في ذلك الجو المشحون بالرياح العاتية و الضباب الغاضب الذي يزمجر بين كل لحظة و لحظة، لم ننتبه إلى مرور الوقت بتلك السرعة الغريبة، كأنه لص تسلل بيننا و نحن نيام و اختفى كالبرق عند سماعه أولى تحركاتنا . كنا نلتقي كل ما سنحت لنا ظروفنا اليومية البائسة، و نترك الحرية لحواسنا و تفكيرنا أن تخرج من سجنها و تتصارع في فضاء الغرفة فيما بينها كأنها أصوات هائجة ولم تتكلم منذ زمن. كان لقاءا باهتا ذلك اليوم الذي تغيبت فيه صديقتنا صاحبة الوجه البشوش و التي بدونها لا تحلو الجلسات. كنا دائما نسألها عن سر ابتسامتها التي لا تنبض كشلال هارب من بين أعالي الجبال. تضحك كالعادة و تقول مرحة: هذا سر لن أبوح به أبدا. اسألوا عن "ارضات الوالدين". و نسخر منها وتحاول كل واحدة منا أن تسمعها رأيها قبل الأخرى بأننا نحن أيضا "مرضيات الوالدين" ونعود إلى ضحكاتنا و أسئلتنا التي لا تنتهي إلا بحلول ساعة الانصراف. جمال تلك الجلسة كان ناقصا بغيابها. حاولنا السؤال عنها لم نتوصل إلى نتيجة. فقررت الذهاب إلى بيتها في اليوم الموالي. طرقت الباب. صمت رهيب ممزوج بأنين كأنه آت من بئر عميقة. انتظرت قليلا ثم أعدت الطرق. قلت ربما تهيأ لي ذلك و انصرفت. التقينا من جديد، كنا بدونها لكن هذه المرة لا رغبة لنا في الحديث. كل واحدة منا في ركنها صامتة تفكر أو لا تفكر لكنه جمود في لحظة يساوي الموت. لأننا لم نتعود أن تتغيب إحدانا دون أن نعلم عنها شيئا. خاصة جميلة صاحبة الوجه البشوش. و ماهي إلى لحظات بين أحضان الحزن والكرب، حتى هلت علينا جميلة بابتسامة مصطنعة و خفة دم ثقيلة على الروح. أخبرتها بأننا كنا منزعجات من غيابها المفاجئ و بأنني قد مررت بالبيت حتى أطمئن عليها و لم أجد أحدا. سحابة حزن تلف وجهها البشوش، تحاول أن تداريها بضحكة أو ابتسامة. قالت باقتضاب: التزامات عائلية. و حولت دفة الكلام إلى أي شيء. طلبنا قهوة كالعادة وعدنا إلى إتمام حديث الأمس. شتاء هذه السنة كان قاسيا و أفرغ قلوبنا من الدفء. أمطار تتسارع فيما بينها تقرع نوافذ المقهى بكل قوة كما تقرع الأجراس أيام الحرب. و نحن نسخر من قوة الأمطار التي سوف لا تطالنا إذ مكثنا أكبر وقت ممكن في المقهى و تجاهلنا الزمن المحدد، إذ بصديقتنا جميلة، تنهار فجأة من على الطاولة و تغيب عن الوعي. انتفض قلبي من بين ضلوعي و ظننت أنها النهاية التي أتت مبكرة. حاولنا الاستنجاد بأي أحد حتى يساعدها بالإسعافات الأولية. تجمهر رواد المقهى حولنا كل واحد يدلي بدلوه. صببت الماء على وجهها ظانة بأنها غفوة و ستستيقظ. لا حراك فقط تشنجات متباعدة و تنفس بطيء. تهت و سخرت مني الأمطار والأشجار...كنا في صراع مع الموت حتى لا يخطفها من بيننا. جاءت سيارة الإسعاف بعدما انهارت قواي و كدت أستسلم. في قاعة الانتظار، أخذت أذرع الغرفة ذهابا و إيابا، طال الانتظار، جاء زوجها يستفسر عن الأمر بعينين جاحظتين ووجه ينط من ملامحه الهلع و الفزع. لحظات انتظار قاسية على الروح و الجسد كمن ينتظر الحكم بالإعدام.
