قوة التصميمات المكتوبة
ذلك هو بشير بلونيس الذي طارت لوحاته من عنابة، لتباع وتقتنى في أرجاء المعمورة، باريس، نيويورك... أصبح اليوم فنانا عالميا ودوليا، لكنه لم يتخل عن تربة هذه الأرض التي رسمت لوحاته بألوانها، وخطوط هذه الهندسة المعمارية المغربية التي حددت تصميماته وكتاباته التشكيلية بعد 25 عاما من الممارسة الفنية، وحتى معالم الحضارة الإفريقية ومميزاتها، ألوانها وفضاءاتها، تلاحقه في أعماله، التي كانت بدايتها إلى غاية 1986 تعبيرية بألوانها الداكنة والرمادية، وهي المرحلة الصعبة من تاريخ الفنان، وذلك إلى غاية التسعينات التي نحددها بمرحلة التصميم. أهم معارض بلونيس الفنية كانت بدايتها مند الثمانينات بمعرض في المسرح الجهوي عزالدين مجوبي، معرض برواق محمد راسم في دار الثقافة بتيزي وزو، معرض بقاعة الموقار، سنة 1986، وآخر بالبنك الخارجي للجزائر 1987، معرض بدار الثقافة الجزائري بباريس 1988، معرض بدار الثقافة ـ الجزائر ـ 1989 وبدار الثقافة بعنابة واستمرت تلك المعارض إلى سنة 1990 موعد مشاركة بلونيس في أسبوع الفن المعاصر بفرنسا، ومند ذلك التاريخ وهو يشارك بانتظام في مبيعات المزاد العلني بباريس في الفن المعاصر. وهذا ما أهل الفنان بلونيس ليسجل اسمه في الدليل والقاموس الدولي للفن المعاصر، وهذا مباشرة بعدما فرض نفسه في عالم المبيعات والسوق العالمي للفن المعاصر، جنبا إلى جنب مع كبار الفنانين، مثل ميرو، زواكي، وارول، كلافي، كيجنو، ليندستروم، فوجيتا، وغيرهم. الجوائز التي حصل عليها من جهة أخرى كثيرة منها حصوله على الجائزة الكبرى لمدينة الجزائر 1980 والجائزة الثالثة للمهرجان الدولي للفنون التشكيلية وجائزة أحسن ملصقة للمسابقة السابعة عشر ـ راديو فرنسا الدولي 1989 "THEATRAL INTER AFRICAIN ET OCEONIEN" إضافة إلى إنجاز عدة جداريات فريدة بدار الثقافة ـ تصميم وإنجاز ديكور ـ ملصقة وبدلات مسرحية ـ لوشام ـ للطيب الدهيمي سنة 1988 إضافة إلى ديكور وملابس مسرحية "الهربة" لحميد قوري، هذه الإنجازات الضخمة كما يتبين لنا، تضع أمام واجهة أخرى من أعمال اقتنتها أمامها واجهة أخرى ـ البنك الخارجي للجزائر ـ عدة أروقة فنية بباريس وبروكسل، هيئات حكومية وجامعين خواص للتحف. يبدو بشير بلونيس متأكدا وواثقا من نفسه ثقة الفنان الذي يصمم أشكاله من الخطوط الأولى، منذ أول وهلة، لا تراجع في الخط الأول والألوان، الشكل هكذا وفقط، دون مناقشة، أما الإشكالية فهي الوضعية الفنية عندنا، في هذا يقول بلونيس: عندما تكون الوضعية متأزمة، هناك من ينقطع عن العمل واضعا للآخرين عدة تبريرات واهية، الفنان بالنسبة لي، يجب أن يكون مرتبطا بعمله كالعامل في المصنع، يجب أن يكون أقوى من الظروف وهذا من جهة أخرى لا يعني أن يتخلى الفنان عن أحاسيسه التي يرتكز عليها جانب كبير من الفن والذي يقوم كذلك على التصاميم والفكر. وماذا عن الإبداع؟ يحرك بلونيس يديه على الطاولة، يلمس ورقة كانت موضوعة أمامه، يبدو أن مساحتها لم تعد تكفي قوة إبداعه ولا نهاية تصاميمه الأخيرة، يركز كثيرا قبل الإجابة، هكذا هو دائما، يحب الدقة والوضوح في كل شيء، "الإبداع مغامرة كبرى للمثقف الذي هو مرغم على تجاوز الوضعيات التي تزامنه نحو درجة الإبداع التي تبين قوته ألا وهي قوة الفكر". 