يرى الناقد المصري أن الساردة تقدم العالم الداخلي لشخصيات المجموعة في كثافة فنية تتصل بنماذج اللاوعي، وشخصيات الفن، والأدب، ويستكشف عوالم القصص من خلال التوقف عند أربع تيمات: علاقات عبثية، وحضور فني وافتراضي، وشخصيات فريدة ساخرة، والحكي بين كثافة الصورة، ولذة الأداء.

التجدد الجمالي للشخصيات الفنية

في مجموعة «عدوى المرح» لهدى توفيق

محمد سمير عبدالسلام

"عدوى المرح" مجموعة قصصية حديثة للروائية المصرية المبدعة هدى توفيق، صدرت في طبعتها الأولى عن دار الأدهم للنشر سنة 2015. وتقدم الساردة العالم الداخلي لشخصيات المجموعة في كثافة فنية تتصل بنماذج اللاوعي، وشخصيات الفن، والأدب، والتاريخ، وقد تبدو صيرورة الشخصية في النص أدائية؛ أي أن مجال الحضور الفيزيقي للجسد، أوالصوت، يصل روح الشخصية بالآخر/ المتلقي؛ ويبدو هذا واضحا في قصة "عدوى المرح"، أو نرى الشخصية في صور كثيفة مقطعة فيما يشبه المونتاج السينمائي في قصة "النداء"، وقد ترتبط الشخصية بالعوالم الافتراضية التمثيلية، أو بنوع من الحضور الفني الآخر الذي يقاوم العدم؛ كما هو في فكر مارتن هيدجر؛ ونلاحظ ذلك العالم المختلف المجازي في قصتي "وجوه تبحث عن مؤلف"، و"فؤاد إسرائيل".

تبحث هدى توفيق – إذا – عن حضور فني آخر، يتولد عن أصالة البهجة التي صاحبت امتداد شخصيات الفن، وتواترها، أو تكرارها المختلف في لحظة الحضور؛ فثمة فرقة تمارس الفن الأدائي دون مقابل في بني سويف، تستعيد روح شابلن، وسيرته، وعلاقاته بشخصياته، وبتاريخه الإشكالي في سياق التجدد المقاوم لحتمية الموت في النص؛ فأصوات الجمهور، وأصوات الممثلين تتداخل مع صوت شابلن، وتجدد أطيافه، وتمزج بين عوالم الفن، والواقع، وقد تسائل الحضور الواقعي نفسه، والبنى الاجتماعية المهيمنة فيه.

وابتداء من عتبة العنوان / عدوى المرح، نلاحظ تأكيد دلالات الحضور الفني؛ ف"عدوى المرح" عنوان لمسرحية تستعيد أطياف شابلن، أو قوة حضوره المتجاوز لبنية الغياب المحتملة في تكوينه؛ فهل كانت صور شابلن الأدائية الأخرى تمثيلا متناقضا للوجود الذي يجمع بين المأساة، ومرح التجدد الفني؟

إن حالة الأداء المسرحي في القصة توحي بامتلاء فيزيقي تشبيهي مجرد للشخصية، أو تمزج بين الآني، والمقاوم لحتمية التحولات الزمنية في فعل الحكي؛ ففعل الجسد يوحي بالانتهاء، وبمعانقة الصورة البهيجة الأولى لشخصيات الفن في الوقت نفسه.

وتواصل هدى توفيق استبطان الشخصيات الأنثوية الفريدة في قصص المجموعة؛ فشخصية نجلاء تقع بين العمق الروحي الأسطوري، والوضع الهامشي في الواقع في قصة "النداء"، وتبحث البطلة عن السعادة في سياق من خلال وعي أنثوي بعلامات العالم في قصة "أين هي السعادة؟"؛ إذ تستعيد نماذج الأمومة، والحب، ولذة الاتصال بالعناصر الكونية، ثم تفكك مدلول قميص السعادة؛ إذ تبدو كهبة، أو كذكرى تكتسب قوة الفن المتجاوزة للموت، وتتولد حكايات السعادة في النص من انطباعات الوعي النسبية، ويظل السؤال معلقا، ويرتبط بالأخيلة الأنثوية، وإنتاجية النص، وتداعياته.

ويمكننا ملاحظة أربع تيمات فنية في المجموعة؛ هي: علاقات عبثية، وحضور فني وافتراضي، وشخصيات فريدة ساخرة، والحكي بين كثافة الصورة، ولذة الأداء.

