1 - الإعارة
في الواقع لم يكن من عادتي أن آكل بنهم، ولكن لما رأيت المدعوين ينهشون اللحم نهشا، آثرت أن أغنم الفرصة لأنني لم آكل ما يفي بالغرض منذ ثلاثة أيام؛ منذ مجيء رئيس دولة درودونيا المخلوع. كنت قد أعرت لحراسته من دسائس وأطماع أعدائه وغرمائه الذين كانوا يسعون للإطاحة به. كانت هذه الإعارة تهدف إلى تعزيز التعاون وأواصر الصداقة بيننا نحن شعب سكونيا وشعب درودونيا. جبت معه – وأنا خلفه – بقاع العالم، ورأيت حسان الدنيا وأشرار الدنيا. وها أنذا الآن بعد الإعارة، والسجن لمدة ثلاثة أيام بدعوى مشاركتي في حكم دولة درودونيا، من خلف الكواليس، أحظى برعاية رئيس دولة سكوبيديا الذي مكنني من فرصة الحفاظ على سلامته من أعدائه وغرمائه الذين كانوا يسعون إلى الإطاحة به. كان قد ذهب لزيارة حديقة الحيوانات متذرعا بأن لا خوف عليه من غدر الحيوان، لأنه لا يسيء إلى من أحسن إليه. كان رأيه سديدا طبعا، لأنك لو سألتني عن ذلك، لأجبتك قائلا إنني لما كنت صغيرا كنت أمتطي ظهر الأتان. كنت أنعم براحة البال. أغمض عيني فلا تسقطني إلى الأرض. ترى ما الذي سيحدث لو ركبت ظهر الحمار...؟ آه، لا تسألني. كانت هذه الإعارة أيضا تهدف إلى تعزيز أواصر التعاون بيننا نحن شعب سكونيا وشعب سكوبيديا الذي ينتمي إلى العالم الثالث. وقد وفقت في تمتين صداقة بلدينا لما استطعت الحفاظ على سلامة رئيسه من ثلاثة انقلابات غذائية كادت تودي بحياة معدته. أمطره أعداؤه بوابل من الرصاص، فواجهت ذلك برباطة جأش قل نظيرها في العالم. كنت أمسك بالرصاصة فألقيها ذات اليمين وذات الشمال، فترى الأفواه فاغرة والأقدام لا تلمس الأرض وهي تعدو في الاتجاهات كلها. ولهذا السبب قربني إلى جنابه العالي، فصرت نديمه الذي لا يفارق عينيه.
أكلت بنهم وكأنني كنت أدري أن أعمالي العظيمة التي وهبتها العظماء ستهدم حياتي؛ أن أسجن إلى الأبد في قبو لأصادق العناكب والحيات والعقارب وأصنافا دقيقة من الحشرات النافعة. كانت المأدبة مؤامرة حيكت بذكاء؛ أن يقتل رئيس دولة سكوبيديا أمام أعين الحيوانات المفترسة وألا أنهي أكلي بسلام.
2 - القطيع.
نمت واستيقظت فارغ الذهن والقلب من أي عداء للناس .. ولهذا قررت أن أسامحهم .. طرقت باب من استدان مني ثم توارى عن الأنظار، فرجوته أن يعيش في أمان .. لقد سامحته .. سامحت الجزار الذي يبيعني لحم الحمير المدهون بنكهة الخروف .. سامحت أصدقائي الذين يقطعون لحمي كلما اختفيت عنهم..
سامحت من وشى بي..
ثم إنني دخلت بيتي وأنا عازم ألا أبرحه أبدا، فقد تخلصت من أدران الدنيا.
هرولت إلي زوجي فزعة.
ماذا فعلت أيها الأبله؟
_ سامحت الناس..
_ إنهم يودون لو يقتصون منك..
- القصاص؟ ولماذا؟ لقد سامحتهم .. أهذا أضرهم؟
- يقولون لم سامحتهم .. أنت لست مسيحا تخلص الناس من العذاب .. كانوا سعداء وهم أعداء .. لم سامحتهم؟
دخلت ابنتي باكية.
- ما بك يا ابنتي؟
- أحلَّت بنا مصيبة؟ لم تبتعد عني صديقاتي؟ صرن ينظرن إلي وكأنني مرض خبيث.
– يقولون إني لما سامحتهم سخرت منهم. ألا يريدون أن يكون المرء طيبا؟
_ كلا، ولهذا سأعلن أمام الملأ أنني لن أسامحهم .. وسأقتص منهم، وأقطع لحومهم إربا إربا، وأحتسي دماءهم..
فابتهج الأعداء لأنني عدت إلى القطيع مهزوما.
3 - انقلابات ثقافية.
- أصخ السمع.. إنه وزيرنا الجديد.
- فماذا حدث لوزيرنا القديم؟ أحلت به لعنة السياسة؟
- يشاع أنه...
- فهمت، ولكن ينبغي لنا ألا نصدق الإشاعات. إن ما حدث يسمى بتصفية الحسابات. اشرب شايك.
- وماذا نشرب غير الشاي؟ (يتجرع السم). تفحص وجهه جيدا. تبدو عليه أمارات الجد والحزم. سنلج حتما عالم الحزم شئنا أم أبينا.
- فليعش الحزم والجد. إن التواضع يقطر منه. كان وزيرنا القديم فخورا بنفسه. قطع شريط تدشين كهرباء قريتنا فكال لنا الشتائم لأننا لم نعره اهتماما.
- فلننكل به الآن. هو الآن كسير الجناحين.ها ها ها.
- يبدو أن وزيرنا الجديد فشل في السيطرة على الأوضاع المتردية فانهارت أعصابه. يا للمسكين.