25 سنة كاملة من العمل التشكيلي تقف وراء بلونيس، شاهدا على عمل جبار، على ملحمة يغذيها يوميا وبدون انقطاع برؤيته الخاصة قدمت للجمهور حس شعبي في تحليل الواقع والتعبير عنه بمعطيات معينة وبالضرورة التشكيلية، التي تختصر وتجسد في لوحات زيتية معبرة، عما يدور في العالم من تناقضات وأزمات، وعبر هذا وصل إلى أسلوب ميزه عن سواه، وأثر في غيره من الرسامين، في أعماله السابقة وسيلة لمزج الحس مع الدراية والتقنية مع التراث، عبر تكوينات رشيقة متناسقة الخطوط ومنسجمة الألوان والأشكال، وحتى عناوين لوحات المرحلة والعمق والقوة التي تختفي في أنامله، الهندسة الجديدة، ألوان صيف، الاستنطاق، الخروج من جهنم، إلى أين؟ البحث عن الهوية، التصحر، وهي لوحة بتقنية الألوان الزيتية، لوحة تتجاوز تركيبها البسيط بموضوع ـ المرأة ـ إلى جماليات لا تمثل إلى نفسها، يتضح لنا رأس امرأة مفصول عن جسدها الذي يشكل قاعدة تراثية متميزة، لها هندستها وخطوطها الخاصة، ملامح الوجه غير محددة، إنها صالحة لكل امرأة على وجه هذه الأرض، لا شيء عبثي في وضع ألوان بلونيس على مساحة دون أخرى ولو نقطة، كل شيء له دلالته الحضارية، نحو محاولة جادة لضبط كتابة تشكيلية محددة المعالم. ويعد كل هذا من حق الفنان أن يقول أن له أسلوبه الخاص "الآن أستطيع أن أقول أن لي أسلوب يمثلني جيدا أفضل من أي وقت مضى، ليس لدي خليط، تصميماتي هي التي تتكلم عني، الشكل كتابة بالنسبة لي، تفرض نفسها، الظلال، الملامح اللامحددة، أشكال فلكلورية، معمارية، تقاليد إفريقية محضة، كل ذلك يحدد مصطلح قوة الشكل". مقاييس كل قراءة خاصة بالعمل الفني يحدد بلونيس في هذا الثلاثي، الشكل القوة، والمادة المستعملة، فلا أسلوب خاص يميز بين فنان وآخر إلا الشكل المتميز الذي يخلق قوته الخاصة إضافة إلى نوعية المواد والتقنيات في حد ذاتها، إنها مقاييس جد مهمة في تاريخ النقد الفني، فيجب أن نتساءل لماذا تصل مبيعات فنان مثل ـ كومباس ـ إلى مئات الملايين وهو في سن الثلاثين، لكن سرعان ما تتراجع مبيعاته إلى الوراء في مدة قصيرة؟ الإجابة عن هذه النقطة محور اهتمام بلونيس يوميا، "والأغلبية هي التي تحدد طبيعة الأشياء، لكن الخطأ عندما يكتشف النقاد قوة تشكيلية غير دائمة، مثل هؤلاء لا يحملون رصيدا جماليا وفكريا يؤهلهم للبقاء في عالم الفن مدة طويلة، وإن فشلوا؟ في هذه الحالة البعض منهم فضل الانتحار". السجل الضخم لبلونيس يبدو أنه من الصعب أن يقنع هؤلاء الذين يتربعون على عرش الثقافة في الجزائر أن يتفهموا أعماله، طالما مر بفترات تقزز وغيظ وهو يستمع إلى أراء المسؤولين عن الثقافة بلغت بهم الجرأة إلى مناقشة الجمهور وتقديم تعريفات للفن ـ حسب مستواهم ـ خاصة في الزيارات الرسمية للسيد فلان أو فلان وطبعا هي الزيارات التي تسمح لهم بالخروج من مكاتبهم مرغمين لا أكثر ولا أقل، وعندما تنتهي المناسبة أو الزيارة تنتهي الثقافة في نظرهم. والمهم أن الإبداع لا تؤثر فيه حماقات مثل هؤلاء، الفنان الحقيقي يواصل خطواته دائما إلى الأمام متمنيا دائما أن يضع المجتمع نفسه خطوة إلى الأمام بدوره. وفي هذا البلد ـ الجزائر ـ الأكبر مساحة من فرنسا بخمسة مرات يقول عنها بلونيس: "للأسف ماذا قدمت لي الجزائر، لقد كان حضورها قويا