أولا: علاقات عبثية:
ثمة انفصال بين العوالم الذاتية في علاقة الأنا بالآخر في المجموعة، أو يبدو انتظار التحقق الذاتي مؤجلا كما هو في عوالم بيكيت، أو تصل حدة انفصال وعي الأنا عن الآخر إلى مستوى الإقصاء العبثي للآخر بوصفه مغايرا للأنا؛ ومن ثم تطغى الآلية الميكانيكية على نموذج التواصل في سياق يغلب عليه التعارض، وعزلة الوعي؛ وهو ما يذكرنا بالعوالم الفنية لكامو، وبيكيت، ويونسكو، وأولبي، وغيرهم.

ونعاين الشعور بالانفصال بين الأنا، والآخر في سياق عائلي في قصة "الغازية لازم تنزل"؛ فالأب محمد طلعت البرنس تكبر تجارته، وينشغل عن أبنائه، وزوجته منى فتهمل ابنته المذاكرة، وتنشغل بعلاقات الحب، وابنته الصغيرة تراه بصورة متقطعة؛ فيبدو حضوره مؤجلا في وعيها، وزوجته تمارس الحب، ثم تتزوج من رجل يبدو كوحش، ويمارس ضدها العنف، ويتزوج البرنس من ثرية وحيدة، يقوم الأبناء بعد ذلك باستنزافها، وممارسة الإقصاء العبثي باتجاهها، ووصفها بالغزية، وحين تغلق الباب يطرقونه بهوس؛ لتخرج من حياتهم.

تبدو علاقات الانفصال العبثية هنا متصاعدة من الانشغال بالوظيفة الأدائية مع التماسك العائلي، حتى الإقصاء الممزوج باللعب باتجاه الزوجة الثانية؛ وهو ما يؤكد سؤال الوجود الخفي في النص؛ فالمرأة الأخرى تمارس دور الأمومة، بينما توصف بالراقصة؛ وهو ما يستدعي فكرة الخطيئة، أو الوصمة الزائفة في هذا السياق اللعبي الميكانيكي؛ فالآلية غير مبررة؛ ولكنها تعيد إنتاج التعارض في العلاقات الأصلية في النموذج العائلي.

إن التحول باتجاه العقل الأدائي في البنى الثقافية، والاجتماعية قد هيمن على صورة الأب، وأحدث انفصالا بين حضوره العائلي، والوظيفي؛ ومن ثم فقد صارت ذاتيته في المنزل مؤجلة، وأصبح لكل فرد لغة تخصه، وتنفصل عن الآخر في آن؛ ثم تتسع حركة التعارض، وما يصاحبها من عزلة للوعي حتى تصل إلى الطرد، أو الإقصاء المباشر؛ فالأم تطلق، وزوجها الجديد يمارس باتجاهها شكلا من امتلاك الجسد، والزوجة الثانية تنعزل في مواجهة هجوم غير معقول يمارسه الأبناء؛ وكأن النص يستعيد - في المرحلة الأخيرة – المراحل البدائية من الحروب العنيفة، ومقاومة المختلف في سياق أدائي يفكك مرجعية التواصل التي ارتبطت باللغة؛ فعلامة "الغزية" في وعي الأبناء فارغة، وتنتمي إلى تصاعد نغمات اللامعقول في النص.

ونعاين شخصية نجلاء الفريدة من خلال غياب نغمة الرد على ندائها الذاتي للحسن، أو الجمال في قصة "النداء"؛ فعاشقها مؤجل دائما، وملتبس بصورة الشاعر، أو بنموذج البطل الأسطوري، كما أن صورتها تجمع بين الخصوبة المؤجلة، والتفكك، أو الموت؛ فهي تعيش وحدها في غرفة معتمة، وتنتظر البطل، بينما يبدو صوته المتخيل في انتظار جودو كما تخيله بيكيت، وتتقاطع صورة حسناء التي تنعزل في أمنيتها أن تصير بطلة مع نجلاء في الجمال، ولكنها تحرفها، وتقاومها في الوقت نفسه، بينما يعاين الشاعر طلال الانتظار العبثي الأول نفسه للآخر أو الأنثى المؤجلة.