عادت إلى وعيها. نظرت إلي بنظرات متعبة لا تقوى على التحديق أو السؤال. كان زوجها بجانبي. لم أرغب في إحراجه تركتها وذهبت على أمل لقاءها في الغد. كان صباحا ممطرا يحمل بين طياته برودة تلسع البدن. لم أنم تلك الليلة و لم أفهم ما حصل. الإنسان ضعيف إلى هذه الدرجة مهما ادعى الصمود و التحدي. جميلة، صديقة قديمة و أعز صديقاتي، أفتح لها مغاليق قلبي و أروي لها كل الشوائب التي تعكر صفوة حياتي. نجتمع مرارا نتكلم في كل شيء و أحيانا لا نقول شيئا. انضمت إلينا أخريات و كبر التجمع و صرنا لا نبتعد عن بعضنا إلا للضرورة القصوى. عاد السؤال يلح علي و ينتهك صمت دماغي، ماذا حصل لها؟ هل كان وراء ابتسامتها حزن عميق؟ لماذا لم تخبرني كالعادة...ظل دماغي مسافر مع الأسئلة التي لا تنتهي و المحيرة حتى طلع الفجر و انبثق من بين شقوقه نور خفيف و جميل يلامس الروح الكئيبة و يبعث على الأمل. كأنه صفاء هارب من صقيع الشتاء البارد الذي طال أمده هذه السنة. التقينا من جديد بدونها و كلنا حيرة من أمرها و نتأسف لحالها. فجأة، طلت علينا بابتسامتها التي لا تنبض و ضحكاتها المجلجلة. كانت مفاجأة غير متوقعة. سررنا لتواجدها معنا. حل صمت غريب لا نعرف كيف نبدأ الكلام و لا من أين. نادت على النادل و دعتنا أن نشرب على حسابها و لا داعي للسؤال. حاولنا التظاهر بالضحك و اللامبالاة. نظراتنا تدل على حيرتنا. شعرت بذلك، و قالت دون مقدمات:"عفوا على الإزعاج الذي سببته لكن بالأمس..."و قبل أن تسترسل في الكلام، قاطعتها بحدة قائلة:"لم تزعجنا سوى حالتك الصحية.." احتضنت كأس قهوتها بين يديها و قالت: لم أشعر ما حصل وكيف حصل فقط في لحظة شعرت بهبوط غريب و دوران حتى غبت عن الوعي." حديثها معنا ساعدني على طرح سؤالي الذي حيرني وأصابني بالأرق: ما سبب هذه السقطة المفاجئة يا جميلة، هل أنت بخير؟" نظرت إلي كأنني أصبت الهدف و اتجهت بنظراتها إلى الصديقتين الأخريين. قالت بصوت مهزوز رغم التظاهر بالقوة:"كثيرا ما تكلمنا هنا في هذه المقهى، عن خيانة الزوج .....صمت مشحون بدموع حارقة. و تابعت، لم أكن أظن أنه سيأتي يوما و أكون أنا الموضوع."بكت كثيرا بدون استئذان، زاد خوفنا عليها من انهيار آخر. نظرت إلينا و الابتسامة لا تفارق محياها المبلل بالدموع:" لن أسقط مرة ثانية. وضحكت. أريد فقط أن أتكلم و أحكي لأنني مخنوقة و جريحة. و بدأت الحكاية:
