حديثنا هنا عن كتاب (مفهوم النصِّ: دراسة في علوم القرآن)، للدكتور نصر حامد أبي زيد، (بيروت الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005). ولسنا بصدد مدِّ الجدل المتطرِّف مع أو ضدّ الذي نال أبا زيد ما ناله منه من أذى؛ فما الرجل في رأينا إلا مجتهد، من حقِّه البحث والتفكير، ومن حقنا مناقشة طرحه، بعيداً عن المصادرات المتشنِّجة وغير العلمية. إن أبا زيد في كتابه هذا لا يتجاوز حقّ البحث والاجتهاد، كما لم يأت قط حسب اطّلاعي بما يسوّغ ما قيل فيه. بل أن خطابه حافل بالإشارات المؤكّدة أن الشبهات المثارة حوله لا أساس لها، إلا الغلوّ في الحكم على كل فكر لا يُسلّم بالمتّفق فيه، والمتواطأ عليه، أو الموروث، لا لشيء سوى أننا وجدنا عليه تراثنا. إن الاختلاف مع أي طرح شأنٌ، وقَمْع الفكر تحت ذرائع إيديولوجية معلنة أو خفيّة شأنٌ آخر. هذا ما يَحْسُن التنويه عنه قبل الخوض في نقاش أبي زيد، مراعاة لطبيعة القراءات الارتيابية السائدة في ثقافتنا، والنَّزَعات التصنيفية الآخذة بتلابيب أمّتنا.
ينهض كتاب أبي زيد المشار إليه على ثلاثة أبواب، الأول بعنوان (النص في الثقافة التشكّل والتشكيل)، وفيه خمسة فصول، هي بالتتالي: "مفهوم الوحي"، {المتلقّي الأول للنصّ)، (المكّي والمدني)، (أسباب النزول)، (الناسخ والمنسوخ)؛ والباب الثاني بعنوان (آليّات النصّ)، من خمسة فصول كذلك: {الإعجاز)، (المناسبة بين الآيات والسور)، (الغموض والوضوح)، (العام والخاص)، (التفسير والتأويل)؛ ثم الباب الثالث، بعنوان (تحويل مفهوم النصّ ووظيفته.
(1)
وسنسوق ملحوظاتنا على الكتاب في فئات، تتدرّج بين منهجيّة التأليف ومنهجيّة المؤلّف في النظر والحكم وفهم النصوص. إن الملحوظة المنهجية الأولى التي تَبْدَهُ متصفّح الكتاب ولا بدّ سيَعْجَب لها هي شح المصادر والمراجع التي عوّل المؤلّف عليها، ولاسيما إذا ما وزنت بخطورة الأطروحة التي تصدّر لها بكتابه. فمن التراث لم يرجع إلا إلى سبعة عشر كتاباً فقط، كثير منها ثانوي التعلّق ببحثه، ك(مقدمة ابن خلدون)، أو (الانتصار في الردّ على ابن الراوندي) لأبي الحسن الخياط، أو {فضائح الباطنية)، و(المنقذ من الضلال) لأبي حامد الغزالي، ونحوها. كما أن رجوعه إلى بعضها إنما جاء عَرَضاً. على حين ما انفك متردّداً بين كتابين، لا يكاد يغادرهما إلا ليعود إليهما في كامل كتابه، هما: (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، و(البرهان في علوم القرآن)، للزركشي. أما الكُتب الحديثة فكانت تسعة عشر كتاباً أو بحثاً، لنصر حامد أبي زيد وحده منها خمسة.
