يوسف الخطيب، أو كما دعاه البعض شاعر البعث. ربما، لكن يوسف الخطيب سيدٌ يمتد على الوطن الكبير والعقل العروبي الاشتراكي بكل مداه. هو متنبي المرحلة. لعل الجانب غير المرئي من حياة ودور المتنبي أنه كان شاعر الأمة العربية وحتى القومية العربية في عصر هجمة الشعوبية عليها. وكان المتنبي يرى مركزية وحدة الشام ومصر، ومن هنا كان طموحة لولاية يقودها مأخوذا بوحدة الرئتين للوطن. لقد اسس المتنبي لفكرة لم يكتشفها الكثيرون في علم الاجتماع السياسي وتحديداً مسألة القوميات، أن الأمم القديمة كانت لها ايضاً مشاعرها ونضوجها ومشاريعها القومية، وهذا بخلاف من يقتفون بسذاجة أو بغطٍّ نومٍ عميق في أطروحة الغرب بأن الأمم والقوميات صناعة الغرب الرأسمالي وتنظيرات ستالين الاشتراكية.
هذا ما ارتكز عليه يوسف الخطيب طوال حياته ولم يتزحزح قيد أُنمله وليس سهلاً على مثقف من العالم الثالث وخاصة العربي ان لا تأخذه أهواء التخارج إلى الغرب برأسمالية وثقافته الوحدانية وما تعج به من مدارس تُغري بالتقليد وحتى الخضوع والخروج عن الأصالة والواقع.، ولذا هو شاعر القومية العربية والأمة العربية. ومتى؟؟؟ في قرن أو حتى عصر استهداف هذه الأمة. ولكن، أمام تشوهات المرحلة، قد يثير هذا استهجان كثرة من الناس بين بسيط وطيب وبين متخارج ومتغربن. فالطبيعي أن يكون المرء وطنياً بحكم العلاقة بالحيِّز على الأقل، ولكن التشويهات التي طرأت، وفي كثير من الأحيان تعمقت، في أوساط مثقفين وأحزاب في الوطن العربي أوصلت الكثيرين ووصلت بهم إلى إسقاط مقولة الوطن، وتشويه هذا الفضاء إلى درجة اعتباره مجرد مكان. والمكان هو حالة بدائية كالزمان لا يخص أحداً ويكتنف الإنسان والحيوان على حد سواء. صحيح ان الحيوان لا يعرف بوعي بل بالفطرة المكان والزمان. ولذا، يتنقل من مكان إلى آخر بحكم العادة والغريزة والضرورة. ومن هنا خطورة تعاطي الإنسان مع الوطن كمكان يغادره حين يجد مكاناً أكثر إغراءً. وربما من هذا المدخل تحديداً، لا يكترث الكثيرون من المثقفين العرب بالأجزاء الواسعة المغتصبة من الوطن العربي بدءاً من سبتة ومليلة في جبل طارق وصولاً إلى الأهواز والإسكندرون، ناهيك عن فلسطين وقد لا يكون آخرها جنوب السودان. هذا التمسك بالوطنية العربية هي الحبل السُرِّي بين يوسف الخطيب وابي الطيب رحمهما الله.
هناك مبدعون عرب وفلسطينيون، لكن العبرة في موقف وموقع واستمرارية الانتماء للوطن والأمة باكثريتها الفقيرة والمسحوقة. قل لي رضى من تبغي أقل لك من أنت! هنا يركع الإبداع للانتماء. فالانتماء تاريخي أكثر اصالة من الإبداع، ولا يكون الإبداع اصيلا دون انتماء.
فالمسألة إذن أن تبقى عروبياً، وليست المسألة أو المشكلة أن تكون عروبياً قومياً أو شيوعياً، أو وجودياً او صوفياً...الخ ليس الخلل في الاختيار الفكري بل الخلل في التخلي عن الوطن في حقبة من التاريخ تشتبك الأمم اساساً على الأوطان. قد تفيد الإشارة هنا أن الشركات الغربية اليوم تشتري اقطاراً بأكملها في إفريقيا وتحول الفلاحين الأصلانيين هناك إما إلى عبيد أرض، وحتى عبيد في أرضهم، إو إلى أكوام من البشر على قارعة الطرق المغبرَّة! ذلك ما أفرزته الأزمة المالية الاقتصادية العالمية في بحثها عن توظيف لفوائضها الهائلة من الأموال الكسولة.
ظل يوسف الخطيب عروبياً حتى رحل، وماذا نريد منه غير هذا؟ لا سيما في حقبة من الزمن ينزلق الوطن من تحت اقدامنا، في فلسطين والعراق والصومال والسودان وسوريا وليبيا، ونجد من يصفق لذلك من اوساطنا إما بالسذاجة او الجهل أو استدعاء "حضارة الغرب الرأسمالي" أو الخضوع الأداتي لسادته، ويا ليتهم سادة حقاً اوغاد الغرب هؤلاء!!
بين الروح والأقدار ارتباط صراعي ووحدة جدلية قد لا نراها، لكنها هناك. هل هي قوة الروح التي "طعجت" الأقدار فامتد الزمان بيوسف الخطيب، وفي الوطن وليس المكان، ليشهد ما أحب ووقف عمره عليه ولهُ: التغيرات والثورات والانتفاضات في الوطن العربي؟ ورأى كيف تهجم ذئاب الليل على القطر السوري لتلحقه بالعراق؟ هل أقفل باب القلق على هذه الأمة متأكداً أن:
أمة العرب لن تموت وإنِّي.............. أتحداك باسمها يا فناءُ
لحظتها، قرر الرحيل متعباً ولكن مرتاحاً،
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش........... ثمانين حولاً لا ابا لك يسأمِ
أما وقد ولد الرجل في قرية ثم مدينة دورا في جبل الخليل واختار مسكنه العمري والأبدي في دمشق، فكأني به يرقد مرتاحاً ليكتب الشعر أكثر عن وطن القوميات المتآخية في هذه الوطن عربا وأكرادا وأمازيغ وغيرهم، وليس الصهاينة حتى لو كتب المطبِّعون/ات فيهم ملاحم المعلقات السبع أو ملحمة هوميروس. وكأن لسان حاله يقول، سيكون هذا الوطن لأهله ولن يظل قُطرياً وسيكون اشتراكياً، فلا بد من صنعا وإن طال السفر.