بدر الديب: مؤسس قصيدة النثر المصرية
كثيرة هى الكتابات التى حاولت أن تقعد لقصيدة النثر المصرية بالذهاب إلى ما قدمه بعض الشعراء الرومانتيكيين من كتابات مرسلة،خالية من العروض، وهم فى ذهابهم إلى هذا النحو من التقعيد إنما يخلطون بين قصيدة النثر العربية وبين الكتابات المرسلة، التى تنتمى إلى حركة الشعر الرومانتيكى،رؤية وخيالا وصياغة ومعجماً، ولا تختلف عنه سوى فى التخفف من العروض الخليلى، كما يؤكدون على الفصل بين القصيدة كما يعرفونها كلاماً موزوناً مقفى يزيد عن سبعة أبيات، أو كلاماً موزوناً فى حدود شعر التفعيلة وبين قصيدة النثر العربية. وفى نظرنا أن هذا التقعيد لقصيدة النثر المصرية خاطىء شكلاً وموضوعاً لأن العروض ليس المعيار الذى يميز قصيدة النثر عن قصيدة التفعيلة أو الشعر العمودى، كما أن الكتابات الرومانتيكية السالفة لحسين عفيف وأضرابه من الكتاب والشعراء الرومانتيكيين ليست السلف الحقيقى لقصيدة النثر المعاصرة، والخطأ الذى وقع فيه النقاد الذين قالوا بذلك يأتى أساساً من عدم قدرتهم على رؤية ما وراء العروض فى الشعر أو عدم إدراكهم ماهية الشعر، وكيف تتبدى، سواء اعتمد الشاعر بحوراً خليلية أو اعتمد بحوراً غير خليلية، أو اعتمد قانوناً إيقاعياً من التباديل والتوافيق الإيقاعية اللانهائية التى يوجدها كل اتساق لغوى حامل لرؤية، لا يمكن حكيها أو وصفها، أو تلخيصها، فهكذا القصيدة أيا كان إيقاع شاعرها، أيضاً يأتى الخطأ الأكبر لعموم النقاد المعاصرين من خلطهم بين الأنواع الشعرية فى مقارنات لا تصح، فلا يصح مثلا، أن نعرف قصيدة النثر بنوع شعرى آخر هو قصيدة التفعيلة فنقول بأن قصيدة النثر هى قصيدة التفعيلة الخالية من التفعيلة، بلى يجب أن نعرف قصيدة النثر من مقوماتها وجمالياتها وأسئلتها ورؤاها، ومن ثم ننظر إلى بدايات تشكل هذه المقومات والجماليات والرؤى فنجد أنفسنا أمام الأساس الذى قامت عليه القصيدة، وأمام المؤسسين لها وفى ظنى أن المؤسسين لقصيدة النثر فى مصر أربعة شعراء هم بدر الديب، لويس عوض، محمد منير رمزى، إبراهيم شكر الله، وإن كان أبرزهم نتاجا وأكثرهم قدرة على الإمساك بالشعر هو بدر الديب، فـ لويس عوض لم يكتب سوى عدد محدود جداً من قصائد النثر الفصحى، ضمنها ديوانه "بلوتولاند" ومحمد منير رمزى كتب قصائد مرهفة بها روح الرومانتيكيين الإنجليز، فى شبابه المبكر قبل أن يغيب بإرادته، وإبراهيم شكر الله له ديوان واحد نشر فى أواخر الثمانينات الماضية بالإضافة إلى عدد من القصائد المخطوطة التى لم تنشر بعد، أما بدر الديب فقد أنجز عدداً من الدواوين البارزة فى قصيدة النثر العربى ولعل نظرة إلى أعماله الشعرية المتواصلة توضح لنا ذلك، فقد كتب بدر الديب كتاب حرف الـ ح عام 1948، لكنه نشر متأخرا فى الثمانينات، وبعد نشره، جاءت الأعمال: "السين والطلسم"، "تلال من عروب"، "إعادة حكاية حاسب كريم الدين وملكة الحيات" التى نعدها تجربة شعرية ذات طابع ملحمى، بينما يقدمها المؤلف على أنها رواية ذات معمار خاص تقوم على مفهوم إعادة الحكاية التراثية، "المستحيل والقيمة" و "أقسام وعزائم"، "مقطوعات مرغمة"، "نزهة قمرية"، "عودة حرف الـ ح" أى أن لـ بدر الديب تسعة أعمال شعرية، تواصلت منذ عام 1948 وحتى 