كنت مرارا أرهف السمع و تخترق آذاني جمل ثقيلة على النفس، تنطق بها نساء أصابتهن لعنة الخيانة. و كنت أقول، هن يكبرن الموضوع. يكفي فقط الحوار لمعالجة كل الآلام و الخصام. كم كنت بليدة في تحليلي للموضوع و ساذجة. لم أكن اشعر بهول الصدمة على النفس و الجسد كأنه جبل يهوي عليك. أخذت نفسا عميقا و رشفت من قهوتها التي كانت تحضنها بين يديها وتابعت، اكتشفت صدفة بأن زوجي له علاقة مع امرأة أخرى. و ما إن دفعت هذه الجملة الأليمة من فمها دفعا حتى رافقتها دموع غزيرة كأنها شلال آت من عدم. كنا كالتلاميذ في الفصل، لا نجرؤ على مقاطعتها بل مخطوفات من هول الخبر. أصابني ساعتها صداع حاد و منعني من التركيز و التصديق. "علاقة جميلة بزوجها بنيت على حب و احترام متبادل". سؤال جال بخاطري أثناء حديثها معنا. تخلخل تركيزي و فهمي للأشياء. صمت رهيب استوطن المكان واللحظة، سألتها صديقتنا المحبة للغو و الكلام الكثير بصوت مفزوع: كيف علمت بالخبر؟ انتصبت من نكبتها و حاولت التحكم في دموعها قائلة: كم كنت غبية حتى النخاع. وسالت دون أن تنتظر جوابا: هل فعلا المرأة ساذجة إلى هذه الدرجة؟ هل سذاجتها تولد معها أم هي مكتسبة؟ زفرات متتالية تطفئ نار الحرقة المشتعلة بداخلها، وتابعت: علمت الخبر صدفة. أقول الصدفة رقت لحالي و أيقظتني من غفلتي الطويلة. يومها، نسيت مفاتيح مكتبي في البيت. كان صباحا مشئوما و لكني أعود و أقول بأنه صباح جميل و مفرح رغم الآلام التي سببها لي. سمعته يتكلم في الهاتف بصوت مرتفع و بكل حرية كأنه عاشق متيم. وهنا توقفت عن الكلام المباح. صمتت حتى خشينا عليها رغم ما يقوله الطب النفسي بأن في الحديث دواء. استمرت بشكل مفاجئ و قالت وصوتها مخنوق: كلام جميل جدا لم أسمعه منه في حياتي. عدت بأفكاري إلى الأمس القريب، لما كانت تستسلم لجبروته و لا تقوى على معاندته أو معارضته رغم قراراته المتحكمة و المتسلطة. بحجة أنها لا ترغب في مشاكل نجلب إليها صداع الرأس. سألت نفسي بعيدا عن صوتها المعذب، لماذا تنحني دائما المرأة للعاصفة حتى تمر وغالبا ما تصيبها عند مرورها و لا تقوى على النهوض؟ عدت بذاكرتي إلى حديث سابق معها. كانت تنحني أمام أوامره بحرقة و طيبة خاطر. تقول لي دائما" لا أريد مشاكل معه.." وتمشي إلى يومها المسطر لها منذ أن خبأت رأسها في الرمال حتى تمر العاصفة. تجاهلنا في ذلك اليوم، الزمن المسلط على أعناقنا و أرواحنا، و تمردنا على قواعد مشينا عليها بإرادتنا أو بغير إرادتنا. طلبنا منها أن تكمل الحكاية التي تعني كل واحدة فينا. تابعت و الدموع ترفض أن تجف: كنت يوم أسافر، يكون حريصا على أن يوصلني أو يسال عني بين كل لحظة و أخرى. لا يرغب أن أتأخر كثيرا. يرفض أن أترك البيت مرارا..همت في اهتمامه المرضي وأعجبني وكان يرضي غروري كأنثى تبحث عن الاهتمام الزائد. ضربت كفا بكف بقوة حتى احمرت يداها وقالت"كم كنت غبية.."حاولنا من جهتنا أن نخفف عنها بكلام اكتشفت فيما بعد أن لا معنى له. ماذا يقال في مثل هذه المصائب ؟ قالت الأولى: لا تهتمي للأمر الرجال مثل بعض. صحتك أهم. و تابعت الثانية كأنهما رأسين و افترقا: "صحيح الرجل مهما عمل سيعود إلى بيته. و ما تلك العلاقة سوى نزوة عابرة. لا تكبري الموضوع." جفت الكلمات في حلقي ورفضت الكلام وسط هذا الضجيج من المفاهيم المغلوطة. سألتها و الدم يغلي في عروقي: هل واجهته بالأمر؟ قالت بابتسامة ممزوجة بالسخرية: في الأول أنكر، لكنه أمام إصراري على معرفة الموضوع، توهني بكلام غامض لا يرد إلي كرامتي، بأنه ليست هناك أصلا علاقة..هي فقط حادثة طريق على الهامش...و أغلق الموضوع و راح إلى حال سبيله. أحيانا تجمعك علاقة صداقة بأشخاص لا تتقاطع معهم بنفس الأفكار لكن هناك أشياء أخرى جميلة تجرك إليهم وتعمل على أن تعيش لحظات معهم خارج الزمن. أعيش حالة مد و جزر مع صديقتي الأولى و الثانية، تحملان موانع الأهل و القبيلة بين ضلوعهما و لا ترغبان في لفظهما و مع ذلك لهما مكانة في قلبي. أعادت الصديقة الأولى نفس الفكرة محاولة بصوت حاد و عينين جاحظتين أن تسلب السؤال و الدهشة من كلمات جميلة و إعادتها إلى الصواب المتعارف عليه. بدت لي كفقيهة تملك بزمام الأمور وتفتي بكل ثقة فيما يخص الناس من أمور دنياهم. اشمأزت نفسي لهذا الخطاب البائس الذي بدا لي كأفعى تزحف في صمت وتتربص بك حتى تشل كل أعضاءك و تمنع عنك التفكير. لم تجب جميلة. ظلت سابحة في حيرتها. أخذنا كلام عابر كأن شيئا لم يحصل. مر زمن و نحن نتحدث. اختلط الكلام و تقارعت الأفكار و امتلكنا ساعتها الفضاء و استحال حلبة مصارعة. بين الفينة و الأخرى، تحتمي جميلة بالصمت و لا تشاركنا الحوار. كأنها تجد في الامتناع عن الكلام نوع من الراحة النفسية المؤقتة التي لا تشفي الغليل و لكنه نوع من الصبر الذي بدأ يتسلل إلى روحها الجريحة. كاستراحة المحارب بعد عناء طويل مع الدمار و الدم السائل. طلبت كاس قهوة آخر، حنت عليه بخدها الموجوع، أغمضت عينيها و هامت مع نفسها ربما تبحث عن ملجأ آخر يقيها حر الشمس وعنف اللفظ. لم نرغب أن نوقظها من غيبوبتها الاختيارية، همست لي صديقتي الأولى و قالت بصوت خافت "مسكينة، أخاف عليها من انهيار آخر..هي حمقاء..الرجال كلهم بحال.. بحال.." لم أشعر و أنا أنهرها و لم أفعلها من قبل. لكن مسكنتها آلمتني و حركت صبري إلى اندفاع و دفاع عن النفس التي تتألم. قلت لها بنبرة حادة و غير مألوفة "ما أصابها ليس هينا و من حقها أن تتألم و تبكي..و تلعن حتى اليوم الذي تعرفت فيه عليه.."لم أسكت ساعتها و تدفقت الكلمات من فمي بقوة جارفة. نهضت من مكاني لا ألوي على شيء، التحقت بي جميلة و كأس القهوة لا يفارق يديها كأنها تحمل حياتها. لم أرغب في العودة إلى المقهى، قلت بشكل عفوي"أنا أعزهما كثيرا لكني أكره مثل هذه البلادة والاستسلام.." مسحت بيدها على شعري و قالت لي بهدوء ينذر بعاصفة"أنت الوحيدة التي حرصت على كرامتي..كل من سمع قصتي، لا يستغرب ويتفاجأ من سلوكي كأنه شاذ. و يطلب مني النسيان و العيش بسلام.."