لم يكن نجيب محفوظ عام 1983، أي خمس سنوات قبل حصوله على جائزة نوبل في الآداب، معروفاً في الغرب، إذ لم تكن هناك حتى ذلك الحين سوى رواية واحدة من رواياته قد ترجمت إلى الفرنسية، هي رواية زقاق المدق، نشرها يومئذ الراحل بيير برنار الذي كان مؤسس ومدير منشورات سندباد، المختصة بنشر التراث العربي الإسلامي والتي بدأت شيئاً فشيئاً آنئذ بالالتفات إلى الكتابات المعاصرة المحررة بالفرنسية من قبل كتاب المغرب العربي أولاً ثم بترجمة بعض أعمال كتاب المشرق. لكن الرواية العربية عموماً كانت، مثل روايات نجيب محفوظ، غير معروفة في فرنسا. إذ لم يكن عدد الروايات العربية المترجمة إلى الفرنسية يكاد يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة تقريباً، منها الرواية المذكورة بالإضافة إلى رواية ليلى بعلبكي "أنا أحيا"، ورواية جمال الغيطاني "الزيني بركات" اللتين يعود الفضل بنشرهما إلى مدير منشورات سوي، ميشيل شودكيفيتش. فضلاً عن رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" لدى منشورات سندباد.
وشاءت الظروف أن تكون أول مهمة أكلف بها عند بدء عملي في معهد العالم العربي بباريس أول ديسمبر 1983، الإشراف باسم المعهد على سلسلة تضم اثنتي عشر رواية عربية مترجمة للفرنسية كانت إدارته قد تعاقدت قبيل وصولي إليه على إنجازها مع دار نشر فرنسية واسعة الانتشار هي منشورات لاتيس. وكان لاختيار دار النشر هذه ما يبرره. فمنشوراتها واسعة الانتشار من ناحية، ولا تقتصر، شأن منشورات سندباد المذكورة، على نتاج ثقافة بعينها بل تنشر ما هو فرنسي وما هو أجنبي، مما يسهم في التعريف بثمرات الأدب العربي المعاصر بوصفها نتاج أدب أجنبي شأنه في ذلك شأن نتاج الآداب اليابانية والصينية والأمريكية أو الألمانية أو الإنجليزية وسواها.
أول خطوة قمت بها هي اختيار عدد من الكتاب العرب والفرنسيين أعضاء في لجنة استشارية لإبداء آرائهم في ما أقترحه للنشر ضمن هذه السلسلة محدودة العدد التي كان الغرض منها أن تكون حافزاً لدور النشر الفرنسية الأخرى كي تهتم بالأدب العربي المعاصر، وكي تسهم منشوراتها، من خلال اختيار المترجمين الشبان، في إخراج ثمرات هذا الأدب من جدران الجامعات وحلقات المستعربين أو المستشرقين كي يطال الجمهور الفرنسي العريض. هذا فضلاً عن أمل مزدوج لم يكن أحدنا في المعهد يبخل في التعبير عنه، وهو، من ناحية، رؤية هذه الروايات ذات يوم تباع لدى المكتبات التي تتواجد في محطات القطارات في طبعات شعبية تسهم في توزيعها على نطاق واسع وكذلك، ومن ناحية أخرى، حفز دور النشر الأوربية على الترجمة إلى لغاتها ما تمت ترجمته إلى الفرنسية.
كان قد تقرر افتتاح السلسلة بنشر روايتين، "الفجر البعيد" لفؤاد التكرلي، و"حكاية زهرة" لحنان الشيخ. لم تكن روايات أو قصص نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس أو جبرا إبراهيم جبرا أو عبد السلام العجيلي، على سبيل المثال ولا كذلك روايات الجيل التالي على هؤلاء قد طرحت من قبل مع الناشر كي يتم اختيار بعضها ضمن السلسلة. وهكذا، ففي أول اجتماع عقدته اللجنة الاستشارية في الربع الأول من عام 1984، قدمتُ للجميع ولاسيما لمديرة النشر لدى لدتيس، المرحومة أوديل كاي، اقتراحاً بمجموعة من العناوين للترجمة على رأسها ثلاثية نجيب محفوظ: "بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية". وسرعان ما انبرت ندى توميش، أستاذة الأدب العربي في جامعة السوربون، رافضة الاقتراح، قائلة بالحرف الواحد، إنها تفضل عليها أن تترجم رواية "اللص والكلاب"، نظراً لأنها تمثل فعلاً تجديداً حقيقياً في الكتابة الروائية، في حين أن الثلاثية ليست إلا "بضاعتنا رُدَّت إلينا"، فهي في نظرها لا تختلف عن الكتابة الروائية الكلاسيكية لدى بلزاك أو إميل زولا من حيث التقنية والاحتفال ببناء الشخصيات.