وإلى ذلك سيتبدّى للقارئ تقاعس المؤلف أحياناً عن العودة إلى المعلومة في مصدرها الأصلي، وشاهد ذلك عودته مثلاً إلى (إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب) في مقولة الأصمعي المشهورة: (الشعر نكد بابه الشرّ، فإذا دخل عليه الخير لان)، (ص142)، ولو شاء لوثّق هذا القول، وما قيل فيه، من مصادر قديمة شتى، ك(الموشح) للمرزباني، على سبيل المثال أو غيره. وكذا سيُفاجأ القارئ بعدم اهتمام صاحب (مفهوم النص) بتوثيق بعض المراجع التي يتكئ عليها، فهو يشير مثلاً إلى: (المغربي، تفسير سورة تبارك)، دون أن يعرف القارئ من (المغربي) هذا؟ وما مكانته العلمية؟ وما باعث اصطفائه دون غيره مرجعاً؟ لا من خلال حواشي الكتاب، ولا من قائمة المصادر والمراجع في نهايته! أمّا في تصنيف تلك الكتب بين مصدر ومرجع، فيتضح من خلاله أن المؤلّف لا يفرق بين مصطلح (مصادر) و(مراجع)، بل يأخذ بذلك الفهم المغلوط، الذي يَسْلُكُ كل الكتب القديمة مصادر، وكل الكتب الحديثة مراجع. والأصل أن (المصدر) ما استُقيت مادة البحث منه، و(المرجع) ما أفاد منه الباحث في دراسة تلك المادة، بقطع النظر عن زمن التأليف.
إن هذه الملحوظات الأوليّة السريعة ليست في تقديرنا بشكليّة، ولا بقليلة الخطر، بل هي داخلة في صميم العملية البحثيّة، كاشفة عن تعامل المؤلّف مع مراجعه، ملقية بظلالها بصفة مباشرة على جدّيته البحثيّة وموثوقيّته العلميّة. وغريب أن تقع استسهالات في رصانة المنجز البحثي كتلك من أكاديمي كأبي زيد! تُرى هل يعفي الباحثَ قولُه في مقدمته (ص6 7): (كانت هذه الدراسة قد استغرق الإعداد لها أكثر من خمس سنوات ... وكان أن تناولتها في مقال طويل لمجلة (فصول)، ولكن المقال ضاع في البريد بين اليابان ومصر، ولم يكن لديَّ سوى المسودات ... إذ عُدْتُ إلى بطاقاتي ومسوداتي من جديد فكان هذا الكتاب.! وهل يُعذِر الباحثَ أن يكون في اليابان، أو أن يكون غير مستقرّ إلى مكتبة، تمدّه بما يقيم عليه كتاباً، يزعم له صفة العلمي؟! لا نعتقد ذلك، ولاسيما في زمن قرّبت شبكات المعلومات الحديثة الشقّة على الباحث! ثم لقد أعاد أبو زيد طبع كتابه هذا ستّ مرات، والطبعة التي نقرؤها هنا هي الطبعة السادسة، وكان بإمكانه أن يُعيد النظر كثيراً في عمله، الذي قدّم له في اليابان، في 18 فبراير 1987. حتى إذا ولي القارئ بصره شطر تلك النوعيّة من الكُتب التي أقام عليها المؤلف مناقشاته وأدار معها حجاجه أو قُل إلى كلّ الكُتب التي بَنَى عليها كتابه ألفاها في القديم لا تعدو كثيراً هاتيك المؤلّفات المنتجة في العصور المتأخرة، المنعوتة حقّاً أو جوراً بعصور الانحطاط في الثقافة العربية والإسلامية، بما ساد فيها من أمشاج آراء، ممّا يعوّل عليه وما لا يعوّل.
فهل يتناسب هذا كلّه مع أطروحةٍ بحجم أطروحة الكتاب، أو عنوان كعنوانه (مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن)، بما يوحي به من أن صاحبه قد نَخَلَ التراث نخلاً، ودرسه درساً، ليستخلص استنتاجاته الجذريّة ويستصدر أحكامه القطعية؟!
(2)
فإذا انتقل بنا النظر إلى فهم أبي زيد للنصوص وجدناه مثلاً، مع عدم توثيق معظم شواهده الشعرية، يخطئ في نقلها، أحياناً، ولا يخلو في استخراج دلالاتها من تكلّف، أحياناً أخرى. مثال ذلك وقوفه على بيت لبيد بن ربيعه:
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها خَلَقاً كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
فقد ضبط (خَلَقاً) بتسكين اللام. ثم انطلق قائلاً: إذا كان تضمّن الحجارة للكتابة لا يُخفيها، والأحرى القول إنه يُبرزها، فإن رؤية الشاعر للكتابة المتضمّنة في الحجارة رؤية لنقوش وأشكال (عارية) عن الدلالة بالنسبة له ... وبهذا المعنى جاء المَثَل: (وحي في حجر) لمن يكتم سرّه ... ولا شكّ أن هذا المثل كان دالاً في ثقافة شفاهية تمثل الكتابة فيها نصَّاً غامضًا مستغلق الدلالة ... أن هذا المَثَل يشبه إلى حدّ كبير ما نقوله في أمثالنا العاميّة من أن (السرّ في بير)، وليس المقصود من ذلك أنه في مكان يستحيل الوصول إليه، بل المقصود أنه مودع في مكان يستحيل على غير من أودعه أن يبحث عنه فيه. وتتعقّد الدلالة بارتباط (البير) في الخيال الشعبي بعالم الأشباح والعفاريت والأرواح الشريرة بشكل عام. أن الدلالة اللغوية للمَثَل لا تنفصل عن النظام الثقافي بأعرافه وتقاليده ومعتقداته.
