قصص من خمسينيات القرن الماضي

قصص من (طريق الحائط)

بدر الديب

 

هذه قصص جديدة في مجموعها بالنسبة لي رغم أنها كتبت في خمسينيات القرن الماضي ولكنها لم تنشر كاملة. ولست أدرى ما سبب ذلك إلا الأوضاع الثقافية الخاصة بدور النشر عندنا. ولكنها على قدمها التاريخي ُتعتبر، فى نظري، جديدة لأنها تستخدم أسلوباً في التعبير غير مطروق فى الموضوع واللغة، وإن كانت لها علاقات بالمدرسة السوريالية ومدرسة العبث والواقعية السحرية. وقد أثرت هذه المدارس فيما بعد، فى كثير مما كتب وإن ظلت هذه المدارس غير معروفة أو مدروسة بما فيه الكفاية.

تمثل هذه القصص إشارات لأحوال وأوضاع منتصف القرن الماضيالثقافية والاجتماعية والسياسية ولذا فإنها قصص حزينة يملؤها اليأس وضياع الطموح نظرا لنهاية المشروع الوطني وتكسره ونظراً لما أصاب الثقافة من وهن وغربة عن الواقع المنفتح على المستقبل وقد تحتاج بعض القصص إلى قدر من الشرح وإن كنت أتصور أن القارئ الملاحظ سيعرف الظروف التي كُتبت فيها وأنها لم تتغير كثيراً حتى الأن.

كانت الخمسينيات في القرن الماضي تبشر بكثير من الخير في مصر والعالم، فمع بدايتها أشرقت أنوار 23 يوليو التي غيرت وجه العالم العربي فى ليبيا والجزائر والسودان وفى الكثير من بلدان آسيا وأفريقيا. وفى أمريكا والغرب كانت بدايات الحرب الباردةقد بدأت تشتد وأطلق الإتحاد السوفيتي "سبوتنيك" الذي غير وجه التعليم فى أمريكا وصاحبته حركات الزنوج في أمريكا الذين رفعوا أصواتهم وقاطعوا الحافلات وأقاموا اضطرابات فى لتل روك، ولاشك أن الخمسينيات وبقية القرن حافل بكثير من التغيرات الأخرى ولكنها كلها في مصر وفى الغرب كادت تنقلب تماما، فقط رحل جمال عبد الناصر، وانغلق تقريبا المشروع الوطني المصري، وانفتحنا على الانفتاح والأثر الأمريكي وأصبحت أمريكا غولاً حضارياً يتخفى وراء الإرهاب ويزيده اشتعالا مع محاولة مقاومته. ولاشك أن منتصف القرن وبقيته يحتاجان إلى كثير من الدراسات والبحوث.

إن قصص طريق الحائط تعود إلىّ كأنها أشباح من الماضي وقد اكتشفها الابن الكريم "كريم" في أوراق مكتبتي بعد أن أصبحت غير قادر على مراجعتها بنفسي. ولست أدرى هل ألومه على ذلك أم أشكره ولكنى أحتفظ له بكثير من العرفان والتقدير لمجهوده ومحبته، غير أن هذه المجموعة على أية حال تمثل لحظات من تاريخ حياتي، وتسجل الكثير عن مواطن سكنى وعملي ولا أستطيع أن أناقشها بالتفصيل هنا، ولكنى اكتفى بالقول إنها رغم رقدتها الطويلة في المكتبة من غير نشر، فإنها قد فتحت الطريق لكثير من الكتابات الأخرى التي قمت بها، وكان من أهمها "أوراق زمردة أيوب" و "إجازة تفرغ" و "حديث شخصي"، وأرجو أن يسمح لي القارئ أن أترك له ولحكمه أشباح هذا الماضي الذي مازال يخايلني ويخامرنى كثير منه، وليقبل اعتذاري عما في القصص من يأس وحزن وإحباط.

بدر الديب
نشرت مجموعة (طريق الحائط) عام2003 في طبعة محدودة أشرف عليها الشاعر كريم عبد السلام.


طريق الحائط
في منتصف العقد الثالث من عمري وجدت نفسي قد انقطعت من حولي صلات الناس ووجدتني وحيدا أعمل في الصباح محاسبا صغيرا عند تاجر صغير وأسكن في الليل إلى غرفة عالية، كانت آخر الغرف في عمارة كبيرة قديمة.

وكنت، في عصر كل يوم، أصعد السلم العالي بطيئا متأنيا حتى لا يفرغ السلم، ولكنه كان يفرغ دائما وأصل إلى غرفتي وقد أحسست أنني أشد نحولا وأن ما في داخلي من مشاعر قد تخشب وخمد كأنني عكاز قديم.

وعندما أفتح غرفتي وأدخل وأرى السرير أحس بالراحة والسعة وأفرح أن ليس على شيء إلا أن أستلقي وأن أنظر في السقف والحائط. ولقد لمحت في ذات نهار على الحائط طريقا ضيقا من الجير المتآكل الصاعد فوق إقدامي ويذهب بعيدا في الحائط مارا بأشكال غريبة لقصور ومدن. كان الطريق كله منحنيات مفاجئة تذهب في عرض الحائط فلا يظهر لها شكل وكأنها تعاريج في مدينة مجهولة.

ولقد ترددت طويلا قبل أن أصعد في الطريق خائفا حذرا ومتهيبا مما قد ألقاه أو أسمعه مفكرا تفكيرا طويلا فيما إذا كنت في حاجه إلى شيء من الزاد وأدوات السفر. ولكنني كنت أتفكر طويلا وأتأنى ولكني أتحرك دائما إلى الأمام نحو الطريق الصاعد في الحائط. كنت أتحرك وأنا أفكر كإبريق من الماء فوق النار يدوم فيه الماء ويصوت ولكنه يغلي ويندفع في غليان حتى يتبخر.

لقد حاولت كثيرا أن أمسك نفسي عن الصعود أو أن أنتظر ـ على الأقل ـ حتى أتهيأ له ولكنني في الواقع لم أستطع. كانت الأشكال الغريبة تعرفني بنفسها أحيانا فأتقدم وأترك راضيا كأنني أرى نافذة أمي أو الشباك الكبير الذي كان يجلس تحته أبي، وأحيانا كنت أرى النور يعبث قويا في منطقة من الطريق فيضيئها إضاءة بالغة حتى أحس كأن جرحا غائرا يدمى في جبهتي وأنني أتهالك وحيدا في ميدان فارغ ولكنني كنت أتحرك، لا أستطيع أن أقنع نفسي بفائدة التفكير والتأني ولا أستطيع أن أمنع نفسي من الصعود والتحرك التحرك إلى أعلى ولقد وجدت نفسي وأنا أصعد أجرأ كثيرا مما كنت أظن. فلقد كنت أطرق المكان كأن لي به ألفة، أو كأنني _ وكان هذا أقرب لشعوري ـ أستهدف مكانا وصفه لي معارف أقرباء.

وصعدت مطلع الطريق الصاعد أدب خفيفا كأنني نجم أو حشرة صغيرة، كنت أستروح عن بعد هفات من نسيم طري لم آللفه من قبل كان النسيم واضحا في مقاصده عارفا بجسدي معرفة غريبة فلقد كان يعبث بعنقي وعيوني ويتمسح بيدي كأنه شال أسود ناعم ولقد تحركت على شفتي ابتسامة غريبة وأنا أصعد، فرحت أرقب في أقدامى خفة وجبرا على السير كنت أُدفع أو أندفع ولكنني كنت أسير كما يسير كل شاب إلى بيت حبيبته.