عبَّر العديد من الحاضرين عن آرائهم دون الانحياز لهذا الرأي أو ذاك. لكني وجدت أن القفز على ثلاثية نجيب محفوظ، التي يمكن اعتبارها الرواية المؤسِّسّة حقاً للكتابة الروائية العربية، إلى رواياته الأحدث الأخرى، لن يجعل من السلسلة التي نريد أشمل وأعمق تمثيلاً للحداثة الأدبية العربية المتمثلة في بعض جوانبها في الكتابة الروائية. وكان لابد من المضي في الدفاع عن أهمية ترجمة هذا المُبدع الضخم أياً كانت قرابته المفترضة أو المزعومة بمبدعات الروائيين الكلاسيكيين في فرنسا حسب رأي ندى توميش، أمام الناشرة الفرنسية التي سيعود إليها الفصل في هذا الموضوع وتقرير الرواية المختارة. صحيح أن أحد أهم الإنجازات، من وجهة نظري، الذي لن يمكن للقارئ الفرنسي أن يلمسه في الثلاثية مترجمة إلى الفرنسية، يتجسَّد على صعيد التقنية اللغوية والتعبيرية، وصحيح أن الإنجازات الأخرى، على كل مستويات الإبداع الروائي، وما أكثرها، ستتضح جلياً عبر الترجمة التي ستبرهن، إن كان ثمة حاجة إلى البرهنة، أن الرواية باتت الجنس الأدبي الأكثر تعبيراً عن الحداثة العربية بعد تأصيلها طوال النصف الأول من القرن العشرين على أيدي الروائيين الرواد في مصر وسوريا ولبنان خصوصاً. لكن ما كان يهم الناشر الفرنسي، قبل أي إنجاز شكلي أو لغوي أو تقني على صعيد الإبداع الروائي، إنما هي العناصر التي ستجعل الرواية تجذب أكبر عدد ممكن من القراء الفرنسيين عند نشرها. ومن هنا فقد ركزتُ في مداخلتي بعد استعراض سريع لكل العناصر التي تجعل من هذه الثلاثية عملاً استثنائياً في تاريخ الرواية العربية المعاصرة آنئذ، على كل ما يمتُّ إلى مضمونها ومبناها: كيف أمكن لها، بأجزائها الثلاثة وعبر حياة أسرة مصرية تندرج في عداد الطبقات الوسطى، أن ترصد تطور المجتمع المصري بأكمله على اختلاف النزعات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة فيه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن الماضي؛ وكيف استطاعت أن تقدم نماذج ذات دلالة عبر شخصيات الرواية على اختلافها وعلى رأسها شخصية أحمد عبد الجواد، في إشكالياتها وفي تناقضاتها وخصوصاً في تعبيرها عن الأوضاع الأيديولوجية والفكرية والاجتماعية للطبقات الوسطى المصرية في تلك المرحلة التاريخية والتي يمكن أن تنسحب بقدر يسير من التباين على كثير من المجتمعات العربية الأخرى.
كان ذلك كافياً ليحمل أوديل كاي على اتخاذ قرار ترجمة الثلاثية بصورة حاسمة. عُهِدَ بالترجمة إلى مترجم فرنسي شاب، فيليب فيجرو، الذي بدأ العمل على الفور منجزاً ترجمة الجزء الأول من الثلاثية، "بين القصرين" خلال سنة، الأمر الذي أتاح صدور الترجمة في بداية سبتمبر 1985 وعلى غلاف الكتاب شريط أحمر كتب عليه: تحفة الأدب المصري. كي يتوالى بعد ذلك نشر الجزءين التاليين: "قصر الشوق"، في شهر نوفمبر 1987 مع شريط كتب عليه: "فلوبير المصري"، وأخيراً "السكرية" التي حملت عنواناً مختلفاً: "حديقة الماضي"، في سبتمبر 1989، أي بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل.
ملك الرواية. كان ذلك هو العنوان الذي حملته صحيفة اللوموند في ملحقها الأسبوعي الخاص بالكتب إثر صدور "بين القصرين"، مع مقال شامل يقدم الروائي والرواية للقراء الفرنسيين باحتفال يليق به وبمبدعه. ثم توالت المقالات النقدية في الصحف والمجلات الأخرى معبرة عن إعجابها بهذا العمل الروائي الهائل، وهو ما أدى إلى نفاذ الآلاف الأربعة من النسخ التي اقتصرت عليها أول طبعة من الترجمة خلال أشهر معدودات مما اضطر منشورات لاتيس لإعادة طباعة الرواية ثانية وثالثة.
وبدأت دور النشر الأوربية العمل على ترجمة الثلاثية إلى لغاتها المختلفة. وحين صدر الجزء الثاني من الثلاثية عام 1987، كان القارئ الفرنسي قد بدأ يألف اسم نجيب محفوظ.
