بشير بلونيس.. الفنان والإنسان

ياسمين بلونيس/ ت: صراح تلمساني

"لا يرضخ العمل لحكم الزمن، لأن الزمن لا يستعمل القوانين بل يجمله"

بشير بلونيس 

ولد الفنان "بشير بلونس" بتاريخ 26 مارس 1956 بالشرق الجزائري، رسام ونحات وولوع بالشعر والفن المعماري، قضى معظم حياته بمدينة عنابة، إذ ترعرع في كنف عائلة متواضعة، وعاش في الأحياء الشعبية، تنازل عن حلمه في أن يصبح مهندسا معماريا، كي يساعد والده على سد حاجات عائلة عدد أفرادها كبير، فعمل عون مكتب وملاحظ للعمال في الإلكترونيك، وشاء القدر أن يقوده حسه المرهف وآلامه إلى طريق الفن، بوجه الخصوص أثناء دورة تدريبية في الميكانيك التي مارسها في إيطاليا، حيث اكتشف أروع الأعمال الفنية الإيطالية. بعودته إلى الجزائر، أخذ يشق طريقه كفنان عصامي محاولا صقل هوايته الفنية دون الانتماء إلى مدارس رسمية. في بداية مشواره تمرن على التيارات الكلاسيكية، كالانطباعية التكعيبية والسريالية، أخذت أعماله تتطور نحو التعبير عن المآسي الإنسانية التي أثرت فيه منذ طفولته. ومن خلال حالاته (بشير) الروحية اتجه إلى التعبير التصويري كي يجد مكانه في التعبير التجريبي محققا بذلك سلسلاته المشهورة "جدران العالم" و "مآسي" التي كانت أولى نجاحاته.

في نهاية الثمانيات شرع في صناعة اسم فني دولي من خلال مشاركته الفنية في المحافل الدولية وخاصة من خلال عرض أعماله بالمركز الثقافي الجزائري بباريس حيث استطاع وضع بصمته المتميزة في اكبر حصص الفن المعاصر وشاركت لوحاته في البيع بالمزادات العلنية لأسواق التشكيلية. بحوثه المتعددة حول أشكال تعبيره الفني قادته إلى الاشتغال في مجال فن النحت الذي كان في الأصل عبارة عن رسوم تمهيدية حولت إلى تصوير بالجص، وتطورت تدريجيا لتحقق ولأول مرة نجاحا بقصر الثقافة بمدينة عنابة، كان شكلا تعبيريا جديدا، وكتابة خاصة به، حيث قام بتنقيب طويل، نتج عنه أسلوب متفرد في الشكل والمضمون. هذه الأعمال بلورت بإيقاع حركاتها توازنا فضائيا يمثل توازن "بشير بلوينس العقلي" حيث تواصل تطور تفكيره وإبداعه، معانيا كمعظم المثقفين الجزائريين أثناء حقبة السنوات السوداء/ ثمن عدم فهم محيطه له.

لم يتوقف منذ هذه الفترة بكتابته عن الفن، وعن آلامه خصوصا الكتابة عن تأملاته. وانعزل عن المجتمع كي يعمل. وشارك سنة 2002 في سنة الجزائر بفرنسا، كرسام ونحات، ثم دعي لأول مر لإنجاز منحوتتين تذكاريين/ في مدينتين فرنسيتين. وكان النحت الوحيد والأخير الذي استطاع أن ينجزه بمدينة مرسيليا ضخما (طوله 10 أمتار)، ولم يتمكن من إنجاز النحت الثاني بسانت إتيان، إذ أصيب فجأة بالمرض وتوفي يوم 03 أغسطس 2003. وكان إنتاجه الأخير حوصلة بحث طويل عن شكل متفرد لفن النحت، والذي يترجم بصدق آلام وعذابات بشير بلوينس، وكذلك يترجم جزءا من هويتنا.