إن تكرار القطع بين المشاهد، والأصوات، يوحي بتنامي الانفصال عن الآخر، ومعاينة الذات للآخر الداخلي، دونما نهاية؛ فالآخر ملتبس دائما بنغمات الصمت، والغياب، والحضور الخيالي في الوعي، واللاوعي؛ أما النداء المتكرر للحسن، دون إجابة، فيؤكد ذلك الصمت الأول الذي يسبق النشوء، ووعي الذات بحضورها، أو بحضور الآخر؛ إنه الفضاء الفسيح الذي يجمع بين الحضور الملتبس بالاختفاء المجازي، وانتظار تحقق الهوية الإبداعية للصوت.

يبدو النداء المتواتر في النص أيضا كأثر لصوت مؤجل في صيرورة الكتابة التي تجمع بين الصورة السينمائية الطيفية، وعوالم الحلم التي تمزج بين وجه نجلاء والدماء الصاخبة، والتي توحي بالعدم، والحكي الأسطوري في الوقت نفسه؛ فهي تجسد أثر الخصوبة والغياب المضاعف في أخيلة الموت في سياق حلمي.

وترصد الساردة / البطلة حالة انعدام القيمة في حياة الطفلة التي تختبئ في صندوق القمامة، وتبحث عن الزجاجات الفارغة، وترى أن هذه هي قيمة العمل في قصة "قيمة العمل".

فهل تسخر البطلة من القيمة من خلال عبثيتها الخاصة في حالة الطفلة؟

إنها تستنزف مدلول العمل من داخل تقاطع صورة الفتاة مع تمردها هي على لامعقولية الهيمنة في عملها الخاص؛ وهو ما يذكرنا بعوالم كامو في "السقطة"؛ ورغبة البطل في التمرد، أو اللامبالاة إزاء مواقف الحياة اليومية الآلية، والوظيفية.

ثانيا: حضور فني وافتراضي:
تتعدد مستويات الدلالة المتعلقة بالوجود الفني، أو الافتراضي في "عدوى المرح" لهدى توفيق؛ فقد يختلط التاريخ بالنص، والأداء في حالة شابلن، وقد يمتزج العالم الافتراضي بالواقع في وعي الشخصية، أو نعاين الحضور الفني بوصفه وجودا حقيقيا يقاوم سلطة الزمن كما هو في فكر مارتن هيدجر؛ ويختلط الحضور الفني – في وعي الساردة – بأخيلة الماء، وما تحمله من تجدد مستمر لشخصيات الماضي، وتشبيهاتها المتكررة المقاومة لمركزية الموت.

تستعيد الساردة تاريخ شابلن، ولمحات من حياته في سياق فني يرتكز على سخريته، وحسه الإنساني العالمي في مواجهة المركز الحضاري المهيمن، ومرحه، فضلا عن علاقته بأمه، ورؤيته لتناقضات موتها؛ فقد عاشت أيامها الأخيرة في ملجأ بالقرب من أضواء هوليود؛ وكأن ذلك التناقض المصاحب لبنية الغياب، يوحي بامتداد حياتها في صورة تمثيلية مرحة في وعيه، وقد اختلط صوت شابلن الفني المستدعى من أعماله بصوت الممثلين، وأصوات الجمهور في حالة غريزية لاواعية، توحي بالإعلاء من الوجود الفني التشبيهي الآخر في النص، وكذلك التداخل بين الأداء اليومي، والمسرحي في نسيج يجمع بين الواقع، وصيرورة النص.

وتختلط أصوات الشخصيات الفنية بالبطل / المؤلف في قصة "أبطال قصصي العظماء"؛ فهي تمارس إغواء باتجاه الوجود الفني الذي يوشك أن يستبدل وجود البطل، وتاريخه، وهويته؛ فصورة زوربا اليوناني تأتي في المسافة بين الكتابة، وصيرورة الحياة، وبين صوت الشخصيات، وصوت المؤلف؛ وكأنه يوشك أن يولد في العالم الخيالي أو الافتراضي الفني، ويبحر في تلك المياه الممثلة لتراكم النصوص، والشخصيات الفنية، وسيولتها المتجددة خارج حتمية الزمن، وتحولاته.

إن تعددية الأصوات في القصة تومئ بالتداخل، والاختلاف بين الكتابة، والتاريخ، والموت، والحياة، والحياة الافتراضية المتجاوزة لبنية الغياب المحتملة.