في لوحاتي،..." كنت غائبا في الجزائر (الرسميات) مثلتها أحسن تمثيل في الخارج، فأنا الوحيد من الجزائر الذي يبيع حاليا لوحاته بـ DROUOT RICHELIE ET MONTAGNE بباريس وأنا الوحيد من الجزائر الذي وضعت لوحاته جنبا إلى جنب مع لوحات: ميرو، بيكاسو، فوجيتا، جيجنو وغيرهم، أما الذي يقلقني في الجزائر أنها عاجزة على تقديم نفسها حتى إلى السائح الغريب عنا، مهما يكن مستواه، السائح في بلدنا يبحث عن الفن وثقافة، وبلا شك عندما لا يجد هذا فإنه لن يجد البلد من أساسه، القوة الثقافية هي الأصل في الدولة، الفنان بهذا المنظور يشكل همزة وصل بين الدولة والشعب، لكن بمجرد أن نهمش الفنان والمثقف اللذان يحملان عادات وتاريخ وتقاليد الشعب، فهنا تقع القطيعة لأنه لا أحد منهما يفهم الآخر. مشاريع فنية عديدة مازال يحتفظ بتصميماتها بلونيس في منزله الأقرب إلى أروقة الفنون التشكيلة، مشاريع لا ينقصها إلا أن تجسد ميدانيا وزن عملنا، أن أغلبها في شكل "PEINTURE SCULPTURE" فهي تتطلب مساحة كبيرة جدا للعمل والتحضير الأولي وحتى مكان العرض، هذه مواصفات الفن المعاصر، فن يتطلب جو عمل كالمصنع، عمال تحت تصرف الفنان، متابعة تحت وهج الشمس، النار والحديد وكل ما يراه الفنان من مادة صالحة للاستعمال، استدعى بلونيس في يوم تذكار الفنان الراحل محمد خدة أين عرض عليه مدير الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة لتحضير معرض كبير في الجزائر العاصمة، الفنان رحب بالعرض الذي ستدعمه عدة مؤسسات صناعية وبنوك، وفي انتظار أن يتداخل الحديد بسطح اللوحة، وعدة مواد أخرى مازال بلونيس يأمل أن يجسد حلمه البعيد، "متحف للفن المعاصر" بكل بساطة، وهو الشيء الذي تفتقده بلادنا، لكن قبل التحف، بلونيس في حاجة ماسة إلى ورشة كبيرة، كبيرة جدا للعمل فقط، والإبداع وبلا انقطاع، كالعامل في المصنع، بكل جدية وبكل عنفوان أتذكر جديا نصيحة هذا الفنان لي "تمارين قلم الرصاص لا يمكن أن تستغني عنها أبدا" أو عندما يكلمني عن الخط "هكذا انظر، الخط يحمل دائما شخصيتك، ثقة الفنان بنفسه أو عدم ثقته"، "ثقافة الفنان هي مدى حضور العمق في أعماله". كل ذلك تجسده تصميماته الأخيرة، كتابته التي وجدها بعد عمل طويل وغير منقط، حروفه التي تجمع بين الحرف العربي، الأشكال التقليدية المغاربية، ومعالم هذه الحضارة، كتابة وبدون شك تنتظر قراءة سوسيولوجية مختصة ومعمقة. ونحن نتحدث عن هذه التصميمات وهموم البحث عن ورشة، قلت له مشيرا إلى البحر الأزرق "وماذا لو أنجزت عملا فنيا بالحديد وسط هذا البحر"، صمت الفنان فترة من الزمن وتنهد بعمق. كاتب صحفي وفنان تشكيلي
ذلك هو بشير بلونيس الذي طارت لوحاته من عنابة، لتباع وتقتنى في أرجاء المعمورة، باريس، نيويورك... أصبح اليوم فنانا عالميا ودوليا، لكنه لم يتخل عن تربة هذه الأرض التي رسمت لوحاته بألوانها، وخطوط هذه الهندسة المعمارية المغربية التي حددت تصميماته وكتاباته التشكيلية بعد 25 عاما من الممارسة الفنية، وحتى معالم الحضارة الإفريقية ومميزاتها، ألوانها وفضاءاتها، تلاحقه في أعماله، التي كانت بدايتها إلى غاية 1986 تعبيرية بألوانها الداكنة والرمادية، وهي المرحلة الصعبة من تاريخ الفنان، وذلك إلى غاية التسعينات التي نحددها بمرحلة التصميم.
