطية، بينما تنطوي الرواية نفسها على شخصيات أخرى تبدو حقيقية ومترعة بالحياة؟»(12) هذه الأسئلة النقدية مهمة في الرواية لأن الشخصية في حقيقة الأمر أحد مرتكزات التأويل لإحالتها على العالم الخارجي السابق لأي تعامل روائي معه من ناحية، ولأنها جزء أساسي من النظام السردي الذي ينطوي عليه الشكل الروائي من ناحية أخرى. لأن «كتابة الرواية لابد وأن تنطوي على عملية إخضاع الشخصيات نسبيا لنظام الشكل الروائي، والمحافظة في الوقت نفسه على قدر مقنع من إحالاتها إلى العالم التجريبي الخارجي بصورة تمكنها من اقناع القارئ بحقيقيتها».(13)

ومع أن عبدالناصر هو الشخصية المحورية في هذه الرواية، فإننا لسنا بإزاء رواية تروي لنا سيرته، وإن مكنتنا من استيعاب أدق تفاصيلها، وإنما بإزاء رواية بطل إشكالي بالمعنى التقليدي لهذا البطل عند لوكاتش، لأنها تتعقب «صيرورة رحلة الفرد الإشكالي نحو نفسه»؛(14) وتتقصى أوجاع تعرية الذات المضنية في هذا النوع من الروايات. فرواية السيرة، والتي يدعوها لوكاتش برواية الشكل الخارجي Outward Form محكومة سلفا بالمسيرة الزمنية التعاقبية للسيرة، وبالتالي فإن شكل الرواية، وللشكل هو الآخر محتواه، يكون محكوما بتلك المسيرة التعاقبية التي تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت كمحددين طبيعيين له، أي الشكل الروائي، ولها، أي السيرة المروية فيه. وهي في الوقت نفسه سيرة بحث عن معنى يدور في العالم الخارجي.

أما رواية البطل الإشكالي، والتي يدعوها برواية الشكل الداخلي Inner Form فإنها تنهض على «الوعي بأن تطور شخصيته وتبدلها هو الخيط الذي ينهض عليه النسيج الروائي أثناء تفتحه أمام القارئ».(15) حيث أن البحث عن المعنى لا يدور في الواقع الخارجي، وإنما بشكل أساسي داخل الشخصية نفسها. وبالتالي فإن تقديم هذا الواقع الخارجي لا يتغيّا صياغته أو معرفته، كما هو الحال في رواية السيرة التي تبحث عن المعنى فيه، وإنما يسعى في حقيقة الأمر إلى تقديم فهم الشخصية له باعتباره الفهم الأدق له، أو الصورة التي يأخذها القارئ عنه. ولأن الشكل الروائي بالمعنى الذي فصلته لابد أن يصبح جزءا من التاريخ الشخصي للبطل، بحيث يكون الميلاد وصيرورة التحول جزءا مكونا من حدود الشكل المفروض عليهما وليس مجرد أداة لإبلاغ المعنى. فما تنطوي عليه الرواية بين بداية حياة البطل ونهايته، ليس مجرد صيرورة سيرته الشخصية؛ وإنما «الوعي بأن تطور شخصيته وتبدلها هو الخيط الذي ينهض عليه النسيج الروائي أثناء تفتحه أمام القارئ».(16)  

فالبطل الإشكالي متمرد حرون، يعاني عادة من التهميش الاجتماعي والقهر الداخلي، الذي سنكتشف بذرته في صبا كل من عبدالناصر وزينة، فيسعى إلى بلورة بديل للهوية الاجتماعية الجاهزة التي يرفضها بشكل عام، كما هو الحال مع شخصية عبد الناصر في الرواية. فمرور الزمن وتشعبات السرد تصبح في الرواية نوعا من جنيولوجيا التكوين التي تتيح لنا متابعة عملية التحول التي تنتاب الشخصية، وهي تقع في شراك واقع أشد تشابكا وتعقيدا من قدرتها على السيطرة عليه. وحتى نتعرف على شخصية عبدالناصر التي منحت الرواية اسمها، علينا أن نتأمل بقية الشخصيات في هذه الرواية، وقد استطاعت أن تخلق لنا عددا من الشخصيات الحية التي تتحرك على الورق بلحمها ودمها، والتي سنجد أنها في الوقت نفسه مرايا لبعضها البعض من ناحية، وللواقع الذي صاغها وشاركت في صياغته من ناحية أخرى. كما نجد أن أي فهم حقيقي لعلاقاتها تلك يحتاج منا إلى رسم خريطة لأشراسها المختلفة وتشابكات هذه الأشراش مع بعضها البعض.

الشخصيات المعطوبة وتشابكات الخريطة:
فلشخصيات الرواية الأساسية منها والثانوية أبعادها الاجتماعية والفكرية والنفسية معا؛ مما يجعلها شخصيات حقيقية قادرة على أن تبقى في وعي القارئ وفي الرواية التونسية، وربما العربية من ورائها، فيما بعد. حيث سيظل كل من «عبدالناصر» و«زينة» بأحلامهما وصلابتهما وهشاشتهما وتناقضاتهما معا علامتين بارزتين على جانب مهم في شخصية الإنسان التونسي، والمثقف العربي من ورائه. و«عبد الناصر/ الطلياني» الذي منح الرواية اسمه، هو الشخصية المحورية في هذه الرواية. حيث يوشك زمن الحكاية أن يكون هو عمره كله منذ سنة ميلاده عام 1960 وحتى زمن انهياره بعد وفاة الأب وركله لعلالة الدرويش في المقبرة في يوليو 1990. نتعرف على جينيولوجيا حياته كلها، منذ طفولته الباكرة ومحاولة انتهاك علالة الدرويش له، وحتى تخثر أحلامه في الثورة والتغيير بعدما أجهضها انقلاب بن علي وغوايات مؤسسة السلطة الماكرة، مرورا ببدايات استقلاله بغرفة أخيه صلاح الدين الذي انتقل لفرنسا عام 1966، وقد ورث مع الغرفة المجموعة الموسيقية التي تركها أخوه وراءه، فساهمت في عملية تكوين ذائقته ومشاعره في صدر الصبا وشرخ الفتوة بطريقة تمتزج فيها الروافد العربية بالروافد الفرنسية: «أغاني فيروز والشيخ إمام وليو فيري وجان فيرا وجاك برال وغيرهم» (ص41) وهذا الامتزاج بين الثقافتين العربية والفرنسية من بواكير الصبا هو الذي يمنح عبدالناصر تكوينه الثري والمعقد في آن.

لكننا سنعرف أيضا ومنذ وقت مبكر في الرواية الجانب الحسي في حياة عبدالناصر، وكيف أنه يحمل فيه بعض أوزار صلاح الدين، وعلاقته القديمة مع «للا جنينة» التي أغدقت عليه خبراتها الحسية وقادته بليونة في معارج الجسد، عند سؤال المواجهة في بدايات السرد بين الأخين: «لماذا هربت إلى فرنسا وتركت جنينة؟ .. تركت جنينة وحيدة فدمرتها». (ص20) وهو الأمر الذي ينكره صلاح الدين فيواجهه عبدالناصر بما يعرفه: «ما أعرفه أنكما كنتما عاشقين، وفضضت ختمها، ولم تشأ الزواج منها». (ص20) ويدافع صلاح الدين عن نفسه بأن الأمر ليس كما يراه أخوه، فقد رفض أن يكون حسب وصفه «تياسا في حفل المحافظة على الأخلاق الحميدة» (ص22) وإن اعترف «ربما كنت السبب في تزويجها من الدرويش علالة أو سببا في وفاة والدها، ولكنني لا أريد أن أدفع فاتورة مبغى الحاج الشاذلي». (ص22) الذي يكسب موته المبكر كمدا أو إحساسا بالعار، الموت في هذه الرواية دوره كقدر اجتماعي، وليس كقدر ميتافيزيقي، وهو الأمر الذي سيتكرر في معظم ميتات الرواية.

لكن ما أن وقعت رواية جوركي (الأم) بين يدي عبدالناصر حتى فتحت أمامه هو ورفاقه من العقول الشابة النهمة للمعرفة عوالم جديدة (ص41) سرعان ما أكسبها كتاب جورج بوليتزر عمادها الفلسفي، الذي يشير إلى وحدة روافد الماركسيين العرب الثقافية مهما اختلفت بلدانهم. فقد كانت ترجمة (المبادئ الأساسية للفلسفة) تقرأ من تونس حتى اليمن، وقد ورد ذكر الكتاب أيضا في رواية (ابنة سوسلوف) لحبيب عبدالرب سروري، وبنفس المعنى والمنهج السردي. فقد تربت عليه أجيال من اليساريين العرب. وبعد بدايات القراءات اليسارية نتعرف على اجتماعاته في بيت الأستاذ «فتحي» في حي «باب الجديد»، الحي الذي نشأ فيه عبدالناصر في تونس العاصمة، قبل سجن الأخير بعد أحداث 26 يناير 1978 في قضية جريدة الشعب السرية الناطقة باسم الاتحاد العام التونسي للشغل. ثم نصل معه إلى مرحلة الجامعة، حيث قرر أن يدرس الحقوق، ضد رغبة أبيه في أن يدرس الطب الذي أهلته درجاته لدراسته. ورغم إلحاح صلاح الدين عليه لأن يدرس إدارة الأعمال أو التجارة. ولكنه أراد من البداية أن يخط مساره الخاص به وحده.