ولم يكن في الطريق غيري أحد ولكنني كنت مطمئنا إلى نوع من الوصول لم أكن أدرك كنهه. فلم أكن أسير كما يسير إلى عملي في كل يوم ولكنني أسير وكأنه معالم الطريق.. نعم كأن في الطريق حجرا وبعض عمدان وخرابات من بيوت بعيدة،.. قد استهدفتني كلها في يسر وصمت. وكانت كلها تنظر لي بعيون مألوفة ولكنها ألفة فريدة لم أستشعرها إلا في الغروب أو في صفحة المياه الواسعة أو في الفهم العميق وأنا أستشعر قولنا، ما يرقبني من بين سطوري.

ولذلك أحسست أنني لم أعد أفكر في الطريق وأنني قد لا أخشى شيئا وإن سرت، بل لقد سرت وأنا لا أفكر لقد أسرني الطريق والجو ورحت في دوامة واسعة متصاعدة تدق فيها أقدامي إلا أن الطريق لم يلبث أن أنحنى وهو مايزال يتصاعد. ولقد أتسع لي الأفق كثيرا إذ ذاك ورأيت أن ثمة شبحا بعيدا يقف منتصبا أمام كومة من الحجر وأنني ذاهب لا محالة إليه فترددت خطوات وبدأت أفكر من جديد فيما على أن أخذه من زاد لهذا الطريق ولكن بصري ورؤيتي لهذا الشبح يدفعانني دائما إلى الأمام والشبح لا يريم عن مكانه ولا يقترب، أصبت بشيء من العند الدخيل ورحت أدفع بأقدامي كي أتقدم إذ تبينت أن الشبح البعيد امرأة عجوز، تضع على جانبها في الأرض صرة ملفوفة.

وتمسك في يدها عصا طويلة، أما وجهها ورأسها فإنها تخفيهما عني في غطاء واسع قديم.

ولكني اقتربت أخيرا منها ورأيت نفسي أنحرف وسط الطريق إلى ناحيتها وأكاد أن أقف، وإذا بها تكلمني في صوت أجش متقطع وكأن أقداما ثقيلة تدوس في عيدان من البوص.

ـ هل أنت..

وذكرت المرأة العجوز اسمي ونسبتني إلى أمي فأجبتها بهزة من رأسي وبدأت أخشى تبعات هذا الطريق، ولكنها قالت لي: لقد انتظرتك أياما طويلة هنا ولكنني ظللت واقفة لأنني عرفت أنك قادم..

وأحسست فجأة أن المرأة صادقة، وعلى الرغم من أن التعب لم يكن يبدو عليها إلا أنني سألتها: هل بقيت واقفة، ألم تتعبي.. فلم تجب على سؤالي ولكنها راحت تنظر خلفها نحو صحراء بعيدة ثم غمغمت: إن ثمة عربة تنتظرنا على مبعدة وعلينا أن نصل إليها..

ورحت أفكر من جديد وأستشعر أن أفكاري تحتك ببعضها كأنها أضراس خفية وفكرت كثيرا، نعم كثيرا في الرجوع، أو على الأقل في أن أقول لها بأنني عائد ولكنها فقدتني بخطوة وعبرت الطريق إلى الصحراء الواسعة ورحت أتبعها وبنفس أن أقول لها ما أفكر فيه في اللحظة القادمة. ولكنها صمتت وصمت أنا أيضا وراح الرمل يأكل في أقدامي كأن هناك ندما وشكوكا وترددا.

وعندما وصلنا إلى العربة كأن فيها حصانا أحمر. وكانت العربة اقرب إلى عربات الأغنياء السعداء في غطائها ومقاعدها، قد لمعت فيها الأدوات الصفراء ومدارات العجل وألقيت الأعنة على أرض العربة إلى جانب المقاعد.

ولقد ترددت طويلا في الركوب ولكن المرأة ركبت في سرعة وجذبتني إلى جانبها وانفجر الحصان عاديا كما المرء في الضحك. كانت العربة تهتز هزا قويا فنصطدم في بعض فلا أتكلم ولكنها كانت تتكلم وإنما كلام لا أفهمه أو لا أسمعه.

وكنت أمسك في كلماتها كلمات الرمل والحجارة وأضواء النجوم والآبار البعيدة، ولكنني كنت أحس أنني أدرك هذا كله في تركيب لغوي فريد، فلقد كنت أحس أنها تسلب الصفة فيما تتحدث عنه ولا تضيفها إليه وكنت أحس أنها تذكر أحيانا السماء غريبة وتجعل كلمات أخرى ترقص حواليها.

كانت العربة تهتز وتصطدم المرأة بي. أحس أن حديثها يخرج من جسدها كله وأنه في أنحاء جسمي وأحيانا يلدغني في يدي أو خدي. وفجأة أحسست أن العربة قد امتلأت كلها حديثا غير مفهوم وأن الكلمات تختفي في العقد أو تركب وتقفز على محاور الغطاء.

ولكنها لا تخرج أبدا من العربة وكأن الجو قد أظلم وعيون المرأة قد أضاءت في الظلمة، ولم أكن أعرف إذا كانت عيوني مضيئة أنا الأحزان لا. ولكني كنت اهتز مع العربة وأتابع عيون المرأة في حركتها وأحاول أن أتبين هذه اللغة الغريبة التي تتكلم بها.

وقد بدا لي في لحظة واحدة أن أضحك وأن ليس ثمة داع لأن أفكر ولكن العربة وقفت فجأة وأحسست من أقدام الحصان أن الطريق قد تغير وأننا نسير في بهو عين مغلق قد رصفت أرضه بالحجارة.

ورأيت باب غرفتي يفتح وشاهدت عم بسيوني يدخل فيضع على المنضدة رغيفي العيش والجبن والحلاوة وعودين من البصل وقد رحت أصرخ علية ونزلت من العربة وتبعتني المرأة ثم تقدمتني خطوة ولقد تعجبت من أن عم بسيوني لم يسمعني وأن خطواته وحركاته لم يبدفيها أنه افتقدني وعندما خرج عم بسيوني لم أجد ثمة مبررا أن أطيل التفكير بل مشيت وراء المرأة في طريق مرصوف بالحجارة الصغيرة المقطعة حتى وصلنا إلى غرفة مضيئة بنور كنور الغروب قد امتدت على حائطها العريض منضدة واسعة طويلة جلس وراءها سبعة رجال غرباء، كان كل واحد منهم فريدا في ملبسه وشكله فقد كانوا سبعة فعلا. ووراء الرجال ثلاث نوافذ طويلة رأيت منها البحر وسمعت صوته..

ولم أكد أدخل الغرفة حتى توارت المرأة في باب جانبي وبادرني أول رجل على اليمين:

ـ لماذا تدعي القداسة.

كان الرجل سميكا يرتدي حله سوداء وقميصا بالغ البياض وكان وجهه غليظا كأنه مخروط من لحم حيوان أخر. وكانت عيونه ضيقة سريعة الحركة كأنها سمكات صغيرة فالتفت ورائي على منضدتي ورأيت عودي البصل والحلاوة وترددت وامتلأت روحي بخوف حاد واسع وقلت للرجل في خجل:

ـ أنا لا أعرف هذه الكلمة يا سيدي..

