إشارات وبيبليوجرافيا

ولد يوسف الخطيب في بلدة دورا قضاء مدينة الخليل الفلسطينية عام 1931. تلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم انتقل ليكمل دراسته الثانوية في مدينة الخليل، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية في الأردن قبل أن يتوجه إلى دمشق سنة 1951 حيث التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية حيث تخرج منها سنة 1955 بإجازة في الحقوق، ودبلوم اختصاص في الحقوق العامة. وأثناء دراسته الجامعية انتسب يوسف الخطيب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. في سنة 1955 قام طلبة الجامعة السورية بإصدار أول ديوان من شعره بعنوان (العيون الظماء للنور)، وهو عنوان القصيدة التي فاز بها بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الآداب والتي نظمت على مستوى الوطن العربي آنذاك. عمل في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957، حيث غادر الأردن عقب أزمة حكومة سليمان النابلسي والتحق بالعمل في الإذاعة السورية. وفي هذه الفترة أصدر ديوانه الثاني بعنوان (عائدون) عام 1959.

أثر ملاحقة البعثيين إبان الوحدة السورية المصرية لجأ إلى بيروت، ومنها إلى هولندا حيث عمل في القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية. لكنه عاد إلى العراق إثر ثورة 8 شباط ومنها إلى سوريا حيث استقر فيها بشكل نهائي. بعد فترة وجيزة من عودته أصدر ديوانه الثالث بعنوان (واحدة الجحيم) عام 1964، وفي عام 1965 تولى منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام 1966، ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون والتي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها إصداره (للمذكرة الفلسطينية) ما بين الأعوام 1967- 1976. وفي نفس العام الذي ترك فيه الخطيب العمل الحكومي، شارك في أعمال الهيئة التأسيسية (لاتحاد الكتاب العرب) في سوريا، وأسهم في وضع نظامه الأساسي، والداخلي. وفي عام 1968 اختير بإجماع القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (عن المستقلين)، وما يزال يحتفظ بموقعه كما شارك في المؤتمر العام التأسيسي (لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين المنعقد في بيروت) وتم انتخابه لنيابة الأمانة العامة للاتحاد.

في عام 1988 نشر يوسف الخطيب ديوانين اثنين، أحدهما بعنوان (بالشام أهلي والهوى بغداد) والآخر بعنوان (رأيت الله في غزة) وهما آخر ما صدر للشاعر من دواوين مكتوبة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر أصدر سنة 1983 أول ديوان سمعي في الوطن العربي على أربعة أشرطة كاسيت تحت عنوان (مجنون فلسطين).

اعماله الشعرية
العيون الظماء للنور - طباعة مجموعة من طلاب الجامعة السورية عام 1955.
عائدون - عن دار الآداب اللبنانية 1959.
واحة الجحيم - عن دار الطليعة اللبنانية عام 1964.
مجنون فلسطين: ديوان سمعي - عن دار فلسطين 1983.
رأيت الله في غزة _ عن دار فلسطين بدمشق عام 1988.
بالشام أهلي والهوى بغداد _ عن دار فلسطين بدمشق عام 1988.

كتابات أخرى
عام 1968 صدر للشاعر عن دار فلسطين مؤلفاً بعنوان (يوان الوطن المحتل) يضم مجموعة من قصائد ودواوين شعراء فلسطين المحتلة عام 1948، أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، إضافة إلى دراسة بقلم الشاعر عن الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة. كما صدرت للشاعر مجموعة قصصية وحيدة (عناصر هدامة)عام 1964 عن المكتبة العصرية بلبنان، إضافة إلى سيناريو أدبي بعنوان مذبحة كفر قاسم، وقد حرص الخطيب على ترجمة هذا السيناريو إلى كل من الإنكليزية، الفرنسية، والألمانية.

المذكرة الفلسطينية
تعتبر المذكرة الفلسطينية أبرز إصدارات دار فلسطين، وأكثرها تأثيراً ورسوخاً في الذاكرة. حيث قام الخطيب بتسجيل يوميات (القضية الفلسطينية) فيها بالاستناد إلى عدد من المراجع الهامة في هذه القضية، وقد دأب على إصدارها لمدة تسع سنوات (من 1967- 1976) بخمس لغات عالمية، هي العربية، الإنكليزية، الفرنسية، الإسبانية، والألمانية.