أهم معارض بلونيس الفنية كانت بدايتها مند الثمانينات بمعرض في المسرح الجهوي عزالدين مجوبي، معرض برواق محمد راسم في دار الثقافة بتيزي وزو، معرض بقاعة الموقار، سنة 1986، وآخر بالبنك الخارجي للجزائر 1987، معرض بدار الثقافة الجزائري بباريس 1988، معرض بدار الثقافة ـ الجزائر ـ 1989 وبدار الثقافة بعنابة واستمرت تلك المعارض إلى سنة 1990 موعد مشاركة بلونيس في أسبوع الفن المعاصر بفرنسا، ومند ذلك التاريخ وهو يشارك بانتظام في مبيعات المزاد العلني بباريس في الفن المعاصر.
وهذا ما أهل الفنان بلونيس ليسجل اسمه في الدليل والقاموس الدولي للفن المعاصر، وهذا مباشرة بعدما فرض نفسه في عالم المبيعات والسوق العالمي للفن المعاصر، جنبا إلى جنب مع كبار الفنانين، مثل ميرو، زواكي، وارول، كلافي، كيجنو، ليندستروم، فوجيتا، وغيرهم. الجوائز التي حصل عليها من جهة أخرى كثيرة منها حصوله على الجائزة الكبرى لمدينة الجزائر 1980 والجائزة الثالثة للمهرجان الدولي للفنون التشكيلية وجائزة أحسن ملصقة للمسابقة السابعة عشر ـ راديو فرنسا الدولي 1989 "THEATRAL INTER AFRICAIN ET OCEONIEN" إضافة إلى إنجاز عدة جداريات فريدة بدار الثقافة ـ تصميم وإنجاز ديكور ـ ملصقة وبدلات مسرحية ـ لوشام ـ للطيب الدهيمي سنة 1988 إضافة إلى ديكور وملابس مسرحية "الهربة" لحميد قوري، هذه الإنجازات الضخمة كما يتبين لنا، تضع أمام واجهة أخرى من أعمال اقتنتها أمامها واجهة أخرى ـ البنك الخارجي للجزائر ـ عدة أروقة فنية بباريس وبروكسل، هيئات حكومية وجامعين خواص للتحف.
يبدو بشير بلونيس متأكدا وواثقا من نفسه ثقة الفنان الذي يصمم أشكاله من الخطوط الأولى، منذ أول وهلة، لا تراجع في الخط الأول والألوان، الشكل هكذا وفقط، دون مناقشة، أما الإشكالية فهي الوضعية الفنية عندنا، في هذا يقول بلونيس: عندما تكون الوضعية متأزمة، هناك من ينقطع عن العمل واضعا للآخرين عدة تبريرات واهية، الفنان بالنسبة لي، يجب أن يكون مرتبطا بعمله كالعامل في المصنع، يجب أن يكون أقوى من الظروف وهذا من جهة أخرى لا يعني أن يتخلى الفنان عن أحاسيسه التي يرتكز عليها جانب كبير من الفن والذي يقوم كذلك على التصاميم والفكر.