2..5 وهو بذلك كان من أوائل المؤسسين العرب لقصيدة النثر، عاصر جميع تحولاتها وأنجز خلال العقود الماضية معماره الشعرى الخاص الذى يجمع بين الفكر والشعر فى إطار واحد. وفى مجمل عمل بدر الديب الشعرى تأسيس وتواصل واندفاع باتجاه الحرية فى الشعر والإضافة فى الشعر والإيمان بالشعر نفسه، رباً سابقاً على كل رب. ونلمس أكثر من أى شىء آخر ثلاثة مرتكزات، تمثل الثالوث المقدس الذى يقوم عليه عمل بدر الديب الشعرى: ماهية الشعر والتفكير والمرأة. مطلق الشعر يرى بدر الديب الشعر فى موضوع الآلهة، يستحق أن يُعبد أولاً فكل شىء مع الشعر موصول، لا توقف فيه ولا خلل، هو الذى يحيى الوجود ويقيمه ويعطيه فى نفسه القيمة وإن حاولوا جميعاً سحبها منه. الشعر لديه، هو الأعمق والأصلب والأسهل والأبسط والأمهر والأجمل والأشمل والأكمل، ذو الجلال، يوصى ولا يوصى عليه، يحمى ولا يحمى، يحيط ولا يحاط به، هو المتعدد المتنوع المتجدد، هو النسغ الحى فى النبات، وهو الشوق إلى المجهول لدى الإنسان، هو المستحيل وهو السعى خلف المستحيل، هو القيمة الموضوعة وهو دم الحب الذى يتدفق خلالها فيكسبها القيمة. الشعر لديه إرادة أعلى من كل إرادة ومحرك أسبق من كل محرك يقيم الوجود ويحييه ويعطيه فى نفسه القيمة، وذلك فى دورة مدة أما فى دورة جذره وغضبه وانسحابه، فتحسب كل قيمة من العالم بل قد ينسحب العالم نفسه ولا يعود له وجود. إرادة كهذه، إرادة الشعر يستحق أن تعبد وأن تقدس وأن يبشر بها الشاعر فى مجمل عمله وإن كان تجليها يرتبط بمشيئة لم تحل أسرارها إلى الآن. مطلق التفكير "التفكير هو سر عظمة الإنسان"، عبارة لبدر الديب، وله أيضاً: "التفكير يجب أن تكون له قداسة كالقداسة التى تسبب للآلهة فهو أعلى من أى مقدس ومن أى مطلق، وهو فى نفس الوقت، صانع الوهم والخطأ، مسقط الإنسان فى الخطيئة". وله: "ضع التفكير على الوجع يخفف، وامسح بالتفكير الجرح، يصبح احتماله ممكناً" وتشيع فى نصوص بدر الديب كلها عبارة "القول الثقيل" ويعنى بها فى الحقيقة مركب مطلقين ـ إذا جاز التعبير ـ المطلق الأول هو الشعر والثانى هو التفكير، فكل أشعاره، بل كل نصوصه، تتجلى فيها الحكمة المركزة المكثفة التى ـ بحسب قوله ـ كالكريستال أو كالسكر المركز لا تؤكل ولا تشرب، بل تجرح العين واللسان وتفرض الصمت والنظرة الساكنة. فى كل عمل الشاعر انسياب للوعى وتلاحق من الكشوف العقلية والتقاء علاقات بكر، لا تلتقى إلا فى قلبه المتوهج، وأعنى بالقلب هنا موضع التقاء العقل والروح والبصيرة. يقول فى فاتحة قصيدة "مجنون ليلى" من ديوان "مقطوعات مرغمة" "كل عشق جريمة ترتكبها الروح بلا مبرر أو هدف" هذان البيتان يمتلئان بالعذوبة وبدم الشعر وفى نفس الوقت يمتلئان بالكشف العقلى الذى يفسره الشاعر فى متن القصيدة تفسيراً يخلف المألوف والمستقر، والمتعة التى نحصلها من هذين البيتين ليست متعة سبق تحصيلها، مثلما يحدث من تلقى الغنائيات المتراكمة فى الشعر العربى قديمة وحديثة، بل هى متعة بكر، طالما سعينا خلفها أو توهمنا أننا قاربنا أطيافها، ومن طول مادرنا حول هذه الأطياف، ُخيل إلينا أن عذوبتها التى نحسها فى أرواحنا قديمة وموجودة ومتاحة أمام أنظارنا، بل كشفها أمامنا الشاعر، فرأينا وجودها المستقر، واستشعرنا عذوبتها، وإلا كيف يكون كل عشق جريمة؟ كيف نستعذب المخالفة لكل ما اعتدناه فى العشق، كأنما هذه المخالفة المبتكرة التى يسوقها الشاعر هى الأصل والتراث الممتد العريض حولنا وفى أدمغتنا عن العشق! إن قدرة الشاعر على الكشف، على اجتراح الحكمة وتركيزها على استخلاصها، وقدرته على إعمال التفكير، تجعل لنتاجه الشعرى وهجاً ساحراً عذباً، يخالف كل ضوء آخر، قد يأتى من العاطفة المشبوبة وحدها، أو من مهارة ودربة الشاعر الذى يعزف يتمكن على أوتار سبقه إليها آخرون. وهذا ما أقصده، بالتقاء الشعر والتفكير عند بدر الديب فى مركب مطلقين، العمل الناجح للعقل والروح معاً فى لحظة واحدة. مطلق المرأة المرأة لدى بدر الديب باعث للوجود، وأعلى بكثير من الرجل. أليست هى الحاملة للرحم، المستحيل الذى يمتلكة الرجل لحظة ثم يفقده ويظل يسعى خلفه طوال حياته ولا يصل إليه. يظل الرجل فى سعيه الدائم خلف المرأة المتعالية، يخترقها ويستعيدها فتظل بكراً رغم اختراق، "فكل امرأة بكر" وتظل إلهة لا يدانيها إلا المحب وحده المقدر له أن يجاوز قصوره وأن يصل إلى تعاليها، أو ليس المحب هو المنتصر على الموت بالتصالح معه: "عندما يبطل الحوار، نريد أن نموت، وعندما يندفع الحب يبطل الحوار حرف الـ ح" المحب العظيم، هو الشاعر العظيم، والحب دين الشاعر ومنهجه فى الاقتراب من المرأة المتعالية، فمقاربتها هو التعويض الوحيد والبلسم المتاح لعدم العودة إلى الرحم، والوصال طريق الإبقاء على الوجود قريباً من حضن الإلهة ونعمة رحمها. يقول بدر الديب: العذراء، دخل عليها الأسد ليفترس، فمسحت على لبدته بكفها، ولما نام ذبحته العذراء. ولو دخل الأسد إليها محباً لأعطته نعمتها، لأخلدته.
كثيرة هى الكتابات التى حاولت أن تقعد لقصيدة النثر المصرية بالذهاب إلى ما قدمه بعض الشعراء الرومانتيكيين من كتابات مرسلة،خالية من العروض، وهم فى ذهابهم إلى هذا النحو من التقعيد إنما يخلطون بين قصيدة النثر العربية وبين الكتابات المرسلة، التى تنتمى إلى حركة الشعر الرومانتيكى،رؤية وخيالا وصياغة ومعجماً، ولا تختلف عنه سوى فى التخفف من العروض الخليلى، كما يؤكدون على الفصل بين القصيدة كما يعرفونها كلاماً موزوناً مقفى يزيد عن سبعة أبيات، أو كلاماً موزوناً فى حدود شعر التفعيلة وبين قصيدة النثر العربية.
وفى نظرنا أن هذا التقعيد لقصيدة النثر المصرية خاطىء شكلاً وموضوعاً لأن العروض ليس المعيار الذى يميز قصيدة النثر عن قصيدة التفعيلة أو الشعر العمودى، كما أن الكتابات الرومانتيكية السالفة لحسين عفيف وأضرابه من الكتاب والشعراء الرومانتيكيين ليست السلف الحقيقى لقصيدة النثر المعاصرة، والخطأ الذى وقع فيه النقاد الذين قالوا بذلك يأتى أساساً من عدم قدرتهم على رؤية ما وراء العروض فى الشعر أو عدم إدراكهم ماهية الشعر، وكيف تتبدى، سواء اعتمد الشاعر بحوراً خليلية أو اعتمد بحوراً غير خليلية، أو اعتمد قانوناً إيقاعياً من التباديل والتوافيق الإيقاعية اللانهائية التى يوجدها كل اتساق لغوى حامل لرؤية، لا يمكن حكيها أو وصفها، أو تلخيصها، فهكذا القصيدة أيا كان إيقاع شاعرها، أيضاً يأتى الخطأ الأكبر لعموم النقاد المعاصرين من خلطهم بين الأنواع الشعرية فى مقارنات لا تصح، فلا