بشير بلونيس.. والهندسة البنائية

نوّار عبيدي

عندما نتكلم عن الفن التشكيلي في الجزائر عامة، ومدينة عنابة تحديدا، لابد وأن نتذكر الفنان التشكيلي بشير بلونيس، فأثار قدميه ترفرف في بهو قصر الثقافة محمد بوضياف، حيث أقام ورشة كبيرة تسمع فيها أزيز الحديد، وكذلك في بهو المسرح الجهوي «عزالدين مجوبي» عندما إشتغل على سينوغرافيا أهم انتاجاته المسرحية (الوشام) و (الهربة)،

وعلى ساحة الثورة، وفي أماكن متعددة منتجا وعارضا وعاشقا.

تمر الآن عدة سنوات على رحيله ألا أن اسمه نقش على جدران الرسم، وقطرات الأصباغ المتناثرة من ريشته. لقد استطاع بشير أن يقف على قدمين ثابتتين في الساحة الفنية الجزائرية، ويشهد له بذلك كبار الفنانين، وبجرأته وإيمانه الراسخ بأفكاره استطاع أن يقف إلى جنب كبار التشكيليين في المعارض الأوروبية خاصة فرنسا، وأن يجد له مكانا في أرقى الأروقة لعرض أعماله للبيع.

منذ أن عرفت بشير كنت ألمس فيه ذلك البحث الدءوب عن الجديد، كان مثقفا ومطلعا على كل جديد، كلما إلتقيته كنت أطلب منه رؤية آخر أعماله، ومن محفظته الجلدية يخرج لي مجموعة من الأوراق المرسومة بقلم الرصاص. عشرات الأشكال الهندسية التي افتتن بها في أواخر حياته، كأنه يبحث عن أبعاد جديدة على الورقة تتجاوز البعد الثالث، وكلما أدركت الورقة وجدت شكلا جديدا للرسم، كان اتجاهه الأخير في إبداع هذه الأشكال، ولوجه عالم (الهندسة البنائية) وهو أمر لم يطلع عليه كثير من الناس، حيث اهتم بإنجاز مساكن غارقة في العصرنة، وهي عبارة عن مشاريع سكنية فردية وجماعية، تأخذك إلى عوالم افتراضية محتفظة في كل ذلك بخصائص الفرد واحتياجاته الطبيعية، وقد أخبرني رحمه الله انه استطاع أن يمضي صفقة مع إحدى البلديات الأوروبية لإنجاز إحدى مشاريعه الهندسية. لم يكن هذا جنونا عند بشير ولكن كان تحد لغيره خاصة الذين لم يفهموا أبعاد هواجسه الفنية، سألته يوما عن رأيه حول الفن التشكيلي في الجزائر فأجاب إجابة المثقف قائلا: "منذ الاستعمار كانت هناك محاولات فردية من طرف بعض الفنانين القريبين من المجتمع الفرنسي مثل راسم ودينه، وهؤلاء لا تزال لوحاتهم في اكبر المتاحف وبعد الاستقلال ـ مع وجود بعض الفنانين المغتربين (المختصين والعصاميين) أدخلت الكثير من الأفكار الجديدة بتأثير من التيارات الغربية،... ثم ظهرت حركة (أوشام) التي جاءت لإحياء الثقافة الشعبية".

وعن نتائج جمعية (اوشام) قال: "في الحقيقة أن الأبحاث لم تكن علمية واعتمدت فقط على إظهار الرموز الشعبية، ثم أن غياب الحركة النقدية منع من تكوين القواعد العلمية للحركة الفنية، لذلك بقيت المحاولات شخصية". وهذه الرؤية النقدية لبشير للحركة الفنية آنذاك، تدل على نظرة ثاقبة لمسايرة الحياة الفنية التشكيلية للجزائر، وقد ذكر لنا أنه تعرض لعدة مضايقات إلى درجة عزله عن نشاط الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية سنوات 81 ـ 82 نتيجة عدم رضاه بمسئوليه، وواصل بلونيس انتقاداته إلى أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، مؤكدا أن غياب الديمقراطية وتراكم المشاكل السياسية، أثر بقوة على الحركة الثقافية عموما، والفن التشكيلي خصوصا، ويرى أن الأسباب الأساسية في ذلك تتمثل في "السياسة الثقافية الرديئة، ثم قتل المواهب والإبداعات، وغياب التشجيع، ونقص المواد الأولية للعمل، بالإضافة إلى عراقيل النشاط وغير ذلك".