(3)
حقًّا إن الدلالة اللغوية لا تنفصل عن النظام الثقافيّ، بأعرافه وتقاليده ومعتقداته، إلا أن تفسير المؤلّف لبيت لبيد يبدو محض تكلّف، أراد به الاستدلال على أن الكتابة كانت سريّة ومجهولة الدلالة لدى العرب، ولذلك سُمّيت وَحْيًا. وما كان أغناه بأدلة أخرى عن هذا الاستدلال التعسّفي! ذلك أن خفاء الكتابة على الحجارة الذي أومأ إليه لبيدٌ هو خفاء حسّيّ؛ لأن الرسم قد (عفي) عليه الزمن، و(تأبّدَ) قِدَمًا، و(عُرّي)، حتى صار (خَلَقًا)، باليًا، ومطابق الشبه لآثار الديار التي وصفها:
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها خَلَقاً كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
وليس في النصّ ما يشير إلى أن خفاءه خفاء دلاليّ أو غموض قرائيّ. ولقد بقي الشعراء يستعملون هذه الصورة البصَريّة النمطيّة، سواء منهم من كان في الجاهلية، أو من حاكَى أنماطهم التعبيريّة بعد الإسلام، ومن كان منهم أُمّيًّا أو كان يقرأ ويكتب. ألم يقل عديّ بن زيد العبادي، على سبيل المثال:
لَمِنَ الدارُ تَعَفَّت بِخِيم أصبَحَت غَيَّرَها طولُ القِدَم
ما تَبينُ العَينُ مِن آياتِها غَيرَ نُؤيٍ مِثلِ خَطٍّ بِالقَلَم
وهو حتمًا لا يشير إلى خفاء دلالة الخطّ بالقلم؛ لأن عدي بن زيد العبادي التميمي، ( 36 ق. هـ = 587م)، لم يكن يجيد العربية قراءة وكتابة فحسب، بل كان يجيد الفارسيّة أيضًا. فهو أوّل من كَتَبَ بالعربية كما قيل وكان ترجماناً في ديوان كسرى، بين كسرى والعرب. ومن هنا فصورة لبيد لا تعدو نمطًا تصويريًّا مألوفًا في الشعر القديم، لا يَحتمل ما تمحّله أبو زيد حولها من دلالةٍ على غموض الكتابة لدى أُمّيّي العرب.. هذا أن سُلّم أصلاً بذلك التصوّر الدارج عن أُمّيّة العرب المُطْبِقَة قبل الإسلام. وكذا القول في المَثَل: (وحيٌ في حجر)، فما هو إلا إشارة إلى صعوبة قراءة النقش، وهو أمرٌ معروف اليومَ لدى قارئي أوابد النقوش ومتتبعي آثارها، لا لغموض دلالتها اللغويّة، أو لأُمّيّة الواقف على تلك الكتابات، بالضرورة.
أمّا المثل العامي (سرّك في بير)، فإشارة إلى عمق إخفاء السرّ لدى المتكتّم عليه وعدم إظهاره للآخرين، فهو لديه كخاتم أُلقي في قعر بئر. وما جاوز هذه الدلالة ليس سوى إمعان في التحذلق. تلك علامات على طريق تحليل نصر أبي زيد للنصوص واستقرائه إيّاها.