الرسم
"بشير بلوينس" رجل ولوع بالفن، لم يتوقف عند الإنتاج الفني فمنذ بداياته، حمل في طياته إسهاما بارزا وهاما في تطوير الفن. كانت أبرز أعماله ذات طابع تجريدي وسريالي، جسدت بطبقات سميكة من الألوان التي انبثقت عنها أشكال تجريدية نوعا ما. يقول "عندما أرسم، أحاول أن أحلل نفسيا بعد الآخر، الحالة التي أنجزت فيها العمل بالنسبة إلي هي مغامرة شيقة على اكتشاف العالم، وفي الوقت نفسه أحس أنني مشبع".

جدران العالم
"أنا أنقل ما أشعر وأحس به" قال بلونيس هذا يوما بنظرة مشرقة لواقع مدمر عميق يعبر عن أضواء مثيرة، وأشكال الولوج في حقيقة مستترة/ محجوبة، معبرا عن أضواء مثيرة وأشكال ممزقة في صمت أصم، هذا ما اكتشفه بركود معاناة العالم من اضطرابات وصراعات واكتئاب "صبرا وشتيلا" جحيم الإنسانية الظالم، البؤس، المجاعة. كانت أعماله ثمرة أحزانه وآلامه، وحسه المرهف، يقول: "أحلم بتداعيات خواطر الجحيم، آلام الإنسان والحيوان تؤلمني وأنزعج حين أراهم يدمرون".

تعرض في لياليه اللاّمتناهية إلى تأملات طويلة حول اضطراب العالم الذي عبر عنه في أعماله التي ترن في الذاكرة. اهتم "بلوينس" بالأشكال أكثر من الألوان في التعبيرات العميقة والسطحية. حيث يلوح الإلهام الفلسفي في كل رشة ريشة من خلال ألوان مخضبة مكثفة تعكس عمق المضمون الفني في صورة صلبة ومرهفة معا.

مآسي
"آلام الآخرين تلهمني". كان اهتماميه الكبير البحث عن أعظم المشاعر والأحاسيس، وإفراغ نفسه من هذه المشاعر ومن الأشياء التي تغرس في قلبه الأشياء التي تفزعه دوما: مأساة، جفاف السّهل أو نساء وأطفال يموتون جوعا ومرضا تحت أنظار الكاميرا، ونبقى صامتيين أمام هذه المأساة الإنسانية.. أنجز بشير في السنوات الأخيرة حوصلة تجربته الفنية كلها، كتابة ولدت تجريدية تعبيرية، وحيث تحكم فيها بشكل خارق للعادة، ترجمت إلى رسم أو نحت، حيث واصل بحثه وعمله في هذه السبيل أين أنجز سلسلته الشهيرة:البني.

النحت
لم تتوقف قوة تعبير "بشير بلوينس" عند الرسم، بل انبثق عنها أسلوب جديد، امتزجت فيه الصلابة والجمال في التمكن من الفضاء. حيث رسم أشكالا وخيالات تجريبية، إكشتف من خلالها إمكانية تحويلها إلى منحوتات. كانت أول تجربة النحت الذي أنجزه بقصر الثقافة بعنابة سنة 1987. حاول دوما تطوير أفكاره وإيجاد وسيلة تعبيرية استثنائية. أنجز سلسلة من المنحوتات الأفقية الني كانت تركيبتها مستوحاة من خيالات/ أشباح إنسانية وحيوانية مشكلة في صورة تجريدية، وقد اكتشف بلونيس إمكانية تعديلها لتصبح نحتا. واعطاها جزء من روحه فأصبحت هذه المنحوتات حيوية، أرواحها متوائمة، مكتسبة من الطبيعة الإنسانية.. المآسي والأجساد الراضخة لقوانين الطبيعة.

حملت أعمال "بلونيس" نظرة كونية، وأبطلت مقت الإنسان للإنسان، وتعاطفت مع عذابات المظلومين في العالم، وواجهت الإنسان بنفسه، ووضعته في أسئلة حرجة مع ذاته.

يدعونا المدى الفلسفي لأعمال بشير بلونيس للتفكير.. فأعماله شهادات للزمن الذي يفضحه. 

فنانة تشكيلية وزوجة الفنان بشير بلونيس