في تلك السنة بالذات، كنت قد بدأت الإعداد لتنظيم أول لقاء حول الإبداع الروائي اليوم يشارك فيه أربعون روائياً نصفهم من العرب والنصف الآخر من الفرنسيين. كما شرعت، لمناسبة هذا اللقاء بالذات، في تحضير العدد الخاص عن الكاتب العربي اليوم الذي ستصدره المجلة الأدبية الأشهر في فرنسا، وهي الماجازين ليتيرير، التي كان رئيس تحريرها آنئذ، الناقد والروائي الفرنسي جان جاك بروشيه، والذي وافق على إصداره في الشهر الذي كان اللقاء سيتم فيه، وهو شهر مارس 1988، شريطة أن أقوم بإعداده من الألف إلى الياء!
كان ضرورياً أن يتواجد في هذا اللقاء الروائيون الذين ترجمت بعض أعمالهم إلى الفرنسية لتسهيل الحوار بين الفريقين. وكان على رأس من طمحتُ إلى تواجدهم في هذا اللقاء بالطبع نجيب محفوظ. كتبت إليه رسالة طويلة أدعوه فيها وأرجوه بحرارة أن يقبل هذه الدعوة. لكنه أجابني معتذراً برسالة رقيقة يقول فيها مُبرِّراً: "... ولكن ما الحيلة ياسيدي والمسألة لم تعد مسألة مزاج في السفر أو عدمه ولكن وردت عليها أمور أهم كالعمر والصحة (...) فاعفُ عني وتقبل عذري...".
أمام اعتذاره عن عدم الحضور، كتبت له أسأله أن أجري مقابلة معه لهذا العدد الخاص. فكتب لي موافقاً: "... وثق ياسيدي بأنني أرحب بإجراء الحديث معك وذلك لسببين. أولاً أنه سيكون فرصة للتعارف، وثانياً أنه يناسب حالتي الصحية في الصيف حيث أمتنع عن القراءة والكتابة بسبب السكر والحساسية". سوى أن الظروف حالت بيني وبين السفر إلى القاهرة حينذاك. وصادف أن الروائية والشاعرة السورية سلوى النعيمي، وكانت عضواً في اللجنة التنظيمية لهذا اللقاء، كانت على وشك السفر إلى القاهرة. فرجوتها أن تقوم بإجراء المقابله مع نجيب محفوظ. فكان أن عادت بها وتمّ نشرها في هذا العدد. وكانت أول مقابلة مع ملك الرواية تقدم للقارئ الفرنسي.
لكن الحماس لترجمة روايات نجيب محفوظ لم يخمد أواره!
كان من بين الروايات المقترحة على لاتيس، بالإضافة إلى الثلاثية، رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". لكن مديرة السلسلة اعتذرت عن عدم النشر لأسباب لم تفصح عنها. فقمت بعرض الرواية على منشورات جاليمار، طامحاً إلى نشرها في سلسلته الشهيرة من العالم كله التي تضم ترجمات كبار الروائيين العالميين. حين قبل مسؤول السلسلة جان جيّو نشر الرواية بمساعدة معهد العالم العربي، وكانت أول رواية عربية تنشر في هذه السلسلة، طمعت أن أعرض عليه نشر رواية أخرى لنجيب محفوظ، هي رواية "ملحمة الحرافيش". قبل نجيب محفوظ ذلك لكنه أحالني إلى السيدة التي كان قد اتفق معها على ترجمة ونشر رواياته، والتي هرعت إلى مصر تستأثر بحقوق ترجمة رواياته بعد النجاح التجاري لجزئي الثلاثية. لكن هذه السيدة رفضت بإصرار أن يقوم معهد العالم العربي بنشرها وتحمل أعباء ترجمتها على غرار الثلاثية، فكان رفضها خيبة لي أولاً ولنجيب محفوظ ثانياً الذي عمل على أن يسحب منها ما تنازل لها عنه من حقوق في ترجمة أعماله.
حين أعلن عن منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، في شهر أكتوبر 1988، تضمن قرار منحها مقتطفات من المقابلة المنشورة في الماجازين ليتيرير التي خصصت عدد مارس 1988 لتقديم الكاتب العربي اليوم. كان ذلك يقدم بعض المعنى للعمل المنجز حتى ذلك الحين. لكن الأهم هو أن جائزة نوبل التي حملها نجيب محفوظ أسهمت بصورة حاسمة في إثارة اهتمام الناشرين الفرنسيين الآخرين بثمرات الأدب العربي المعاصر، فبادروا إلى العمل على ترجمة العديد من الروائيين من العالم العربي، الذين صارت أعمال بعضهم تطبع في طبعات شعبية وتباع في مكتبات محطات القطارات، مثلما توضع صورهم في معارض الكتب بباريس وفرنكفورت إلى جانب صور كبار الكتاب والشعراء الآخرين في العالم.
من رسائل نجيب محفوظ بمناسبة ترجمة الثلاثية والمشاركة في ندوة لقاء الروائيين العرب والفرنسيين (آذار/ مارس 1988)
* * *
(نشر هذا المقال في مجلة الهلال، كانون أول/ ديسمبر 2015، ص12-19)