(4)
فإذا تجاوزنا تلك الملحوظات القرائية إلى أطروحة كتاب (مفهوم النص) إجمالاً، تبدّى أنها في ربطها النصّ بالواقع تُغفل طبيعة النصّ نفسه ووظيفته؛ من حيث هي أطروحة تُحاكمه إلى واقعية السياق الخارجي، وهو ما يؤدي إلى حصره في دائرة (النصّ العلميّ أو التاريخي)، لا النصّ الأدبيّ المُفارق. وعليه، فإن القضية هنا لم تَعُد في الخلاف في النظر إلى النصّ ما إذا كان نصًّا إعجازيًّا مقدّسًا أو نصًّا يتساوق مع واقعه اللغوي والاجتماعي بمقدار ما تتمثّل فيما إذا كان نصًّا ذا طبيعة أدبية أو ذا طبيعة تاريخيّة. وتحليل أبي زيد يكشف عن أنه لا يُقيم وزنًا لهويّة النصّ، أو هو لا يعي تلك الهويّة وخصوصيتها أصلاً! لقد يكون وراء الإلحاح على تأطير النصّ القرآني بوقائع محدّدة هواجس إيديولوجية ترمي إلى تعطيل امتدادات الدلالات إلى عصور أخرى وحالات يمكن أن يصدق عليها النصّ. ولئن فُهم هذا على المستوى الأيديولوجي سعيًا إلى تقليص أصولية إسلامية أو غلوّ فيها فإنها عملية على مستوى الإجراء النقدي تضحّي ب(مفهوم النصّ) وطبيعته الأدبية لتأخذ بمفهوم النصّ التاريخي.
ومن هذا المنطلق لا بدّ أن يتساءل القارئ: لماذا يتم حصر الدلالة في معنى بعينه، بما يستدعي تلازمًا بالضرورة بين الدالّ وذلك المعنى بين الآية وسبب نزول ما؟! أن طبيعة النصّ القرآني بأدبيتها تتخطّى طبيعة النصّ الإخباري، أو التقريري، أو التوجيهي المباشر. ولأجل هذا لا ضرورة مثلاً لربط لفظ (تزكّى) في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}(1415) سورة الأعلى، بفرض الزكاة وزمن ذلك الفرض ولا بالمعنى اللغوي حصرًا دون المعنى الشرعي؛ إذ الآية تحتمل الوجهين: أن تكون بمعنى الزكاة وبمعنى التطهّر والنقاء والصلاح. إلا أن المؤلف قد خاض في هذا (ص92)، مستدلاًّ بالآية وتفسيرها على عدم تفرقة المفسرين بين الدلالة اللغوية والدلالة الشرعية؛ لأن الآية مكية، كما قال: (ولم يكن بمكّة عيدٌ ولا زكاة ولا صوم، وأجاب البغوي بأنه يجوز أن يكون النزول سابقًا على الحكم. والآية في الحقيقة لا علاقة لها بالزكاة بالمعنى الفقهي الشرعي، بل التزكّي هنا مقصودٌ معناه اللغوي...}.
(5)
ألمحنا في نهاية المساق السابق إلى أن طرح نصر حامد أبي زيد في كتابه {مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن، بيروت الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، يصوّر النصّ القرآني كما لو أنه مجرد أوامر بأعمال، لا يتزامن نزولها إلا مع فرض تلك الأعمال دائمًا. وهذا يتنافى مع طبيعة القرآن بوصفه إلى جانب كونه نصًّا تبليغيًّا نصًّا تأثيريًّا، تنبؤيًّا، إيحائيًّا، وذا أسلوب لغويّ أدبيّ متعال، حمّال أوجه، كما قال الإمام علي لابن عباس حين بعثه إلى الخوارج حسب (المرزوقي، الأزمنة والأمكنة)، و(الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار): (لا تناظروهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، ولكن ناظروهم بالسنة، فإنهم لا يكذبون عليها، أو قال: لا يجدون عنها محيصًا}. فقوله: (حمّال)، أي: يحمل عليه كُلُّ تأويل. ولقد رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً أنه قال: {ما نزل من القرآن آية إِلاَّ لها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكل حَرْفٍ حَدٌّ، ولكل حَدّ مُطَّلَعٌ؛ قال أَبو عبيد: قال بعضهم الظهر لفظ القرآن والبطن تأْويله، وقيل: الظهر الحديث والخبر، والبطن ما فيه من الوعظ والتحذير والتنبيه، والمُطَّلَعُ مَأْتى الحد ومَصْعَدُه، أَي قد عمل بها قوم أَو سيعملون؛ وقيل في تفسير قوله: {لها ظَهْرٌ وبَطْن)، قيل: ظهرها لفظها وبطنها معناها، وقيل: أَراد بالظهر ما ظهر تأْويله وعرف معناه، وبالبطن ما بَطَنَ تفسيره، وقيل: قِصَصُه في الظاهر أَخبار، وفي الباطن عِبْرَةٌ وتنبيه وتحذير، وقيل: أَراد بالظهر التلاوة وبالبطن التفهم والتعلّم.} {ابن منظور، لسان العرب، (ظهر}.
