في ظلال الأزميل

الصادق بخوش

لما أبدى لي الباحث والمسرحي عبد الناصر خلاف رغبته في أن أدلي بشهادة شخصية متواضعة لمجلة "الكلمة" عن الفنان الراحل بشير بلونيس، تغمده الله بألطف رحمته، وقد أسس طلبه بناء على معرفتي السابقة بالفنان التشكيلي، بل النحات بشير بلونيس أيام كنت مدير الثقافة بولاية عنابة، وتردد المرحوم على مكتبي وتعاوننا في أكثر من تظاهرة فنية وثقافية بالولاية، وترسخت تلك العلاقة وتطورت لتتحول مع الأيام إلى صداقة وتقدير متبادل. غير أن الحديث عن الفنان كطاقة إبداعية، وكإنتاج فني وكإسهام يخلد صاحبه، ويعرض أعماله للنقد أحيانا والانتقاد أحيانا أخرى، للإعجاب مرة والاستهجان مرة ثانية وما إلى ذلك.. مما يعتري أي أثر أدبي أو فني أو علمي إلخ... أو الحديث عن الإنسان، التصورات، السلوك, الأفعال والمعايشة، وما إليها.

في تقديري أن بين الأمرين مسافة يصعب التأليف بين طرفيها والجمع بين حافتيها. وكثيرا ما يكون المبدع ترجمانا حقيقيا لإبداعه، فيغدو الفن والإبداع مسيرة حياة وتعبيرا صادقا نحو الفنان، وفي حالات أخرى كثيرة، يكون الفنان في سلوكه نقيضا لفنه. ولا أحسب نفسي قادرا على تشكيل رؤية متكاملة عن المرحوم الإنسان والفنان.

بل ورأيت من واجبي قبل أن أهزهز أغشية الذاكرة، وأتقصى في دروبي المفضية إلى بيداء النسيان، أن أعرج إلى مطلع التسعينات من القرن الآفل، للحديث ولو في عجالة وابتسار عن واقع الثقافة في منطقة عنابة أيام عرفت المرحوم بشير بلونيس.

أتذكر تماما كهذه اللحظة، لما عينت من قبل وزارة الثقافة والإعلام عام 1995، بصفتي مدير الثقافة بولاية عنابة، نزلت بتلك المدينة الآسرة بما حباها بها الله من جمال الطبيعة، وتنوع عناصرها، من خلجان كأنها أفاعي الفردوس التواء سرقت كبرومثيوس سحر البحر، لتغري به معا قرى المتعة على الشطآن في خلس، ولتحضن اليابسة وتحاكيها، عن أسرار ذلك اللازوردي المورط في الخلود، ومن أرض ممتدة على مد البصر اغتالت أطرافا فيها الكثير من الخرسانة المسلحة وتوسدت جبل الايدوغ الشبيه بأبي الهول وقمة سرايدي التي يعلوها الثلج شتاء، وتستحم أقدامها في ملح البحر، فكأن الأبيضين تصالحا في تناقضهما واعدا للخلود مأدبة الجمال.

هذا غير التي تدبج عنابة منذ فجر التاريخ، منذ العهد الفينيقي المزدهر، إلى باقي الحقب المتعاقبة عليها. ولعل أشهرها الآثار الرومانية، ومعالم القديس أوغسطين بفكره وفلسفته، واستماتة دفاعه مع مدينته، عن مواقفه الدينية ضد الغزاة الأنذال. ناهيك عن مسجد وقبة الفاتح العربي العظيم أبو مروان. وكل معالم المدينة القديمة والمرافق الحديثة، ودينامكية العنابيات والعنابيين وطبعهم الميال إلى روح الدعابة وحب الحياة..

أذكر إذن أني باشرت عملي هناك، ولم يكن لي لا إدارة ولا مكتب ولا حتى بيت آوي إليه. وتلك هي حال الثقافة في بلادنا وأحوال أهلها، فبعد أن ننتهي من كل شيء ويتقدم الحضور إلى المأدبة، وينتهي الجمع من متعة الوليمة، نشير على أهل الثقافة والفكر، ليلتقطوا الفتات إن كان للأيتام حظ في مأدبة اللئام. وحتى أيام الاشتراكية باشرنا العمل على إرساء دعائم ثورة صناعية ثم زراعية ثم فكرنا في ثورة ثقافية. كأن اليدين والبطن أشرف من العقل والروح. والمادة أنبل وأوعى من الإنسان بفكره وذوقه وملكاته المتعددة.

ولا غرو، فكان العوام عندنا إذا مات بعل وترك أرملة، يقول كبارهم نزوجها "الطالب" والمقصود هنا بالطالب مدرس القرآن في القرى قبل انتشار المدارس. حتى نجد لها رجلا أي زوجا، كأن الطالب رمز المعرفة على تواضع مستواه غير رجل؟ أو ذهبت المعرفة برجولته؟ وهي قرينة أخرى على استطالة عمر ذهنية التخلف، وعدم تطوره بعد إلى نقد هذه الذهنية وإعادة ترتيب القيم في سلم الحياة من أجل إحداث الطفرة المرجوة للتخلص من الأمراض الحضارية التي تصيب في المقتل روح الأمة، وتنخر مقوماتها، وتشوه حسها، وتحبس حدسها. وقد يتحول التخلف لدى بعض الأمم إلى انحطاط والعياذ بالله.