وماذا عن الإبداع؟
يحرك بلونيس يديه على الطاولة، يلمس ورقة كانت موضوعة أمامه، يبدو أن مساحتها لم تعد تكفي قوة إبداعه ولا نهاية تصاميمه الأخيرة، يركز كثيرا قبل الإجابة، هكذا هو دائما، يحب الدقة والوضوح في كل شيء، "الإبداع مغامرة كبرى للمثقف الذي هو مرغم على تجاوز الوضعيات التي تزامنه نحو درجة الإبداع التي تبين قوته ألا وهي قوة الفكر".
25 سنة كاملة من العمل التشكيلي تقف وراء بلونيس، شاهدا على عمل جبار، على ملحمة يغذيها يوميا وبدون انقطاع برؤيته الخاصة قدمت للجمهور حس شعبي في تحليل الواقع والتعبير عنه بمعطيات معينة وبالضرورة التشكيلية، التي تختصر وتجسد في لوحات زيتية معبرة، عما يدور في العالم من تناقضات وأزمات، وعبر هذا وصل إلى أسلوب ميزه عن سواه، وأثر في غيره من الرسامين، في أعماله السابقة وسيلة لمزج الحس مع الدراية والتقنية مع التراث، عبر تكوينات رشيقة متناسقة الخطوط ومنسجمة الألوان والأشكال، وحتى عناوين لوحات المرحلة والعمق والقوة التي تختفي في أنامله، الهندسة الجديدة، ألوان صيف، الاستنطاق، الخروج من جهنم، إلى أين؟ البحث عن الهوية، التصحر، وهي لوحة بتقنية الألوان الزيتية، لوحة تتجاوز تركيبها البسيط بموضوع ـ المرأة ـ إلى جماليات لا تمثل إلى نفسها، يتضح لنا رأس امرأة مفصول عن جسدها الذي يشكل قاعدة تراثية متميزة، لها هندستها وخطوطها الخاصة، ملامح الوجه غير محددة، إنها صالحة لكل امرأة على وجه هذه الأرض، لا شيء عبثي في وضع ألوان بلونيس على مساحة دون أخرى ولو نقطة، كل شيء له دلالته الحضارية، نحو محاولة جادة لضبط كتابة تشكيلية محددة المعالم.
ويعد كل هذا من حق الفنان أن يقول أن له أسلوبه الخاص "الآن أستطيع أن أقول أن لي أسلوب يمثلني جيدا أفضل من أي وقت مضى، ليس لدي خليط، تصميماتي هي التي تتكلم عني، الشكل كتابة بالنسبة لي، تفرض نفسها، الظلال، الملامح اللامحددة، أشكال فلكلورية، معمارية، تقاليد إفريقية محضة، كل ذلك يحدد مصطلح قوة الشكل". مقاييس كل قراءة خاصة بالعمل الفني يحدد بلونيس في هذا الثلاثي، الشكل القوة، والمادة المستعملة، فلا أسلوب خاص يميز بين فنان وآخر إلا الشكل المتميز الذي يخلق قوته الخاصة إضافة إلى نوعية المواد والتقنيات في حد ذاتها، إنها مقاييس جد مهمة في تاريخ النقد الفني، فيجب أن نتساءل لماذا تصل مبيعات فنان مثل ـ كومباس ـ إلى مئات الملايين وهو في سن الثلاثين، لكن سرعان ما تتراجع مبيعاته إلى الوراء في مدة قصيرة؟ الإجابة عن هذه النقطة محور اهتمام بلونيس يوميا، "والأغلبية هي التي تحدد طبيعة الأشياء، لكن الخطأ عندما يكتشف النقاد قوة تشكيلية غير دائمة، مثل هؤلاء لا يحملون رصيدا جماليا وفكريا يؤهلهم للبقاء في عالم الفن مدة طويلة، وإن فشلوا؟ في هذه الحالة البعض منهم فضل الانتحار". السجل الضخم لبلونيس يبدو أنه من الصعب أن يقنع هؤلاء الذين يتربعون على عرش الثقافة في الجزائر أن يتفهموا أعماله، طالما مر بفترات تقزز وغيظ وهو يستمع إلى أراء المسؤولين عن الثقافة بلغت بهم الجرأة إلى مناقشة الجمهور وتقديم تعريفات للفن ـ حسب مستواهم ـ خاصة في الزيارات الرسمية للسيد فلان أو فلان وطبعا هي الزيارات التي تسمح لهم بالخروج من مكاتبهم مرغمين لا أكثر ولا أقل، وعندما تنتهي المناسبة أو الزيارة تنتهي الثقافة في نظرهم. والمهم أن الإبداع لا تؤثر فيه حماقات مثل هؤلاء، الفنان الحقيقي يواصل خطواته دائما إلى الأمام متمنيا دائما أن يضع المجتمع نفسه خطوة إلى الأمام بدوره.