وبالجملة، لا يمكن النظر إلى النص القرآني على أنه بمثابة منشور حركيّ مجرّد! وهكذا، فإن واقعيّة أبي زيد تُغفل خصوصية النص وطبيعته العضويّة، من حيث إمكانية تعدّد الدلالات فيه، وتحليقها بعيدًا عن قيد حادثة سياقيّة بعينها! ولئن سلّمنا مع أبي زيد بأن (تطوّر وعي الجماعة يجعل من النصوص إمكانية مفتوحة دائمًا للتعبير عن وقائع جديدة)، (ص95)، فلا بد من القول إنه يقف إلى هذا أيضًا قابليّة النصوص الطبيعيّة لذلك التطوّر أصلاً. ولذلك قد يبدو في المحصّلة النهائيّة أن الفصل بين مكيٍّ ومدنيٍّ في القرآن بلا معنى دلاليّ بالغ الأهمية؛ بما أن نص القرآن أكثر انفتاحًا من ارتهانه إلى وقائع مكيّة أو حوادث مدنيّة، إن الارتهان إلى السياق الخارجيّ للنص بهدف تأويله يُلغي طاقته، ويُفقر دلالته.
صحيح أن السياق الخارجي (المناسبة السبب) مهمّ في إلقاء الضوء على دلالة النصّ، إلا أن ربط النص ذي الطبيعة الأدبية بذلك السياق بشكلٍ حتمي ونهائي وحصريّ ينفي عنه تلك الطبيعة، ويحوّله إلى نصٍّ جامد ووثيقة علميّة بحتة. وما هكذا النصّ القرآني! وإذا استأنسنا هنا بنظرية (رومان ياكوبسون} (Jakobson, R. , Closing statements: Linguistics and Poetics) في صدد النصّ ذي الطبيعة الأدبيّة، فإنه يشير إلى أن ذلك النوع من النصوص يركّز على نفسه، ومن ثَمّ فلسياقه الداخليّ (النصوصيّ) الأهمية القصوى، لا سياقه الخارجيّ.
ومع أن أبا زيد يكرّر في كتابه القول إن سيطرة قوى التخلّف كانت وراء ما يسميه (الفصل بين النص والواقع)، (ص99-100 مثلاً)، فإنه لا يمكن الربط بين قوى التخلّف تلك وسيطرتها على الواقع من جهة وحقيقة النصّ القرآني وطبيعته من جهة أخرى، تلك الحقيقة والطبيعة التي تتجاوز الواقع التاريخيّ الجزئيّ. غير أنه يمكن القول، بالمقابل: إن التخلّف ماثل لدى أبي زيد نفسه في عدم تمييزه هذا بين طبيعة النصّ القرآني والنصّ التاريخي، بل ربما عدم فهم معنى الواقعية، أو علاقة النصّ بالواقع، حتى لدى أكثر المدارس واقعيّة(1). فها هنا تخلّف نقديّ نصوصيّ ينغمس فيه أبو زيد؛ من حيث إنه وإن لم ينف بشكل مطلق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب يظل يضيّق بمنهجه التأطيريّ الواقعيّ طاقة النصّ الدلاليّة. على أن القول بأن الأصل هو (عموم اللفظ) لا يتنافى مع الحالات الخاصّة التي يلزم الأخذ فيها ب(خصوص السبب)؛ بما أن النصّ القرآنيّ هو نصّ إعجاز وتشريع. غير أن الحالات التي استشهد بها (أبو زيد) لإثبات ضرورة الأخذ بخصوص السبب، كمراحل تحريم الخمر، أو حصر المحرمات، {ص104- 106)، لا شاهد له فيها أصلاً على إهدار عمومية اللفظ لخصوصية السبب، وإلا لانتفت دلالة بعض تلك الآيات في القرآن. وإنما تأتي أهمية السياق الخارجي في تلك الآيات ليفيد في تفصيل الدلالة على الحكم الشرعي، لا لإلغاء عموم دلالتها إلغاءً.
