شاعر المسرح
ومعارض السياسات الأمريكية الشجاع
كان رحيل الكاتب الانجليزي الكبير هارولد بنتر صبيحة عيد الميلاد وقبيل رحيل عام 2008 بأيام صدمة كبيرة لمحبي المسرح عامة، وعشاق مسرحه بشكل خاص. وقد جاء هذا الرحيل بعد أكثر قليلا من شهرين من احتفاله في يوم 10 أكتوبر بعيد ميلاده الثامن والسبعين، وبعد أقل من عام من أخراجه الأخير لأحدى مسرحياته على المسرح القومي الانجليزي، ليرحل هذا الكاتب وهو شديد الانشغال بالمسرح وبالعالم في آن واحد. فقد استطاع هذا الكاتب الشجاع أن يثري المسرح الانجليزي بانتاجه الغزير خلال نصف قرن من الزمان، وأن يترك بصمته الواضحة عليه بصورة لا تعادلها إلا بصمات الكاتب الأيرلندي الكبير صامويل بيكيت عليه، من حيث اللغة والرؤية والبنية معا. وأعيد هنا بهذه المناسبة نشر مقال سبق أن كتبته بمناسبة حصول بنتر على جائزة نوبل، أرتأيت أن أتركه كما هو لأن ملابسات نشرة تذكرنا بالكثير من القضايا والمواقف الشجاعة التي سيكرر بعضها في محاضرة نوبل التي ننشر هنا ترجمتها. * * * للمرة العشرين، وربما أكثر من المرة العشرين، تخيب الأكاديمية السويدية أمل على أحمد سعيد (أدونيس) الذي ينتظر في هذا الوقت من كل عام أن يكون الفائز بجائزة نوبل للآداب. ففي هذا الوقت من كل عام يحشد أدونيس لذلك الأمر كل حشوده الإعلامية وينتظر، وسيظل ينتظر "جودو" نوبل الذي لايجيء أبدا لمن يعملون من أجل الحصول على هذه الجائزة. لأن نوبل تحرص كل مرة ـ كالغانية اللعوب التي تستسمج خطاب ودها اللحوحين ـ على تجاهل "المشتاقين" الذين يقفون بلجاجة على أبوابها يتشهون الوصال. وتخطب هي ود من ينصرفون عنها إلى عملهم الأدبي ودورهم الثقافي. وقد انضم إلى أدونيس في العامين الأخيرين "مشتاق لجوج" آخر هو الكاتب التركي أورهان باموك الذي يلفت هو الآخر لنفسه الأضواء. ويسعى إلى أن يشغل الرأي العام الأدبي بمشاغباته لحكومته تارة، وبتوسله للرأي العام الغربي أخرى. فقد كان من أغرب ما قرأت في عدد جريدة (الأوبزيرفر) البريطانية للأحد الماضي (9/ 10/ 2005) أن أعضا ء الأكاديمية السويدية قد أجلوا قرار منح الجائزة لمدة أسبوع بسبب أنشقاق بينهم. وامتلا ء المقال بالتكهنات حول سر هذا الانشقاق وعزاه إلى رغبة بعض الأعضاء في منحها لأورهان باموك الذي أثارت روايته الأخيرة (ثلوج) زوبعة في بلده دفعت البعض إلى المطالبة بمحاكمته لزرايته بالتاريخ التركي. خاصة بعدما اعترف بأن تركيا قد قامت بخطيئة الإبادة الجماعية للأرمن والأكراد. وهو الأمر تريد بعض الدوائر الغربية، أن تعترف تركيا به. بينما يرفض البعض منحه إياها بسبب حدة الجدل السياسي حوله، والذي لاتريد الأكاديمية الإدلاء بدلوها فيه، أو التحيز لأي جانب من جوانبه. لكن أغرب ما انطوى عليه مقال (الأوبزيرفر) ذاك هو زعم كاتبه بأن اللجنة قد توصلت إلى أن الاختيار بين اسمين سيتم اختيار أحدهما بالتصويت. ثم أنهى مقاله بأن أكثر الأسماء ترددا في استكهولم باعتباره الأسم المفضل لنيل الجائزة هو الشاعر السوري على أحمد سعيد الذي يدعو نفسه أدونيس. وأنه ينافس في هذا المجال صديقه الكاتب الصهيوني من فلسطين المحتلة عاموس أوز. ثم جاء الإعلان يوم الخميس ليسخر من كل تكهنات الصحفيين، ليس فقط تلك التي حصرت الجائزة بين باموك وأدونيس، وإنما أيضا تلك التي زعمت أنها لاتريد أن ينطوي منحها على موقف سياسي. وهو الأمر الذي لم يفت المحرر الأدبي لصحيفة (الإنديبندنت) عشية منح الجائزة لبنتر حيث وصف الأحلام التركية بأنها نوع من المني الخادعة. فقد أكدت الأكاديمية السويدية بقرارها الصائب هذا العام بمنحها للكاتب المسرحي الأنجليزي الكبير هارولد بنتر أن الجائزة تواصل أسلوبها الأثير في اختيار من لايجرون وراءها بلجاجة صفيقة، حيث تفضل من يعرضون عنها ولا يفكرون إلا في عملهم الأدبي ودورهم الثقافي كما هي الحال مع الفائز بها هذا العام. كما يكشف الاختيار كذلك ـ وهذا ما قاله بنتر نفسه عن أن الجائزة ليست فقط لمسرحه، ولكن أيضا لمواقفه الفكرية والسياسية المناهضة للحرب ـ أن الأكاديمية السويدية تنحاز للضمير الأدبي وليس للمؤسسة السياسية. فقد جاء منح بينتر الجائزة هذا العام وهو المعروف بمواقفه المناهضة للحرب وبدعوته لمحاكمة جورج بوش كمجرم حرب، وتحذيره من البربرية الأمريكية التي ستدمر العالم، بعد منحها العام الماضي للكاتبة النمسوية ألفريدا يلينيك المعروفة هي الأخرى بمواقفها المعادية للغباء السياسي الأمريكي وللحروب التي شنها حلف الأطلسي في أوروبا، وكذلك بمناهضتها للحرب على العراق، ليؤكد أن الجائزة تنحاز للضمير الأدبي المعادي للحرب، والمحذر من المهاوي التي تجر السياسات الأمريكية الرعناء البشرية إليها. والواقع أن هذا الأسبوع بالنسبة لهارولد بنتر كان أسبوعا حافلا بالمفاجآت. فقد أحتفل في مطلعه، يوم الأثنين 10 أكتوبر في دبلن بعيد ميلاده الخامس والسبعين، وهو احتفال شارك فيه عدد كبير من كبار الممثلين والممثلات وأعلام المسرح والثقافة الانجليزية المعاصرين. وما أن عاد من دبلن إلى بيته في لندن حتى سقط في الشارع، في اليوم التالي، وخبط رأسه على حافة الطوار، مما أصابه بخدوش في وجهه وسحجات حول عينه اليسرى. وتظهر كلها بوضوح في الصورة الحديثة المنشورة مع هذا المقال. وحينما اتصل به وكيله الأدبي صباح الخميس يخبره أن رئيس الأكاديمية السويدية سيتصل به تليفيونيا بعد قليل، كانت إجابته "لماذا؟ ماذا يريد مني؟" فما أخبره أن السبب هو حصوله على جائزة نوبل للآداب أذهله الخبر الذي لم يكن يتوقعه ولم يخطر على باله قط، فلم تكن الجائزة من شواغله أبدا. وقد جاء منح هارولد بنتر لهذه الجائزة ـ والتي يقول أنها منحت له بسبب مسرحه بقدر ما منحت له بسبب مواقفه السياسية ويعتقد أن للإثنين معا الفضل في حصوله على الجائزة ـ في يوم احتفال المؤسسة السياسية الانجليزية بعيد ميلاد مارجريت ثاتشر الثمانين. لتخسف أضواء المنح والاحتفال بالمانح الذي عارض الحرب على العراق، ووصف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني بأنه "أبله مخدوع" بمعسول ترهات جورج بوش، ويصف جورج بوش بأنه مجرم حرب ويطالب بمحاكمته، ضجه السياسيين المحتفلين بالداعية البريطانية للحرب الأولى على العراق، وتلميذها النجيب بلير الذي ورط بريطانيا ـ ضد أغلبية الرأي العام ـ في وحول الحرب الثانية على العراق ومباءات احتلاله. ولتحيل بنتر من جديد إلى ممثل للضمير الثقافي الانجليزي الذي يحظي باحترام العالم واعترافه بقيمته، في مواجهة المؤسسة السياسية الغربية التي يحتقر بنتر أهم رموزها الفاعلة في شخصي بلير وبوش. فمن هو هذا المتمرد السياسي العتيد: هارولد بنتر. الذي يجسد الضمير السياسي الذي لا يتجنب المواجهات مع المؤسسة السياسية العمياء على قدمين، ويوشك أن يعيد للأذهان دور المثقف الكبير الذي يفتقده الغرب منذ غياب برتراند راسل وجان بول سارتر وبيير بورديو. ولد هارولد بنتر في 10 أكتوبر عام 1930 وهو ابن ترزي يهودي يعمل في الحي الشرقي "ويست إند" الفقير في لندن حيث نشأ في مناخ العداء للسامية الذي انتشر في بريطانيا إبان طفولته بسبب سياسات أوزولد موزلي وجماعة القمصان السود. وهو من هذه الناحية ابن الطبقة العاملة الانجليزية الطالعة من حي الويست إند الذي خلده تشالز ديكينز في كثير من أعماله باعتبارها منطقة الفقر والعنف والحرمان وتردي القيم. وتلقي تعليمه في مدرسة الحي ثم حاول العمل بالتمثيل. فقد بدأ حياته ممثلا مسرحيا، ومازال يمارس التمثيل والإخراج المسرحي بين الحين والآخر. لكنه سرعان ما كتب للمسرح ضمن موجة الجيل الغاضب الشهيرة، فهو من جيل جون أوزبورن صاحب (انظر وراءك في غضب) وجون آردن وبراين فريل وألان بينيت وأدوارد بوند ومايكل فرين وبيتر شيفر وأرنولد ويسكر وغيرهم. وظهرت مسرحيته الأولى (الغرفة) عام 1957 ثم أعقبتها مسرحيته الثانية التي ترسخ معها اسمه في عالم المسرح (حفلة عيد الميلاد) 1958. ثم تتابعت بعدها المسرحيات: (البيت الساخن) 1958، و (ألم طفيف) 1959، و (النادل الغبي) 1960، و (الحارس) 1960، و (نزهة ليلية) 1960، و (التشكيلة) 1961، و (العاشق) 1963، و (حفلة شاي) 1965، و (العودة للبيت) 1965، و (الامتحان) 1966، و (الامتحان) 1966، و (البدروم) 1967، و (مشهد طبيعي) 1968، و (الصمت) 1969، و (الليل) 1969، و (أيام زمان) 1971، و (منولوج) 1973، و (الأرض الحرام) 1975، و (خيانة) 1978، و (أصوات عائلية) 1981، و (محطة فيكتوريا) 1982، و (نوع من ألاسكا) 1982، و (مشروب من أجل الرحلة) 1984، و (لغة الجبل) 1988، وإلى جانب هذه المسرحيات العديدة كتب بنتر رواية واحدة هي (الأقزام) 1960، ومجموعة شعرية (حرب) 2002، تضم عشر قصائد ومقال أو بيان سياسي عن موقفه السياسي من الحروب التي شنتها أمريكا أخيرا. كما كتب بنتر عددا من السيناريوهات أو المعالجات السينمائية لمجموعة من أبرز الأفلام البريطانية الجادة مثل (الخادم) و (الحادث) و (الرسول أو المرسال) و (امرأة الضابط الفرنسي) وكان آخرها (حكاية الوصيفة) عام 1990، من الأفلام البارزة. نحن إذن بإزاء كاتب مسرحي كبير بأي معيار من المعايير، وكتاب المسرح يشكلون أقلية واضحة بين الحائزين على الجائزة، إلى الحد الذي ينتدر الكثيرون فيه على أن أبرز كاتبين مسرحيين خرجا من أسكندينافيا وهما أوجست سترندبرج السويدي وهنريك إبسن النرويجي لم يحصلا عليها بينما حصل عليها 17 كاتب اسكندينافي نسي الكثيرون منهم. كما أن أنطون تشيخوف، الذي يعتبره الكثيرون مؤسس المسرح الأوروبي الحديث لم يحصل عليها هو الآخر، برغم وفاته بعد تأسيسها بأربعة أعوام. وتعد جائزة بنتر تلك، الجائزة السابعة التي يحصل عليها انجليزي وكان آخر الستة الحاصلين عليها (كيبلينج، وجالزورثي، وشو، وتشرسل، وراسل، وجولدنج) هو وليام جولدنج