قصص قصيرة جدا

الطفل... الحصان

موفق السواد

ظهيرة حارقة... خرجت للتو من كور حداد الكون ليس بوسع أحد احتمالها.. ليس سوي السحالي القديمة وزهرة العاقول البنفسجية ... والصبي الذي يتماهي.. بالتراب ... التراب الذي يحترق بتنفس الظهيرة الباذخة .. كان يري في السراب الذي يقطر ماء اللهب حصانه الذي يحلم به في لياليه الغارقة في التراب الناعم الأسحم .. ينبثق تدريجيا .. يظهر أحيانا ويختفي أحيانا كثيرة ولكنه يتقدم بثبات. بل إنهما يتقدمان نحو بعضهما بصورة لا فكاك منها .. حينما تراءي الحصان بإهابه المنسرح والمتدفق نحو كل الاتجاهات اختلجت عضلات الصبي بريح بيضاء كدم الأرض التي يدب عليها .. وحينما بدأت الريح تميل قليلا نحو جهة أخري متخلية عن بياضها كان الصبي يلتصق بعرف الحصان الموغل في الظهيرة الحارقة ... كان الصبي يصرخ بي أنا .. أنت أيتها الطريدة الساخنة.

الربيع الذي افتقدناه

كان مولعا بمراقبة المواسم من خلال شجرة وحيدة قبالة المبني في الطابق الرابع من عمارة قديمة يراها من كل الجهات وأحيانا يغطيها بيديه الواهنتين وهو يقف في شرفة المبني. وأحيانا يقف تحتها حينما يمر بجوارها وهو في طريقه لإنجاز مهمة ما .. كان يردد ... هذا هو ماتبق لي من اللعب في هذه اللحظة من آذار . في أوائل آذار أصبحت هواجسه ومخاوفه لزجة أينما حل أو ذهب أصبح لها شكل وملمس مادي تتصاعد علي نحو سريع وثقيل قال في نفسه ما هذا الذي أراه شاخصا أمامي لزجا ... صلدا لا يسمح أن تري ما وراءه؟ لا جدوي من فتح ثغرة في الجدار .. هذا الذي يتشكل كل لحظة دون توقف .. حينما أصبحت هواجسه أكثر صلابة ولزوجة أدرك أن البرابرة في ابهاء المكان بآلاتهم المدمرة وسمائهم الغائمة .. وحين حل نيسان بأيامه الأولي القاسية أيقن أن البرابرة وصلوا إلي قلب المكان أدهشه منظر الشجرة وهي تورق من جديد .. وهي تمسك بالهواء مغمضة العينين .

أعراس يحملها خيط الزهد

تستفيق الذاكرة من غفلة عزلتها الباردة بفعل هذا الصخب الأليف الذي يأتي من تلك البئر المنسية ... بئر طفولتي أتفرس في أعماقها البعيدة فأري فيها ذلك الطفل الذي تضافرت عناصر عديدة لشوائه . كنت طفلا مشويا .. شمس كاوية لا تغادر هذا الرأس الصغير .. رياح وأمواه عديدة تصفع وجهه المتحفز أبدا ... لقد رأي كل ذلك . الجسد الصغيرالهش وفروة رأسه المشتعلة في مرايا العرس البعيد حينما وقف أمام دولاب العرس المشغول بألوان لا نهاية لها ... تظلل طيورا متعانقة وأخري هاربة في ذلك الدولاب الذي جاءوا به من المدينة البعيدة .. الدولاب ذو المرأتين الصغيرتين وسط كتلة من الألوان الصاخبة والعروس كانت تنتظر مراياها وحنتها السوداء . أعراس يحملها خيط الزهد والمرايا الصغيرة والحنة .. وعندما يأتي ذلك اليوم نذهب نحن الصغار مع صبايا القرية الخجولات لبيت العروس ويأتي بعدنا شباب القرية الحفاة وهم يحملون بنادق الصيد الصدئة ويطلقون النار .

وحينما يأتي وقت العشاء كنت أندس كحشرة صغيرة إلي طبق الرز الذي يكشف عن نفسه البيضاء رغم الظلام الحالك ... أياد متلهفة وأفواه نهمة .. الأيدي الكبيرة .. أنسحب معترفا بهزيمتي وأقف تحت نخلة محدقا في هذا الليل الحالك حزينا ومحبطا ... وسرعان ما أعاود مسيرتي في الانطلاق والهذيان .

مطلق محام

يبدو شاربه وكأن جانبه الايمن قد قضم بمقص كبير لا راد له وهكذا هبط المقص في لحظة خاطفة وارتسمت ملامحه بصورة نهائية. ولكن من الصعب اكتشاف هذا الخلل البنيوي بسبب حركات المحامي المتداخلة والمتنافرة، وما يظهر في عضو من أعضائه في لحظة هبوط، ستجد ان ثمة حركة لاتعرف بالضبط لأي عضو تنتمي، تند عن حركة صعود مباغت. كلماته مقصوفة كما الجانب الأيمن من شاربه، غمغمة متصلة و متداخلة حتي الكلمات التي يكتبها علي الورقة المبسوطة أمامه تبدو كما لو كانت ركام من سخام متواصل.

مطلق أعشي

أصيب بالعشو الليلي لحظة الوباء الشامل الذي ألم بأبقارنا. صار القمر بالنسبة إليه حكاية من حكايات الطفولة تتردد أصداءها. ولكن دون أن يلمسها أو يراها الليل. اكتسي بعد آخر ازدوج الليل تعددت مستوياته صار كثيفا مثل فراغ الكحل. صار ليله حجرا مقذوفا في ماء القير وحينما أشارت اليه عرافة القرية بكبد البقرة رد عليها بإبتسامة عمياء: الوباء حل ضيفا في قريتنا، وجباته الثلاث أبقار القرية، الليل الليل لن ينزاح حتي يجيء الخوار الرطب.