ولمزيد من الإيضاح، لننظر إلى الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (219) سورة البقرة. فهي لا تتنافى مع حرمة الخمر، ليقال إنها قد قُيّدت دل التها من بعد، بل هي لا تحمل تحليلاً ولا تحريمًا مطلقًا، وإنما تُوازن بين المنافع في مادة الخمر والإثم. وحكم تحريم الخمر لم يقتض نفي تلك المنافع المشار إليها في الآية، صحيةً كانت أو تجارية، للعرب أو لغير العرب، مما فصّل القول فيه على سبيل المثال (ابن قتيبة) في كتابه (الأشربة}. كما أن الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} {43} سورة النساء. تظلّ عمومية دلالتها قائمة، وإن جاء تحريم الخمر في آية أخرى عامًّا، في صلاة أو في غير صلاة؛ لأن منطوق الآية هنا لم يَقُل بتحليل الخمر في غير الصلاة، ولم يستلزمه. من حيث إن الصلاة فرض على كل مسلم، وإن كان شاربَ خمر، فشُربه الخمرَ لا يخرجه من الملّة، ولا يُسقط عنه فرض الصلاة والتزام شروطها! ومن هذا المنطلق لا يمكن القول إن تلكما الآيتين قد قُيّدتا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) سورة المائدة.
إذ إن لكل آية من تلك الآيات سياقها النصي ودلالتها الخاصة. وعليه، لا معنى لتساؤل أبي زيد، بعد تحليله تلك الآيات ذلك التحليل الموروث المتناقل الذي يعرفه الجميع: (هل من المنطقي بعد ذلك أن يتمسّك العلماء بعموم اللفظ دون مراعاة لخصوص السبب؟}. فلئن سلّمنا ببعض الحالات التي يلزم الأخذ فيها ب(خصوص السبب) لإثبات حكمٍ شرعيٍّ محدّد، فإن استدلال أبي زيد بما استدلّ به قابلٌ للنظر، كما رأينا، وقابل للتخريج من داخل النص نفسه لا من خارجه، كما أراد ومن ثَمَّ فهو استدلال لم يُثبت لنا قَطّ بطلان (منطقية ما تمسّك به العلماء}. أما استدلاله الآخر بالآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} (173) سورة آل عمران، وقوله: (يمكن أن يكون مثالاً لعموم اللفظ وخصوص الدلالة، فليس من المُتَصَوَّر أن يكون لفظ (الناس) في هذا النص دالاًّ على (جميع الناس)، وإلا كان جميع الناس قائلين لجميع الناس إن (جميع الناس) قد جمعوا لكم)، (ص107}.
فمن الغرائب حقًّا، سواء من قِبَل أبي زيد أو من قِبل القدماء الذين خاضوا في هذه الآية، هكذا بلا مسوّغ، سوى افتعال شيء من لا شيء؛ وذلك كالزركشي، في (البرهان في علوم القرآن)، الذي يتقوّى أبو زيد بالاستدلال به غالبًا. إذ التوقّف عند مثل هذه البدهيات، الموجودة في شتى اللغات، وفي مختلف مستويات التعبير، لا يُثبت شيئًا في قضية عموم اللفظ وخصوص السبب، وليس المتلقّي العاقل، فضلاً عن العارف بنواميس اللغة، في حاجة أبدًا إلى معرفة سبب النزول ها هنا، وأن لفظ (الناس) الأول إشارة إلى (نعيم بن سعيد الثقفي)، ولفظ (الناس) الثاني إشارة إلى (أبي سفيان) وأصحابه! ولا في حاجة إلى القول له: إن لفظ (الناس) لا يقتضي التوهّم بأن المقصود (الناس كافة) بل ناس من الناس، ولا سيما لما يعرف في العربية من أن (أل) التعريف تأتي للعهد، كما تأتي للجنس! فأي مماحكة استدلالية إذن من خلال نصٍّ فهمه العربي الأميّ، ولم يشكّل لديه أي إشكال؟! ثم ما علاقة مثل هذا بموضوع عموم اللفظ وخصوص السبب وأسباب النزول؟!
