هواجس عبثية في قصص قصيرة جداً
إنها "احتمالات طفيفة" كما جاء في عنوان المجموعة القصصية الجديدة للقاص الفلسطيني محمود شقير (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2006 ). لكنها احتمالات خطرة في ما يتعلق بالشخصيات التي يتناولها القاص في قصصه القصيرة جدا، وهي القصص التي تقارب المئة، وتراوح ما بين ثلاثة سطور في بعض القصص، وصفحة كاملة لقصص أخرى. شخصيات تقف في مقدمتها شخصيات معروفة في الأدب العربي والعالمي، وتتمثل في شخصية سعيد أبي النحس المتشائل للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، وشخصيتي دون كيخوته ودولثينيا لسرفانتس، وشخصية الجندي الطيب شفايك للكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك. من هذه "الخلطة" من الشخصيات يختلق محمود شقير ما يمكن اعتباره شخصيات ذات طابع إنساني ـ عالمي، يتسم في بعض الأحيان بالطابع الفلسطيني جراء تحديد المكان، كالقدس مثلاً، أو ذكر الحواجز والجنود، وهو ما يميز الوضع الفلسطيني ومعاناة الفلسطينيين. وهذا ما يمثله سعيد مع أخواته على الحواجز التي يقيمها الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والمعاناة التي يتسبب بها الجدار العنصري الذي يفصل بين أفراد العائلة الواحدة. والى ذلك يتناول شقير حالات الإنسان في ضجره وكآبته أو لحظات سعادته القليلة، ضمن أسئلة وجودية لا علافة لها بالاحتلال، بل بالحياة عموماً. إنها خمسة احتمالات طفيفة، أولها "دون كيخوته" الذي يجيء في أكثر من عشرين قصة قصيرة جداً، تبدأ بالكآبة التي يتركها خلاف في الطائرة بين الرجل الذي يقرأ عن فارس يجوب الفيافي ويرى في المضيفات جمالاً باذخاً، والمرأة التي تقرأ نصاً مسرحياً ولا ترى المضيفات جميلات، قبل أن تبدأ رحلتهما السياحية وما تعرضت له المرأة في الفندق الجميل من سقوط عن كرسيها يدفع الرجل أن يتفقد قوائم السرير في الليل. ثم يجول بنا القاص في عوالم هاتين الشخصيتين وحواراتهما، ومشاعرهما البسيطة، وهمومهما التي تبدو صغيرة. مشاعر مثل شعور المرأة بالحاجة إلى اهتمام زوجها بشعرها، فيما يعتبر الرجل هذا الأمر "من أحلام الصبا التي لا مكان لها". في ظل هذا الرصد للتفاصيل الصغيرة والمشاعر البسيطة لشخوصه، في إطار عشرات الحالات من التوتر والقلق والاضطراب التي يصورها، يخلط الكاتب شخصياته، فنجد سوسن تتداخل مع صباح ودولثينيا، ونجد سعيد يختلط بكل من دون كيخوته والجندي الطيب، كما تتداخل الأزمنة والأمكنة، فترحل الشخوص بين القرون، وتتنقل بين القدس وبراغ وسواهما، بما يدل على التعبير عن وحدة هموم البشر في كل زمان ومكان. شخصيات تميل إلى الكهولة، تتأمل في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وتعيش علاقات حميمة تنطوي على قدر من الحب والحكمة في التعاطي مع العالم. فسوسن تتحول إلى دولثينيا "لكي يتناسب الاسم مع مزاجه ورؤاه، فهو يتقمص بين الحين والحين شخصية ذلك الفارس الذي نذر نفسه للدفاع عن المستضعفين، ولم يحقق نجاحاً له جدواه..". وبعدها مباشرة نلتقي الرجل نفسه يلتقي المرأة نفسها في بيت الأستاذة الجامعية الصديقة