ولكن بفضل جهود كثير من الخيرين من المثقفين والفنانين والمسئولين الإداريين، قمنا جماعيا بترميم الواقع الثقافي في ظل حالة من اللااستقرار واللاأمن عاشتها الجزائر تلك الأيام، قبل استتاب الأمن وعودة الاستقرار، بفضل جهود المخلصين وبفضل سياسة الوئام والمصالحة الوطنية. فانتعش النشاط الثقافي في ميدان المسرح والاوبريت والأمسيات الشعرية، والسهرات المختلفة وقد عرفت مدينة عنابة لأول مرة حفلات دون انقطاع، يحضرها أكثر من أربعين ألف متفرج من كل الأعمار والمستويات، ولاسيما فئة الشباب، وبرامج الأطفال المختصة والأسابيع الثقافية، وساهمت مديرية الثقافة في إنجاز الجزء الثاني من مسلسل المشوار لفائدة التلفزيون الجزائري، والأهم من ذلك استطعنا بفضل دعم السيد الوالي السابق لولاية عنابة إبراهيم مراد من إحياء الطبعة الثالثة والأخيرة لحد اليوم، من "أيام سينما البحر الأبيض المتوسط لعنابة"، وهي تظاهرة يمكن أن تصبح ذات شأن عالمي إذا توفرت لها الإمكانيات المالية، والإدارية والوعي الثقافي.

وأتذكر جيدا أنني في عرض أمام أحد وزراء الثقافة والإعلام السابقين، قلت له في غمرة كل تلك النشاطات بأن ما يثلج الصدر، ويحضر الروح هو ذلك الإقبال اليومي من شباب الولاية والمدينة تحديدا على دار الثقافة ـ محمد بوضياف والمسرح الجهوي ـ عزالدين مجوبي ـ ومراكز الثقافة والشباب التابعين لبلدية عنابة، فكنت أرى أن العمل الثقافي بدأ يسكن مهجة المواطن، وصار يحسبه ضرورة حياتية لا مجرد ترف، أو متعة عابرة. وكان من بين الذين يختلفون إلى مكتبي من الفنانين والمثقفين المرحوم الفنان التشكيلي والنحات المميز، بشير بلونيس، الذي مكناه من إقامة رواق للنحت بأحد فضاءات دار الثقافة سنة 1996.

لم يكن بلونيس منقطعا لفنه فحسب، بل كان متعدد الاهتمامات. فتراه يأتي للأمسيات الشعرية والعروض الفنية، ويستعرض رأيه بأدب وبثقة في النفس، وكان شديد الغيرة على الثقافة مستوعبا دورها ورسالتها في تربية الأذواق، وترهيف الأحاسيس، وترقية السلوكات. أما عن أعماله الفنية التي يجب في تقديري أن يتهدى لها أصحاب الاختصاص بالنقد والتقويم فأعتقد أن ميزته فيها هي الدقة والاهتمام بالجزئيات التي تشكل الكل، معتمدا في نحته لاسيما على المواد الصلبة على موهبته التشكيلية بمعنى يطوع الأشكال الكبيرة من تلك المواد لرؤيته التشكيلية للتعبير عن تصوراته، وترجمة أحاسيسه، وبلورة أفكاره ذات المزيج بين الهندسة الخارجية والإيقاعات الداخلية التي تدوزنها الظلال والانسجام والتناسق، حتى لكانت أحيانا تريد أن تخاطب منحوتاته بصوت عال علها تخلص من بكميتها، أو تتلبس روحها الغائبة، لتتواصل معك.

كما أن الطابع الإفريقي في منحوتاته دائم الحضور، كأنه عندما يقوم لمادته يلتفت إلى الشمس، ويظل البحر بظهره فيستمع إليه ويزمجر، لكنه لا يفتأ يتابع رقصة خيوط الشمس بين الفلق والغروب، وهو الأمر الذي جعل أعماله تلقى رواجا في العديد من عواصم العالم، وتحظى بالتكريم والجوائز، أما عن الإنسان بلونيس فاعتقد أنه كان دمث الخلق شديد الاعتزاز بنفسه، سريع الغضب في غير إفراط، يراقب انفعالاته بسرعة. وكان إلى جانب ذلك كريما مضيافا، دعاني إلى بيته، فاطلعت على أعماله غير المعروفة، وهو كما هو خارج البيت، عفويا حريصا على حسن تنضيد وترتيب أشيائه، مهتما برعاية الأشجار والنباتات المنزلية... كأننا به ساعيا إلى كسر الحاجز الفاصل بين عالم الطبيعة الفسيح بألحان عصافيره، وحفيف أوراقه وسقسقة جداوله، وهبهبة نسيمه، وهسهسة صيفه، ودمدمة رعود شتائه، وبين عالم البيت بحيطانه السميكة وشبابيكه الحديدية كالمعتقلات المرعبة، كما هو سائد في مدننا وقرانا بكل أسف وأسى.

نعم رحل شاعر الريشة والأزميل والمطارق والآلات المعدنية، وأبقى الروح مستترة في أشيائه، حلق بجناحيه فوق السحب، واستعطفها أن لا تضن بالندى على الزهور، ولا بالرذاذ على الورود، ولا بالمدرار على التلال والأودية. وكما سميت أحد أعمالي المتواضعة "التدليس على الجمال" فإنني على يقيني الدائم بأن الحديث في الجمال هو ضرب من التدليس على الجمال، والحديث عن حراس معبده، وسدنته، ضرب من المغامرة. ولعل هذا الاعتراف الصادق هو عزائي الكبير في قصوري عن الإيفاء بالمرغوب، وشفيعي أمام نفسي وأمام الحقيقة بأن لا حول لي ولا قوة أمام عرش الجمال.

رحم الله بشير بلونيس وبر بأسرته الكريمة. 

كاتب،إعلامي وسيناريست
له كتاب في الفنون التشكيلية: تدليس على الجمال