حصل عيها عام 1983، صحيح أن البعض يعتبر الأديب الهندي الكاريبي نايبول بريطانيا، وصحيح أيضا أنه يكتب باللغة الانجليزية، ويعد أحد أبرز الناثرين فيها، إلا أن الكثيرين لم يعدوه عند الحديث عمن فاز بها من الانجليز، ولهذا الأمر دلالته الملحوظة بالرغم من أن نايبول يسعى لأن يكون أنجليزيا أكثر من الانجليز، أو ملكيا أكثر من الملك حسب التعبير الشائع. لذلك كانت الفرحة الانجليزية بالجائزة غامرة، كما كان الاحتفاء بالدلالات السياسية لمنحها لبنتر واضحا. حيث نشرت صحيفة (ألإنديبندنت) في اليوم التالي مقالا لبنتر كان قد كتبه في مناهضة الحرب، أو بالأحرى أعادت نشره لتكشف عن أنه لا يمكن الفصل بين مسرحه وآرائه السياسية والفكرية. لكن حيثيات منح بنتر الجائزة ركزت ـ وهذا أمر طبيعي ـ على مسرحيه. إذ تقول حيثيات منح الجائزة "إن هارولد بنتر رد للمسرح جوهره الأساسي باعتباره فضاءا مغلقا مشحونا بحوار غير متوقع، يقع البشر فيه تحت رحمة بعضهم البعض، وتتهاوى فيه كل المزاعم والإدعاءات الخادعة. فمن خلال تقليص الحبكة إلى الحد الأدنى، تنبثق الدراما عنده من خلال صراع القوى، ولعبة الطراد المراوغ التي تدور في المحادثات العادية. ويعد بنتر بشكل واسع أبرز ممثلي المسرح الانجليزي في النصف الثاني من القرن العشرين. حيث تعري مسرحياته المهاوي الثاوية وراء الثرثرات العادية، وتجتاح غرف القهر الداخيلة المغلقة. فقد أصبح أحد عمد المسرح الحديث منذ أن دخل اسمه إلى اللغة الانجليزية كمفردة متميزة بنتري Pinteresque تصف مناخا محددا وحالة مزاجية في المسرح الحديث. وقد استقبلت مسرحياته في البداية باعتبارها تنويعات على مسرح العبث، ولكنها سرعان ما تفردت ببنيتها الخاصة وأصبحت توصف بأنها كوميديات مترعة بالتهديد والخطر، وشكلت جنسا مسرحيا قائما بذاته، يتيح لنا الكاتب فيه أن نسترق السمع إلى دمدمات علميات السيطرة والخضوع التي تنطوي عليها أكثر الأحاديث اليومية عادية." والواقع أن تلك الحيثيات تنطوي على فهم عميق لمسرح بنتر الذي بدا للوهلة الأولى، وفي السياق الذي ظهر فيه في الخمسينات أنه تنويع ما على مسرح العبث لصامويل بيكيت أو يوجين يونيسكو. فقد تعرضت مسحياته في البداية ـ كما هو الحال مع مسرح بيكيت ـ لسوء الفهم، وعرض بعضها في ألمانيا قبل عرضه في لندن، واتهمت بالغموض والإلغاز. لأن مسرحيته الأولى (الغرفة) تحيل الغرفة المغلقة إلى مهرب من العالم الخارجي الذي تخلت عنه الشخصية، وإلى نوع من الحجيم الخصوصي لها. أما (حفلة عيد الميلاد) فأنها تبلور لنا مفردات عالم بنتر وأبجديته الفريدة التي يتحول معها الحفل إلى نوع من الكشف، وإلى عملية صراع دامية لاتراق فيها قطرة دم ولكن تزهق فيها الأرواح بلا رحمة. ويتحول الحوار إلى مفردات كالخناجر لا تخفق أبدا في أن تجرح قائلها ومتلقيها معا. ومما يرهف من حدة المناخ المشحون بالخطر في هذه المسرحية استخدامها لجماليات المكان حيث يدور الحفل في أحد الفنادق الساحلية. وهذا ما نراه أيضا في (النادل الغبي) حيث نجد قاتلين محترفين ينتظران الأمر الأخير باسم الشخص الذي عليهما قتله، وبينما يتحاوران قتلا للوقت في انتظار الأمر النهائي يتكشف الحوار التهكمي الساخر عما تنطوي عليها علاقتهما من خطر وتهديد. فقد كانت هذه المسرحية هي التي دفعت الناقد المسرحي الانجليزي أيرفينج واردل إلى نعت مسرحياته بمصطلح "كوميديات مترعة بالتهديد والخطر" وهو المصطلح الذي يتردد في حيثيات منحه الجائزة بوضوح. وفي هذا النوع المسرحي نفسه تقدم لنا (الحارس) التوتر الذي تنطوي عليه أكثر العلاقات حميمة، وهي علاقة الأخ بأخيه. حيث تتهاوى كل افتراضات هذه العلاقة من خلال محاولة ديفيز "الشوارعي" لكسب ود أحدهما على حساب الآخر، والكشف لا عن انعدام التواصل الحقيقي بينهما فحسب، وإنما عن حقيقة التوتر الذي تنهض عليه علاقتهما الحميمة ببعضهما البعض. ويصل هذا الموقف في (أيام زمان) إلى قدر كبير من الكثافة والتعقيد. حيث تنهض المسرحية على صراع القوي المحتدم في أكثر العلاقات عادية وابتذالا، من خلال شهوة الاستحواذ على الغير وعلى الأشياء والأماكن معا. ومن خلال الأوهام التي تلعبها الذاكرة الانتقائية بالحذف والإضمار. لأن المسرحية تقدم لنا ما يحدث عندما يتدخل شخص في علاقة زوجين، بصورة تكشف لنا عن المسكوت عنه في هذه العلاقة بطريقة صادمة يتهاوي فيها أمن البيت العائلي المضمون. ويتكشف عن حلبة لصراعات القوى بين الزوجين. فما أن تصل "أنا" لتقيم مع صديقتها "كيت" وزوجها "ديلي" حتى يندلع الصراع بين "أنا" و"ديلى" للاستحواذ على "كيت" من خلال استخدام ذكريات كل من الثلاثة عن الماضي وتحويلها إلى أدوات في هذه الحرب الضروس التي تترك الجميع مهزومين. لأن هذا النوع من الحروب الداخلية التي تدور في مسرحه هي من الحروب التي لا انتصار فيها، وإنما حروب تكشف عن أن الهزيمة هي قدر الإنسان