مشينا كثيرا لم نحسب خطواتنا التائهة والمترددة، سألتني بشكل مفاجئ:"هل أنا مجنونة؟ هل من الطبيعي أن أصمت حتى تمشي الرياح ؟ .."قلت لها بصوت واثق:" المجتمع يرفض التمرد على المألوف و يخاف من الجديد. خيانة الرجل لزوجته جزء من هذا المجتمع و تحولت إلى شيء مألوف و الرجال بحال..بحال..كما قالت صديقتنا.."و لا يجب أن تكون أفكارنا بحال.. بحال". ثم أضفت و قلت لها"لكنك يا جميلة أنت من خبأت رأسك في الرمال في البداية.."صمتت كالعادة و ضحكت و ضحكنا بشكل حقيقي . توردت وجنتيها وتدفق الدم بشكل سريع في كل جزء من أجزاء جسمها المتهالك. "هجرني الضحك منذ طعنت في الظهر" دفعتها من فمها دفعا مع زفرات متتالية. كنت عاجزة عن لَمّْ جراحها و نزع الشوك عن روحها. كلام في كلام يخفف أحيانا لكن مداه قصير. استوطن الليل المكان، تغير وجه المدينة و اكتسى مسحة من الهدوء و الطمأنينة. تنسابان بهدوء إلى شرايينك وأعضاءك وتشلان كل نزعة قلق أو توتر و تسترخي بشكل غريب. هذا ما كانت تحتاج إليه جميلة الغارقة في حزن أبدي و جرح عميق لامس الروح و الجسد. الجرح الخارجي يمكن القضاء عليه و ترميمه لكن ما يمس النفس و يخدش جمالها وهدوءها لا تندمل جراحه حتى الزمن لا يفعل مفعوله. تبقى هناك رغبة خفية وغير قوية تبحث عن الرغبة في البقاء و الاستمرار في العيش ربما من أجل الآخرين. قالتها بصوت مرتعش "لقد حكيت ما وقع لي إلى أولادي ظانة منهم أنهم سيسندوني. لكن طلبهم كان صعبا ذبحني مرة أخرى." مسحت دموعها من جديد ونظرت إلى الفارغ المترامي الأطراف أمامنا، و تابعت دون أن تنظر إلي "قالوا لي اصبري.. و لا أفرق شمل العائلة" ضربت كفا بكف و قالت بصوت مرتفع غير آبهة بمن حولنا"أنا سأفرق شمل العائلة؟ أليس هذا جنون؟ " حاولت التخفيف عنها من هول الصدمة. في قرارة نفسي، كنت أتمنى أن أقول لها "لا أحد يستحق تضحياتك الكثيرة ولا تبكي عليهم."لكن لاحظت أنها مشدودة إلى بيتها الذي بنته بكل حب و ليست لها الجرأة على المضي إلى الأمام و عدم الالتفاف إلى الوراء. كانت ليلة طويلة من ليالي الشتاء البارد، رغم قصر الليل الطبيعي، طال حديثنا و طال..لأن الجرح أعادنا إلى الوراء لحظة بلحظة. فتشت عن كلمات في قاموسي الخاص حتى لا أجج نار الانتقام المستحيل والخلاص الممنوع. قلت و أنا أحاول أن تنزل كلماتي على روحها بردا و سلاما."جميلة، حاولي الآن أن تسيطري على أعصابك وتتحكمي في أفكارك و قرري فيما بعد. لا داعي أن تضاعفي من جروحك..حاولي أن تكوني قوية.."ابتسمت بعدما هجرتها الابتسامة و النفس المرحة و قالت"ياه يا أختي، كم هو صعب أن تعيشي في مكان واحد مع جلادك و لا تستطيع أن تطوله اليد". تابعنا مشينا بين دروب المدينة المتلألئة بالأنوار والغاصة بضجيج السيارات، هناك حياة مليئة بالصخب و الفوضى و الأمل و الجمال. صمتت جميلة ونحن نجر خطواتنا البطيئة كأنها مشلولة، كانت نظراتها فارغة، وجهها لا حياة به فكرها شارد..