وفي هذا البلد ـ الجزائر ـ الأكبر مساحة من فرنسا بخمسة مرات يقول عنها بلونيس: "للأسف ماذا قدمت لي الجزائر، لقد كان حضورها قويا في لوحاتي،..." كنت غائبا في الجزائر (الرسميات) مثلتها أحسن تمثيل في الخارج، فأنا الوحيد من الجزائر الذي يبيع حاليا لوحاته بـ DROUOT RICHELIE ET MONTAGNE بباريس وأنا الوحيد من الجزائر الذي وضعت لوحاته جنبا إلى جنب مع لوحات: ميرو، بيكاسو، فوجيتا، جيجنو وغيرهم، أما الذي يقلقني في الجزائر أنها عاجزة على تقديم نفسها حتى إلى السائح الغريب عنا، مهما يكن مستواه، السائح في بلدنا يبحث عن الفن وثقافة، وبلا شك عندما لا يجد هذا فإنه لن يجد البلد من أساسه، القوة الثقافية هي الأصل في الدولة، الفنان بهذا المنظور يشكل همزة وصل بين الدولة والشعب، لكن بمجرد أن نهمش الفنان والمثقف اللذان يحملان عادات وتاريخ وتقاليد الشعب، فهنا تقع القطيعة لأنه لا أحد منهما يفهم الآخر. مشاريع فنية عديدة مازال يحتفظ بتصميماتها بلونيس في منزله الأقرب إلى أروقة الفنون التشكيلة، مشاريع لا ينقصها إلا أن تجسد ميدانيا وزن عملنا، أن أغلبها في شكل "PEINTURE SCULPTURE" فهي تتطلب مساحة كبيرة جدا للعمل والتحضير الأولي وحتى مكان العرض، هذه مواصفات الفن المعاصر، فن يتطلب جو عمل كالمصنع، عمال تحت تصرف الفنان، متابعة تحت وهج الشمس، النار والحديد وكل ما يراه الفنان من مادة صالحة للاستعمال، استدعى بلونيس في يوم تذكار الفنان الراحل محمد خدة أين عرض عليه مدير الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة لتحضير معرض كبير في الجزائر العاصمة، الفنان رحب بالعرض الذي ستدعمه عدة مؤسسات صناعية وبنوك، وفي انتظار أن يتداخل الحديد بسطح اللوحة، وعدة مواد أخرى مازال بلونيس يأمل أن يجسد حلمه البعيد، "متحف للفن المعاصر" بكل بساطة، وهو الشيء الذي تفتقده بلادنا، لكن قبل التحف، بلونيس في حاجة ماسة إلى ورشة كبيرة، كبيرة جدا للعمل فقط، والإبداع وبلا انقطاع، كالعامل في المصنع، بكل جدية وبكل عنفوان أتذكر جديا نصيحة هذا الفنان لي "تمارين قلم الرصاص لا يمكن أن تستغني عنها أبدا" أو عندما يكلمني عن الخط "هكذا انظر، الخط يحمل دائما شخصيتك، ثقة الفنان بنفسه أو عدم ثقته"، "ثقافة الفنان هي مدى حضور العمق في أعماله". كل ذلك تجسده تصميماته الأخيرة، كتابته التي وجدها بعد عمل طويل وغير منقط، حروفه التي تجمع بين الحرف العربي، الأشكال التقليدية المغاربية، ومعالم هذه الحضارة، كتابة وبدون شك تنتظر قراءة سوسيولوجية مختصة ومعمقة. ونحن نتحدث عن هذه التصميمات وهموم البحث عن ورشة، قلت له مشيرا إلى البحر الأزرق "وماذا لو أنجزت عملا فنيا بالحديد وسط هذا البحر"، صمت الفنان فترة من الزمن وتنهد بعمق.
كاتب صحفي وفنان تشكيلي