كانت جمل المرأة مازالت في أذني، مازال في روحي ما تحسسته من تركيب غريب في حديثها.

ولكن الرجل الثاني تحرك في جلبابه الواسع الأبيض فتشتت على جسده ما يمر فيه من خطوط زرقاء عريضة وكسر على عينه اليمني غامزا وقال لي:

ـ ولكنك قد جئت إلى هنا.
وأضاف مستهزئا يا سيدي.

ولم أستطع أن أتكلم، ولم يكن في عزمي أن أرد عليه لأنني لم أكن أعرف ماذا أجيب إلا أن الرجل الثالث مد ذراعيه ناحيتي وقام من مقعده قليلا فرأيت سرواله الأحمر على سترته الرمادية وفزعت عندما قال لي متلطفا..

ـ ألا تجلس..

فلم يكن في الغرفة كرسي واحد بل كانت عارية تماما إلا من منضدتهم الواسعة وكراسيهم وتلك النوافذ وراؤهم..

وقد تبينت أنهم لا يريدون مني أن أتحدث لأن الرجل الرابع وكان يرتدي سترة البحارة ويضع على رأسه قبعة صغيرة لاك في فمه كلامات غريبة بصوت عالجعلتني أذكر حديث المرأة في العربة.

ولقد تشجعت كثيرا عندما سمعته وقد أخرج هذا الرجل من أصوات وأحسست أنني مضطر أن أرد عليه بل وأنني أكاد أن أدافع عن نفسي فقلت لهم..

أنا لا أعرفكم ولا أفهم لكناتكم، فأنا رجل بسيط، أنام في فراشي كل مساء.

وضحك الرجل الخامس ضحكا متواصلا هز أقدامي وساقي وراح يمسك أكمام قميصه من أن يسقط فلقد كان يلبس قميصا من الحرير السمني قد شمر أكمامه وبرز منه عند عنقه شعر صدره الأسود كان شابا نحيلا وكان صوته ضخما كأنما يضخمه قاصدا في فمه فرحت أصرخ على صوته وقد ضاق تنفسي:

أنا أشهد عم بسيوني أن ليس في حياتي ما قلتم. أنا رجل بسيط لم أركب العربة أبدا ولم أمش في الشوارع، ولم أحمل سبحة. انظروا، ليس في عيوني ناس، أنا لى ساق وذراع ولكن ليس لى جانب آخر.

وكان الرجل السادس أشيب الرأس قصيرا لا يكاد يظهر خلف المنضدة قد استند بذقنه عليها وراح ينظر بعيون ثابتة وكأنه طبيب:

ـ الظاهر أنك غير من طلبنا، هل سألتك عن أمك.

فأجابه الأول ذو السترة السوداء:

ـ نعم طبعا.

وقال الذي يرتدي الجلباب:

ـ إنها لا تخطئ أبدا..

ودحرج البحار على المنضدة بضع كلمات غير مفهومة وقام واقفا يحدث السابع وكان السابع في آخر المنضدة يقف مستندا بقدمه على كرسي يرتدي ملابس لاعبي الجولف وقال له:

ـ إنها لا تخطئ أبدا

ودب بينهم حديث مفاجئ اشتركوا جميعا فيه فلم أعد أستطيع أن أعرف أيهم يتكلم.

ـ ولكنك لم تدرك أبدا مدى الخطأ..
ـ إن العربة تكلفنا كثيرا..
ـ ولكن القداسة لم تكن في العربة
ـ لقد ألقاها في الطريق
ـ هل هي المسئولة؟
ـ لا نحن المسئولون
ـ أنا لا أفهم أبدا أنها تخطئ
ـ وكنك لا تدرك أبدا مدى الخطأ
ـ يا ويحنا جميعا

ولقد شجعني اضطرابهم فعضضت على شفتي حتى أدميتها واستطعت أن أدفع بنفسي في الباب الذي توارت فيه المرأة ولقد دفعت الباب في سرعة فوجدتها وراءه بغطاء رأسها الواسع تحمل في يدها سكينا فانتزعته منها وأحسست أنني أدافع عن شيء أحمله في قلبي، ولقد ترددت في أذني كالجرس البطيء تلك الكلمة التي سمعتها منهم، قداسة قداسة، ورحت أطعن المرأة وأرقب الدم يتسرب من صدرها حتى يدخل غرفة السبعة من تحت الباب وعند ذاك أحسست أنني أكثر هدوءا وأنني أشرف على الصحراء والحصان والبحر وأن هؤلاء جميعا قد صمتوا.

1950


المجنون
الصباح ساكن كالبللور، والسرير أبيض ناصع، جسده ممدود عليه. نحيل طويل ما زال في إطرافه بعض من النوم، الأشياء حوله ساكنة قديمة عليها طبقة مما تتنفس، ومن الشباك نفذ شعاع قوي استقر علي الأرض. بلا حراك أدار عينيه في الغرفة فابتلع ناظره كل شيء دفعة واحدة.

كل شيء كما كان بالأمس وأول أمس، لا شك أن اليوم شاق فأعادت الأشياء إليه صوته شاق وأكمل.. ليس هناك يوم غير شاق فأعادت إليه لفظة غير شاق وانسابت الكلمات متلاحقة حتى لا تسمح للصدى بالتداخل.

لم لا أبقى كما أنا؟ لم أريد أن أحقق شيئا؟ لم أريد أن يرضي الناس عني

وانتفض واقفا فقد تعود أن يترك سؤاله للأشياء تتقاذفه حتى يعود.

كل يوم في الشارع يطالعه ذلك المجنون وقد نصب كفه أمامه يقرأ منه ويعيد

"إنه دائما في مكانه انه لا يحقق شيئا، فهو مجنون، ولم لا أكون أنا المجنون؟ لا شك أن عقله يعمل، يعمل له وحده.. وسوف أعود يوما فلا أجده وقد اذهب معه في نفس اليوم"

قفز كالقط الهارب إلى القطار وانسل بين الناس واتخذ لنفسه ركنا فمها احمر وفي عينيها ابتسامة امسك بنفسه من الخلف أنا لست مجنونا.

واخترقت إذنيه سلسلة من الحوقلة والبسملة في نغم متصل كالطنين "ماذا يخشي هذا الشبح المتأرجح.. لماذا لا يعمل عقله في صمت، لم يريد أن يعلم الناس عنه انه تقيأ؟" وشعر بشيء يسحب من تحته "عن إذنك"، وأخذت الفتاة تسوي طيات فستانها "إنه لم يرني في هذا الفستان من قبل.. لكن حذائي.. لا ليس من الضروري أن أغير الحذاء مع كل فستان.. والحقيبة لم ترها بثينة. سأعطيها بعض العطر منها حينما أصل، وسوف تراها من الداخل والخارج أيضا.. أظن أنها لن تتجاهلها.. وإذا حدث فسيبدو ذلك علي وجهها"

وانهالت يد ضخمة علي ظهر الكرسي تقرعه "بالقراضة" تذاكر تذاكر اشتراكات يافاندية.

وقف بين الجالسين هائل الجثة يتناول الأوراق ويعيدها في آلية وعلي وجهه جدية زائدة. وفي عينيه تلميح من الرضا بموجات الحركة التي تنشرها في الركاب.