ثم نتعرف على رحلته في الاستقلال الفكري تلك وما سببته له من مشاكل مع أسرته، وصدام مع أبيه. لكن أخاه صلاح الدين، وهو نقيضه الذي يمثل النموذج المرتجى في الواقع البورقيبي المؤدلج، وفي سياقات العولمة فيما بعد «بما أن الدولة، وما أدراك ما  الدولة، أرسلته إلى فرنسا، وما أدراك ما فرنسا» (ص30) كان أول من ينصفه ويعترف بتميزه. مع أن عبدالناصر كان يعي تناقضه الكامل معه. وقد أصبح صلاح الدين صورة مجسدة لما يدعوه فرانز فانون «جلد أسود وأقنعة بيضاء»، وكان هذا هو سر نجاحه الاجتماعي وحتى السياسي الكبير في مجتمع مستلب أو/و مقهور خاضع. أما عبدالناصر فقد انتهج الطريق المعاكس، حتى اصبح زعيما لليسار في الجامعة في الثمانينيات، حيث كان يعتقد أن «البلاد تعيش حالة مخاض ثوري وأن النظام، كزعيمه، في خريفهما، وستأتي أمطار الدم لتطهر البلاد من الجراثيم التي عششت فيها. سيقَوّض العمال المفقّرون، والفلاحون المعدمون، دولة العمالة ونظام الكومبرادور والإقطاع، ليقيموا ديكتاتورية البروليتاريا. ها قد حان دور الحركة الطلابية وطلائعها الثورية». (ص80)

وكان إيمانه بأهمية الدور الطليعي الذي تنهض به الحركة الطلابية هو الذي أبقاه عمدا في الجامعة برغم تخرج الكثيرين من أقرانه. وبرغم إلحاح عدد من أقرب اصدقائه عليه: «اكمل استاذيتك، كفاك نضالا. إلى متى ستظل تعيش عالة على أخيك صلاح الدين؟ ألا تعرف أن الجميع يفكر في مصلحته؟ ألم تر رفاقك ماذا أصبحوا؟ والذين معك أؤكد لك أن نصفهم حمقى، ونصفهم الآخر جواسيس مدسوسون يكتبون عنك التقارير.» (ص94) لكن ما أوهن علاقته بالتنظيم، ودفعه في الوقت نفسه إلى أحضان «زينة»، هو هذا الخلاف الجذري بينه وبين قائده في التنظيم، المحامي «الصحبي القروي» بشأن التعامل مع «زينة» حينما قال له آمرا «لابد من تحييدها، من عزلها، من تصفيتها!» (ص63) ولما رفض هذا الأمر بدا الدخول إلى أروقة  الوجع والألم، وانقلب عليه المحامي، ووجه له اتهاما بأنه من «الثقفوت: وهي سبّة لتحقير المناضلين ذوي المنزع الفكري التنظيري». (ص65)

والمدهش في الأمر أن هذه التهمة، وهي إلى حد ما حقيقية، هي التي دفعته إلى أحضان «زينة» النموذج المصفى «للثقفوت» وحرصه على استقلاله الفكري في الرواية. ومع تشابكات أشراشها التي تتكشف أثناء تفتح الأحداث، هي التي  دفعت به بشكل ما إلى البحث عن استقلاله الاقتصادي كي يرفد به استقلاله الفكري، فقرر التخرج من الجامعة، والبحث عن عمل. وقد تعرف صدفة في «مقهى الحاج» على «عم حسن» الذي أدخله إلى عالم الصحافة من القاع الضروري لإتقان هذا العالم ومعرفته حق المعرفة، من مكتب تصحيح مواد الجريدة وهي الجريدة الرسمية، التي تصدر بالفرنسية. فصعد سلّم الصحافة من أوله. حتى كانت المواجهة بينه وبين «سي عبدالحميد» مدير الجريدة ورئيس تحريرها حينما صحح «خطأين شنيعين» (149) في مقاله، ودارت بعدها مواجهة بينه وبين الرقيب وسكرتير التحرير والمدير العام نفسه (ص 150 -152) أثبت فيها جدارته اللغوية وكفاءته، واستحق إعجاب رئيس التحرير وثقته. وبدأ بعد تلك المواجهة طريق الصعود الزلق وغواياته المسؤولة عن تحول الكثير من المثقفين إلى أدوات في آلة النظام الاستبدادي الضخمة والمعقدة معا. فبعد ممانعات كثيرة للدخول إلى مجال الصحافة، والاكتفاء بمهنة التصحيح الروتينية، وانتظار طويل لوظيفة في مجال تخصصه القانوني لا تأتي بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية، قرر اغتنام فرصة عرض المدير العام عليه بأن يصبح صحفيا مترسما في جريدة حكومية.

فقد تخلق إعجاب متبادل بين الرجلين، وما جذبه إلى سي عبدالحميد  أنه «لم يكن دستوريا مخلصا، بل هو شخص، كما اعترف له ذات مكاشفة، كان قريبا من الديمقراطيين داخل حزب الدستور، ولكن البلاد ضيقة والديموقراطية المزعومة غير نزيهة. اعترف له أيضا في لحظة صراحة نادرة أنه لم يختر حزب الدستور بل فُرِض عليه، وإلا ترك المكان والمكانة لمن هم دونه كفاءة». (ص154) وهو الأمر الذي يتكرر مرة أخرى مع «عم حسن» في اعتراف مماثل.(17) هكذا تتخلق فرص المساومة على المواقف والمبادئ في عالمنا العربي. تبدأ بالجانب الإنساني، وضغوط الحاجة، ثم تتواصل التبريرات. يقول عبدالناصر عن سي عبدالحميد بعدما تعمقت علاقته به «لو عرفه قبل سنة لاعتبره من كلاب الحراسة، ومزيفي الوعي العام، والمنافحين عن نظام فاسد آيل للسقوط». (ص155) وهو اعتراف ضمني بمدى تغير عبدالناصر نفسه، أكثر مما هو شهادة على أي تغيير في سي عبدالحميد.

وقد ذلل سي عبدالحميد كل العقبات التي حالت بين تعيين يساري سابق، وناشط طلابي معروف له تاريخ مع الأمن وملف في «القرجاني»، في جريدة ناطقة باسم النظام وباللغة  الفرنسية، وما أدراك ما الفرنسية! وسرعان ما أثبت عبدالناصر نفسه، ووطد مكانته في الجريدة ولدي مديرها سي عبدالحميد معا. وتعمقت العلاقة بينهما حينما اكتشف أنه يشاركه حبه للرواية من الروايات الروسية حتى الروايات الأمريكية. واقترح عليه إصدار ملحق ثقافي أسبوعي فبدأ العمل عليه في مايو 1987، وصدر 3 سبتمبر مكرسا عبدالناصر كصحفي بارز. (ص171) فقد ارتفع معه توزيع الجريدة يوم صدوره، فأثار غيرة زملائه وحسدهم. ولما شن عليه سكرتير التحرير، «لطفي»، حملة شعواء احتفى به «سي عبدالحميد» وقرّع لطفي علنا «هذا كله يعني نجاح الملحق، ونجاحك شخصيا. فنحن بارعون في تحطيم الأشياء الجميلة وتبخيس جهد الآخرين خصوصا إذا كان نجاحهم باهرا .. أليس كذلك سي لطفي؟»(ص172) ويواصل سي عبدالحميد رعايته في الجريدة، ويقدم له، وقد توسم فيه القدرة على أن يصبح صحفيا ناجحا، مفاتيح الصعود والنجاح في صحافة عالمنا الموبوء بالنظم الاستبدادية: «الصحفي الحقيقي هو الذي له صلات بالداخلية ... بالكبار فيها. يتزود بالمعلومات ليعرف اتجاه الريح. لابد له من علاقات مع دوائر القرار، شريطة ألا يصبح واشيا قوّادا نمّاما رخيصا فتغلق دونه حنفية الأسرار، أو لحّاسا متزلفا حقيرا فيُركَل ويرمى به خارج الدائرة» (ص157)

ويستوعب عبدالناصر الدرس وهو يتقدم في عالم الصحافة ويكتشف كلما تقدم فيه خواء النظام من الداخل. فما أن اطمأن له سي عبدالحميد الذي يعرف خلفيته اليسارية ومعارضته للنظام، حتى يتنصل له من الحزب ومن سلبياته التي يعرفها الجميع ويعارضونها. وسوف نكتشف أن عبدالناصر قد استوعب الدرس، وتفوق فيه على أستاذه بعد شهرين فقط من نجاح  ملحقه، أي صبيحة انقلاب بن علي، وقد كان عدد الجريدة قد انتهى إعداده، حيث تصدرته صورة الزعيم الذي أزاحه بن علي. عندها «نصح عبدالناصر سي عبدالحميد بإصدار عدد استثنائي حالا ولو في صفحة واحدة. نصحه أيضا بأن يختار صفه من الآن مع بن علي، فبورقيبة لا مستقبل له. حثّه على أن يقامر ووعده بالربح. في تلك اللحظة رن الهاتف في مكتبه. كان الجهاز المخصص للرقم الخاص الذي لا يعرفه إلى النافذون في القصر والحزب والدولة. أسرع سي عبدالحميد متلهفا. لم يسمع المكالمة، ولكنه كان متأكدا أنها من شخصية مهمة. سمعه يقول لمخاطبه: طبعا ... طبعا .. بدأنا طبعة استثنائية، تكون جاهزة في أقرب وقت. بالتوفيق.» (ص 232)