في المجتمع الحديث. ويعود بنتر إلى هذا الموضوع الشائك مرة أخرى في مسرحيته الجميلة (خيانة) التي تتسم ببنية رائعة تكشف لنا عن أن الخيانة الحقيقية ليست خيانة الصديق لصديقه وإقامته علاقة مع زوجته، ولكنها خيانة لحظة الحب التي اندلع طوفانها القوي بين العاشقين، وأصبحت كل ممارسة للعلاقة بعدها خيانة لتلك اللحظة المتوقدة. ويعزو بنتر اهتمامه بالحوار المترع بالغموض، والمنطوي في الوقت نفسه على أطياف الخطر والتهديد أو الوعيد، إلى نشأته كصبي يهودي في الثلاثينات وهي مرحلة اتسمت بالعداء للسامية، وممارسة اليهود وقتها لنوع من "التقية" في حواراتهم العادية. حيث كان التهرب المستمر هو وسيلة اليهود للبقاء ومواجهة العداء المنصب عليهم وقتها. وبالتالي وعي هارولد الصغير درس ازدواجية اللغة منذ نعومة أظافره. واستخدم هذا الدرس لبلورة مسرح خاص به يكشف لنا عما تنطوي عليه دمدمات الكلمات التحتية من مخاطر محيرة. وعما تجيش به المفردات من مزيج غريب من الدلالات المتضافرة والمتناقضة في آن. مسرح يلعب فيه الصمت دورا لا يقل أهمية عن ذلك الذي تلعبه الكلمات. لأن الصمت ـ وللصمت ثلاث مفردات متميزة في مسرحه تقيس كل منها طول الصمت المطلوب وتتحكم في الإيقاع الدرامي ـ يلعب دورا مهما في خلق المناخ الذي تواضع الكتاب على وصفه بالمناخ البنتري. بالصورة التي تبدو معها مسرحياته وكأنها ألغاز من نوع خاص، ولكنها ألغاز لها سحرها وغوايتها التي لامهرب منها، لأنها تجسد لنا تعقد الكائن الإنساني ووقوعه في أحابيل ينصبها له باستمرار أكثر المقربين منه دون أن ينجحوا أنفسهم من الإفلات من شراك الأحابيل التي ينصبونها لغيرهم. ومن هنا فإن الشرك في مسرحياته دائما شرك مزدوج يوقع الفريسة، ولكنها يقتنص طرادها في نفس الشبكة، فحتمية المصير الإنساني هي التي تحتم وقوع كليهما في الفخ الذي لامنجاة منه. والواقع أن ما يكثف حدة الدراما في مسرحه هو تعمده ألا يكشف عن حقيقة ما جرى، وألا يوضح لنا كل العناصر الفاعلة في الموقف، وأن يترك باستمرار قدرا كبيرا من الالتباس يلف الموقف ودوافع الشخصية على السواء. وهذا ما يزيد من حدة التهديد والخطر المحيق بالشخصيات في مسرحه المترع بالقتامة، والذي يصدر بطريقته الخاصة حكمه بالإدانة على الشخصيات. ويرينا أياها وهي تتخبط في شباك لا نجاة منها لأنها من صنع الشخصيات نفسها، وليس من صنع أعدائها. وقد حاول نقاد بنتر تحليل سر هذا المأزق الدرامي الذي يلف شخصياته، فعزاها بعضهم إلى التأويل الفرويدي، وعزاها آخرون إلى التأويل الديني الذي يعتمد على أطياف أنجيلية وتوراتية واضحة. ولكنه في أكثر التأويلات إقناعا مأزق وجودي مادي في آن. يستهدف تعرية ماهية الإنسان ووضعها وجها لوجه أمام ما فيها من نقص وهشاشة. لأن بنتر يؤكد أنها لايستطيع تلخيص مسرحياته أو الحديث عن مغزى لها، إلا بوصف ما حدث وما قيل في كل مسرحية من مسرحياته. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أهم ما تقدمه مسرحياته هو هذه الشريحة الإنسانية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها شريحة من الحياة أقرب ما تكون إلى المسرح الطبيعي، ولكن الطاقة الشعرية للغة وللصمت معا فيها هي التي تعمرها بهذا المناخ الوجودي الفلسفي المعتم. وهي التي تضفي عليها في الوقت نفسه قدرا كبيرا من العمق والغموض. وقد ترك مسرح بنتر تأثيره الكبير على معظم كتاب الجيل المسرحي الانجليزي الذي ظهر بعده، من توم ستوبارد إلى دافيد هير، ومن فرانك ماجينس إلى دافيد إدجار وكاريل تشيرشيل. وقد تتابع الكثيرون منهم على شاشة التليفزيون الانجليزي يعربون عن فرحتهم بحصوله على الجائزة، ويؤكدون على أهميته المسرحيه والثقافية ككاتب له موقف واضح من قضايا عصره، ومما يدور في بلده من سياسات خاطئة. لا يهاب قول الحق في وجه المؤسسة السياسية المسيطرة. بل ويرفض التكريم الذي تمنحه له هذه امؤسسة إذا ما كان يختلف معها سياسيا. فقد سبق له أن رفض منحه لقب الفارس أو "سير" الانجليزي عندما رشحه له جون ميجر رئيس الوزراء البريطاني السابق عام 1996، فقد رفض بنتر هذا الشرف قائلا إنه لايستطيع أن يتقبل مثل هذا التكريم من حكومة المحافظين، ولكنه قبل لقب رفيق شرف من حكومة العمال قبل ولوغها في مباءات الحرب. وما أن اندلعت الحرب في صربيا ثم في العراق حتى كان دائما في طليعة المظاهرات المناهضة لها وفي مقدمة النقاد الذين يترك نقدهم جراحا داميا على وجه المؤسسة السياسية الفاسدة. وليس أدل على فاعلية مسرحه المستمرة من أن المسرح الانجليزي المعاصر لايخلو من واحدة أو أكثر من مسرحياته الثلاثين. والواقع أن واحدة من مسرحياته البارزة، وهي (الأرض الحرام) تعرض الآن على المسرح الانجليزي، وسوف أتناولها هنا بشيء من التفصيل كي تقدم للقارئ نموذجا لمسرحه، خاصة وأنها واحدة من أبرز مسرحياته، ومن أكثرها عمقا وثراءا بالدلالات.