تكورت ضحكة في بطنه واخذ يصارعها ولكنها طفت من صرخة القطار ولم يدر اذا ما كانت قد حققت له ما يريد.

بعيدا عن الأرض استقر عسكري المرور في صينيته يشرف علي الميدان يده علي المفاتيح وعيناه تنظران إلى الأمام في ثبات متمرس قديم الشمس ما زالت رقيقة والصراع لم يحتدم بعد وعبر الشارة مزق الحصان يجر عربة خبز رأسه مرفوعة وعضلاته متوترة وصاحبه يراجع الحساب يا بن الكلب يا أعمي وتبادلا نظرتين طيب فوت وعاد الهدوء إلى وجه العسكري وعاد نظره يغطي الميدان.

"العربية الحمراء اتأخرت وشق اللفت لسة واقفه وما لها نبوية؟ ناقصة بس جلبيه مودة مشقوقة كده وكده"

تراكمت العربات تسارع إلى فتح الإشارة التي كان قد نسيها ثم عاود مباشرة رعيته "جدتي.. جدتي.. روحي موتي بأه" ولم تسمعه العجوز التي كانت تنوء بحمل الخضار وبالطفلتين المعلقتين بجلبابها.

تراجع الشويش الي الوراء وقد فشل في دعابته وراح يدخل إصبعه في أنفه ويديره والتفتت الأنظار فسارع يخرج منديله يمسح به وجهه.

أشاح بوجهه بعيدا عن العسكري "أنا لم اقصد أن أرقبه أو أن اصدر الحكم عليه" وانتفض لوقع يد رقيقة علي كتفيه.

قالت: إسماعيل.. إزيك
قال وقد امسك بمرفقيها: أزيك
يا فاطمة.. إيه ده كام سنة يا شيخة!
لكن دنا معرفتكيش.. اتغيرت خالص يا فاطمة
قالت وهي ترسم ابتسامة حلوة وتميل برأسها:
ـ يا تري للأحسن ولا للأوحش
قال: للأحسن طبعا.. ما تيجي تشربي فنجان شاي
قالت: معلش لأ.. لأ.. مقدرش
إسماعيل أنا مقدرش انت عارف
قال وقد انطفأت جذوة كانت قد اشتعلت فيه:
ـ طيب خلينا نشوفك أنا باشتغل في الوكالة ونمرتي معروفة طبعا
قالت: إن شاء الله

واستدارت تخطر وتتمايل في رشاقة مرسومة وهي تشعر بعينيه في ظهرها "إنها حلوة.. وهي تحبني من زمن طويل.. ولم اذن رفضت الدعوة.. وماذا تريد انا لا افهمهن جميعا.. وهن كذلك لا يفهمنني لكنهن يدعين. وماذا يدعين؟ علني اقرب الي صديقي المجنون.. انه لا يدعي شيئا" راح في غيبوبة من التفكير شعر فيها بأن يديه موثوقتان وراء ظهره وان علي عينيه غبارا كثيفا وفي اذنيه طبقة من الزيت الناس سواء والساعات تمر والليل اقبل.. أين صديقي المجنون؟ لقد رحل وأنا لا أكاد أميز سوي تلك الكومة من القمامة وذلك الكلب الذي تربع عليها يلتهم منها ما شاء وهذه كلبته تحوم حوله في انتظاره.. وسينتظران سويا.. الموت.

أسرع الخطى بعيدا عما يري، وفي سريره دثر رأسه وأهال عليه كل ما حوله ولكن السؤال الذي كان قد تركه بالغرفة في الصباح تسلل إليه ورقد بين ذراعيه. 


السعال
كان ذلك في صيف 1935 وكنت قد أُطلقت من المدرسة الداخلية التي كنت أتعلم فيها على أيدي الرهبان ورحت أقضي أيام العطلة في بيتنا الكبير الذي يطل على البحر. ولقد كنتإذاك شابا طريا تلعب فوق شفتي شعيرات خضر صغيرة، وتتحرك في عيوني الخضراء أمواه بعيدة، فيها أحلام هادئة ساكنة. كنت شابا نحيلا أكاد أكون فارعا، لي جمال عرفته من وجوه الآخرين، ولي تحسس خفيف من ذكاء وسند قديم عتيق من الأخلاق والطيبة.لم أكن، في ذلك الوقت، أعرف مما يحيط بي غير مسافات ضئيلة من أرض حديقتنا، بها طراوة الأرض المروية ورطوبة الخضرة المتكاثفة. ولقد تعودت أن أقف على ما أعرفهمن الأرض، لا أتذكر ولا أحلم، بل اعتدت أن أتحسس وأن أرى ما لي من ذكاء، يضيء في خفة وفي بعد كأضواء الفنار. وفي ذلك الصيف، صيف عام 1935 كنت أحس أنني أطول قليلا مما عهدت، وقد يكون ذلك راجعا إلى سروالي الطويل أو إلى أننى نجحت في العام الماضي أو إلى أن أبي قد اشتد عليه المرض والسعال، فلقد كان سعال أبي يتردد في أبهاء بيتنا طوال الليل في الردهات، وكان هذا السعال يجعلني أجلس مستيقظا في فراشي وأمر بعيني على أخواتي وأمي وأستشعر رقادهم وتقلبهم في أسر تهم فيملأني السعال تيقظا وحرجا.

كنت أحس الحرج لأنني أعرف تماما أنه لن يقف ولأن أمي وأخواتي قد اعتدنه حتى نمن عليه، وكان يخيل إلى أن أبي يجلس نفس جلستي على سريره وأننا قد نلتقي فجأة في إحدى الردهات.

لم أكن أتحرك ولم يكن يتحرك إلا هذا السعال، يدب ويرن ويتردد صداه في الطرقات الطويلة التي يمتاز بها بيتنا. ولقد كان للدور الثاني الذي ننام فيه سور يلف مع الدرج ويطل على فناء واسع مفروش في الدور الأرضي وتعودت إذا اشتد بي القلق وحركني السعال أن أنهض فأسير حتى هذا السور وأقف وأطل على الفناء وعندما يزداد سعال أبي كنت أرى ظلي يتحرك بسرعة على أرض الفناء من تحتي، وأكاد أحس أن المصباح الخافت يتحرك أيضا كالظل، وفي لحظة من لحظات الخوف والانهيار، في لحظة كنت أجد نفسي فيها أبسط من الفراش وأخف جناحا من الخوف والنور، كنت أكاد أرى أبي في الفناء المفروش وأحس في فزعي أنه يتأهب للخروج. وإذاك كنت أحس الباب يصر بالسعال وأنه يتحرك، ينفتح وينغلق كأنه المصباح والظل.

ولو أنني فكرت طويلا إذاك لما خرجت، ولكني لم أفكر لأنني هبطت الدرج مسرعا كأنما أحاول أن أمسك شيئا أمامي، وفتحت الباب وكأنه خرج، وخرجت أنا أيضا خارج الفناء المفروش يردد جسدي سعال أبي، وكأنني أكظمه في نفسي. وعندما خرجت وهبطت درج بيتنا الأمامي، كان البحر يملأ الدنيا كأنه سماء. كان هادئا بعيدا وراء الطريق، وكان الطريق خاليا يضيؤه القمر وذ بالات المصابيح وحركات الهواء والبحر، فسرت، سرت بخطوات رفيقة متأنية كأنني أتذكر السعال، أو كأنني أدوس فيه ببطء. كان الطريق لينا جدا، طريا كلحم السمك وكانت خطواتي تخبط وترتفع عنه كأنفاس المبهور بعد السعال. كنت أتذكر السعال وأسير، وسرت لا هاربا ولا متفجعا، وكنت أتحسس بذكائي ما قد بقي لي من طريق.