وهكذا أصبح عبدالناصر هو الذي يقود سي عبدالحميد الذي أسلم له القياد، بل وكلفه بأن يشرف بنفسه على إعداد هذه الطبعة الاستثنائية من الجريدة، على أن تصدر بعد ساعات. فأنجزها عبدالناصر بكل كفاءة، رغم أن خبر موت أم «زينة» وصله وهو عاكف على العمل، فلم يتوقف عنه، وإنما أعطى العمل الأولوية حتى أنجزه. ولم يذهب تقديم عبدالناصر الجانب العام في الجريدة على المسألة الشخصية المتعلقة بوفاة أم زوجته سدى. فما أن أنجز العدد الاستثنائي حتى مكنه سي عبدالحميد من هاتفه الخاص وسيارته وسائقها (ص234) كي تقله إلى أقصى شمال البلاد للعزاء. هنا لا يجب أن تفوتنا الدلالات الرمزية  لهذا الأمر، حيث بدا عبدالناصر بالفعل في سيارة سي عبدالحميد المرسيدس والسائق، خاصة لأهل زينة من الأقعار وللقرية كلها، وكأنه أحد أفراد النخبة الحاكمة. وهي الدلالات التي تعضدها تصرفات زينة التي لم تقدمه إلى أبيها العجوز وأخيها (ص236). وتصور أهل القرية أن «نجلاء» التي صحبته في السيارة هي زوجته، كل هذا له دلالاته الرمزية التي تجعلنا لا نلوم زينة، وقد اتهمته قبل هذا الموقف، وفي مواجهة ساخنة بينهما: «بالأنانية وعدم التفهم ودفعها إلى الالتزام بما لم تختره، والعمل على تحطيم مستقبلها والقضاء على طموحاتها واختزالها في امرأة تقليدية، يستعبدها المناضل الثوري الذي ترك الثورة، ليطبّع مع النظام السائد، ويعمل كلب حراسة في إحدى أجهزته الأيديولوجية، في صحيفة ناطقة باسم الحكومة تبرر القمع والاستغلال». (ص193)

فهل كان لتخثر علاقته بزينة دور في هذا السقوط؟ أم أننا بإزاء دراسة مراوغة في غوايات الصعود والسلطة، وكيف أن السلطة الفاسدة تعهّر الجميع؟ وهل كان إخفاق زينة في الخروج من ذاتها الضيقة، والالتحام بزوجها ومساندته بحق، هو الخطأ التراجيدي الذي عصف بهما معا؟ فقد بدأت رؤية عبدالناصر للحياة في التغير واكتساب مسحة من الواقعية، وميلا للبراجماتية، وانحدارا إلى نوع تونسي خالص من الكلبية، مع بدايات تخثر علاقته مع زينة، أو اكتشاف افتقارها للسخاء، وكونها حقا من «الأقعار». ومع تأخر المناظرات وتنائي الفرص في الحصول على وظيفة أخرى لا تستأديه أية مساومات. لكننا لكي نجيب على هذه الأسئلة لابد من الوعي بأمرين أساسيين: أولهما أن الرواية تستخدم الشخصيات كلها في لعبة معقدة من ألعاب المرايا التي نقرأ فيها قدرا كبيرا من انعاكاسات أقدار كل منها على مرايا الآخرين. وثانيهما أن الرواية تستخدم تقنية الاستشراف والإضمار الدالة التي ترهص بكثير من أحداثها القادمة، ولكنها وهي تسعى إلى تأسيس قوانين الواقع الجائرة في عالم مترع بالفساد والاستبداد والقهر، تجعل تلك الاستشرافات وقد نسجها السرد عبر حبكاته الثانوية أدوات لكشف تغلغل العطب في نفوس الشخصيات وفي جسد المجتمع، لحث القارئ على رفض الفساد مهما استشرى في الواقع، ومهما تذرع بالسلطة، حتى ولو كانت سلطة العلم والمعرفة، كما هو الحال فيما جرى لكل من حمادي وزينة.

لعبة المرايا وتقنيات الاستشراف والإضمار:
فإذا كان ما جرى لزينة من اغتصاب مجرم في شرخ الصبا قد ترك فيها جرحا لا يندمل، وعطبا تصعب مداواته، فإننا سنجد مرآة له فيما جرى لعبدالناصر في سن مماثلة حينما حاول علالة اللواط به. لكن الفرق أن زينة اعترفت لعبد الناصر بوجعها منذ اللقاء الأول: «وجعي في الجسد ولكن لا دواء له. خرقت الصمت معك أنت. أنت الوحيد الذي فتحت له أرشيف وجعي. لا شك أنك تحتقرني» (ص113، ص 121) وفتح أرشيف الوجع هذا هو السبيل الأول للتغلب عليه وتطهير النفس من أوزاره الراسخة فيها. فقد بدأت زينة صفحة علاقتها بعبدالناصر بفتح هذا الأرشيف، والكشف عن كيف أغتُصبت وهي في الرابعة عشرة من العمر (ص110)، وكيف ملأها هذا الحدث المدمر الغريب، والذي لم تستطع أن تحل أباها أو أخاها من المسؤولية عنه، بعطب دائم ووجع رهيب. وحينما اعترفت له بما جرى لها في قريتها البعيدة للمرة الأولى سألته: «أتعرف معنى أن تخرّق صبية؟ أتعرف كيف يعشش فيك القهر وعليك أن تصمت خوفا أو خجلا أو شعورا بالخزي والعار؟» (ص112)

ولما أجابها عبدالناصر «نعم أعرف .. أقسم بشرفي أنني أعرف» (وهو الأمر الذي سندرك حقيقته في نهاية الرواية حينما نعرف أنه عاش هو الآخر وجعا مماثلا)، تنكر عليه الأمر وهي ترد «لا تعرف شيئا من هذا. أنتم حاملو تلك السكاكين من لحم تشهرونها دائما لتذبحوا الأحلام وتقطعوا القلوب إربا إربا». (ص112) ولو فتح لها عبدالناصر بالتالي أرشيف وجعه وقتها، ربما تغير مسار علاقتهما، وأصبح التطهير مزدوجا وفاعلا. ولكن كبرياء الرجل هي التي منعته ربما من هذا البوح، وجعلته يكتفي بتلك الكلمات «أقسم بشرفي أنني أعرف». (ص 112) وهو قسم مهما كانت جديته، فلا يرقى أثره في النفس إلى أثر البوح والكشف عن الوجع الذي ظل ثاويا حتى فجرته استدارة «ريم» وقد «أحكمت وضع يديها في مستوى العانة وقالت له: لا .. لا.. أنا عذراء.» (ص316) فانفجر بركان الوجع المكبوت. وانفتح صندوق باندورا الذي حسب أن سخاء «للا جنينة» معه قد أغلقه إلى الأبد، وكانت فضيحة ركل علالة الدرويش في المقبرة التي افتتح بها السرد الرواية.

فقد كشفت لنا الصفحات الباقية من الرواية أن أرشيف وجع عبدالناصر لا يقل فداحة وفاعلية عن أرشيف وجع زينة الذي قرّ الاغتصاب، الذي لم تر وجه من قام به في ليالي الحصاد، في أغوار جسدها العميقة «ليس مجرد إحساس أو وهم أو تخيل .. إنه وخز في موضع السر. ريشة حادة الذؤابة مزقت قفا الورقة، سري وورقتي مهتوكتان .. شيء بغيض كريه في اللحم لا في الذهن». (ص113) ومع أن زينة تصغر عبدالناصر بثلاث سنوات، كانت في الرابعة والعشرين إبان هذه المواجهة، فإن مواجهتها لوجعها أكثر شجاعة منه. ذلك لأن زينة، والتي تعد في مستوى من مستويات التأويل وجها آخر لعبدالناصر مكملا ومناقضا في آن، هي أكثر شخصيات الرواية مأساوية. وأشدها حرصا على اتساق الفعل مع الكلام، وهو من الأمور التي انشغلت بها حنة أرندت بطلة بحثها الفكري الذي كان طبيعيا أن يخفق في واقع مليء بالنفاق السياسي والاجتماعي والفكري على السواء. ولابد من الوعي بدلالات اختيار زينة لحنه آرندت كي تكتب عنها أطروحتها. فنحن هنا بإزاء رواية لا تختار تفاصيها عبثا، وإنما تنطوي تلك التفاصيل على دلالاتها المضمرة غالبا المراوغة أحيانا.