كان رحيل الكاتب الانجليزي الكبير هارولد بنتر صبيحة عيد الميلاد وقبيل رحيل عام 2008 بأيام صدمة كبيرة لمحبي المسرح عامة، وعشاق مسرحه بشكل خاص. وقد جاء هذا الرحيل بعد أكثر قليلا من شهرين من احتفاله في يوم 10 أكتوبر بعيد ميلاده الثامن والسبعين، وبعد أقل من عام من أخراجه الأخير لأحدى مسرحياته على المسرح القومي الانجليزي، ليرحل هذا الكاتب وهو شديد الانشغال بالمسرح وبالعالم في آن واحد. فقد استطاع هذا الكاتب الشجاع أن يثري المسرح الانجليزي بانتاجه الغزير خلال نصف قرن من الزمان، وأن يترك بصمته الواضحة عليه بصورة لا تعادلها إلا بصمات الكاتب الأيرلندي الكبير صامويل بيكيت عليه، من حيث اللغة والرؤية والبنية معا. وأعيد هنا بهذه المناسبة نشر مقال سبق أن كتبته بمناسبة حصول بنتر على جائزة نوبل، أرتأيت أن أتركه كما هو لأن ملابسات نشرة تذكرنا بالكثير من القضايا والمواقف الشجاعة التي سيكرر بعضها في محاضرة نوبل التي ننشر هنا ترجمتها.
* * *
للمرة العشرين، وربما أكثر من المرة العشرين، تخيب الأكاديمية السويدية أمل على أحمد سعيد (أدونيس) الذي ينتظر في هذا الوقت من كل عام أن يكون الفائز بجائزة نوبل للآداب. ففي هذا الوقت من كل عام يحشد أدونيس لذلك الأمر كل حشوده الإعلامية وينتظر، وسيظل ينتظر "جودو" نوبل الذي لايجيء أبدا لمن يعملون من أجل الحصول على هذه الجائزة. لأن نوبل تحرص كل مرة ـ كالغانية اللعوب التي تستسمج خطاب ودها اللحوحين ـ على تجاهل "المشتاقين" الذين يقفون بلجاجة على أبوابها يتشهون الوصال. وتخطب هي ود من ينصرفون عنها إلى عملهم الأدبي ودورهم الثقافي. وقد انضم إلى أدونيس في العامين الأخيرين "مشتاق لجوج" آخر هو الكاتب التركي أورهان باموك الذي يلفت هو الآخر لنفسه الأضواء. ويسعى إلى أن يشغل الرأي العام الأدبي بمشاغباته لحكومته تارة، وبتوسله للرأي العام الغربي أخرى. فقد كان من أغرب ما قرأت في عدد جريدة (الأوبزيرفر) البريطانية للأحد الماضي (9/ 10/ 2005) أن أعضا ء الأكاديمية السويدية قد أجلوا قرار منح الجائزة لمدة أسبوع بسبب أنشقاق بينهم. وامتلا ء المقال بالتكهنات حول سر هذا الانشقاق وعزاه إلى رغبة بعض الأعضاء في منحها لأورهان باموك الذي أثارت روايته الأخيرة (ثلوج) زوبعة في بلده دفعت البعض إلى المطالبة بمحاكمته لزرايته بالتاريخ التركي. خاصة بعدما اعترف بأن تركيا قد قامت بخطيئة الإبادة الجماعية للأرمن والأكراد. وهو الأمر تريد بعض الدوائر الغربية، أن تعترف تركيا به. بينما يرفض البعض منحه إياها بسبب حدة الجدل السياسي حوله، والذي لاتريد الأكاديمية الإدلاء بدلوها فيه، أو التحيز لأي جانب من جوانبه. لكن أغرب ما انطوى عليه مقال (الأوبزيرفر) ذاك هو زعم كاتبه بأن اللجنة قد توصلت إلى أن الاختيار بين اسمين سيتم اختيار أحدهما بالتصويت. ثم أنهى مقاله بأن أكثر الأسماء ترددا في استكهولم باعتباره الأسم المفضل لنيل الجائزة هو الشاعر السوري على أحمد سعيد الذي يدعو نفسه أدونيس. وأنه ينافس في هذا المجال صديقه الكاتب الصهيوني من فلسطين المحتلة عاموس أوز.
ثم جاء الإعلان يوم الخميس ليسخر من كل تكهنات الصحفيين، ليس فقط تلك التي حصرت الجائزة بين باموك وأدونيس، وإنما أيضا تلك التي زعمت أنها لاتريد أن ينطوي منحها على موقف سياسي. وهو الأمر الذي لم يفت المحرر الأدبي لصحيفة (الإنديبندنت) عشية منح الجائزة لبنتر حيث وصف الأحلام التركية بأنها نوع من المني الخادعة. فقد أكدت الأكاديمية السويدية بقرارها الصائب هذا العام بمنحها للكاتب المسرحي الأنجليزي الكبير هارولد بنتر أن الجائزة تواصل أسلوبها الأثير في اختيار من لايجرون وراءها بلجاجة صفيقة، حيث تفضل من يعرضون عنها ولا يفكرون إلا في عملهم الأدبي ودورهم الثقافي كما هي الحال مع الفائز بها هذا العام. كما يكشف الاختيار كذلك ـ وهذا ما قاله بنتر نفسه عن أن الجائزة ليست فقط لمسرحه، ولكن أيضا لمواقفه الفكرية والسياسية المناهضة للحرب ـ أن الأكاديمية السويدية تنحاز للضمير الأدبي وليس للمؤسسة السياسية. فقد جاء منح بينتر الجائزة هذا العام وهو المعروف بمواقفه المناهضة للحرب وبدعوته لمحاكمة جورج بوش كمجرم حرب، وتحذيره من البربرية الأمريكية التي ستدمر العالم، بعد منحها العام الماضي للكاتبة النمسوية ألفريدا يلينيك المعروفة هي الأخرى بمواقفها المعادية للغباء السياسي الأمريكي وللحروب التي شنها حلف الأطلسي في أوروبا، وكذلك بمناهضتها للحرب على العراق، ليؤكد أن الجائزة تنحاز للضمير الأدبي المعادي للحرب، والمحذر من المهاوي التي تجر السياسات الأمريكية الرعناء البشرية إليها.