لم يكن الطريق بعيدا عن الرمل وساحل البحر، كان ينتهي إلى هناك وكنت سائرا أنا أيضا إلى هناك، وكنت أردد في نفسي أنني ذاهب إلى هناك كأنني أحل مشكلة أو أجيبعن سؤال، ولم يكن الوقت يمر لأنني لم أكن هاربا ولم أكن أبتعد. لا طبعا لم أكن أبتعد فأنا لا أستطيع أن أبتعد أو أن أترك بيتنا أو أن أترك ما لى من أرض في حديقتنا.

ولكنني وصلت إلى أحجار الشاطئ والبحر فوقفت أستريح وما بي تعب وأرقب المنظر وأنا لا أكتشف فيه جديدا. كان القمر يضيء الصخور إلى جانبي ويضيئني أنا أيضا، فلقد أحسست أنه يغمرني كأنه ماء دافئ كدمع العين، لا كنت أحس أنه لبن وكان اللبن يتخلل جسدي كله كالعرق فاستشعرت ما أضمه في نفسي من حس واستشعرت وحدتي وغيبة وجوه الناس، فاسترحت في وقفتي واتكأت بظهري على الصخور، وبينما أنا واقف أرقب الفنار عن بعد وأرى مصباحا صغيرا يلعب في البحر على مركب إذا بى أسمع عند أقدامي حركة وأنينا في الماء. وانداحت عند أقدامى موجة متقاصرة وخرج بها من الماء رأس أسود صغير ما لبث أن اختفى ثم صعد من جديد، وإذا بى أرى كلبا من كلاب البحر السود يقف إلى جانبي على الصخر كالكلاب المدربة ثم ينظر ناحيتي، كأنما يدعوني للفرجة ثم يعزم وينحني ويندفع سريعا رشيقا إلى الماء.  

ووقفت متحيرا مترددا لا أعرف ماذا أصنع فما أدري أن كلاب البحر تظهر في بحورنا، وما أدري إلى أي حد قد يؤذيني هذا الكلب. واتكأت مصمما على الصخر وأنا أرقبه يبرز من جديد ويقف إلى جانبي ثم يلتفت برأسه الأسود إلى ويكاد يدعوني وينفلت خفيفا إلى الماء، ولم يغب طويلا في هذه المرة، بل صعد إلى من جديد وراح يقذف بنفسه في الماء وكأنه يستعرض ألعابا مضحكة، ولقد كدت أضحكلولا أن البحر وضوء القمر قد بعثا في نفسي جبنا مهولا جامدا يشق لى بين الأشياء والمواد طريقا. ولقد عبث القمر طويلا على الماء قبل أن أحس اضطراريللهبوط في الماء، ألقي بنفسي فيه وأستريح من قدراتي الجامدة على الصخر، لقد أحسست في لحظة واحدة أن ذكائي أضاء واستدام وأنه قد استحال حركة واحدة مندفعة لا يعتورها تردد أو سعال.

وسبحت في الماء أجدف بذراعي في القمر الذائب وأستشعر أن لى أرضا غير الأرض، وأن الأفق مازال لى في ضربات ذراعي امتدادا وسعة وتلقيا. لقد سبحت في تلك الليلة كما لم أسبح من قبل في حياتي قط، فلم تكن سباحة بل استبشارا نضرا كأنما أسبح في جوف أعمق من البلور الأزرق. ورحت أسبح وأندفعوأقترب من لاشيء يهدهدني الموج ويحمل جسدي وكأنه زهرة وأقترب، أقترب من لاشيء ويفصلني عن الوصول حد غريب كالشعيرة، يجعل وصولى أفقا وسباحتى مستديمة. فأسبح وأقترب من المصباح في المركب وأرى المصباح يتجه لي ونكاد نلتقي أنا والمصباح في نقطة على بعد، ولكننا لا نلتقي فأسبح وأقترب، ويقترب مني المركب، وأكاد أصطدم فيه، ولكن أيدي قوية غليظة تمتد من المركب عارية مفتولة العضلات والعروق لتحملني إليه، فأقف بينها مذهولا مسكينا أتفصد ماء وعرقا.

ويلتف حولي رجال يلبسون ملابس غريبة من نمط واحد أشبه بملابس التجار في بغداد القديمة، قد تحلت عباءاتهم الطويلة بخيوط من قصب سميكة واسترخت على صدورهم العريضة ذقون سوداء وبيضاء وراحوا ينظرون لي فرحين وكأنهم سيأكلونني، ولكني استسلمت لأيديهم وهم يلبسونني عباءة كعباءاتهم، ويمدون على صدري خيوط القصب الذهبية، ولم يلبث كبيرهم ان قال لي:

ـ اسمع، نحن نهرب الـ
ولم أكن أسمع بوضوح لأنه قد وضع في يدي شيئا غريبا صلبا واستكمل حديثه آمرا:
ـ اسمع.. أعط هذا لمرزوق.
فقلت له خائفا:
ـ وأين مرزوق؟
ـ فقال لي متعجبا:
ـ هنا إلى جوارك
والتفت لي مرزوق من جانبي وقال لي هامسا: هات

فأعطيته هذا المعدن الصلب فأخفاه في يده وانحني على جاره وأخفى رأسه في صدره ووضع المعدن في يده وهو يبكي، والتفت الثالث إلى جاره وناوله ما في يده وهو يبكي هو الآخر، وهكذا دار بينهم ما يهربون وهم يبكون على صدور بعض متخفين حذرين فيما يبكون عليه.

كانوا أكثر من خمسة فاستطالت الحركة بينهم ووجدت نفسي دون أن أشعر أنتظر أن يعود إلى يدي هذا المعدن، فلما احتوته يداي في السر فتحتهما ونظرت فيه بملء عيني. كان قطعة ملء الكف من الصلب أو الرصاص البراق قد نحت فيها وجه أبي وقد خرج مكان فيه لسانه فصرخت صرخة عالية، ولم أتمالك أن أقذف نفسي وراءه خوفا وإشفاقا.

كنت منزعجا مشتت الروح وأنا سابح في البحر صوب الشاطئ. كنت أعرف أنني سأصل وأن الموج الهادئ لن يعلو ولن يجرفني، ولكن روحي كانت تتداعى وتتناثر على ثبج الموج الأبيض وأنا سابح صوب الشاطئ. كان الشاطئ قريبا كل القرب، أقرب إلى نفسي من الدرج الصاعد إلى الطابق الثاني، فرحت أسبحفي بطء وأنا أسمع السعال وأكاد أصعد الدرج وأتنفس وأمني نفسي بأنني قد أصبحت كأخواتي وأمي، نعم لقد كدت مثلهم أعتاد السعال وأنام عليه.