المشتركة. وسرعان ما يتزوجان، ليكون زوجها الثالث بعد زواجين فاشلين. والمهم هنا هو طريقة تقديم الشخوص والعلاقات بلا ترتيب أو سياقات. فهو يتحدث عن سوسن في قصة، ويعود ليتحدث عن بدء العلاقة في قصة تالية. ويتداخل مع هذا حديث الأستاذة الجامعية عن كونها تنتظر ابنها الذي يعود بعد قليل من المدرسة "وهي لا تدري أن الجنود يطوقون المدرسة الآن". الاحتمالات الطفيفة إذاً تراوح بين حالات عابرة وعلاقات بلغت حدود الملل والضجر، ومحاولات لاستعادة ماضي الشباب والطفولة الذي لا يعود. فمحاولة الكهل وزوجته تقليد لعب المرأة وهي تلاحق طفلها هي لعبة عقيمة ولن تعيد الكهلين إلى الطفولة- الفردوس المفقود. وركوب عربات القرون الوسطى إلى القرن العاشر ليس سوى حلم عقيم وطوباوي مستحيل التحقق. والرجل الذي يحاول القيام بدور المهرج لتسلية المرأة بسبب الملل يواجه بكونها تكره التمثيل. وسؤال بيكاسو عن لحظة تعري فرانسواز جيلو أمامه، هو سؤال عن لحظة سعادة لا تتكرر. والمرأة التي تذهب إلى النبع لجلب الماء وتعود لتجد زوجها مقتولاً تجسد حالة واقعية عابرة بل فجائعية. خيالات وأوهام ووقائع تشكل نسيج هذه المجموعة القصصية، وتقنيات متنوعة بقدر تنوع المادة التي يشتغل الكاتب عليها. ففي باب "أوراق مبعثرة: كتبها سعيد قبل الرحلة وأثناءها وفي بعضها وقائع لا تعرفها دولثينيا" يستخدم الكاتب أدوات الحلم والتخييل والحوارات العبثية لرسم مشاهد من العبث المفضي إلى غياب القدرة على التواصل بين البشر في كثير من الأحيان، وحدوث التباسات في الفهم والتفاهم، حيث الشخوص تنطوي على قدر من الغرائبية في حواراتها وأسئلتها مثلما هي حال المرأة التي تسأل الرجل عن القرن الذي ولد فيه، أو المحاولة الفاشلة للتواصل بين الرجل والمرأة بسبب الزحام. وفاصل السنين والذكريات التي تجمعهما، والمتشرد المسكين الذي يتخيل أنه كان ملكاً! وفي "احتمال ثان" نتنقل بين شخصية الجندي الطيب شفيك وشخصية سعيد وأنيشكا العاملة في "البنسيون" ضمن مناخات حميمة لا تخلو من منغصات طبعاً، حيث تتعرض أنيشكا للمساءلة من صاحبة "البنسيون" عن سبب وجودها في غرفة سعيد بينما هناك زبائن ينتظرون معاملة المغادرة، فيما هي تحاول تدريب سعيد على فتح الخزنة وإغلاقها. وهناك أيضاً عرض لحال زوجين يعمل كل منهما في فندق مختلف ويعودان متعبين ليغرقا في "بحر النوم". وثمة وقفات غريبة مع الجندي الطيب الكاره للحرب الذي يعيش من سرقة الكلاب وبيعها بعد تغيير لونها. وهناك أيضا استحضار شخصيات تكون مرت ونسيها القارئ يعود إليها سعيد/ المؤلف ليربطها بعلاقة قديمة ذات طابع حميمي من خلال التنقل الزمني لسعيد بين الأزمنة. لكن عين سعيد ليست على داخله فقط، بل على العالم من حوله. على النادلة التي تحب الجنود الألمان، وتشكو من أن طبيباً روسياً أجرى لها جراحة تسببت بفقدانها أنوثتها فتركت الحزب الشيوعي. وهي تتذكر شخصا أحبته ومنحته مالها فهرب به إلى ألمانيا. وفجأة نرى هذا الشخص في المطعم نفسه يرصد التغيير الحاصل بعد خمس عشرة سنة. وهناك رجل يجلس في حديقة فتطلب منه المرأة الجالسة على المقعد نفسه أن ينهض