والواقع أن هذا الأسبوع بالنسبة لهارولد بنتر كان أسبوعا حافلا بالمفاجآت. فقد أحتفل في مطلعه، يوم الأثنين 10 أكتوبر في دبلن بعيد ميلاده الخامس والسبعين، وهو احتفال شارك فيه عدد كبير من كبار الممثلين والممثلات وأعلام المسرح والثقافة الانجليزية المعاصرين. وما أن عاد من دبلن إلى بيته في لندن حتى سقط في الشارع، في اليوم التالي، وخبط رأسه على حافة الطوار، مما أصابه بخدوش في وجهه وسحجات حول عينه اليسرى. وتظهر كلها بوضوح في الصورة الحديثة المنشورة مع هذا المقال. وحينما اتصل به وكيله الأدبي صباح الخميس يخبره أن رئيس الأكاديمية السويدية سيتصل به تليفيونيا بعد قليل، كانت إجابته "لماذا؟ ماذا يريد مني؟" فما أخبره أن السبب هو حصوله على جائزة نوبل للآداب أذهله الخبر الذي لم يكن يتوقعه ولم يخطر على باله قط، فلم تكن الجائزة من شواغله أبدا. وقد جاء منح هارولد بنتر لهذه الجائزة ـ والتي يقول أنها منحت له بسبب مسرحه بقدر ما منحت له بسبب مواقفه السياسية ويعتقد أن للإثنين معا الفضل في حصوله على الجائزة ـ في يوم احتفال المؤسسة السياسية الانجليزية بعيد ميلاد مارجريت ثاتشر الثمانين. لتخسف أضواء المنح والاحتفال بالمانح الذي عارض الحرب على العراق، ووصف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني بأنه "أبله مخدوع" بمعسول ترهات جورج بوش، ويصف جورج بوش بأنه مجرم حرب ويطالب بمحاكمته، ضجه السياسيين المحتفلين بالداعية البريطانية للحرب الأولى على العراق، وتلميذها النجيب بلير الذي ورط بريطانيا ـ ضد أغلبية الرأي العام ـ في وحول الحرب الثانية على العراق ومباءات احتلاله. ولتحيل بنتر من جديد إلى ممثل للضمير الثقافي الانجليزي الذي يحظي باحترام العالم واعترافه بقيمته، في مواجهة المؤسسة السياسية الغربية التي يحتقر بنتر أهم رموزها الفاعلة في شخصي بلير وبوش. فمن هو هذا المتمرد السياسي العتيد: هارولد بنتر. الذي يجسد الضمير السياسي الذي لا يتجنب المواجهات مع المؤسسة السياسية العمياء على قدمين، ويوشك أن يعيد للأذهان دور المثقف الكبير الذي يفتقده الغرب منذ غياب برتراند راسل وجان بول سارتر وبيير بورديو.
ولد هارولد بنتر في 10 أكتوبر عام 1930 وهو ابن ترزي يهودي يعمل في الحي الشرقي "ويست إند" الفقير في لندن حيث نشأ في مناخ العداء للسامية الذي انتشر في بريطانيا إبان طفولته بسبب سياسات أوزولد موزلي وجماعة القمصان السود. وهو من هذه الناحية ابن الطبقة العاملة الانجليزية الطالعة من حي الويست إند الذي خلده تشالز ديكينز في كثير من أعماله باعتبارها منطقة الفقر والعنف والحرمان وتردي القيم. وتلقي تعليمه في مدرسة الحي ثم حاول العمل بالتمثيل. فقد بدأ حياته ممثلا مسرحيا، ومازال يمارس التمثيل والإخراج المسرحي بين الحين والآخر. لكنه سرعان ما كتب للمسرح ضمن موجة الجيل الغاضب الشهيرة، فهو من جيل جون أوزبورن صاحب (انظر وراءك في غضب) وجون آردن وبراين فريل وألان بينيت وأدوارد بوند ومايكل فرين وبيتر شيفر وأرنولد ويسكر وغيرهم. وظهرت مسرحيته الأولى (الغرفة) عام 1957 ثم أعقبتها مسرحيته الثانية التي ترسخ معها اسمه في عالم المسرح (حفلة عيد الميلاد) 1958. ثم تتابعت بعدها المسرحيات: (البيت الساخن) 1958، و (ألم طفيف) 1959، و (النادل الغبي) 1960، و (الحارس) 1960، و (نزهة ليلية) 1960، و (التشكيلة) 1961، و (العاشق) 1963، و (حفلة شاي) 1965، و (العودة للبيت) 1965، و (الامتحان) 1966، و (الامتحان) 1966، و (البدروم) 1967، و (مشهد طبيعي) 1968، و (الصمت) 1969، و (الليل) 1969، و (أيام زمان) 1971، و (منولوج) 1973، و (الأرض الحرام) 1975، و (خيانة) 1978، و (أصوات عائلية) 1981، و (محطة فيكتوريا) 1982، و (نوع من ألاسكا) 1982، و (مشروب من أجل الرحلة) 1984، و (لغة الجبل) 1988، وإلى جانب هذه المسرحيات العديدة كتب بنتر رواية واحدة هي (الأقزام) 1960، ومجموعة شعرية (حرب) 2002، تضم عشر قصائد ومقال أو بيان سياسي عن موقفه السياسي من الحروب التي شنتها أمريكا أخيرا. كما كتب بنتر عددا من السيناريوهات أو المعالجات السينمائية لمجموعة من أبرز الأفلام البريطانية الجادة مثل (الخادم) و (الحادث) و (الرسول أو المرسال) و (امرأة الضابط الفرنسي) وكان آخرها (حكاية الوصيفة) عام 1990، من الأفلام البارزة.