ميدان الجيزة 
الشارع بلا خلق، شارع الجيزة الرئيسي قبل أن يتغير في طريق الهرم، الترام والسيارات وجوب يتحركون بكل ما لهما من ثقل وخلخلة يحملون الناس ويهزونهم في داخلهم وكأنما لتتساقط منهم الأخلاق والمشاعر وعواطف العيون والأيدي ولكن الناس ركوبا كالناس مترجلين، كل فرد يسعى ويسير ويقف محافظا على نفسه مخفيا ما في داخله، ليس حريصا عليه ولكنه غير قادر أن يعطيه وأن يشترك فيه، فلم يستطع شارع الجيزة أن يحصل من الناس على شعور لأنهم جميعا يحملون في نفوسهم وعيونهم مكانا آخر يعلقون به مالهم من نشاط وحركة، الكل في الشارع مرتبط، والشارع عار من الحركة.

ميدان الجيزة حيث يتركز شارع الهرم قادما من كوبري عباس حتى محطة ترام الأهرام ميدان فريد قد خلقه الله للوصول والقيام لا يستطيع أحد أن يجد فيه مكانا تتجول فيه عيونه أو بعض لذاته، ففي الميدان على قوسيه الواسعين قهوتان كبيرتان لكل واحدة منهما رواد متميزون يعيشون منعزلين في أماكنهم وعلى مناضدهم لا يربطهم بالميدان إلا رغبة خالصة في التخلص منه، ليس لهم فيه نساء عابرة أو مكان فسيح يجعلهم يرون فيه شيئا بل هم في مقهاهم قانعون بهذا القرب من بيوتهم مكتفين بما يقدمه لهم المقهى من تخلص، وعلى قرب دائم من قهوة المثلث ـ قهوة الارستقراطيين في الميدان ـ يقف وابور الزلط وحفنة من العمال إلى جانب حجارة جديدة وقديمة مرمية في جانب الميدان لا تغيب فيه ولا تبعد عنه ابدا.

ويتحرك الناس في أنحاء الميدان وقلبه إلى محطة الترام أو محطة الاتوبيسات المتعددة 31، 6، 7، ج، ب وموقف أتوبيس الفيوم وعربات البيبسي كولا وأستوديو مصر وبعض عربات المصانع القادمة من شبرا ينشدون ما يوصلهم أو ينزلون من العربات الضخمة المخلخلة ليتخلصوا سريعا من الميدان مختفين فيما يخرج منه من شوارع متباينة.

فالميدان كله أشبه ما يكون بمحط كبير لا يقصده المرء الا وفي عيونه وشعوره مكان آخر يريد الوصول إليه فلا تكاد تجد بين الناس من يعطي الميدان شيئا من نفسه بل يقطعونه جميعا وقد احتفوا بما في دواخلهم لا حرصا منهم عليه، بل عجزوا عن إعطائه والمشاركة فيه. ولقد قامت في الميدان محلات كثيرة ساعدت على أن تعطي الميدان شكل المحط الكبير بما تقدمه للناس من إحساس بالعجلة وحاجات التنقل، أجزاخانة بليغ وطعمي الشامي ومدينة الكباب ومحمود بائع السجائر، وأصحاب العرقسوس والخروب والمانجة عند محطات الاتوبيس وعلى الرغم من أن الميدان بعد محطة كبيرة واسعة ـ أو لأنه كذلك ـ فهو يفصل فيما وراء قهوته حيين كبيرين متمايزين. تعتبر القهوة لكل منهما واجهة كبيرة يعرض فيها كل حي ناسه، فقهوة المثلث، قهوة أرباب المعاشات من البكوات والباشوات الصغار، ومحبي الدومينو والطاولة من أساتذة الجامعة والمدرسين الأوائل وبعض الشخصيات المتفقهة من رجال الأزهر القدامى، وكلهم يعرفون بعضا لأن أغلبهم جيران فيما وراء المثلث سواء في العمارات الجديدة أم في الفيلات القديمة ذوات الحدائق، أما قهوة عبد الله وولده فهي تقابل المثلث وتكاد أن تكون كلها رصيفا لا غور لها، هي مهبط الموظفين الصغار والمدرسين من الشباب وسماسرة القطن وشباب الأرياف المتعلم في القاهرة ويجمعهم جميعا ذلك الحر وراء القهوة ذو الشوارع الطويلة الضيقة المتعددة خلف القهوة وكأنها تخرج منها فعلا.

وليس ثمة فارق بين الميدان في الليل والميدان في النهار، إلا امتلاء القهوتين وخروج أهل الحيين كي يسكرون فيها كل أمام الآخر دون إحساس أو اهتمام متصورين في مقهاهم وأحاديثهم يدفعون هنا ضعف ما يدفع هناك، مطمئنين جميعا ان الميدان لن يفشل لحظة في الفصل بينهما وأن الصاعد والنازل فيه لن ينقلا مكانيهما.

وليس أقدر على الإحساس بهذا الدور للميدان من النازل فيه لأول مرة قاصدا مقعدا واضحا وراء إحدى قهوتيه، والواقع أن الميدان على الرغم من استقرار خيوط الواقع فيه واتزانها الدائم في المحافظة على خطوطها إلا أنه يمتاز ـ إلى جانب ما يمتاز به ـ أنه قادر على أن يتلقى الغريب الجديد، وأن يحتمل ما تقدمه له الأماكن البعيدة النائية في القطر من أفراد وعلاقات جديدة وعندما يصل الغريب الجديد، يتحرك في الميدان ناسه الثابتون القائمون على ما له من معنى، وما أسرع ما تدرك عيونهم العارفة خلال الغريب فيتعرضون له لا ليدلون فحسب، بل لتزداد معرفتهم هم بما في ميدانهم من واقع.

ـ ياعنية.. مالها؟

بهيجة، امرأة من سدنة الميدان، لها عند طرف شفتها العليا سنة ذهبية وعند ملتقى الشفتين من الناحية الأخرى سنة أخرى، وفوق شفتها العليا خط أبيض عريض يرتفع بالشفة وكأنها تقدم لأنفها دائما شيئا تشمه. أما عيونها فمكحولة دائما تنحدر عند أطرافها خيوط مسوحة من الكحل، تكاد تشبه في لونها الأسود الباهت منديل الرأس الأسود وثوبها الأسود الضيق المرتفع عن ركبتيها. وبهيجة، تقف دائما حافية عند موقف الأتوبيسات وبالقرب من مكتب المفتش، تتفرج على النازلين والصاعدين وترب سجائرها مجانا من بائع السجائر إلى جوارها وتشارك الكمسارية والسواقين في أكواب شايهم وما قد يشترونه من جوافة أو بلح أو سندويتشات.. فهم جميعا أصدقاؤها تكمل لهم في لحظاتهم القصيرة عند الموقف كل ما ينشدونه ليستريحوا أو لينغمسوا في عملهم دون أن تعطلهم رغباتهم وحاجاتهم الشخصية فبهيجة تعرض في أي موضع وللمتشوق الجريء أن يقبلها في فمها أو في خديها، وللمنتظر ميعاد قيام عربته والمنتهى من نوبته أن يجالسها قليلا وقد وضع يده حول خصرها بعد موعد الليل أو أنفاس الحشيش وهي تنتظر دائما قدوم العربات لتحيى السائق والكمساري ولتكون لسانهم المتغزل في نساء الدرجة الأولى لو أرادوا غير أن بهيجة على الرغم من صلتها الوثيقة بأصحاب العربات وعمالها إلا أنها قد استطاعت أن تنظر للميدان نظرة لا يتغير مكانها أبدا، حتى لتكاد أن تحوي في نفسها معنى فريدا له يتحرك في داخلها بكل ما له من مد طويل، وعزم على الاتساع، وبكل ما فيه من انحصار وقصر ودموع ولقد ألفت بهيجة الوجوه من رواد الميدان، حتى ولو تباعدت زيارتهم وتكاد تعرف وجه كل واحد منهم في جوانب الميدان أو على الأقل على ناحيته الارستقراطية والشعبية واعتادت أن تطلق على المتوغلين فيما وراء قهوة المعلم عبده لفظة: دول بتوعنا، وكأنما تحميهم من شيء أو تمتلك فيهم شيئا.