رأى أعماله الشعرية الكاملة قبل رحيله بعد أن طبعها الاتحاد العام للكتّاب في فلسطين
قبل رحيله بأسبوعين أنجز الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبمتابعة وتعاون مع دار فلسطين وبيت الشعر الفلسطيني لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الكبير والتي جاءت في ثلاثة مجلدات من القطع الكبير مصحوبة بثلاثة أقراص ليزرية بصوت الشاعر وبطباعة فنيّة أنيقة وهي المرّة الأولى التي تصدر أعماله كاملة بعد منع دام ستين عاماً واحتجاب عن الدول العربية وفلسطين. وقد جاء المجلّد الأول بعنوان : "العندليب المهاجر" في (345) صفحة حيث اشتمل بمقدمة (على كرسي الاعتراف) حيث جاءت في (55) صفحة.
فيما جاء المجلد الثاني بعنوان : "سيأتي الذي بعدي" في (318) صفحة وبمقدمة بعنوان "جنس الشعر الفني بين الصائت والصامت" في (55) صفحة.
فيما جاء المجلد الثالث بعنوان : "امنع الخمرة عني" في (384) صفحة وبمقدمة بعنوان :"في التحدي والاستجابة على مستوى النقد والإبداع - بين احتراق الفراشة.. وانسحاب الخفاش"، حيث جاءت في (26) صفحة.
حيث اشتملت قصائد المجلدات الثلاث على تقديمة وافرة لظروف كتابة القصائد وفضائها الإبداعي، ما شكل سيرة موازية للشاعر وهي سيرة غنية بامتياز.
وقد استمرّ التواصل مع الشاعر ثلاث سنوات من أجل إصدار هذه الأعمال، حيث قام بيت الشعر بمونتاج الأعمال، ثم طلب الشاعر أن يقوم بمونتاجها عن دار فلسطين التي يشرف عليها الشاعر لأنه أراد مونتاجاً مختلفاً تخفيفاً للأعباء على بيت الشعر، حيث سلّم الأعمال والغلاف جاهزاً للطباعة في بيت الشعر، ونظراً لغياب الموازنة تبنى الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الطباعة ديناً تأكيداً على مقولة الراحل ودوره حتى يرى أعماله قبل رحيله وهذا ما كان تفكيكاً للحصار على الشاعر.
وكان من المفترض أن يقوم الاتحاد العام للكتّاب وبيت الشعر بإطلاق الأعمال في دورا - مسقط رأسه قبل أسبوع، حيث طلب الراحل من الشاعر مراد السوداني أن يصعد إلى الطابق الثاني من مدرسة دورا ليطلّ على الساحل نيابة عن الشاعر. كما زوّد الشاعر قبل أسبوع الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر بخمسماية قرص ليزري لتوضع ضمن المجلدات وهي تسجيلات شعرية ذاتية بعنوان (مجنون فلسطين). بالإضافة لثلاثة آلاف وخمسماية قرص ليزري أرسلها لسفارة فلسطين بعمان تمهيداً لوصولها للاتحاد وبيت الشعر وهي على نفقة الشاعر الخاصة ودار فلسطين.

وعن ظروف ومكابدات إصدار هذه الأعمال الاستثنائية لهذا الراحل الكبير نقتبس ما جاء في المقدمة حيث كان الشكر والعرفان من قبل الشاعر وثم مكابدات آلية طباعة الأعمال كما جاء على لسان الشاعر في تقديمه (على كرسي الاعتراف) :