كي تسحب فستانها من تحته مع أنه بعيد عنها. وهناك عصابة المافيا من نساء ورجال يعقدون صفقات في المطاعم، ومكاتب لغسل الأموال تحت لافتات مختلفة. وأخيراً، في "احتمال ثالث"، وعلى الصعيدين الوطني والاجتماعي الفلسطيني، ينقلنا الكاتب إلى الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل، والصعوبات التي تواجه تنقل الفلسطينيين، من خلال محاولة سعيد وأخواته الأربع الوصول إلى الشركة التي كان والدهم يمتلك أسهماً فيها قبل وفاته، ليحصلوا على ميراثهم. وهنا يتداخل الهم الوطني المرتبط بالاحتلال مع الهم الاجتماعي حيث تتكشف الظروف الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأسرة، ونكتشف مثلاً أن اثنتين من أخوات سعيد لم تحصلا على التعليم. ونقرأ التحقيق مع الأب والأم والابن حول القرن الذي ولدوا فيه، فالأب قال القرن التاسع عشر، والأم القرن العشرين، والابن الثالث والعشرين، لنفاجأ في النهاية باختفاء الأب وغيابه. وفي هذا الباب الأسري تتكثف المشاعر الإنسانية لدى سعيد تجاه أخواته، وعلى نحو مواز تتكثف لغة الوصف والتأمل في العلاقة الإنسانية بين أفراد الأسرة، في المطعم أو تحت المطر. ويضطر الأخ إلى عدم استخدام مظلته جراء شعوره بالأنانية لكونه الوحيد بين أخواته الذي يملك مظلة. ونتابع ذكريات قصة حب طفل وفتاة بالغة في طريقهم إلى الطاحونة والعودة منها. وبالعودة إلى "أول الطريق" يعود ليلتقي دون كيخوته والجندي الطيب شفيك وسعيد أبو النحس.. وسعيد. هكذا يقدم محمود شقير عالماً شاملاً لجوانب مهمة من حياتنا، متأملاً حيناً، متذكراً ومتخيلاً ومصوراً أحياناً، وهو ما يضعنا أمام تجربة قصصية نادرة في الكتابة العربية.
إنها "احتمالات طفيفة" كما جاء في عنوان المجموعة القصصية الجديدة للقاص الفلسطيني محمود شقير (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2006 ). لكنها احتمالات خطرة في ما يتعلق بالشخصيات التي يتناولها القاص في قصصه القصيرة جدا، وهي القصص التي تقارب المئة، وتراوح ما بين ثلاثة سطور في بعض القصص، وصفحة كاملة لقصص أخرى. شخصيات تقف في مقدمتها شخصيات معروفة في الأدب العربي والعالمي، وتتمثل في شخصية سعيد أبي النحس المتشائل للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، وشخصيتي دون كيخوته ودولثينيا لسرفانتس، وشخصية الجندي الطيب شفايك للكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك.
من هذه "الخلطة" من الشخصيات يختلق محمود شقير ما يمكن اعتباره شخصيات ذات طابع إنساني ـ عالمي، يتسم في بعض الأحيان بالطابع الفلسطيني جراء تحديد المكان، كالقدس مثلاً، أو ذكر الحواجز والجنود، وهو ما يميز الوضع الفلسطيني ومعاناة الفلسطينيين. وهذا ما يمثله سعيد مع أخواته على الحواجز التي يقيمها الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والمعاناة التي يتسبب بها الجدار العنصري الذي يفصل بين أفراد العائلة الواحدة. والى ذلك يتناول شقير حالات الإنسان في ضجره وكآبته أو لحظات سعادته القليلة، ضمن أسئلة وجودية لا علافة لها بالاحتلال، بل بالحياة عموماً.