وعندما وقف «ب» في الميدان كان ذلك حوالي الثانية عشرة ظهرا و «ب» له تعريفة موحدة تبلغ 15 مليما وليس فيه مكان للدرجة الأولى فأصبح أغلب ركابه من بتوع بهيجة، ولقد تكون بهيجة صادقة في هذه الصفة، وفي إحساسها بها لأنها في الواقع تعطي ركاب «ب» من الاهتمام واللطف المختزن في نفسها أكثر مما تعطي للآخرين ولو كانوا حتى من ركاب 13.

ونزل ركاب «ب» من حرارة العربة المترية، إلى حرارة واسعة مليئة بالضوء والحركة. يتباعدون فيها واحدة وراء الآخر وكأنما تأكلهم الحرارة أو تبخرهم فأنت لا تستطيع أن تحفظ عينيك على أحدهم، في كل مساحة الميدان، وخلال ذلك الظهر الحار. وفي كل اتوبيس ـ قبل السائق والكمساري ـ متأخرون في النزول تعتمد عليهم بهيجة فيما تثيره من تعليقات، وتحاول دائما ـ بما يهدونه لها من زمن ـ أن تخصهم بالمعرفة والحديث، غير أن المتأخرين في هذه العربة لم يكونوا بحيث يحتملون من بهجة دعابة أو استفزازا، بل كانوا وكأنهم قد قدموا للميدان بكل ما لهم من مشاعر وأحداث وأخرجوا أنفسهم من العربة ليبدأوا مرحلة جديدة في حياتهم وتصرفاتهم. وليس أقدر من بهيجة على التحسس ومعرفة مواقع التعرض من الناس، ولكنها أحست وهي تتلقاهم بعيونها أن صدرها ينقبض وأنها وسط هذه الحرارة يرتفع قلبها وينبض ويرغمها على أن تقف أمامهم ساكتة تهمس لنفسها:

ـ ياعنية مالها..

وبهيجة عندما تصمت أو تهمس لنفسها، تصبح وكأنها قد نسيت كل مالها من حاضر وكأنها انتقلت إلى منطقة أخرى من مناطق الحياة، تنفصل فيها عن أحاسيسها المباشرة وتعلق نفسها على أحداث الآخرين وتنتظر وليس أقدر من بهيجة ـ في ذلك الحين ـ على الانتظار. نزل المتأخرون من «ب» وكن نسوة ثلاثا من الريف تشمه فيهن وفي حركاتهن. واحدة منهن امرأة طويلة مغطاة بالأسود لا يبدو منها الا عيناها ويداها وهما معا متذبذبتان، سريعتا الحركة والتنقل يلمع فيها الرفق واليقظة، وهي نحيفة نحافة ظاهرة تبدو في أصابع يديها المعروقة وفي ظهرها المسطوح، وعند نهاية ظهرها أطراف ضفيرتان تبرزان مستورتين وراء الطرحة وتنتهي من تحتها في شرائط سوداء كذلك، يلمع من بينها الشعر الصفر الغزير. وهي في سوادها الطويل تتحرك به في كتلة نحيفة واحدة لا يظهر لها جسم ولا سن. أما الثانية فهي أكثر ظهورا وتخففا، ترتدي بالطو ازرق يكاد أن يكون ترواكار فوق فستان أبيض خفيف من الحرير الطيب ينحدر إلى ما بعد ركبتيها بكثير ولكنه يكشف عن شراب كثيف وحذاء بني مغطى: وهي سميكة نوعا ما فيها أنوثة واضحة ولها جسد مليء بصرف العين عن الوجه المغطى بالبيشة الزرقاء. ولا يكاد يبدو من تحت البيشة الثقيلة إلا ما تتم عنه من كحل ثقيل في العيون الواسعة وآثار التكوين في الوجه الممتلئ المستدير

ولقد نزل الاثنان من «ب» تتوسطهما، بين ذراعيهما فتاة، لا تتجاوز العشرين قد حملت بينهما حملا على النزول والخطو. والفتاة طويلة فارعة لها شعر أصفر مقصوص، يلف وجهها الأبيض المحمر في حرص وأسى، ووجه الفتاة وهو أول ما جذب نظر بهيجة، محمر من الدموع التي ما زالت تجري من عيونها البنية الواسعة متساقطة على فمهما المنقبض وكأن فيه صرخات مكتومة كانت الفتاة متصلبة في خطواتها تحمل عليها حملا وكانت الاثنتان مرتبكتين بها، تتحرك أيديهما وأذرعهما حركات كثيرة متعاقبة تحاول أن تريح الفتاة وأن تدفعها لم يكن فيها كلام أو حرص عليه، ولكن الفتاة كانت لا تجذب العيون والتساؤل فقد وقع فيها حيرة واضطراب وكانت الفتاة وسط الأسود والأزرق المبيض ترتدي جلبابا أحمر موردا طويلا يغطيها حتى قدميها ولكن وجهها المتشنج كان يدفع نفسه على يدي المرأتين وكأنها تريد أن تأخذ طريقا آخر. 


المأدبة
كنت أسير بمفردي في الظهيرة متجها إلى بيتي.. وكان الحر الرطب الذي يملأ القاهرة في أغسطس يملؤني أنا الآخر ركودا وسكينة مريضة لا حركة فيها ولا نضرة وكان يعز علي نفسي ما وصلت إليه من هذا الركود فخالط إحساسي بالحر شعور بالإشفاق ورغبة محضة في التوحد.

وصلت إلى ميدان مصطفي كامل ووجدت التمثال كما هو مائلا إلى الوراء قليلا، فيه كثير من التفتت لا أظنه في البطل المصري الكريم وضحكت في نفسي من تورطه الدائم في هذه الحركة السخيفة التي لا معني لها والتي لا تحمل شيئا من كلمات الأمل والحياة المحفورة علي القاعدة. كان الميدان خاليا تماما من الناس. فالساعة قاربت الثانية والمحلات مغلقة والعربات التي تسير قليلة مسرعة كأنها تريد أن تخلص بأسرع ما تستطيع من الحر والرطوبة.

وعندما درت في الميدان التقيت به فجأة.. كان واحدا من معارفي الكثيرين الذين يعملون في الأدب والصحافة بقدر ضئيل من المواهب والقدرات وعزم ملح حريص علي اكتساب مورد ثابت يدر بعض الجنيهات إلى جانب المرتب الذي تمنحه له الحكومة ولكن الغريب في أمر هذا الصديق أن شيئا من مواهبه أو قدراته لم يتطور في هذا المجال الجديد ولم ينجح فيه إلا هذا العزم، فوصل إلى مركز له أهميته في احدي جرائدنا الأدبية، يشرف فيه علي تفتح مواهب الناشئة ويوجههم في بريد سقيم لا معني له. وترددت أن أشعره بأنني رأيته، ولكنه اتجه إلى ملحا وكأنما قد عثر علي شيء ينقذه هو الآخر من الحر والرطوبة.