على كرسي الاعتراف
أول مَن أَتـَـوَجَّهُ إليه بالشكرِ والعرفانِ، في مُستَهَلِّ هذا الديوان، هو قارِئُهُ الكريم بِحَقِّ مَعنى الكلمة.. لا لأنه يمثل إِسهاماً عملياً محسوساً في تَرويجِ «بِضاعتي الشعريةِ هذه»!!.. فَتِلك في الحقيقة هي الغايةُ التسويقية الأَميركيةُ، المُبتَذَلةُ، التي نَبَذْتُها على امتداد ثمانين سنةً من العمر، وَأَشدُّ ما أَنـبُـذُها الآنَ على مَقرُبةٍ من حافَّةِ القبر.. وإِنما أشكُرُ «قارئي الكريمَ» هذا، لمجرد استعداده الشهم والشجاع لأن يُشاطِرَني بعضاً من معاناة هَـمِّيَ الخاصِّ.. في جَهَنَّمِ هذا الشأنِ العام!!..
وأَشكرُ، ثانياً، مجموعةَ أُولئِك الشُبَّانِ الفِلسطينيين، مِن مُراد السوداني، إلى يوسف المحمود، إلى سائر أَترابهم الآخرين، مِـمَّن قرعوا علي باب صومعتي في دمشق، مُطالبين بِمـا هو «حَقُّهم.. وَوَاجِبي» في آنٍ معاً، بأن أُسلِّمهم، أخيراً، هذه «الأمانةَ الشعريَـةَ المتواضعة»، بِسبيلِ إِيصالِـها، بإِمكانياتهم الخاصة، إِلى هَيئتِنا العربيةِ القارئة..
وأشكر، ثالثاً، جميعَ أَفرادِ قَبيلتي الصغيرةِ الذين ساعدوني بِأقدارٍ مُتفاوتة في إِعدادِ هذا الديوان.. رفيقةَ عُمري بَهاء.. وإِنجاباتيَ السبعةَ منها.. بادي، وباسل، وَوَضَّاح، وأَسيل، وهديل، وتَلِيد، وأنـْدى.. خاصَّاً بالذكر أكبرَ الأبناءِ منهم «بادي».. وأصغرهم «تليد».. لـِما بَذَلاهُ من جُهْدٍ جهيدٍ في كلِّ ما يتعلق بهذه الأعمالِ الشعريةِ من تسجيلٍ وتنضيد..
بين واقعتين !!
لقد وقع لي، عملياً، من بعد كارثة حزيران العظمى عام 1967، ان سيقت جميع قصائدي السابقة لذلك التاريخ الأسود - ومن ثَمَّ اللاحقة له- إلى قفص اتهام تفتيشيٍّ إسبانيٍّ جهنميٍّ، بدعوى أنها المسؤولة -(ضمن غيرها من إبداعات كثيرين آخرين)- عن التسبب في وقوع تلك الكارثة الفاجعة، من حيث رَفَضَتْ قريحتي البَريِّةُ المُشاكِسة مبدأ الامتثال المهذب الأعمى لقرار هيئة الأمم المتحدة في سنة 1947 بتأسيس دولةٍ لحثالات أوروبا اليهودية فوق أرض فلسطين، ولأنها نبذت أيضاً كل مفهومٍ خانع للسلام على أساس ذلك القرار الشيطاني الرجيم، صارخةً في برِّيَّـة الخيبة السياسية العربية –(حتى منذ عام 1954)- ضد «أكذوبة السلام» التي ما تزال رائجة إلى يوم الناس هذا!!..
«لا سلمَ، إن اللاجئين اليوم أعداء السلامِ!!..
«حتى تفيض عدالة التاريخ من حد الحسامِ!!..
ولكن، وبما أن قرار التقسيم الإجرامي الآنف الذكر، سرعان ما اكتسب صفة القانون الدولي، بمعيار الحضارة الغربية الآيلة حتماً إلى السقوط المريع..
فها أنذا الآن، ربما في السنة السادسة أو السابعة من بعد الألفين في دمشق، ولم يعد لي أي حضور أدبي أو معنوي يستحق الذكر على سطح القشرة الظاهرة من حياتنا الثقافية المعاصرة .. ولكنني على الرغم من كل ذلك التغيُّب، أو التغييب، لم أتراجع يوماً عن محاولة الصعود بخطِّ بياني الشعري، أعلى فأعلى، ليس كملاذٍ نفسي من واقع ما أعانيه من حصار خارجي خانق، وإنما كاستجابة إنسانية معافاة لتحديات ذلك الحصار الذي أعلم جيداً أنه ليس قاصراً عليَّ بمفردي، وإنما يشتمل في الوقت نفسه، وبالقدر ذاته، على جميع «أرثوذكس» القضية الفلسطينية المتشبثين بجذورها العميقة، كأصل وأساسٍ لمجمل القضية العربية بأكمل ابعادها، ولم «يتكثلكوا» يوماً في متاهاتها الفروعية المتبدِّلة والمتساقطة بطبيعتها. ذلك، إلى أن اجتمعتْ لي فجأة، وفي آنٍ معاً، واقعتان اثنتان على درجة من التناقض والغرابة في آن..
في الواقعة الأولى: هنالك امرأةٌ فلسطينية -(تعرفني وأعرفها جيداً.. وتتعاطى كتابة الشعر، وتدريسه، وترجمته إلى اللغة الإنكليزية)- قامت مؤخراً بمسحٍ أنطولوجي شامل لشعرنا الفلسطيني في مجلد منتفخ.. ولشعرنا العربي المعاصر بعمومه في مجلد ثان لا يقل عنه انتفاخاً.. وذلك لفائدة جامعة كولومبيا الأميركية في نيويورك.. فدفعني الفضول فوراً إلى معرفة القصيدة التي لا بد أن تكون قد اختارتها من بين أعمالي الشعرية.. فإذا بي أمر بأسماء ثلاثة وستين شاعراً فلسطينياً معاصراً –(فلنقل من ابراهيم طوقان، حتى يوسف أبو لوز، على سبيل المثال)- ولكن السيدة المختارة لم تجد لي موقعاً بينهم !!..
فقلت لنفسي، لا بد أن المرأة قد جردتني من هُوِيَّتي الإقليمية الفلسطينية، باعتبارها إِيايَّ شاعراً قومياً عربياً بالدرجة الأولى!!.. فَرُحتُ إلى مجلدهاالثاني الشامل لشعرنا العربي المعاصر بِقَضِّهِ وقضيضه، فكذلك الحال لم أجد لي موقعاً فيه ضمن خمسة وتسعين إسماً، يتراوحون في ألوانهم الفنية المتباعدة ما بين كلاسيكية بدوي الجبل، حتى نثرية سرجون بولس. فعند ذلك لم أعد بأدنى حاجة، لأي برهان إضافي، على أن «سَدَنَة المحفل الثقافي الصهيوني عندهم»، قد بلغوا بِحُكمِهم عليَّ بالإعدام، إلى درجة الإبرام.. ولكنني شعرت في الوقت نفسه بأن حكمهم هذا لن يستحق في آخر الأمر ما هو أكثر من أن يداس تحت الأقدام!