إنها خمسة احتمالات طفيفة، أولها "دون كيخوته" الذي يجيء في أكثر من عشرين قصة قصيرة جداً، تبدأ بالكآبة التي يتركها خلاف في الطائرة بين الرجل الذي يقرأ عن فارس يجوب الفيافي ويرى في المضيفات جمالاً باذخاً، والمرأة التي تقرأ نصاً مسرحياً ولا ترى المضيفات جميلات، قبل أن تبدأ رحلتهما السياحية وما تعرضت له المرأة في الفندق الجميل من سقوط عن كرسيها يدفع الرجل أن يتفقد قوائم السرير في الليل. ثم يجول بنا القاص في عوالم هاتين الشخصيتين وحواراتهما، ومشاعرهما البسيطة، وهمومهما التي تبدو صغيرة. مشاعر مثل شعور المرأة بالحاجة إلى اهتمام زوجها بشعرها، فيما يعتبر الرجل هذا الأمر "من أحلام الصبا التي لا مكان لها".
في ظل هذا الرصد للتفاصيل الصغيرة والمشاعر البسيطة لشخوصه، في إطار عشرات الحالات من التوتر والقلق والاضطراب التي يصورها، يخلط الكاتب شخصياته، فنجد سوسن تتداخل مع صباح ودولثينيا، ونجد سعيد يختلط بكل من دون كيخوته والجندي الطيب، كما تتداخل الأزمنة والأمكنة، فترحل الشخوص بين القرون، وتتنقل بين القدس وبراغ وسواهما، بما يدل على التعبير عن وحدة هموم البشر في كل زمان ومكان. شخصيات تميل إلى الكهولة، تتأمل في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وتعيش علاقات حميمة تنطوي على قدر من الحب والحكمة في التعاطي مع العالم. فسوسن تتحول إلى دولثينيا "لكي يتناسب الاسم مع مزاجه ورؤاه، فهو يتقمص بين الحين والحين شخصية ذلك الفارس الذي نذر نفسه للدفاع عن المستضعفين، ولم يحقق نجاحاً له جدواه..". وبعدها مباشرة نلتقي الرجل نفسه يلتقي المرأة نفسها في بيت الأستاذة الجامعية الصديقة المشتركة. وسرعان ما يتزوجان، ليكون زوجها الثالث بعد زواجين فاشلين. والمهم هنا هو طريقة تقديم الشخوص والعلاقات بلا ترتيب أو سياقات. فهو يتحدث عن سوسن في قصة، ويعود ليتحدث عن بدء العلاقة في قصة تالية. ويتداخل مع هذا حديث الأستاذة الجامعية عن كونها تنتظر ابنها الذي يعود بعد قليل من المدرسة "وهي لا تدري أن الجنود يطوقون المدرسة الآن".
الاحتمالات الطفيفة إذاً تراوح بين حالات عابرة وعلاقات بلغت حدود الملل والضجر، ومحاولات لاستعادة ماضي الشباب والطفولة الذي لا يعود. فمحاولة الكهل وزوجته تقليد لعب المرأة وهي تلاحق طفلها هي لعبة عقيمة ولن تعيد الكهلين إلى الطفولة- الفردوس المفقود. وركوب عربات القرون الوسطى إلى القرن العاشر ليس سوى حلم عقيم وطوباوي مستحيل التحقق. والرجل الذي يحاول القيام بدور المهرج لتسلية المرأة بسبب الملل يواجه بكونها تكره التمثيل. وسؤال بيكاسو عن لحظة تعري فرانسواز جيلو أمامه، هو سؤال عن لحظة سعادة لا تتكرر. والمرأة التي تذهب إلى النبع لجلب الماء وتعود لتجد زوجها مقتولاً تجسد حالة واقعية عابرة بل فجائعية.
خيالات وأوهام ووقائع تشكل نسيج هذه المجموعة القصصية، وتقنيات متنوعة بقدر تنوع المادة التي يشتغل الكاتب عليها. ففي باب "أوراق مبعثرة: كتبها سعيد قبل الرحلة وأثناءها وفي بعضها وقائع لا تعرفها دولثينيا" يستخدم الكاتب أدوات الحلم والتخييل والحوارات العبثية لرسم مشاهد من العبث المفضي إلى غياب القدرة على التواصل بين البشر في كثير من الأحيان، وحدوث التباسات في الفهم والتفاهم، حيث الشخوص تنطوي على قدر من الغرائبية في حواراتها وأسئلتها مثلما هي حال المرأة التي تسأل الرجل عن القرن الذي ولد فيه، أو المحاولة الفاشلة للتواصل بين الرجل والمرأة بسبب الزحام. وفاصل السنين والذكريات التي تجمعهما، والمتشرد المسكين الذي يتخيل أنه كان ملكاً!