فحنه آرندت (1906 – 1975) Hannah Arendt تلك التلميذة اليهودية النجيبة لمارتن هايدجر، وعشيقته أثناء دراستها معه للفلسفة في جامعة ماربورج، والمعارضة للكثير من أفكاره فيما بعد، هي واحدة من أبرز المفكرين الغربيين في الفلسفة المعاصرة في القرن العشرين، وخاصة فيما يتعلق بما تحب تسميته بالنظرية السياسية، وليس بفلسفة السياسة. هي نظريتها في الفعل السياسي عبر كتبها المهمة: (أصول الشمولية The Origins of Totalitarianism) عام 1951 و(الوضع الإنساني The Human Condition) عام 1958 و(إيخمان في القدس: تقرير عن فجاجة الشر Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil) عام 1963، وغيرها. وقد كان انشغالها بموضوع اتساق القول مع الفعل هو الذي فجر تلك العاصفة التي جلبتها على نفسها عقب نشر كتابها عن محاكمة إيخمان في دولة الاستيطان الصهيوني، بعد أن حضرت وقائع المحاكمة في القدس المحتلة، وغطتها للنيويورك تايمز الأمريكية. وكيف أن فجاجة الشر ناجمة عن أن الشر ليس أمرا متأصلا في البشر، كما يزعم كل المتاجرين بصناعة الهولوكوست، ولكنه ناجم عن غياب التفكير النقدي العقلي، والذي تجسد في خضوع إيخمان للأوامر التي كانت تصدر له بقتل اليهود. وكيف تم إعادة انتاج تلك الفجاجة قد نفسها في إجراءات محاكمة إيخمان في القدس بعد أكثر من عشرين عاما على فعلته. مما ألب عليها الصهاينة وتجار صناعة الهولوكوست، ومنع ترجمة أي من كتبها للغة العبرية حتى نهاية القرن. لكن تلك قضية أخرى كما يقولون، وإن كان من الضروري الوعي بدلالات اختيار زينة لها، وبأن شيئا من فجاجة الشر الذي بلورته أرندت قد طال زينة نفسها، ولا يزال فاعلا في الواقع الذي عاشته، كما أن موضوع اتساق الفعل مع القول، والذي عانت منه أرندت وألب الصهاينة عليها برغم يهوديتها قد عانت منه زينة هي الأخرى وبشكل مأساوي.

فقد أصرت على تسمية زواجهما بمجرد «صداق»، والتنصل من مسؤوليتها عنه. لأن فهم «زينة» للزواج الحق الناجم عن القبول الحر الكامل بين طرفيه، هو غاية في حد ذاته يتحقق عبر الالتزام الفردي بملء الإرادة الحرة، وليس نتيجة للضرورة وتذليل الصعاب. وهو الأمر الذي لم يتوفر في الطريقة التي تم بها عقد «الصداق» كوسيلة لتذليل عقبة توظيفها في تونس العاصمة، كي تواصل دراستها من ناحية، وتبقى مع عبدالناصر من ناحية أخرى. فعبدالناصر لم ينجح أبدا في أن يدلف إلى عالمها الداخلي، برغم أنه أكثر من كشفت لهم عن أسرارها وحقيقة كوامنها، وبرغم كل ما قدمه لها من دعم وحب خالصين. مما جعله يشعر بنوع من خيبة الأمل والذنب الذي جرى معه شريط حياته كله أمامه حينما خانها مع صديقتها «نجلاء» في بيت الزوجية. فقد كانت تلك الليلة المفتاحية في الرواية، ليلة انقلاب بن على على زعيمه بورقيبة، هي الليلة التي باتت فيها صديقتها المقربة «نجلاء» في أحضان زوجها وفي فراشها ببيته، بعدما سبق لها أن أمضت ليلتين معه في فندق بالحمامات.

فلزينة نظريتها عن الرجل الصياد، والتي تعي معها: «أن عقود الزواج في كتب الفقه توضع في باب العقود الخاصة بالبيع والشراء، فالزواج صفقة تجارية، شأنها شأن ملك اليمين واقتناء الدواب، مع فوارق في خصائص البضاعة وتداخل التجاري والبشري في تحديد قيمتها ووظيفتها الاقتصادية». (ص141) ولأنها كانت تفرق دوما بين الاثنين: «الصداق الاضطراري والزواج الاختياري»(ص192) وقد وسمت الرواية علاقة عبدالناصر بزينة بشيء من هذا الاضطرار. بدءا من لقائه الأول معها نتيجة لأوامر حزبية من «الصحبي القروي» بالعمل على تحييدها كي تكف عن نقد تياره اليساري في الجامعة، ووصولا إلى ذلك اللقاء الثاني الذي ربط بينهما بحق، بعد قرار «الصحبي القروي» بالتخلص منها، بعدما فشل لقاء عبدالناصر الأول معها في تحييدها، ورغبة عبدالناصر في تحذيرها مما يمكن أن يفعل بها هذا «الصحبي القروي» الذي يوشك أن يكون طالعا من كتاب حنه آرندت عن فجاجة الشر. وهو اللقاء الذي اجتمع فيه كل من إيروس وتاناتوس بعد هجوم الأمن عليهما في الجامعة، وحمايته لها من ضرباتهم.

وقد بدأت بعد هذا اللقاء علاقته بها، وهي علاقة محكوم عليها بالموت منذ لحظة الميلاد، بسبب العناق بين إيروس وتاناتوس فيها، أي الموت والشبق/ العشق معا. لأنها ولدت في «لحظة انتشاء يجتمع فيها تناتوس وإيروس على ما قالت له بعدما انتهى كل شيء.» (ص83) وإن كان «الطلياني قد اختار زينة في لحظة امتزجت فيها شهوتهما بالتضحية وبذل النفس أمام هراوات الأمن. كانت عنده لحظة نقاء ثوري وصفاء روحي امتزجت فيها روحاهما، أو هكذا خيّل إليه.» (ص216) لكن رؤية كل منهما المختلفة لتلك اللحظة ستضع بذور تخثرها. كما أن الرواية لم تغفل الإيحاء بكيف سيتسلل تاناتوس إليها من خلال استخدام ما أسميه بذاكرة النص التاريخية بحصافة وذكاء، حينما اختارت فيلم ميلوش فورمان الشهير (أماديوس) الذي ظهر عام 1985 والمأخوذ عن مسرحية  بنفس الاسم للكاتب المسرحي الانجليزي الشهير بيتر شيفير. فالنص يعي أهمية توقيت مسارات الشخصيات فيه والتوازي بين تصاريفه ومساراتها. كما يعي أيضا أهمية ذاكرة النص الداخلية والتي تطرح محدداتها الزمنية الخاصة. فحينما يلتقي عبدالناصر زينة لأول مرة بعد حادثة منوبة أمام سينما أفريقيا يشاهدان فيلم (أماديوس) رغم أنها كانت قد شاهدته من قبل. ولابد أن الفيلم وصل تونس عقب ظهوره بشهور، وهي طريقة الفيلم الخاصة لتأريخ أحداث منوبة في ذلك العام. كما أن الفيلم يلعب هو الآخر دور الإرهاص بما يدور للشخصية ذات المواهب الاستثنائية، بل العبقرية، في عالم من البلادة والـ Mediocracy وكأنه يرهص في لحظة تألق جنونهما الجميل، بما سيدور لهما من انكسارات. لكن الأمر لا يقتصر على التاريخ، وإنما لأن في الفيلم أيضا استشراف للكثير مما سيجري لهما، وهما يبدآن قصتهما. فموضوع الفيلم هو كيف تجني البلادة على العبقرية والتميز، وهو ما جرى لزينة، أو كيف أن زواج العبقري «موتسارت» بواحدة من «الأقعار» جنى عليه ودمر مستقبله وتسبب في تعاسته إلى حد كبير.

وهذا ما سيفعله السرد مرة ثانية حينما يطارد عبدالناصر «ريم» ويتتبع خطاها بعد خمس سنوات من مشاهدة (أماديوس) مع «زينة» يجد أنها قد ذهبت مع أصدقائها إلى فضاء التياترو المجاور لفندق المشتل، قرب باب خضرا، لمشاهدة (كلام الليل). وفضاء توفيق الجبالي الجميل أشهر من أي يعرّف في تونس، بأنه قرب باب خضرا؛ لكن كل إشارات النص محسوبة وموظفة. كما أن وعيه بجغرافيا المدينة هو الذي دعاه إلى جلب المدينة العتيقة للمشهد بباب خضرا، فهو يطارد واحدة جاءت هي الأخرى من سوسة، وليست «بلدية» مثله ومثل «نجلاء». أما (كلام الليل) وهي العمل المسرحي الجميل الذي أفضت أكثر من مرة في الكتابة عنه، فلم تكن قد تحولت بعد إلى سلسلة من الأعمال المسرحية التي تحمل هذا الاسم. وكانت أولاها التي انبثقت عن مناخ حرب الخليج الأولى، حرب الاستعمار الأمريكي للكويت باسم تحريرها، فإنها مترعة بتناقضات تخثر الوضع العربي، ناهيك عن تخثر حياة عبدالناصر في تلك المرحلة.