وتقيم الساردة نوعا من التعارض البنائي بين نبوية، وأخيلتها، وعالمها الداخلي، وزوجها جاد صاحب التفكير النفعي في قصة "شخصيات تبحث عن مؤلف"، وتحاول نبوية تجاوز أحادية تفكير زوجها بتذكر جارتها السودانية التي عملت بالتطريز، وأقامت عالما افتراضيا بديلا عن الواقع مع الطيور، وأنتجت لغة إبداعية أنثوية خاصة معها؛ لتتغلب على الشعور بالوحدة، ثم اشتغلت نبوية بالتطريز، وأبدعت فيه، وحققت التداخل مع زوجها في التفكير التجاري، بينما تجاوزت مركزيته من خلال إنتاجية جمالية جديدة.

يبدو العالم الافتراضي في وعي كل من نبوية، وجارتها السودانية بديلا عن الصورة الأحادية للواقع في وعي الزوج / جاد؛ وكأن لغة جاد الآلية المهيمنة تتفاعل – في بنى الواقع والنص - مع تلك اللغات الأنثوية الجديدة المتعلقة بالتواصل الكوني، أو الإبداع في جماليات التطريز، انطلاقا من الطاقة الإبداعية الداخلية للمرأة.

ثالثا: شخصيات فريدة ساخرة:
تبرز الساردة في "عدوى المرح" لهدى توفيق السمات الفريدة، والساخرة في شخصيات يختلط واقعها بطفرات الفن؛ وكأنها تنبع من تاريخ الإطار الفني، وتولد مرة أخرى في السياق الواقعي بصورة ملتبسة؛ فالفتاة الجميلة التي تذهب لتستبدل الأنبوبة في إحدى القرى أمام البطل في قصة "أكره الثقافة"، تتجلى في وعي، ولاوعي البطل من تشكيلات ولادة فينوس في تاريخ الفن، وكأنها تتقاطع مع الأخيلة الفنية، وتناهضها من خلال سمتها الفريدة في النص؛ وهي الجمال الأدائي العالمي الطبيعي؛ إذ تمتزج بهويته المحلية سمات الجمال المكسيكية، أو البرازيلية، ونلاحظ سخرية النص ما بعد الحداثية من بنية الجمال الذي يقع في بنى اجتماعية حتمية، وقاسية، أو كأن الجمال الأدائي للفتاة يسخر من تاريخ الفن الذي تولد منه في وعي البطل، وطغى على الحسابات العقلانية المسبقة في وعيه.

وتؤول الساردة شخصية فؤاد اليسارية - في قصة "فؤاد إسرائيل" – انطلاقا من سمتي الغرابة، والسخرية من العلاقات النمطية بين الأشياء، والعلامات الواقعية؛ فهو طويل، وله فم كبير، ويشبه الوحش، ويختلط في وعيه الجدل السياسي، وأثر الأنا الأعلى، وقيمه الدينية، ثم نعاين سخريته من الثوابت في حديثه الافتراضي، والحلمي مع صورة صديقه المسلم المتوفي؛ فيذكره بلعبهما مع نفرتيتي في مكان يشبه العالم الآخر في الحلم.

إن شخصية فؤاد تفكك الموت من خلال الحياة الحلمية الخفية الكامنة في الصورة، وطاقتها الاستعارية، وتوحي بالتناقض بين أوامر الضمير، وانفتاح الصور، والأفكار في اللاوعي.

رابعا: الحكي بين كثافة الصورة، ولذة الأداء:
تتميز صورة نجلاء في قصة "النداء" بالكثافة؛ فهي تستدعي أساطير الخصوبة، وتؤجلها عن طريق سيادة ملمح الغياب، كما تجسد ملمحا أسطوريا أنثويا للنشوة المرتبطة بديونسيوس في الأسطورة، وتقع في مفارقة مع البطلة / الساردة، وتجمع بين الحياة المؤجلة، والموت المؤجل في آن.

أما انتقال التمثيل من صوت شابلن، إلى الآخر / الممثل، والآخرين / الجمهور في قصة "عدوى المرح" فيجسد لذة الأداء المجرد خارج تاريخ شابلن، وأعماله الفنية، وكأننا إزاء لذة الاستحضار الأدائي المتكرر لسخرية شابلن، وعالميته، وتناقضاته في واقع يشبه امتداد العمل الفني خارج مركزية الزمن، والتاريخ.

 

msameerster@gmail.com