يصح مثلا، أن نعرف قصيدة النثر بنوع شعرى آخر هو قصيدة التفعيلة فنقول بأن قصيدة النثر هى قصيدة التفعيلة الخالية من التفعيلة، بلى يجب أن نعرف قصيدة النثر من مقوماتها وجمالياتها وأسئلتها ورؤاها، ومن ثم ننظر إلى بدايات تشكل هذه المقومات والجماليات والرؤى فنجد أنفسنا أمام الأساس الذى قامت عليه القصيدة، وأمام المؤسسين لها وفى ظنى أن المؤسسين لقصيدة النثر فى مصر أربعة شعراء هم بدر الديب، لويس عوض، محمد منير رمزى، إبراهيم شكر الله، وإن كان أبرزهم نتاجا وأكثرهم قدرة على الإمساك بالشعر هو بدر الديب، فـ لويس عوض لم يكتب سوى عدد محدود جداً من قصائد النثر الفصحى، ضمنها ديوانه "بلوتولاند" ومحمد منير رمزى كتب قصائد مرهفة بها روح الرومانتيكيين الإنجليز، فى شبابه المبكر قبل أن يغيب بإرادته، وإبراهيم شكر الله له ديوان واحد نشر فى أواخر الثمانينات الماضية بالإضافة إلى عدد من القصائد المخطوطة التى لم تنشر بعد، أما بدر الديب فقد أنجز عدداً من الدواوين البارزة فى قصيدة النثر العربى ولعل نظرة إلى أعماله الشعرية المتواصلة توضح لنا ذلك، فقد كتب بدر الديب كتاب حرف الـ ح عام 1948، لكنه نشر متأخرا فى الثمانينات، وبعد نشره، جاءت الأعمال: "السين والطلسم"، "تلال من عروب"، "إعادة حكاية حاسب كريم الدين وملكة الحيات" التى نعدها تجربة شعرية ذات طابع ملحمى، بينما يقدمها المؤلف على أنها رواية ذات معمار خاص تقوم على مفهوم إعادة الحكاية التراثية، "المستحيل والقيمة" و "أقسام وعزائم"، "مقطوعات مرغمة"، "نزهة قمرية"، "عودة حرف الـ ح" أى أن لـ بدر الديب تسعة أعمال شعرية، تواصلت منذ عام 1948 وحتى 2..5 وهو بذلك كان من أوائل المؤسسين العرب لقصيدة النثر، عاصر جميع تحولاتها وأنجز خلال العقود الماضية معماره الشعرى الخاص الذى يجمع بين الفكر والشعر فى إطار واحد.
وفى مجمل عمل بدر الديب الشعرى تأسيس وتواصل واندفاع باتجاه الحرية فى الشعر والإضافة فى الشعر والإيمان بالشعر نفسه، رباً سابقاً على كل رب.
ونلمس أكثر من أى شىء آخر ثلاثة مرتكزات، تمثل الثالوث المقدس الذى يقوم عليه عمل بدر الديب الشعرى: ماهية الشعر والتفكير والمرأة.
مطلق الشعر يرى بدر الديب الشعر فى موضوع الآلهة، يستحق أن يُعبد أولاً فكل شىء مع الشعر موصول، لا توقف فيه ولا خلل، هو الذى يحيى الوجود ويقيمه ويعطيه فى نفسه القيمة وإن حاولوا جميعاً سحبها منه. الشعر لديه، هو الأعمق والأصلب والأسهل والأبسط والأمهر والأجمل والأشمل والأكمل، ذو الجلال، يوصى ولا يوصى عليه، يحمى ولا يحمى، يحيط ولا يحاط به، هو المتعدد المتنوع المتجدد، هو النسغ الحى فى النبات، وهو الشوق إلى المجهول لدى الإنسان، هو المستحيل وهو السعى خلف المستحيل، هو القيمة الموضوعة وهو دم الحب الذى يتدفق خلالها فيكسبها القيمة.
الشعر لديه إرادة أعلى من كل إرادة ومحرك أسبق من كل محرك يقيم الوجود ويحييه ويعطيه فى نفسه القيمة، وذلك فى دورة مدة أما فى دورة جذره وغضبه وانسحابه، فتحسب كل قيمة من العالم بل قد ينسحب العالم نفسه ولا يعود له وجود. إرادة كهذه، إرادة الشعر يستحق أن تعبد وأن تقدس وأن يبشر بها الشاعر فى مجمل عمله وإن كان تجليها يرتبط بمشيئة لم تحل أسرارها إلى الآن.