أما الإيحاء الثاني بتسلل تاناتوس إلى توهج إيروس في هذه العلاقة من البداية، فكان التضحية بموقف عبدالناصر المبدأي من العمل الحزبي. فقد كانت زعامته للتنظيم في الجامعة، وبعده التدريجي عن النضال القديم، هي أولى ضحايا ميلاد تلك العلاقة. لذا لم يكن غريبا أن يقرر بعدها اكمال امتحاناته والتخرج من الجامعة، والانخراط في حياته الجديدة مع زينة، ثم اندفاعه للزواج منها، رغم أنها لم تكن مستعدة لهذا الزواج، وظلت تسميه مجرد عقد «صداق»؛ لأنه ابن الضرورة، وابن الرغبة في التغلب على عراقيل النظام الفاسد بمنطقه الفاسد؛ وليس ابن الاختيار الحر. وما عجل بهذا كله هو موقف «الصحبي القروي» من تردد عبدالناصر في الإجهاز على زينة ووصفه إياه بـ«الثقفوت». لأن المحامي المناضل «الصحبي القروي» المنحدر من ريف القيروان، وتياره الراديكالي الذي لا يطيق الخلافات الفكرية، ويدعو إلى «تطهير الحركة الطلابية من الانتهازيين والمندسين وكل من يعرقل المد الثوري من المترددين من أبناء البرجوازية الصغيرة والثقفوت، وهي سبة لتحقير المناضلين ذوي المنزع الفكري النظري». (ص65) هو الذي دفعه للوقوع في أحضان إيروس/ تاناتوس معا، أي في أحضان زينة.

هكذا يصنف المحامي عبدالناصر بعد تردده في «تصفية» زينة وكل من يفكر تفكيرا نقديا حرا. مبرهنا على صحة ما تقوله زينة، وكأنها تقرأ من كتاب أفكار حنه آرندت المفتوح، حول انطلاق كل من الإسلامجية واليساريين من نفس منطلقات الجهل الفكري. لذلك لم يكن غريبا أن يضع المحامي المناضل الخشبي عبدالناصر مع زينة في سلة واحدة؛ طالبا من مناصريه في التنظيم تصفيتهما. زاعما أن أكبر عيوب عبدالناصر أنه «بلدي، من العاصمة، برجوازي صغير حقير مستعد للتحالف مع الشيطان، بما في ذلك الدساترة والخوانجية للحفاظ على زعامته».(ص 67) دافعا عبدالناصر دون أن يدري صوب زينة ومنطقها الرحب المفتوح فكريا. لقد وضعه «الصحبي القروي» في سلة واحدة مع «زينة» التي ترفض أي تنظيم، وتؤمن بدور المثقف النقدي المستقل، مما يجعلها بحق نموذجا صافيا «للثقفوت» بالمعنى الإيجابي للمفهوم.

قوة التمرد وهشاشة المثقف المعطوب:
وزينة التي تمثل المثقف النقدي المستقل في الرواية، بربرية من أقصى الشمال الغربي، اسمها الأصلي هو «آنروز»، لكن بورقيبة فرض على البربر تسمية ابنائهم بأسماء عربية، نموذج حيّ لاستقلال التكوين الثقافي. فقد جاءت من قاع المجتمع التونسي، لكنها ثقفت نفسها من خلال نهم للقراءة في بيئة كلها من الأميين. حتى أنها حينما عادت لتشيّع جثمان أمها، «كانت منذهلة: كيف أمكنها أن تعيش معهم وأن تكبر وتصبح أستاذة في تلك الظروف التي لا يتوفر فيها الحد الأدنى من ضرورات الحياة؟» (ص191) وهو نفس الأمر الذي يلاحظه عبدالناصر. فحينما وصل مع نجلاء لبيتها للعزاء في موت أمها «كان بيتا على سبيل المجاز. لم يكن يتصور أن تلك الفيلسوفة نشأت في ذاك الكوخ كنبتة شيطانية. لاحظ لأول مرة المفارقة الفاضحة بين المسكن وساكنته». (ص235) تقول زينة عقب موت أمها، وهي لاتزال في القرية لم تنته بعد من مراسم الدفن والعزاء: «لقد انتهى آخر رابط لي بالقرية، أنا الآن حرّة، حرّة كطيف النسيم.» (ص235)، وكيف لا تتحرر من تلك القرية التي انتهكتها صبية وتركت فيها جرحا لا يندمل. وما أن عادت إلى تونس العاصمة واغتسلت من أوزار القرية، وأحزان دفن أمها؛ آخر أثر إنساني لها فيها، حتى كررت نفس المعنى: «صفحة جديدة في حياتي بدأت. لن أعود إلى القرية أبدا، أصبحت أم نفسي». (ص240)

هذه النزعة الاستقلالية الحادة هي سر قوة زينة ومكمن ضعفها معا. لأنها برغم البيئة المعاكسة، كانت تجمع إلى الجمال الطبيعي مضاء العقل وقوة الثقافة الواسعة. وإن كانت، كما لاحظت صديقتها نجلاء، «أصولها غير المدينية جعلتها غير خبيرة بطرق إبراز جمالها وإظهاره والإعلاء من شأنه. إنه جمال خام ساذج قابل للانطماس في أي وقت إن لم تتعهده». (ص246) وهي ملاحظة مهمة بالنسبة للجمال ولغيره معا مما توفره الثقافة المدينية بمعناها الاجتماعي العريض. وسوف نكتشف شيئا من افتقارها لذلك منذ أن كانت صبية لم تستطع تبرير تفوقها، لولا أن ناظر المدرسة كان مربيا حقيقيا واستطاع حمايتها، وسوف يتفاقم الوضع حينما تحين المواجهة أثناء امتحانات التبريز مع الاستاذ الذي ساومها وعرقل صعودها ولم تعرف كيف تتصرف معه، فأضاعت حقها. وكانت تدرك أن التميز في التعليم هو فرصة الالتحاق بالمصعد الاجتماعي. فقد «كان حلمها أن تصبح أستاذة جامعية في الفلسفة، وفي الفلسفة السياسية تحديدا». (ص80)

وكان «أكثر ما شد انتباه عبدالناصر إلى خُطب زينة هو إلحاحها على دور المثقفين في تحليل الواقع». (ص55) وقد عاداها اليمين واليسار على السواء. فسماها خصوم اليسار من الإسلاميين، بعد تأسيس الاتحاد التونسي للطلبة باعتباره ذراعا طلابية للاتجاه الإسلامي، بـ«عاهرة الثورة البروليتارية» أو «بقرة القيادة الثورية» (ص50) وهي كنية استنبطها بعثي ينتمي إلى «الطليعة العربية» كانوا يدعونه بـ«بغل الوحدة العربية». كما كانوا يسمون الإسلامي المعجب بجماله «القادر بالله ترافولتا». في هذا المناخ المترع بالجدل الطلابي المفتوح كانت قوة زينة العقلية تتبدى في نقاشها العقلي المفتوح. حيث كانت تعتقد أن الإسلامجية هم «أبناء الجهل المغلف بالبحث عن أصل كاذب لم يوجد أبدا». (ص 57) وأن اليساريين لا يختلفون عنهم كثيرا، فقد كانت تقول لهم «لستم مختلفين عنهم كثيرا، فلكل جهله المقدس وأصوله الكاذبة». (ص 58)

«كان حلمها أن تصبح أستاذة جامعية في الفلسفة، وفي الفلسفة السياسية تحديدا. كانت تقرأ حنا أرندت بشغف وتعتبر أن دخول العرب والمسلمين إلى ملكوت الحرية يبدأ من تفكيك العلاقات القائمة على فكر الراعي والرعية، وكشف الأساس الأبوي لمفهوم الحكم» (ص80 -81) يقول الراوي الذي يتدخل دائما في السرد تدخلات محسوبة عن زينة «فقد وقر في ذهني أنها تبدو قوية، ولكنها هشّة هشاشة لا تصدق، تداري بالقوة الظاهرة ضعفا متأصلا» (ص182) وكأنه يقدم للقراء مفتاح شخصيتها. فبالرغم من إرادتها الجبارة في الدراسة وتجويد معارفها، والعمل على أطروحتها عن حنة آرندت، فإن الرواية تكشف لنا عن استحالة أن ينتج واقع مختل إنسانا ناجحا، خاصة إذا ما كان مبدئيا ويرفض المساومة على كرامته. وقد تكفلت عملية الجدل المستمر في النص بين السرد الاستشرافي الذي ينطوي على إضماراته المهمة، والسرد الاستعاديّ الذي يقدم الماضي ويستعيد بعض تفاصيله الدالة وقد ألقى عليه الحاضر ظلاله وتأويلاته، بالكشف عن كيف أن العطب الذي تعاني منه الشخصيات متأصل في الجسد الاجتماعي الأكبر.