وأما في الواقعة الثانية: وعلى النقيض من الأولى بمئة وثمانين درجة، فأمامنا الآن رجل فلسطيني هذه المرة، ربما يصغرني –(عُمْراً، لا قَدْراً)- بقرابة أربعين سنة، وهو يعرف عني أشياء ولا أعرف عنه أي شيء، ويقيم في مَصِيفنا الفلسطيني الأجمل «رام الله»، بينما أقيم بعيداً عنه دمشق.. وهاهي اتصالاته الهاتفية معي تتلاحق كزخِّ المطر، ومَطْلَبهُ الرئيسي فيها هو أن أكون على أُهبةِ الاستعداد للحضور بكامل غَلَّتي الشعرية، والفكرية، أمام الجمهور، على أن يقوم هو وأَترابٌ له يحرسون تراب فلسطين، بإصدار جملة هذه الأعمال على مسؤوليتهم الخاصة، وفي حلة طباعية معقولة .. واسم هذا الرجل..
مراد السوداني .. من دير سودان أصلاً .. من أعمال رام الله..
ثم ها هو مراد السوداني في زيارة لاحقة لدمشق، وربما كان معه الشاعر الطيب يوسف المحمود، وآخرون طيبون من رَحِمِ فلسطين الطَّهُور، ولكن أحداً منا لم يتمكن من رؤية الآخر، فترك لي رسالة خطيَّةً، عفوية، استأذنته في اقتطاف بعض سطورها لسيدي القارئ، فأَذِنَ لي بذلك.. ويقول فيها:
«رسالة مفتوحة إلى الوالد الشاعر
«يوسف الخطيب.. سيف فلسطين الأتَمّ..
«الوالد الشاعر الكبير يوسف الخطيب، حفظه الله ورعاه..
«تحية فلسطين المحمولة على الدم المجيد، والعناد المقدس،
«ودعائي ورفاقي في فلسطين أن يَمُنَّ الله عليكم بموفور
«الصحة ولذة العافية..
«دائماً أقول، زيارتي لدمشق الأمويين ناقصة، إذا لم أطف
«بكعبة شعرها العالي .. يوسف الخطيب .. وألتقيه، فتقرَّ عَينٌ،
«ويطمئِنَّ قلب.. وهذا محض الوفاء الخالص الذي أحمله
«وجيلي، تجاه أحد أقطاب الشعرية الفلسطينية والعربية..
«هذه المرة، وفي الطريق إلى دمشق، خالجني شعور أنك مريض.
«فحزنت والله لمجرد الشعور.. بل أتعبني شعوري.. لأنك منا
«بمنزلة القلب للجسد، والسور للقدس.. وننحاز إليك أيها
«الكبير انحياز السماء لأيدي الشهداء، وانحياز فلسطين
«للجديرين بها، وأمتنا لسدنتها وحراس حُلمها الشفيف..
وهكذا.. إلى آخر الرسالة..
ويَبْقى لنا الحب!!.