(6)
إن مغالاة نصر حامد أبي زيد حسب كتابه (مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن)، (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، في نظرته إلى أهمية السياق الخارجي لتقرير دلالة النص القرآني، والتنقيب عن المرويّات والأخبار التي تثبت ذلك، بل مسعاه إلى تقييد النص القرآني بها، ما تفتأ تتغافل عن طبيعة النصّ القرآني، لترتهنه إلى نطاق دلاليّ وثائقيّ محدود، متعلّق بحوادث جزئية من التاريخ، من العسير القطع بصحّتها. وقد رأينا ملامح من ذلك في المساق الماضي، كان آخرها استدلاله بالآية الكريمة: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً) (سورة آل عمران، الآية 173}. وقوله إن نص هذه الآية: يمكن أن يكون مثالاً لعموم اللفظ وخصوص الدلالة، فليس من المُتَصَوَّر أن يكون لفظ (الناس) في هذا النص دالاًّ على (جميع الناس)، وإلا كان جميع الناس قائلين لجميع الناس إن (جميع الناس) قد جمعوا لكم، (ص107}. وقد أشرنا إلى أن التوقّف عند مثل هذه البدهيات، الموجودة في شتى اللغات، وفي مختلف مستويات التعبير، لا يُثبت شيئًا في قضية عموم اللفظ وخصوص السبب، وليس المتلقّي العاقل، فضلاً عن المتلقّي العارف بنواميس اللغة، في حاجة أبدًا إلى معرفة سبب النزول هاهنا، وأن لفظ (الناس) الأول إشارة إلى: (نعيم بن سعيد الثقفي)، ولفظ (الناس) الثاني إشارة إلى: (أبي سفيان) وأصحابه! ولا في حاجة إلى القول له: إن لفظ (الناس) لا يقتضي التوهّم بأن المقصود (الناس كافة)، بل ناس من الناس، ولاسيما لما يُعرف في العربية من أن (ال) التعريف تأتي للعهد، كما تأتي للجنس! وما تلك إذن إلا مماحكة استدلاليّة من خلال نصّ فهمه العربي الأميّ، ولم يشكّل لديه أي إشكال في الفهم؟!
والأغرب أن أبا زيد يُقرّ ضمن دليله ذاك نفسه بأن (بنية النصّ ذاته تؤكّد على خصوص مدلول (الناس) في كل لفظ من هذه الألفاظ، بحيث يكون القائلون غير المخاطبين غير الغائبين}. فما دام المدلول كامنًا في بنية النصّ ذاته، إلى يوم القيامة، فأي وجه يبقَى للاستدلال به على أنه لولا (السياق الخارجي سبب النزول) لضلّ الناس مفهوم النصّ؟! إلا أن أبا زيد سيُردف تناقضه هذا بغريبة أخرى، إذ يقول من فوره: (إن الألف واللام في كلمتي (الناس) ألف ولام الجنس (كذا)، ولكنها ألف ولام العهد التي لا تنكشف إلا بالعودة إلى أسباب النزول). (ص108}. وهذا يعني أن العرب الذين تنزّل الوحي فيهم، ومفسري القرآن الذين قاموا على دراسة النصّ القرآني ناهيك عن العجم من المسلمين كانوا سيظلّون يتصوّرون أن لفظ (الناس) في النص دالٌّ على (جميع الناس)، وأن (جميع الناس) قالوا ل(جميع الناس) إن (جميع الناس) قد جمعوا، لولا أن تداركتهم رحمة من ربهم بكشف هذا الوهم عن طريق اكتشاف سبب النزول، وأن لفظ (الناس) الأول إشارة إلى: (نعيم بن سعيد الثقفي) فقط، ولفظ (الناس) الثاني إشارة إلى: (أبي سفيان) وأصحابه، دون غيرهم من البشر
هذا، وإن منهج نصر أبي زيد ليردّ على نفسه بنفسه من الناحية الإجرائية أيضًا، وذلك من خلال ما يقرّ به من: أن (معرفة سببِ نزول كثيرٍ من نصوص القرآن على سبيل القطع واليقين ليست دائمًا مسألة سهلة متاحة. فقد نجد روايات متعدّدة تطرح أسبابًا مختلفة لنزول آية بعينها). (ص108– 109}. فما دام الأمر كذلك، فلا مجال للركون العلميّ إلى ما يكتنفه الشكّ والاضطراب والاختلاف. كيف لا، وقد تمّ في الصدر الأول للإسلام إهمال التدوين لما عدا النصّ القرآني، بما في ذلك تدوين المرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما دوّنت المرويات والأخبار بعد عشرات السنين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم، في عملية مضنية، لم تكتمل تقريبًا إلا في القرن الثالث الهجري. بل لقد ظلّت ميدان جدل، وتصحيح وتضعيف، إلى العصر الحديث.