مطلق التفكير "التفكير هو سر عظمة الإنسان"، عبارة لبدر الديب، وله أيضاً: "التفكير يجب أن تكون له قداسة كالقداسة التى تسبب للآلهة فهو أعلى من أى مقدس ومن أى مطلق، وهو فى نفس الوقت، صانع الوهم والخطأ، مسقط الإنسان فى الخطيئة".
وله: "ضع التفكير على الوجع يخفف، وامسح بالتفكير الجرح، يصبح احتماله ممكناً"
وتشيع فى نصوص بدر الديب كلها عبارة "القول الثقيل" ويعنى بها فى الحقيقة مركب مطلقين ـ إذا جاز التعبير ـ المطلق الأول هو الشعر والثانى هو التفكير، فكل أشعاره، بل كل نصوصه، تتجلى فيها الحكمة المركزة المكثفة التى ـ بحسب قوله ـ كالكريستال أو كالسكر المركز لا تؤكل ولا تشرب، بل تجرح العين واللسان وتفرض الصمت والنظرة الساكنة.
فى كل عمل الشاعر انسياب للوعى وتلاحق من الكشوف العقلية والتقاء علاقات بكر، لا تلتقى إلا فى قلبه المتوهج، وأعنى بالقلب هنا موضع التقاء العقل والروح والبصيرة.
يقول فى فاتحة قصيدة "مجنون ليلى" من ديوان "مقطوعات مرغمة"
"كل عشق جريمة ترتكبها الروح بلا مبرر أو هدف"
هذان البيتان يمتلئان بالعذوبة وبدم الشعر وفى نفس الوقت يمتلئان بالكشف العقلى الذى يفسره الشاعر فى متن القصيدة تفسيراً يخلف المألوف والمستقر، والمتعة التى نحصلها من هذين البيتين ليست متعة سبق تحصيلها، مثلما يحدث من تلقى الغنائيات المتراكمة فى الشعر العربى قديمة وحديثة، بل هى متعة بكر، طالما سعينا خلفها أو توهمنا أننا قاربنا أطيافها، ومن طول مادرنا حول هذه الأطياف، ُخيل إلينا أن عذوبتها التى نحسها فى أرواحنا قديمة وموجودة ومتاحة أمام أنظارنا، بل كشفها أمامنا الشاعر، فرأينا وجودها المستقر، واستشعرنا عذوبتها، وإلا كيف يكون كل عشق جريمة؟ كيف نستعذب المخالفة لكل ما اعتدناه فى العشق، كأنما هذه المخالفة المبتكرة التى يسوقها الشاعر هى الأصل والتراث الممتد العريض حولنا وفى أدمغتنا عن العشق! إن قدرة الشاعر على الكشف، على اجتراح الحكمة وتركيزها على استخلاصها، وقدرته على إعمال التفكير، تجعل لنتاجه الشعرى وهجاً ساحراً عذباً، يخالف كل ضوء آخر، قد يأتى من العاطفة المشبوبة وحدها، أو من مهارة ودربة الشاعر الذى يعزف يتمكن على أوتار سبقه إليها آخرون. وهذا ما أقصده، بالتقاء الشعر والتفكير عند بدر الديب فى مركب مطلقين، العمل الناجح للعقل والروح معاً فى لحظة واحدة.
مطلق المرأة المرأة لدى بدر الديب باعث للوجود، وأعلى بكثير من الرجل. أليست هى الحاملة للرحم، المستحيل الذى يمتلكة الرجل لحظة ثم يفقده ويظل يسعى خلفه طوال حياته ولا يصل إليه. يظل الرجل فى سعيه الدائم خلف المرأة المتعالية، يخترقها ويستعيدها فتظل بكراً رغم اختراق، "فكل امرأة بكر" وتظل إلهة لا يدانيها إلا المحب وحده المقدر له أن يجاوز قصوره وأن يصل إلى تعاليها، أو ليس المحب هو المنتصر على الموت بالتصالح معه: "عندما يبطل الحوار، نريد أن نموت، وعندما يندفع الحب يبطل الحوار حرف الـ ح"
المحب العظيم، هو الشاعر العظيم، والحب دين الشاعر ومنهجه فى الاقتراب من المرأة المتعالية، فمقاربتها هو التعويض الوحيد والبلسم المتاح لعدم العودة إلى الرحم، والوصال طريق الإبقاء على الوجود قريباً من حضن الإلهة ونعمة رحمها.
يقول بدر الديب: العذراء، دخل عليها الأسد ليفترس، فمسحت على لبدته بكفها، ولما نام ذبحته العذراء. ولو دخل الأسد إليها محباً لأعطته نعمتها، لأخلدته.