فما جرى مع حمادي مصمم الجريدة ورسامها (ص164)، ورفض الأستاذ تبرير علامته الظالمة له، ومساندة مدير مدرسة الفنون الجميلة للأستاذ باسم الحرية الأكاديمية، وسلطة الأستاذ المطلقة لأن «الحاكم الوحيد والرقيب الوحيد على الأساتذة هو ضمائرهم» (ص 164) في عالم انعدمت فيه الضمائر. سيكون استشرافا لما سيجري مع زينة برغم كفاءتها وجديتها الواضحة، لأن ما جرى له يتكرر بحذافيره معها. صحيح أن حمادي انتقم من الاستاذ بنفسه وأمام الفصل كله، ولكن هذا الانتقام جاء على حساب حياته العملية برغم موهبته الواضحة. وكأن قصة حمادي استشراف، أو صورة باكرة لما سيحدث لزينة. حيث ستواجه الأستاذ الذي قضى على مستقبلها حينما تعلل بأن الأوراق كانت بدون أسماء حفاظا على سرية الاختبار، صارخة «بدون أسماء يا ابن الفاجرة، إلأنني لم أمكنك من نفسي بعد تحرّشك بي، ألأنك لم تذق من عسيلتي تدمّر ورقتي بموضوعية قضيبك؟ ... بصقت عليه. رفعت يدها ولطمته لطمة سُمع صداها يتردد. هاجت تسبه وتلعنه ببذيء الكلام الذي لم يسمعها عبدالناصر تنطق مثله البتة.» (ص278)

هكذا يكشف غضبها عن افتقار جديد لتلك الثقافة الحضرية، فتضيع حقها، وتتحول إلى الجاني بعدما كانت الضحية، وقد قدم الأستاذ فيها شكوى لما فعلته معه، وطلب إحالتها إلى مكتب التأديب مع الاحتفاظ بحقه في مقاضاتها. ويكرر العميد في لقائه معها بعد الواقعة نفس ما قيل لحمادي، وبنفس الكلمات تقريبا، حينما تطالب بأن يصحح أستاذ آخر ورقتها: «لا وجود في القانون للإصلاح الثاني، لأنه يعني تشكيك في نزاهة الأستاذ، الذي يعتبر خبيرا في ميدانه، ولا خبير يمكنه أن يراجع تقييمه الأكاديمي.» (ص279) وهكذا يكشف تكرار ما جرى لحمادي مرة أخرى مع زينة عن سريان الخلل في بنية الواقع الفاسد، وكيف أنه يساهم في استئداء أصحاب المواهب ثمنا فادحا، حيث يقهرهم من الداخل ويصيبهم بعطب لا برء منه، في واقع لا يسمح بأن يسترد صاحب الحق حقه. كما يكشف عن أن الرواية تعي أهمية الحبكات الثانوية في توسيع أفق دلالات ما يدور فيها من ناحية، وتقيم علاقات من التناظر/ أي التماثل والتضاد بين الشخصيات وهي ترسم خريطة تشابكاتها من ناحية أخرى.

المثقف الإشكالي والوعي الشقي:
فشكري المبخوت يدرك أهمية إرهاف وعي الشخصية بأزمتها لأن هذا الوعي يعزز حدة مأساويتها. حيث يكتب في تقديمه لرواية حسين الواد (سعادته .. السيد الوزير) أن الواد جعل شخصيته بالغة الكثافة والتناقض والتركيب لأنه جعل «صيغة المرافعة والاعتراف التي اختارها الروائي لتبلغ الشخصية صوتها تضيف إلى الاغتراب، الوعي بالاغتراب، ليكون الشقاء أشد وأقسى.»(18) وهذا ما فعله المبخوت مع شخصيتي روايته، فأرهف وعي كل منهما بالظلم الذي وقع عليه، ليكون الشقاء أشد وأقسى. ولم تنج شخصية الرواية الرئيسية، عبدالناصر/ الطلياني، من هذا الوعي بالاغتراب والشقاء هي الأخرى. ليس فقط لأنها ترى ما يدور للآخرين، حمادي ثم زينة، وتعي دلالاته، ولكن أيضا لأنها تعي هي الأخرى عجزها عن رفع الظلم عن أقرب الناس إليه، أو تصحيح أي من تلك الأخطاء. خاصة وأن زينة قد عمقت من غربته عنها، وغربتها عنه حينما اجهضت جنينها الأول منه في الأسبوع الأخير من عطلة الشتاء وبعد أسابيع من انقلاب بن علي. وكيف أن تلك الغربة دفعته الى دوامة من الضياع جسدتها الرواية بطريقة عمقت معها وعي كل منهما، زينة وعبدالناصر، بمأساتهما.

وكانت زينة قد بدأت قبل ذلك تسمي عبدالناصر بـ«الأورجانون الجديد» في إحالة إلى كتاب فرانسيس بيكون (1561 – 1626) الشهير الذي كتابه في معارضة (اورجانون) أرسطو، أو بالأحرى تطويره عام 1620. مما يعني أنها كانت تراه عقلا خالصا، ومنطقا تجريبيا لا عواطف له، وهو ما يكشف عن سوء فهمها له، وربما يمكن التعامل مع هذه التسمية على أنها نوع من الإسقاط الفرويدي لأنها تنطبق على زينة أكثر مما تنطبق على عبدالناصر. خاصة وأن زينة قد ركزت كل همّها، في سنوات حياتها مع عبدالناصر على تحقيق حلمها بالدراسة والتفوق، دون أن تقيم وزنا لعبء هذا الانخراط الكلي في دراستها على علاقتها مع عبدالناصر. وتحولت أثناء ذلك إلى عقل خالص، فأهملت الجانب العاطفي والحسي في حياتها معه. مع أننا بإزاء رواية تهتم بلغة الجسد وتسعى إلى سبر جغرافياه والبنى المضمرة في حركيته المراوغة. (راجع ص 162)

فثمة قدر من التماثل بين الشخصيتين، عبدالناصر وزينة، مع مقدار لا بأس به من الاختلاف الذي يصل إلى حد التناقض بينهما. وبالإضافة إلى التناظر بين حمادي وزينة تقدم الرواية تناظرا آخر بين نجلاء أستاذة الرياضة وصديقة زينة الجديدة التي تسكن في باردو (ص145) والخالة آسية، خالة عبدالناصر. فقد «ملأت نجلاء بأنوثتها الفياضة الفضاء وعمّرت البيت بمرحها وبهجتها. أصبحت تعتني بزينة كأنها ابنتها وبالطلياني كأنه زوجها. لم يعرف من أين تأتي بتلك الطاقة كلها، تلك الطاقة على العطاء وقلب النكد بهجة. إنها آسية فعلا.»(ص259)

أما الوجه الآخر لكل من عبدالناصر وزينة فهو المناضل الخشبي، المحامي «الصحبي القروي» المنحدر من ريف القيروان، وتياره الراديكالي الذي لا يطيق الخلافات الفكرية، ويدعو إلى «تطهير الحركة الطلابية من الانتهازيين والمندسين وكل من يعرقل المد الثوري من المترددين من أبناء البرجوازية الصغيرة والثقفوت، وهي سبة لتحقير المناضلين ذوي المنزع الفكري النظري.» (ص65) هكذا يصنف المحامي عبدالناصر بعد تردده في «تصفية» زينة وكل من يفكر، مبرهنا على صحة ما تقوله زينة حول انطلاق كل من الإسلامجية واليساريين من نفس منطلقات الجهل الفكري. فللمحامي تاريخ في تصفية خصومه، حيث يعرف عبدالناصر أنه خطط لواقعة كلية الآداب بمنوبة يوم 30 مارس 1982. (ص76) وهو الأمر الذي دفع عبدالناصر إلى تحذير زينة مما يُحاك لها على أيدي تنظيمه الذي تخلى عنه عبدالناصر.

خاصة بعدما وضع المحامي عبدالناصر مع زينة في صف واحد، طالبا من مناصريه في التنظيم تصفيتهما كليهما. زاعما أن أكبر عيوب عبدالناصر أنه «بلدي، من العاصمة، برجوازي صغير حقير مستعد للتحالف مع الشيطان بما في ذلك الدساترة والخوانجية للحفاظ على زعامته.»(ص 67) دافعا عبدالناصر دون أن يدري صوب زينة ومنطقها الرحب المفتوح فكريا. فقد كان لدى عبدالناصر استعداد طبيعي للاندفاع صوب هذا المنطق الرحب، لأنه كان يعي قبل أن يتواصل معها أن «فيما تقوله معرفة واضحة ونقد جله حقيقي، يشعر به ولا يعرف كيف يصوغه، ولا يجرؤ على أن يقوله» (ص56) وكانت زينة تدرك تناقضه الداخلي ذاك، حيث قالت له في مقابلتهما الأولى: «صدقا، لم أفهم إلى الآن صلتك بالتيار. قيادي فيه ومتكلم باسمه، ولكن فكرك أرحب! تأكد، مرة أخرى، أن هذه الفيلسوفة خطيرة فقد وضعت الإصبع على تناقضه الرئيسي.»(59)