آلمتني حالها و تمنيت من كل قلبي أن أصرخ في وجهها و أطلب منها أن تخلف كل شيء وراءها و تبدأ من جديد. أفكار متمردة مرت بسرعة في ذهني لكنها تستحق أن نفكر فيها. همست إليها حتى لا تنزعج"جميلة، أرجوك..الموقف جد صعب..لا تحسدين عليه..لكن نفسك، حرام أن تعذبيها.."قالت كأنها لم تسمعني"أعرف نساء يعلمن بخيانة الزوج و يعشن بشكل عادي. أيعقل أن تكون المرأة بدون إحساس؟ هل سلوكي طبيعي؟"غيرت من نيرة صوتي حتى أوقظها من سباتها "الطبيعي هو ما قمت به . لقد قلنا بأن المجتمع يرفض من يفكر لوحده..أنت من حقك أن ترفضي هذا الوضع و تطلبي الطلاق." أخيرا قلتها. فاجأتني بشكل هادئ"لقد فكرت في ذلك لكن أولادي منعوني و أنا أحب أولادي و لا أستطيع أن أسبب لهم التعاسة مرة أخرى". نظرت إليها و قلت " صرت تتكلمين بلسانهم. زوجك هو من جلب إليكم التعاسة و من حقك الدفاع عن نفسك" توقفت قليلا وأطلقت العنان لزفرات كأنها آتية من أعماق الأرض و قالت "أنأ أكرهه لكن مضطرة للتعايش معه من أجل أولادي. حياتي كلها انهارت في لحظة و تمنيت لو عدت إلى شبابي ..كنت عمياء بحبه..ربما الخيانة كانت مستمرة منذ مدة و أنا نائمة. هذا ما يعذبني أكثر. عشرة سنين كلها تطفو على السطح و يتبخر كل شيء. صرت نادمة على كل لحظة مرت من هنا. في كل لحظة خيانة لي..كم كنت غبية ..." وانزوت جانبا تناجي دموعها الغالية.
تدفقت الأيام كما تتدفق المياه من أعالي الجبال، مر فصل الشتاء ببرودته و رعده و رياحه العاتية و آلامه و أحزانه وقليل من أفراحه. سافر بنا بشكل سريع عابرا لكل النظم الطبيعية و حط بنا الرحال فوق صفيح ساخن ينذر بصيف قائظ يحرق الأبدان و يلهب الأنفاس. تسلل الزمن من بين أيدينا، كدنا أن ننسى أو تناسينا المصيبة التي كسرت ظهر جميلة. لقاءاتنا استمرت و استمرت الحياة بشكل طبيعي، يوما قلت لجميلة و لم أكن أنوي أن أوقظ جرحا نائما" كيف حالك الآن؟ " تمنيت ساعتها لو انشقت الأرض و تهت في أعماقها، سكتت قليلا و قالت مع دمعة هاربة من جفونها:" أنا أحاول أن أعيش." و خبأت عينيها وراء نظارة سوداء و طلبت كأس قهوة و تجاذبت معي أطراف حديث عادي عن البيت والأولاد و العمل الروتيني. حتى قالت لي و النظارة لا تفارق عينيها:" لم أكن أعلم أنه يجب على المرأة أن تنحني للعواصف و تحاول أن تعيش." تابعت بنفس النبرة" تحمل بداخلها قوة كبيرة ..و غير مفهومة.."التفتت إلي و سألتني بشكل مفاجئ:" لماذا المرأة دائما تحاول أن تعيش حياتها لكن الرجل يعيش حياته؟"تهيأت للجواب لكنها ذهبت و تركتني كأنها كانت تحدث نفسها و النظارة تمسح دموعها التي ترفض أن تنبض و استمرت في المشي دون أن تتوقف أو تلتفت إلى الوراء.