نحن إذن بإزاء كاتب مسرحي كبير بأي معيار من المعايير، وكتاب المسرح يشكلون أقلية واضحة بين الحائزين على الجائزة، إلى الحد الذي ينتدر الكثيرون فيه على أن أبرز كاتبين مسرحيين خرجا من أسكندينافيا وهما أوجست سترندبرج السويدي وهنريك إبسن النرويجي لم يحصلا عليها بينما حصل عليها 17 كاتب اسكندينافي نسي الكثيرون منهم. كما أن أنطون تشيخوف، الذي يعتبره الكثيرون مؤسس المسرح الأوروبي الحديث لم يحصل عليها هو الآخر، برغم وفاته بعد تأسيسها بأربعة أعوام. وتعد جائزة بنتر تلك، الجائزة السابعة التي يحصل عليها انجليزي وكان آخر الستة الحاصلين عليها (كيبلينج، وجالزورثي، وشو، وتشرسل، وراسل، وجولدنج) هو وليام جولدنج حصل عيها عام 1983، صحيح أن البعض يعتبر الأديب الهندي الكاريبي نايبول بريطانيا، وصحيح أيضا أنه يكتب باللغة الانجليزية، ويعد أحد أبرز الناثرين فيها، إلا أن الكثيرين لم يعدوه عند الحديث عمن فاز بها من الانجليز، ولهذا الأمر دلالته الملحوظة بالرغم من أن نايبول يسعى لأن يكون أنجليزيا أكثر من الانجليز، أو ملكيا أكثر من الملك حسب التعبير الشائع. لذلك كانت الفرحة الانجليزية بالجائزة غامرة، كما كان الاحتفاء بالدلالات السياسية لمنحها لبنتر واضحا. حيث نشرت صحيفة (ألإنديبندنت) في اليوم التالي مقالا لبنتر كان قد كتبه في مناهضة الحرب، أو بالأحرى أعادت نشره لتكشف عن أنه لا يمكن الفصل بين مسرحه وآرائه السياسية والفكرية.
لكن حيثيات منح بنتر الجائزة ركزت ـ وهذا أمر طبيعي ـ على مسرحيه. إذ تقول حيثيات منح الجائزة "إن هارولد بنتر رد للمسرح جوهره الأساسي باعتباره فضاءا مغلقا مشحونا بحوار غير متوقع، يقع البشر فيه تحت رحمة بعضهم البعض، وتتهاوى فيه كل المزاعم والإدعاءات الخادعة. فمن خلال تقليص الحبكة إلى الحد الأدنى، تنبثق الدراما عنده من خلال صراع القوى، ولعبة الطراد المراوغ التي تدور في المحادثات العادية. ويعد بنتر بشكل واسع أبرز ممثلي المسرح الانجليزي في النصف الثاني من القرن العشرين. حيث تعري مسرحياته المهاوي الثاوية وراء الثرثرات العادية، وتجتاح غرف القهر الداخيلة المغلقة. فقد أصبح أحد عمد المسرح الحديث منذ أن دخل اسمه إلى اللغة الانجليزية كمفردة متميزة بنتري Pinteresque تصف مناخا محددا وحالة مزاجية في المسرح الحديث. وقد استقبلت مسرحياته في البداية باعتبارها تنويعات على مسرح العبث، ولكنها سرعان ما تفردت ببنيتها الخاصة وأصبحت توصف بأنها كوميديات مترعة بالتهديد والخطر، وشكلت جنسا مسرحيا قائما بذاته، يتيح لنا الكاتب فيه أن نسترق السمع إلى دمدمات علميات السيطرة والخضوع التي تنطوي عليها أكثر الأحاديث اليومية عادية."
والواقع أن تلك الحيثيات تنطوي على فهم عميق لمسرح بنتر الذي بدا للوهلة الأولى، وفي السياق الذي ظهر فيه في الخمسينات أنه تنويع ما على مسرح العبث لصامويل بيكيت أو يوجين يونيسكو. فقد تعرضت مسحياته في البداية ـ كما هو الحال مع مسرح بيكيت ـ لسوء الفهم، وعرض بعضها في ألمانيا قبل عرضه في لندن، واتهمت بالغموض والإلغاز. لأن مسرحيته الأولى (الغرفة) تحيل الغرفة المغلقة إلى مهرب من العالم الخارجي الذي تخلت عنه الشخصية، وإلى نوع من الحجيم الخصوصي لها. أما (حفلة عيد الميلاد) فأنها تبلور لنا مفردات عالم بنتر وأبجديته الفريدة التي يتحول معها الحفل إلى نوع من الكشف، وإلى عملية صراع دامية لاتراق فيها قطرة دم ولكن تزهق فيها الأرواح بلا رحمة. ويتحول الحوار إلى مفردات كالخناجر لا تخفق أبدا في أن تجرح قائلها ومتلقيها معا. ومما يرهف من حدة المناخ المشحون بالخطر في هذه المسرحية استخدامها لجماليات المكان حيث يدور الحفل في أحد الفنادق الساحلية. وهذا ما نراه أيضا في (النادل الغبي) حيث نجد قاتلين محترفين ينتظران الأمر الأخير باسم الشخص الذي عليهما قتله، وبينما يتحاوران قتلا للوقت في انتظار الأمر النهائي يتكشف الحوار التهكمي الساخر عما تنطوي عليها علاقتهما من خطر وتهديد. فقد كانت هذه المسرحية هي التي دفعت الناقد المسرحي الانجليزي أيرفينج واردل إلى نعت مسرحياته بمصطلح "كوميديات مترعة بالتهديد والخطر" وهو المصطلح الذي يتردد في حيثيات منحه الجائزة بوضوح. وفي هذا النوع المسرحي نفسه تقدم لنا (الحارس) التوتر الذي تنطوي عليه أكثر العلاقات حميمة، وهي علاقة الأخ بأخيه. حيث تتهاوى كل افتراضات هذه العلاقة من خلال محاولة ديفيز "الشوارعي" لكسب ود أحدهما على حساب الآخر، والكشف لا عن انعدام التواصل الحقيقي بينهما فحسب، وإنما عن حقيقة التوتر الذي تنهض عليه علاقتهما الحميمة ببعضهما البعض. ويصل هذا الموقف في (أيام زمان) إلى قدر كبير من الكثافة والتعقيد. حيث تنهض المسرحية على صراع القوي المحتدم في أكثر العلاقات عادية وابتذالا، من خلال شهوة الاستحواذ على الغير وعلى الأشياء والأماكن معا. ومن خلال الأوهام التي تلعبها الذاكرة الانتقائية بالحذف والإضمار. لأن المسرحية تقدم لنا ما يحدث عندما يتدخل شخص في علاقة زوجين، بصورة تكشف لنا عن المسكوت عنه في هذه العلاقة بطريقة صادمة يتهاوي فيها أمن البيت العائلي المضمون. ويتكشف عن حلبة لصراعات القوى بين الزوجين. فما أن تصل "أنا" لتقيم مع صديقتها "كيت" وزوجها "ديلي" حتى يندلع الصراع بين "أنا" و"ديلى" للاستحواذ على "كيت" من خلال استخدام ذكريات كل من الثلاثة عن الماضي وتحويلها إلى أدوات في هذه الحرب الضروس التي تترك الجميع مهزومين. لأن هذا النوع من الحروب الداخلية التي تدور في مسرحه هي من الحروب التي لا انتصار فيها، وإنما حروب تكشف عن أن الهزيمة هي قدر الإنسان في المجتمع الحديث. ويعود بنتر إلى هذا الموضوع الشائك مرة أخرى في مسرحيته الجميلة (خيانة) التي تتسم ببنية رائعة تكشف لنا عن أن الخيانة الحقيقية ليست خيانة الصديق لصديقه وإقامته علاقة مع زوجته، ولكنها خيانة لحظة الحب التي اندلع طوفانها القوي بين العاشقين، وأصبحت كل ممارسة للعلاقة بعدها خيانة لتلك اللحظة المتوقدة.