أما المحامي «الصحبي القروي» فليس لديه أي من تلك الشكوك. «كان محاميا بارعا قد تخرج منذ عشر سنوات. عرف السجون والنفي لفترة، وعُرِف بوقوفه إلى جانب النقابيين في المحاكمات التي أعقبت أحداث الخبز في جانفي 1984 ... كان منظرا بارعا يقف وراء أفكار عديدة وتحليلات شتى تستلهمها الحركة الطلابية. شعلة من الذكاء. نجح في مناظرات عديدة بالخارجية والوزارة الأولى والقضاء، لكن مشكلة البطاقة عدد3 التي تشهد بنقاء سجله من السوابق العدليّة، وملفه الأمني الأسود في وزارة الداخلية، جعلاه لا يحصل على الوظيفة في الدولة، فيُقصى على الرغم من ترتبه الأول على قائمة الناجحين، بل حرم من جواز السفر.» (ص58) وهو الأمر الذي ساهم في صنع شعبيته وشراسته. وجعله النقيض الكامل للطلياني وزينة. وهو ما دعمته الأوراق التي وجدها عبدالناصر في مكتب «سي عثمان»، ضابط الأمن، حينما حبس به، والتي أثارت لديه شكوكا في علاقة المحامي بالأمن، فهو «إما متواطئ مع البوليس السياسي، وإما أن صاحب الإفادة مندس في التيار وتفرعاته المختلفة.»(ص89)

فنحن في عالم لم تعد فيه البروليتاريا وحدها، أو شريحة منها، هي الرثة، كما كان الحال في أيام ماركس، لقد جعلت آلة القمع الوحشية للاستبداد في العالم الثالث، البرجوازية الصغيرة نفسها، وجماعات المثقفين التي تنتمي إليها، رثة هي الأخرى. تأمل ما جرته البطاقة عدد 3 على حياة كل من عبدالناصر وزينة أيضا، لولا تدخلات سي عثمان رجل الأمن، وابن الحي الذي نشأ فيه عبدالناصر، وهو شخصية توشك أن تكون شخصية مثالية، تبيّض وجه السلطة، بوعيها بالجانب الاستراتيجي، أو قل الوطني لدورها، بينما الأمن في مصر مثلا، وفي غيرها من البلدان العربية، عكس ذلك تماما. (راجع ص 176) وتدرك المؤسسة وكلاب حراستها مدى تحول المثقفين إلى طبقة رثّة. انظر مثلا ما يقوله أبو السعود، رقيب الجريدة، في المقال الذي نشره هشام جعيط بعيد انقلاب بن علي، وهو الرأي الذي يوشك أن يكون رأيا غير مباشر في شكوك عبدالناصر وسي عبدالحميد المضمرة، لأنه مقال «يشكك فيه في شرعية من أنقذ البلاد بتحذلق الجامعيين، وغباء المفكرين وأشباه المفكرين. يشقق الألفاظ ويتقعر باحثا عن الفرق بين الدولة والسلطة والنفوذ، وبين الشرعية والمشروعية والشريعة وما إلى هذا من الخزعبلات التي لا نأكل بها الخبز ولا نشرب الماء» (ص251)

لكن الرواية، وهمها الأول هو دور المثقفين في الواقع، ووعيهم بما يدور فيه وبما يعانونه من أجل القيام بهذا الدور، تكرس الفصل الثامن «السكة المقفلة» لتقديم دراسة في صعود الممسكين بإدارة الدولة وهبوطهم. كيف يثيرون موجات واسعة من التفاؤل ويتقدمون للشعب وكأنهم يمسكون بمفاتيح التحقق وسوف يجسدون معجزته. وهو الأمر الذي يكشفه المثقف الإشكالي كما يجسده عبدالناصر، أو حتى سى عبدالحميد. فآراء سي عبدالحميد في بن علي، في لحظات من القسم الثاني من الفصل الثامن، يبدو فيها وكأنه يقرأ المستقبل في كتاب مفتوح، بينما بقية الناس سكرانة بالنشوة الكاذبة للتغيير المبارك (راجع ص 251 -254) فقد أدرك باكرا أن بن علي الذي وصل به الأمر حد اتهامه بالعمالة للأمريكان «لا يملك أي تصور اجتماعي أو سياسي جديد. وسيكتفي ببعض الإصلاحات الشكلية لتمرير حبّة الإصلاح الهيكلي للاقتصاد ومزيد ربطه بالمصالح الغربية. وسياسيا سيكون أخطر من بورقيبة، لأنه منذ اللحظة الأولى، ابتلع خصومه جميعا ووضعهم في جيب سترته بمعسول الكلام. فما الذي سيطالبون به الآن.» (ص 254) هكذا يشقى المثقف العربي بوعيه منذ زرقاء اليمامة وحتى الآن، وتتعمق بهذا الوعي غربته عن المؤسسة السياسية المسيطرة على مقدرات الأمور في بلاده.

رواية الهزيمة وتصاريف الزمن التونسي:
ثمة انطباع لدى كثير من المثقفين المصريين، بأن عبء الهزيمة التي عانتها مصر عام 1967 ولم تتخلص من عبئها الرازح وعقابيلها (والعقابيل حسب لسان العرب هي بقايا العلّة) حتى اليوم، والذي طبع في ظني كل انتاجها الثقافي، لم يؤثر بنفس الدرجة على بقية البلدان العربية، خاصة بلدان المغرب العربي البعيدة نسبيا عن الصراع العربي الصهيوني. لكن رواية شكري المبخوت تؤكد خطل هذا الظن. وتبرهن على وحده الثقافة العربية العميقة التي تجمعها بنية مشاعر structure of feeling واحده حسب مصطلح رايموند وليامز المشهور. وهي بنية عميقة تتخلل الثقافة بمعناها الأوسع في الدراسات الثقافية التي كان وليامز أحد أبرز أعلامها. بصورة تكوّن معها البنية التحتية الفاعلة بطريقتها المراوغة في الوعي أو اللاوعي الثقافي العام. فمن يتأمل كل شخصيات هذه الرواية الأساسية منها والثانوية يجد أننا بإزاء شخصيات تعاني كلها من الانكسار؛ تنخرها الهزيمة من الداخل ولا تتيح لها فرص التحقق السوي مهما ناضلت وبصدق ملموس لتحقق نفسها، على جميع المستويات بدءا من مستوى الجسد المعطوب، وحتى مستوى الأفق السياسي المسدود.

ولا ينجو من تلك الهزيمة الوطن نفسه، الذي يصفه سي عبدالحميد بعد انقلاب بن علي الذي اغتصب السلطة دون إراقة قطرة دم واحدة، وهو أمر أخطر من تدفق الدماء: «لهذه البلاد قابلية للفتح والإخضاع. ركبها القرطاجيون والوندال والرّومان والفاتحون والشيعة والخوارج وبنو هلال والأتراك والإسبان والفرنسيون. توجعت قليلا ولكنها كانت تحتضنهم بصدر رحب» (ص273). وهو وصف يوشك أن ينطبق أيضا على كل الشخصيات التي «توجعت قليلا» ولكنها تعايشت مع انكساراتها وهزائمها. وكأنها كانت تنتظر، أو بالأحرى تشارك في، تحقيق نبوءة سي عبد الحميد الذي تجعله خبرته السياسية والصحفية الطويلة يقرأ المستقبل، بطريقة كلبية cynicism، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح «انتظر! منذ الوهلة الأولى سحب البساط من الجميع. سيسوي بطريقة ما ملف الإخوانجية، ثم يضع في الرف بقية الملفات. وبعد ذلك يتفرغ لممارسة هوايته في الإجرام» (ص273)

فنحن إذا ما تأملنا شخصيات الرواية كلها، الأساسية منها والثانوية، سنجد أننا في قاعة مرايا للانكسارات الإنسانية الموجعة. حيث ترجّع انكسارات البطل عبدالناصر انكسارات أخرى سابقة عليه مثل سي عبدالحميد بكلبيته الماكرة، أو حمادي مصمم الجريدة الذي دمرته غيرة أستاذه منه وهو لايزال طالبا في كلية الفنون، أو حتى عم حسن مدير مطبعة الجريدة والذي ساوم على مواقفه، ودخل الحزب الذي لايحبه ليدافع عن عماله. وتوازيها انكسارات أبناء جيله، وابرزهم ابن حيه وزميله غير المسمى، وراوي الرواية العليم بسبب علاقته الوثيقة بكل من البطل والبطلة «زينة». وسنجد أن الحال نفسه سيتكرر مع الشخصيات النسائية في الرواية حيث تنسج الرواية توازيا دالا بين ما جرى لزينة التي انتهت مع رجل فرنسي في عمر أبيها، وما جرى لنجلاء التي انتهي بها الأمر إلى أن «احترفت العهر ببطاقة شبه رسمية. أصبحت تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة». (ص 294) وهو نفس المصير الذي انتهت إليه قبلهما «للا جنينة».