كل هذه الأوضاع أحدثت في بشير زلزلة أخذت منه كل حياته وصحته وماله، قال لي ذات مرة عليّ أن أقوم بثورة. قلت له عن أي ثورة تتحدث؟ قال: "أكسر كل العواقب، أتحدى أشكال العراقيل، حتى أصل إلى ما يميزني، ليس على المستوى الوطني فقط بل العالمي، يجب أن نتحدى أنفسنا إلى طموحات أكبر، أنا أحاول تحديد مكاني، أقول هذا دون غرور بل باقتناع، وإلا سأتوقف عن العمل".

نعم بهذه الجرأة كان يتكلم بلونيس عن ثورته، ودون غرور كان يعرف قيمة عمله الفنية والمالية، وقد ذكر لي ما وقع له بعد إنجازه جدارية قصر الثقافة، والمتاعب التي لحقته في الحصول على مستحقاته. قال حينها: "لقد أمضيت ثلاثة أشهر وأنا مع الحديد، وأتحدى أي فنان جزائري يستطيع أن يقوم بهذا العمل، بأسس علمية متميزة. ثم أنه لي اسمي الخاص الذي لا أحب أن تدوسه الأقدام". بهذه الثقة بالنفس كان يدافع بلونيس عن أعماله. لقد أمضى كامل حياته يبحث عن الجديد، كان كثير المطالعة والبحث، وقد انتقل من مدرسة إلى أخرى، وتعامل مع الألوان المائية والزيتية والرصاص، في كل جلساته مع أصدقائه كان بتحدث عن الفن التشكيلي، والمصائب التي لحقت بالثقافة الجزائرية عموما، والفن التشكيلي خصوصا، فهو لا يملك ورشات يعمل بها، ويبحث يوميا عن الأدوات الأولية لعمله، وقد تساءل كثير من معارفه عن سبب اتجاه بلونيس إلى التعامل مع الحديد، لقد زرت ورشته بقصر الثقافة، وكنت أرى فنانا في شكل حداد بكل ما تحمله هذه المهنة (الحدادة) من معنى، لكنه كان حدادا من نوع خاص، يتعامل مع النار لتليينه، ومع دخانه ورائحته، وعندما ينتهي العمل، تجد نفسك أمام نحات يطيل النظر بعينيه الثاقبتين المختفيتين وراء نظاراته، ويبتسم مع أشكاله، كأنه يقول في نفسه: هكذا حولت الحديد الصلب إلى تحفة فنية رائعة تبهر النظر.

من أمنياته الفنية التي ذكرها لنا اهتمامه بالفن التخطيطي قال عنه أنه "ينطلق من أسس علمية، يرتكز على تحديد العمل قبل تطبيقه، وهو عكس من يرسمون، ثم يحددون الخطوط. الفن التخطيطي هو مستقبل الفن عموما، إني أحاول الخروج من فضاء اللوحة، إلى فضاء حقيقي مجاور، أريد المزاوجة بين الفضائيين." وبالفعل خرج بلونيس من فضاء اللوحة، تاركا وراءه الفضاء المجاور مهجورا. لقد رحل (رحمه الله) ورحلت معه الطموحات والتحدي والثقة بالنجاح، لكنه ترك بصماته تشهد على صدقه، وحبه الشديد للفن التشكيلي... فرحمه الله.  

أكاديمي وكاتب