ويعزو بنتر اهتمامه بالحوار المترع بالغموض، والمنطوي في الوقت نفسه على أطياف الخطر والتهديد أو الوعيد، إلى نشأته كصبي يهودي في الثلاثينات وهي مرحلة اتسمت بالعداء للسامية، وممارسة اليهود وقتها لنوع من "التقية" في حواراتهم العادية. حيث كان التهرب المستمر هو وسيلة اليهود للبقاء ومواجهة العداء المنصب عليهم وقتها. وبالتالي وعي هارولد الصغير درس ازدواجية اللغة منذ نعومة أظافره. واستخدم هذا الدرس لبلورة مسرح خاص به يكشف لنا عما تنطوي عليه دمدمات الكلمات التحتية من مخاطر محيرة. وعما تجيش به المفردات من مزيج غريب من الدلالات المتضافرة والمتناقضة في آن. مسرح يلعب فيه الصمت دورا لا يقل أهمية عن ذلك الذي تلعبه الكلمات. لأن الصمت ـ وللصمت ثلاث مفردات متميزة في مسرحه تقيس كل منها طول الصمت المطلوب وتتحكم في الإيقاع الدرامي ـ يلعب دورا مهما في خلق المناخ الذي تواضع الكتاب على وصفه بالمناخ البنتري. بالصورة التي تبدو معها مسرحياته وكأنها ألغاز من نوع خاص، ولكنها ألغاز لها سحرها وغوايتها التي لامهرب منها، لأنها تجسد لنا تعقد الكائن الإنساني ووقوعه في أحابيل ينصبها له باستمرار أكثر المقربين منه دون أن ينجحوا أنفسهم من الإفلات من شراك الأحابيل التي ينصبونها لغيرهم. ومن هنا فإن الشرك في مسرحياته دائما شرك مزدوج يوقع الفريسة، ولكنها يقتنص طرادها في نفس الشبكة، فحتمية المصير الإنساني هي التي تحتم وقوع كليهما في الفخ الذي لامنجاة منه. والواقع أن ما يكثف حدة الدراما في مسرحه هو تعمده ألا يكشف عن حقيقة ما جرى، وألا يوضح لنا كل العناصر الفاعلة في الموقف، وأن يترك باستمرار قدرا كبيرا من الالتباس يلف الموقف ودوافع الشخصية على السواء. وهذا ما يزيد من حدة التهديد والخطر المحيق بالشخصيات في مسرحه المترع بالقتامة، والذي يصدر بطريقته الخاصة حكمه بالإدانة على الشخصيات. ويرينا أياها وهي تتخبط في شباك لا نجاة منها لأنها من صنع الشخصيات نفسها، وليس من صنع أعدائها.
وقد حاول نقاد بنتر تحليل سر هذا المأزق الدرامي الذي يلف شخصياته، فعزاها بعضهم إلى التأويل الفرويدي، وعزاها آخرون إلى التأويل الديني الذي يعتمد على أطياف أنجيلية وتوراتية واضحة. ولكنه في أكثر التأويلات إقناعا مأزق وجودي مادي في آن. يستهدف تعرية ماهية الإنسان ووضعها وجها لوجه أمام ما فيها من نقص وهشاشة. لأن بنتر يؤكد أنها لايستطيع تلخيص مسرحياته أو الحديث عن مغزى لها، إلا بوصف ما حدث وما قيل في كل مسرحية من مسرحياته. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أهم ما تقدمه مسرحياته هو هذه الشريحة الإنسانية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها شريحة من الحياة أقرب ما تكون إلى المسرح الطبيعي، ولكن الطاقة الشعرية للغة وللصمت معا فيها هي التي تعمرها بهذا المناخ الوجودي الفلسفي المعتم. وهي التي تضفي عليها في الوقت نفسه قدرا كبيرا من العمق والغموض.
وقد ترك مسرح بنتر تأثيره الكبير على معظم كتاب الجيل المسرحي الانجليزي الذي ظهر بعده، من توم ستوبارد إلى دافيد هير، ومن فرانك ماجينس إلى دافيد إدجار وكاريل تشيرشيل. وقد تتابع الكثيرون منهم على شاشة التليفزيون الانجليزي يعربون عن فرحتهم بحصوله على الجائزة، ويؤكدون على أهميته المسرحيه والثقافية ككاتب له موقف واضح من قضايا عصره، ومما يدور في بلده من سياسات خاطئة. لا يهاب قول الحق في وجه المؤسسة السياسية المسيطرة. بل ويرفض التكريم الذي تمنحه له هذه امؤسسة إذا ما كان يختلف معها سياسيا. فقد سبق له أن رفض منحه لقب الفارس أو "سير" الانجليزي عندما رشحه له جون ميجر رئيس الوزراء البريطاني السابق عام 1996، فقد رفض بنتر هذا الشرف قائلا إنه لايستطيع أن يتقبل مثل هذا التكريم من حكومة المحافظين، ولكنه قبل لقب رفيق شرف من حكومة العمال قبل ولوغها في مباءات الحرب. وما أن اندلعت الحرب في صربيا ثم في العراق حتى كان دائما في طليعة المظاهرات المناهضة لها وفي مقدمة النقاد الذين يترك نقدهم جراحا داميا على وجه المؤسسة السياسية الفاسدة. وليس أدل على فاعلية مسرحه المستمرة من أن المسرح الانجليزي المعاصر لايخلو من واحدة أو أكثر من مسرحياته الثلاثين. والواقع أن واحدة من مسرحياته البارزة، وهي (الأرض الحرام) تعرض الآن على المسرح الانجليزي، وسوف أتناولها هنا بشيء من التفصيل كي تقدم للقارئ نموذجا لمسرحه، خاصة وأنها واحدة من أبرز مسرحياته، ومن أكثرها عمقا وثراءا بالدلالات.