وكما أننا نشاهد تماثل الشخصيات في قاعة مرايا انكساراتها وأوجاعها، تقدم لنا الأحداث هي الأخرى مراياها التي تكشف عن منطق الواقع المهزوم وبنيته التحتية. فما جرى لحمادي مصمم الجريدة ورسامها (ص164) ورفض الأستاذ تبرير علامته الظالمة له؛ يتكرر مرة أخرى كما ذكرت، وبحذافيره مع «زينة» حيث يزعم الاستاذ الذي دمر مستقبلها هو الآخر «كانت الأوراق بدون أسماء حفاظا على سرية الاختبار.» (ص 278) لذلك يكون رد فعل المظلوم والمقهور في الحالتين «حمادي وزينة» مماثلا، وينطوي على نوع من تدمير الذات. حيث أدرك حمادي منذ اللحظة التي حاق الظلم فيها به، أنه أمام أفق مسدود، وليس إزاء واقع يستطيع أن يسترد عبر آلياته القانونية حقه، ويرد عنه ظلم فرد مهما كانت مكانته. لذلك توجه حمادي للأستاذ الجلاد، وقد يأس من الحصول على حقه: «جذبه من كتفه، أسمعه ما قاله مالك في الخمر وزيادة، بصق في وجهه، لكمه لكمة كادت تذهب بعينه اليمنى وخرج.» (ص 164) وهو نفس ما فعلته زينة من بعده حيث صرخت في وجه من قوض كل أحلامها « بدون أسماء يا ابن الفاجرة .. بصقت عليه، رفعت يدها. لطمته لطمة سُمع صداها يتردّد» (ص278). في كلا الحالتين نحن بإزاء واقع تسري فيه آليات تدمير الذات المعقدة، تتغلغل أشراشها في كل مناحي الحياة، وتجهز على الشخصيات الأكثر موهبة، والأشد حساسية وقدرة على الإبداع، فتحرم المجتمع من فرصته الحقيقية في التقدم.

وليست انعكاسات الأحداث أو تكراراتها هي المحرك الأساسي لبنية الرواية الزمنية، وإن كانت جزءا من تلك البنية، لأننا بإزاء بينة زمنية ذات طبيعة دائرية من ناحية، واستعادات تكرارية لما مضى من ناحية أخرى. تلعب فيها ليلة 7 نوفمبر 1987، ليلة انقلاب زين العابدين بن علي على زعيمه الذي غاب في سراديب الشيخوخة، دورا محوريا. ليس فقط لأنها لحظة تحول تونس من استبداد يعاني من الشيخوخة، إلى استبداد مسلح بالأمن والفساد ودعم الرأسمالية المتوحشة؛ ولكن أيضا لأنها لحظة التحول الأساسية الكاشفة عن انكسارات شخصياتها جميعا. ففي نفس تلك الليلة التي نظم فيها بن علي انقلابه على بورقيبة «مسكين بورقيبة» (ص230) كان أول تعليق لنجلاء على الانقلاب. تحررت زينة من آخر ما كان يربطها حقا بتونس، أمها، ففي تلك الليلة ماتت أم «زينة» آخر ما كان يربطها بمحل ميلادها، وحتى بوطنها تونس بأكمله، كما سنعرف فيما بعد.

وهي أيضا ليلة تحرر عبدالناصر من زينة. فزينة أصرت دوما على تسمية زواجهما بمجرد «صداق»، والتنصل مع مسؤوليتها عنه فللزواج عندها معنى أكثر عمقا وجدية كما ذكرت. فعبدالناصر لم ينجح أبدا في أن يدلف إلى عالمها الداخلي، برغم كل ما قدمه لها من دعم وحب جعله يشعر بنوع من خيبة الأمل والذنب الذي جرى معه شريط حياته كله أمامه حينما خانها مع صديقتها نجلاء في بيت الزوجية. فقد كانت تلك الليلة المفتاحية هي الليلة التي باتت فيها صديقتها المقربة «نجلاء» في أحضان زوجها وفي فراشها ببيته. وهي في الوقت نفسه ليلة ميلاد عبدالناصر المهنية حيث كان هو الذي يقود سي عبدالحميد رئيس التحرير ويوجهه إلى الفعل الصحيح والمسار الجديد صباح اليوم التالي.

ولا يزال في هذه الرواية الكثير الذي يحتاج إلى التأمل النقدي، مثل موقع الراوي الذي تتحقق به التفاتات السرد المغيرة للصوت والمنظور، والذي جعله عبدالناصر حافظ أسراره، والذي يصف نفسه بأنه «ميال إلى الملاحظة والصمت والمشاركة في المحادثات بمقدار، وما أزال إلى الآن سلبيا وامتثاليا كما يقول عني عبدالناصر دائما»(ص40) والذي التحق بقسم الفلسفة، فلا نعرف إن كان هو رضا من أصدقاء الشلة أم شخص آخر. ومن تعليقاته الكاشفة بعدما شهد على عقد القران اعترافه وهو يتحدث إلى القارئ مباشرة في نوع من التغريب السردي «ولا أخفي عليكم أنني وجدت فيما فعلاه شجاعة لا أقدر عليها» (ص122) فهو يدرك أن أسرته تعتقد بأنه ينبغي له أن يتزوج «بلدية» مثله، لا «قعرة» من وراء لوحات الاتجاهات التي تشير إلى الأرياف خارج العاصمة. (ص122) ولاتزال هناك أيضا علاقة التناظر/ التماثل والتضاد بين عبدالناصر وأخيه الأكبر صلاح الدين؛ وبين أنجيلكا ونجلاء وإن كان فيها من التضاد اكثر مما فيها من التماثل. وهناك أيضا ما أود أن اسميه بأهمية القدر الاجتماعي في مسار الحبكات الرئيسية منها والثانوية في الرواية. فثمة تضافر بين القدر الاجتماعي والسياسي والقدر الميتافيزيقي وخاصة إذا ما تأملنا مسألة توقيت الموت: موت الحاج الشاذلي، وموت أم زينة، وموت الحاج محمود، وحتى الأقدار التي أدت إلى تعهر نجلاء السياسي، كلها أمور محسوبة في الرواية توسع من أفقها وتثريها بالدلالات.

هوامش:
(1) شكري المبخوت، (الطلياني)، القاهرة بيروت/ تونس، 2014

(2) إن رواية حسين الواد (روائح المدينة)، تونس، دار الجنوب، 2010 التي تجاوزتها جائزة البوكر التالية لعام صدورها، ولم تظهر في أي من قوائمها الطويلة أو القصيرة، أهم كثيرا على جميع المستويات من روايته التالية (سعادته السيد الوزير)، دار الجنوب، 2011 التي ظهرت في القائمة في العام التالي لصدورها، والتي قدم لها شكري المبخوت نفسه.

(3) يتكون هذا السفر الضخم من كتابين كبيرين (أولهما هو ضد أوديب: الرأسمالية والشيزوفرنيات) Gilles Deleuze and Felix Guattari, Anti-Oedipus: Capitalism and Schizophrenia, trans. Robert Hurley (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1983)   أما الكتاب الثاني فهو ألف هضبة: الرأسمالية والشيزوفرنيات)  Gilles Deleuze and Felix Guattari, A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia, trans .Brian Massumi (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1987).

(4) لمزيد من التفاصيل حول تلك العلاقة الخلّاقة وبلورة جوتاري عبرها لما يدعوه بفائض القيمة التشفيري Surplus-value of code ، وهو مصطلح مهم آخر في هذا المجال ، راجع & co” in  The Cambridge Companion to Delueze, edts, Daniel Smith and Henry Somers-Hall (Cambridge, Cambridge University Press,2012), pp.151-169. Gary Genosko, “Deleuze and Guattari: Guttareuze

(4) Gilles Deleuze and Felix Guattari, A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia, trans. Brian Massumi (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1987), p. 6.

(6) المرجع السابق، ص 7

(7) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(8) المرجع السابق، ص 8.

(9) المرجع السابق، ص 9.

(10) المرجع السابق ص 11 – 13

(11) المرجع السابق، ص 21.

(12) راجع 'The Other Self: Thoughts about Character in the Novel' in Sociology of Literature and Drama, Elizabeth and Tom Burns (eds) (Harmondsworth: Penguin, 1973), p. 271 ,

(13) J. M. Bernstein, The Philosophy of the Novel: Lukacs, Marxism and the Dialectics of Form (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1984), p.150.

(14) Georg Lukacs, The Theory of the Novel, translated by Anna Bostock (London: Merlin Press, 1971), p. 80

(15) المرجع السابق، جورج لوكاتش،  نظرية الرواية ص 82.

(16) المرجع السابق، جورج لوكاتش،  نظرية الرواية ص 82.

(17) يقول له عم حسن «سمعت أنك لا تحب الحزب. أنا أيضا لا أحبه، ولكني لن أترك الشعبة الدستورية للّحّاسين والقوّادة والوشاة. ترأستها لأدافع عن أبنائي العمال وأنا أعرف أنني لن أصل أبدا إلى شيئ. هؤلاء السياسيون يريدون الركوب على ظهورنا لاعتلاء المناصب ونحن ماذا سنربح منهم؟ لا أذهب إلى اجتماعاتهم، وحتى الانخراطات تدفعها الإدارة. ههه. نربح الحماية ولا نخسر مليما أحمر» ( الرواية ص167).

(18) حسين الواد، (سعادته .. السيد الوزير)، تونس، دار الجنوب، 2011، ص 17.