- لم يفعل شيئا ذا بال.
- كهرب قريتين وبنى خمسين سجنا وعبّد طريقا واحدا. يا لفظاعة هذا العالم.!
- لم يفعل شيئا ذا بال. يشاع أنه دخل المستشفى.
- لا تصدق الإشاعات. سمعت أنه طلب حق اللجوء العاطفي من دولة عدوة لنا.
- بئس المصير.
- ها ها ها. نكل به.
- ماذا يحدث في عالمنا هذا. نغير وزراءنا كما لو كنا نغير مواقعنا في هذه الحياة.
- لا تستغرب لمثل هذه الأمور، فنحن نقتات منها.
- هي أشياء عادية تماما.
- أجل. أجل. انظر إلى وزيرنا الجديد. إنه يشبه وزيرنا السابق.
- تبدو عليه أمارات الجد والحزم.
- أنا أعرف هذه الطينة من الوزراء. إنهم يخفون الأعاجيب وراء ابتساماتهم الداعية إلى السلام.
- دعنا نسمع ما يقول. إن كلامه مؤثر جدا. تكاد عيناي تغرورقان بالدموع.
-هكذا تكون البداية دائما.
- أتعني أنهم يخدعوننا بمعسول الكلام؟ ( يوجه كلامه إلى التلفاز ). بالله عليك يا وزيرنا الجديد وضح ألغازك.
- يقول إننا من الدول الغنية.
- أخطأ صاحبنا.
- أنا أعرف الغاية التي يرمي إليها.
- أفدني.
- حتى نفتخر بما نملك.يقال: فاقد الشيء لا يعطيه.
- بالله عليك يا صاحبي، أأنت من حزب الشعب أم من حزب الوزير؟
- يقول إننا نمتلك ما يسعدنا. ألم أقل لك إنه حازم. سيكشف الوزير عن المكنون.
- أخشى عليه من الغرق في بحر النسيان.
- إن كلامه يستدر شفقتي على بلادي. آه، لو كنا نمتلك رجالا يسلوننا بحكاياتهم البلدية.
- ألم أقل لك إنني أخشى عليه من الغرق في بحر النسيان.
- هكذا هو حال السياسة، يوم لك ويوم عليك.
- أراد أن يكشف عن المكنون.
- كان يسعى إلى أن يرى بلاده من البلدان الغنية.
- كان محبا للفقراء، ولهذا بنى أربعين سجنا.
- فالأغنياء لا يحتاجون إلى وزراء. إنهم وزراء أنفسهم.
- اغرورقت عيناي بالدموع لما سمعت خبر عزله.
- ماذا يفعل الآن؟
- يشاع أنه انضم إلى المعارضة.
- ليقف سدا منبعا ضد العواصف الهوجاء.
- لقد أكل الدهر عليه وشرب. مضى عهد المعارضة.
- فمن يكون وزيرنا الجديد؟
- يشاع أنه من حزب..
- أنا سمعت أنه من حزب..
- لو كان من حزب.. لخرّب بيوتنا..لن ينسى ما فعله الشعب فيه..
- أجل. أجل. إنها والله لمصيبة. الأحزاب المضادة لحزبه تندد بما يقع..
- لا تثق بما يقال. نحن أدرى بمن يشغل باله بهمومنا.
- سنرى إن كان يستطيع أن يخرجنا من الظلمات إلى النور.
- مازلنا نؤدي ثمن فاتورة هاتفه..
- مضى عهد الجد والحزم إلى غير رجعة..دعه يمر، دعه يسرق..
- أرهق ظهورنا بحمل تبعاته ومخلفات حريقه.. كان حريقا مهولا أتى على الأخضر واليابس.
- لا تصنع من الحبة قبة كما يقال.لنتريث قبل أن نصدر أي حكم.
- ها قد مرت عشرون سنة..
- إنني لأرثي لهذا الرأس الذي استطاع أن يفهم تقلبات السياسة.
- يوم لك ويوم عليك.
- لا تبتئس. سيبتسم لنا الحظ في يوم ما.
- أجل. أجل. ولكننا كبرنا.
- سيحصد أبناؤنا الزرع الذي بذرناه.
- سيبتسم الحظ لهم. أليس كذلك؟
- بلى.
- طوبى لأبنائنا الذين لم يعثروا بعد على أي عمل.
- وطوبى لنا نحن الذين زرعنا الشوك..
- أنظر إليه..كأنه لم يبتسم أبدا.
- هذا يعني أننا ولجنا عهد الجد والحزم. إن المهمة التي ألقيت على عاتقه صعبة جدا.
- إننا مثل العجين. لن يجد صعوبة في عجننا.
_ هون على نفسك. يوم لك ويوم عليك.لا تتكهن بما لن يحدث.يشاع أنه من حزب...
- أنا سمعت أنه من حزب..
- هون على نفسك قليلا. إن له عليك حقا.
- إنني أتكهن بما سيحدث..
- صرنا مشغولين بشؤون الكبار.
- هذا صحيح.. يشاع أنه من المعارضة..
- أنا سمعت أنه اختلس ما طاب له من المال.
- لا تثق بأقوال من يعارض طموحاته. هي إشاعات لنشر الفوضى.
- ونحن ماذا سنجني من فوضى المعارضة. بئس المصير. اشرب شايك، فقد نسينا أحوالنا. ماذا فعلت يا هذا؟
يقف صاحبه مذعورا.
- أكلت حتى زجاج الكأس.
ونظر كل واحد منهما إلى صاحبه مشدوها. لقد ابيض شعرهما.صارا شيخين آيلين للسقوط.