إذ كانت قد سالتْ أودية المرويّات بقدرها ولا سيما منذ الصراع الأمويّ العلويّ ولأسباب سياسيّة وغير سياسيّة، ما دفع إلى محاولات واسعة لضبط تلك المرويّات وتنقيتها من غير الصحيح فيها أو الواهي، وذلك حسب شروط اجتهادية سنّها المصحّحون، على أسس منهجيّة رأوها مقاربة حسب زمنهم لتوخّي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل إنه باستثناء السنة العملية التطبيقية كان هناك في الصدر الأول للإسلام التحفّظ، وأحيانًا التحذير والنهي الشديد، عن التكثّر من تلك المرويّات، أو كتابتها، اكتفاءً بالقرآن، وشواهد ذلك متعدّدة. فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، مثلاً، فيما يورده (مُسْلِم)، في صحيحه، (شرح النووي،ج18)، قوله: «لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن. ومن كَتَبَ عني غير القرآن، فليمحه!». كما أورد (البغدادي، الخطيب، تقييد العلم، تح. يوسف العش (ط. دمشق: 1949)، 34، رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: (ما هذا الذي تكتبون؟)، قلنا: (أحاديث نسمعها منك). قال: (كتاب غير كتاب الله؟! أتدرون؟ ما ضلّ الأُمَم قبلكم إلاّ بما اكتتبوا من الكُتب مع كتاب الله تعالى}}. وجاء في (الذهبي، تذكرة الحفّاظ، (ط. الهند: 1333)، 1: 3): أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جمع الناس فقال: (إنكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرموا حرامه}. وجاء فيه (1: 5)، رواية عن الحاكم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلّب، ولمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فبعثته بها فأحرقها. وقال: خشيتُ أن أموت وهي عندكِ، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد تقلّدتُ ذلك}. وكذا روى (ابن عبدالبر، جامع بيان العلم وفضله، (المطبعة المنيرية)، 1: 64-65)، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أنه (طفق يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: إني كنتُ أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا قبلكم كتبوا كُتبًا، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا). إلى غير هذا.
فإذن لم تكن كتابة لغير القرآن في صدر الإسلام. وإذا كان هذا في مجال كتابة الحديث، فكيف بتسجيل الحكايات التاريخية المتعلقة بأسباب النزول أو غير أسباب النزول؟! ثم لو كان لذلك كله تلك الأهمية المصيريّة، التي أراد أن يُعوّل عليها نصر حامد أبو زيد في الوعي بالنصّ القرآني، وتحديد معناه وتقييد مغزاه، لما أُهمل تسجيله إهمالاً في تلك المرحلة التي كانت منطلق الدعوة بل لما غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو صاحب الرسالة الخاتمة، والمكلّف، الأدرَى بضرورات تبليغها الكامل أن يأمُر، لا أن ينهى، بضرورة رصد أسباب النزول، وتدوين تلك الأسباب والحوادث جنبًا إلى جنب مع النص القرآني لتكون عليه مهيمنة، كما يبدو من مسعى أبي زيد اليوم، وبعد أربعة عشر قرنًا من تاريخ أُمّة القرآن!
كاتب من السعودية
هوامش:
{1}ـ ينظر في هذا مثلاً: هلال، محمد غنيمي، (1987)، النقد الأدبي الحديث، (بيروت: دار العودة)، 292