ـ اهلا وسهلا.. أين أنت.
فقال: والله يا أخي متعب من العمل والحركة وفي جسمي برد يهددني وانا أخشى أن أصاب بالآسيوية.
فضحكت وقلت له: أظننا سنصاب جميعا.. فلا عليك إنها أمر هين، ولكن إلى أين؟
قال: صديقنا الشاعر.. دعاني اليوم للغداء وسيسره جدا أن يراك.. فلم لا تذهب معي.
قلت: الدنيا حر، وأنا أيضا متعب، ثم أقول لك الحق أنا لا أحس أنني قادر علي الحديث أو النقاش. ونحن إذا ذهبنا سنتكلم.
قال: ولم لا نستريح هناك ونصمت.. انه عنده الآن خادمة ولا بد انه قد هيأ طعاما وإذا لم يكن قد فعل، نشتري شيئا معنا وإذا أردت أن نستريح بعد ذلك أو تنام فأفعل فهو بمفرده..
قلت: أفي هذا الحر يذهب الناس لبيوت الآخرين، دعني أعود إلى منزلي اخلع ملابسي واستحم.
ـ لا، لا.. إننا لا نراك كثيرا وهذه فرصة
ـ فرصة لماذا؟
ـ للحديث. والنقاش
ـ ألم اقل لك؟ لقد قلت كل ما عندي ولم يعد عندي كلام
ـ هل هذا معقول؟
ـ انه غير معقول ولكن واقع.. ليس في نفسي شيء اقوله.. بل وليس هناك حاجة الي قول شيء
ـ حتى ولو وجدنا عنده قصيدة جديدة؟
ـ هذا ما أخشاه
ـ وما الذي تخشي؟
ـ أن أدفع للحديث
ـ وماذا يا أخي لو دفعت؟
ـ ضياع للوقت
ـ يا الهي، هل تريد أن نمر علي "وهو صديق آخر قصاص"

قلت وتصبح إذن مأدبة قال: وما المانع أن نمر علي فلان (وهو ممثل ومخرج قد تعلم في فرنسا) وفلان (ناقد مشهور في الصفحات الأدبية) ومن هناك نكلم من نريد بالتليفون..

وأحسست. المجموعة تضخمت، وبدأ هو يتحرك في الشوارع القريبة منا ومن الميدان فأغلبهم يقطنون حوله.. ووقفت علي الرصيف وهو يصعد الدرجات الرخامية الأنيقة لعمارة ضخمة ويركب المصعد الفخم. ويعود بعد قليل بالصديق القصاص وكأنما كان ينتظر أن يمر عليه أحد أو أن يجد أحدا يصحبه إلى حيث يتحدث:

ـ أهلا وسهلا، أين أنت..

قال: لم نرك من زمن وعندما عرفت أنك تنتظر، تركت عملي لنجلس معا قليلا هل نشتري بيرة قبل ان نذهب.

ـ لم لا. وأنا أحس أن المأدبة قد أصبحت لازمة ولا مفر منها وخالطني من جديد هذا الإحساس بغرابة الأدباء اليوم وقدرتهم المتصلة علي خلق المآدب والاحتفالات ومقدرتهم علي الحديث المتصل علي كثرة ما ينشرون.. فهذا القصاص يكتب قصة كل أسبوع علي الأقل ويتقاضي أموالا كثيرة من أكثر من جريدة وتترجم له أعماله إلى أكثر من لغة ويكتب مقالات في النقد والتوجيه الفني وله نظرات في السياسة وخطب في المحافل الدولية.. وشعرت بشيء في الزهو لأنه يترك كل أعماله هذه ليتحدث معي، فبدأت أحس بشيء من التحمس للذهاب أدركه صديقنا الأول فقال:

ـ مسرور.. فرددت عليه بسرعة وأنا استخف اكتشافه لمشاعري وأعود الي ما كنت عليه من مهل: بوجودك

فقال وكأنما يعتذر: سنمضي وقتا طيبا، والحقيقة أنني لم أرد الذهاب بمفردي وهنا نحن نتكاثر..

قلت له: إن الأدباء يتكاثرون دائما علي الطعام.. فاستستخف مقالتي من جديد ودفعنا في شارع آخر ليمر علي الصديق الثالث الممثل. وخطر لي خاطر ذكرني بسقراط وتجميعه لأصدقائه في طريقهم إلى المأدبة وأدركت الفوارق الكثيرة بين موقفه وموقف صديقنا صاحب البريد فضحكت في نفسي وزاد إحساسي بالضيق والملل. ولكننا سرنا ثلاثتنا في الحر حتى عمارة فخمة كعمارة صديقنا القصاص.. فالمشتغلون بالفنون هذه الأيام لا يعيشون في أحياء لاتينية ولا يأكلون الكفاف بل ينعمون في بحبوحة غريبة من الفن والترف تملأ وجوههم سمنة ونضرة وتشع التفاهة والتكرار في ما يكتبون وينشرون.

وسألت صديقنا القصاص: ما هذه العمارات الفخمة يا أخي؟

قال: هي عمارة أحد السينمائيين المعروفين. قلت: اعرف ذلك، إنما كيف المسكن فيها؟

قال: الشقة غرفتان وبهو صغيرة بحوالي عشرين جنيه. وصمت، انتظر نتائج زوره صاحب البريد الذي لم يلبث أن عاد متأخرا وراء الممثل ومعه حسناء لا أعرفها وآخر عرفت من اسمه عندما قدم إلي إنه منتج سينمائي مشهور، وكان صاحب البريد يحمل في يده صندوقا كبيرا مغلقا: قلت متعجبا: ما هذا؟

قال: وجدتهم يستعدون للأكل وكانوا قد طلبوا حماما وكبابا من عند الركيب فحملته معنا، والخمر أيضا..

نعم، كان معه كذلك زجاجة من الويسكي الانكليزي النادر الوجود في هذه الأيام وكانت عربة المنتج السمراء البيضاء منتظرة في الطريق فركبنا، هو والحسناء وصاحب البريد في المقعد الأمامي وأنا والقصاص والممثل في المقعد الخلفي.

ولما لم أكن غير قارئ عادي لهذا العدد الكبير من كتاب وفناني هذه الأيام فقد أحسست بشيء من الخجل من ملابسي وحذائي كلما وقعت عيني علي بشرة الحسناء أو دخل خياشيمي العطر الذي يفوح منها. وكثرت المشتريات في الطريق، فاشتروا البيرة والصودا وأنواعا مختلفة من المزات، ومررنا علي العمارة التي يسكنها الناقد وانحشر معنا علي المقعد الخلفي ولم يعد إلا أن نصل إلى بيت صديقنا جميعا، هذا الشاعر الذي ينتظر شخصا واحدا قد دعاه لغداء.

ولم أتمالك نفسي ونحن في الطريق أن أفكر في مأدبة سقراط من جديد، فازداد إحساسي بالألم والضيق.