ويقينا أنني لم أقتطف للسادة القراء قطعة الحب هذه التي افتلذها مراد السوداني من أعماق قلبه، بسبيل أن أبرهن كَـرَّة أخرى على أن الشاعر، الملتزم، الحق، لا يدركه الموت إلا في ضمائر ميتة من أساسها .. أو لأجل أن افاضل، من قريب أو بعيد، ما بين حضور الشاعر القهري، القسري، في أذهان الآخرين، بقوة الدعاية وفَجاجَةِ الإعلام.. وبين حضوره، العفوي، كَمَشاعِ الضوء، وَرَسْلِ النسيم.. وإنما لكي أخلص من كل ذلك إلى مثل ما خلص إليه خطيب البعث القومي الألماني «فيخته»، في أَثـَـرِهِ الفكريِّ الخالد «أربعةَ عَشَرَ خطاباً للأمة» أثناء ما كانت أرضُ بلاده، والملايينُ من أبناء شعبه، يرزحون تحت وطأة الجزمة العسكرية الفرنسية الغازية بقيادة نابليون، فانتهى إلى تتويج كامل مسيرته الفكرية، الثورية، بتقريره للحقيقة البسيطة التالية:
«لقد فقدنا كل شيء.. ولكن تبقى لنا التربية»!!..
ولعلي هنا أترسم خُطَى هذا البعثي الألماني الغيور، او حتى أتقمص روحه أيضاً، عندما أخاطب إنساننا العربي بعامةٍ، ونُزلَاءَ قلبي الفلسطينيين بوجهٍ خاص:
«لقد فقدنا كل شيء.. ولكن يبقى لنا الحب»!!..
هذا الحب الذي لا يمثله طليعي فلسطيني بمفرده في كلمات رسالته الطيبة الآنفة الذكر، وإنما الذي يتفجر في قلبنا الفلسطيني الواحد الكبير، حَدْباً وحناناً على جميع جراحنا الفاهقة الدافقة على امتداد قرن بطوله من الزمان، والذي يضع الوفاء للوطن، والولاء لأمجاد الشهداء، عند أقرب منزلة من ذات الله..
هذا الحب للأرض، والناس، والحق، والخير، والجمال، الذي لا أظن أنه يمكن أن يتحقق إلا بما يعادله، أو حتى يزيد عنه، من مشاعر الكراهية المرة السوداء لأعداء هذه الأقانيم المقدسة سواءً بسواء!!..
هذا الحب الذي لا يتقبل في حناياه جرثومة «المازوشية» المنحطَّة التي تطالب العبيد الأَذلَّاء، بأن يُـحبُّوا أعداءهم الأقوياء!!..
|والحقَّ الحقَّ أقول لكم، أبناء شعبي الفلسطيني الأجمل والأنبل.. والأشجع والأروع.. على سطح هذا المعمور كله.. إِيَّاكم، ثم إِيَّاكم، أن تصدقوا كلمة واحدة من كل ما قد افتراه بعض الكَتَبةِ، على لسان معجزة الخلق كُلِّهِ سيدنا يسوع المسيح، بدعوته المستضعفين في الأرض إلى أن «يُحبُّوا أعداءَهم»!!.. لأن أعداءهم في مثل هذه الحالة ليسوا طرفاً آخر غير «أعداء الله».. وَجَلَّت المسيحية ديناً، وجلَّ المسيح نفسه كمعجزة إلـهيةٍ مُتَفرِّدةٍ، أن تكون هذه رسالته لبني الإنسان!!..
بكلمات أخرى.. ومن الآن إلى آخر هذا الديوان.. أرجو أن أحيط سيدي القاريء علماً، مسبقاً، بأن قاطرتي الشعرية العتيقة هذه، وضمن مسارات عديدة جانبية، ستسير به أساساً على خطين متوازيين، متلازمين.. من الحب للعدل.. والكراهية لِلظُّلم!!..
فإن قال بعضهم إن العدل.. والظلم.. مفهومان نسبيان، لا يتَّفق عليهما اثنان.. فلعلي هنا من أكثر خلق الله إدراكاً لاحتمال أن تحمل «الحقيقة» الواحدة ألف وجه مختلف.. ولكنني أدرك في الوقت نفسه، وبالقَدْرِ نفسه أن «الحق» ليس له إلا وجههُ الواحدُ الأحد!!..

 

عن وكالة معا الاخبارية