وفي "احتمال ثان" نتنقل بين شخصية الجندي الطيب شفيك وشخصية سعيد وأنيشكا العاملة في "البنسيون" ضمن مناخات حميمة لا تخلو من منغصات طبعاً، حيث تتعرض أنيشكا للمساءلة من صاحبة "البنسيون" عن سبب وجودها في غرفة سعيد بينما هناك زبائن ينتظرون معاملة المغادرة، فيما هي تحاول تدريب سعيد على فتح الخزنة وإغلاقها. وهناك أيضاً عرض لحال زوجين يعمل كل منهما في فندق مختلف ويعودان متعبين ليغرقا في "بحر النوم". وثمة وقفات غريبة مع الجندي الطيب الكاره للحرب الذي يعيش من سرقة الكلاب وبيعها بعد تغيير لونها. وهناك أيضا استحضار شخصيات تكون مرت ونسيها القارئ يعود إليها سعيد/ المؤلف ليربطها بعلاقة قديمة ذات طابع حميمي من خلال التنقل الزمني لسعيد بين الأزمنة.
لكن عين سعيد ليست على داخله فقط، بل على العالم من حوله. على النادلة التي تحب الجنود الألمان، وتشكو من أن طبيباً روسياً أجرى لها جراحة تسببت بفقدانها أنوثتها فتركت الحزب الشيوعي. وهي تتذكر شخصا أحبته ومنحته مالها فهرب به إلى ألمانيا. وفجأة نرى هذا الشخص في المطعم نفسه يرصد التغيير الحاصل بعد خمس عشرة سنة. وهناك رجل يجلس في حديقة فتطلب منه المرأة الجالسة على المقعد نفسه أن ينهض كي تسحب فستانها من تحته مع أنه بعيد عنها. وهناك عصابة المافيا من نساء ورجال يعقدون صفقات في المطاعم، ومكاتب لغسل الأموال تحت لافتات مختلفة.
وأخيراً، في "احتمال ثالث"، وعلى الصعيدين الوطني والاجتماعي الفلسطيني، ينقلنا الكاتب إلى الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل، والصعوبات التي تواجه تنقل الفلسطينيين، من خلال محاولة سعيد وأخواته الأربع الوصول إلى الشركة التي كان والدهم يمتلك أسهماً فيها قبل وفاته، ليحصلوا على ميراثهم. وهنا يتداخل الهم الوطني المرتبط بالاحتلال مع الهم الاجتماعي حيث تتكشف الظروف الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأسرة، ونكتشف مثلاً أن اثنتين من أخوات سعيد لم تحصلا على التعليم. ونقرأ التحقيق مع الأب والأم والابن حول القرن الذي ولدوا فيه، فالأب قال القرن التاسع عشر، والأم القرن العشرين، والابن الثالث والعشرين، لنفاجأ في النهاية باختفاء الأب وغيابه.
وفي هذا الباب الأسري تتكثف المشاعر الإنسانية لدى سعيد تجاه أخواته، وعلى نحو مواز تتكثف لغة الوصف والتأمل في العلاقة الإنسانية بين أفراد الأسرة، في المطعم أو تحت المطر. ويضطر الأخ إلى عدم استخدام مظلته جراء شعوره بالأنانية لكونه الوحيد بين أخواته الذي يملك مظلة. ونتابع ذكريات قصة حب طفل وفتاة بالغة في طريقهم إلى الطاحونة والعودة منها. وبالعودة إلى "أول الطريق" يعود ليلتقي دون كيخوته والجندي الطيب شفيك وسعيد أبو النحس.. وسعيد.
هكذا يقدم محمود شقير عالماً شاملاً لجوانب مهمة من حياتنا، متأملاً حيناً، متذكراً ومتخيلاً ومصوراً أحياناً، وهو ما يضعنا أمام تجربة قصصية نادرة في الكتابة العربية.