أجراس الناصرة ودورا الخليل

(في حضرة يوسف الخطيب)

أحمد حسين

عرفتُ روحه

إذا التقينا قريبا،

سأعرف ملامحه أيضا.

حين تقتربُ من النعش

حاول أن تتهجى الرائحة

من الأقوى

رائحة العطر ام رائحة الحزن؟

قد تكون مثلي

لا تعرف أسماء العطور

ولكنك ستعرف مثلي أيضا

أن رائحة الحزن شيء آخر

تمتد يدها الناعمة كشال من الحرير

تفتح النوافذ المجهولة في الذاكرة

على عائلة من النرجس

قرب صخرة خليلية

أو جدول صغير

كجديلة طفلة في الخامسة،

لا مثيل لصفائه،

كأنما هو نبع من الدموع.

لا عبير للبرقوق

ولكن جلال اللون

الشبيه بدم الغزال

ينشر أنفاسا دافئة

تشبه رائحة ثياب الفلاحات

العائدات مساء من الحقل.

لا رائحة للماء في النبع

هكذا يقولون

ولكن أين هو

الذي لم يحس ذلك البوح الرقيق

القادم من مرايا الماء البري

الغاصة بالتفاصيل

وكأنه يشم رائحة الكون؟

 

هناك رائحة كونية

تمتزج فيها كل الدلالات

التي أشارت بها الطبيعة على الناس

وتلك التي وضعوها بأنفسهم

تشبه رائحة الخبز الطازج أحيانا

الذي احترقت حوافيه في الفرن

وأحيانا رائحة الخبز

الذي احترق كله.

ودائما

تحترق الطيبة أولا.

 

هذا المسجى

كخارطة بلاد طويلة القامة

وسيمة كطيف امرأة ممشوقة القد

في وقفة جانبية عند شاطيء البحر

هو يوسف الخطيب

شاعر من فلسطين

( تذكّرْ أن لها إسما آخر اليوم )

ولكن ماذا تهم الأسماء

طالما أن يوسف

لم يعد إلى دورا الخليل.

 

ظل تحت شجرة عيد الميلاد

ينتظر مرور الناصري

ثلثمائة وستين يوما في العام

ليقول له

أيها الفلسطيني القديم

المثقل بالحب ونياشين الألم

أنا مثلك

أو أنت مثلي

كلانا كان يحب موته،

كنت تستدعى القتلة لتغفر لهم

وكنت أستدعيهم ليقتلوني.

 

ما هذا الهراء يا سيد!

كيف يمكن أن أومن 

أن الذين افتديتهم بدمك

هم الذين يفتدونك الآن بدمي؟

 

أيها الإله الترابي

المتنقل بجناحيك بين السماء والأرض

كما انكروك ينكرونني اليوم

ولكن كلانا يحمل دمه فوق رأسه.

لماذا تركت العشار يخونك

وأنت تعلم ألوان روحه

وعتمة قلبه

وتري يده الممدودة نحوك؟

كيف وثقت بالصياد اللاتيني

وأنت تعلم

أن روما تسكن روحه

كسيف مغمد

يكره كل القادمين من الشرق

مثل ذلك الأليجيري

الذي أحب الجحيم بسببهم

من كل قلبه؟

 

وأنا عاشق ملكوت التراب

تحدرت من وجنات الحقول قطرة قطرة

إلى جداول المصائر الصغيرة

أتكوّن طفلا من التين والزيتون

أحلم بأب ٍلا يموت

وأم ٍأجمل من الصبح

وبلاد كالعرس

تتجول ألوانها وروائحها

في دمي الذي تركته هناك،

كما أنكروك ينكرونني الآن

ويطلبون بالسيف

أن أنكر الواقفة تحت صليبي.

فلماذا تبعتُ إناجيل الغرباء

ونسيت القبح المتربص في المزولة؟

عبدت جمالها الريفي

تسكنني في الليل

فإذا جاء الصباح وخرجَتْ

تبعتُها إلى الحقول

لأشاهد الرعاة

يتبعونها بقطعانهم

عبر السفوح والأودية

كما تتبع الفراخ امها،

وأستمع إلى جلبة الناس

في شوارع القمح

وميادين الثمر.

كانت دمية روحي المتلذذة

أقسى الحب حب الطفل لأمه

يخمش روحها ببكائه

لتحبه أكثر.

 

كانوا يقولون

الأرض لا تُسرق أبدا

تظل مكانها كالسماء.

لم نسيّج الحقول

وربينا الخيل للأعراس

وفي ليالي الشتاء القاسية

حبسنا اللهو بين الجدران

ومنعنا الزمن من التجول.

وكان عشارو السماء والأرض

يملكون أجود الحقول

وكنا نسلم على الخونة في الطريق

وحينما جاء الغزاة من ناحية السماء

هربتْ الأرض وتركتنا.

 

لماذا السماء أيها السيد؟

إذا كان السر كله في التراب

فمن يملك العدل؟

لماذا حينما رفضتَ الحرب

تخلت عنك السماء؟

لماذا تركت أمك تبكي

لتصبح ملكا ً؟

تركتهم يقتلونك لتغفر لهم

وتدين الفقراء

الذين لن يدخلوا ملكوت الأرض.

 

أيها الإله الترابي

كيف يكون العدل إلهيا

ما دامت السماء لا تؤمن بالأرض؟

أيها الترابي ابن الإنسان

من الذي يعرف حقيقتك أكثر

أناجيل السماء أم أناجيل الأرض

أناجيل العشارين أم أناجيل الفقراء 

أناجيل الأنبياء أم أناجيل الرعاة

أنا يوسف الخطيب

المطرود من جسد أمه،أم أنت؟

تعال نبحث عن دمنا يا سيد

بين صخور الخليل وجبال الناصرة

وليرتفع نعش يوسف إلى الأرض

من سماوات القتلة

إلى دورا الخليل

التي لم تزل مكانها

بانتظار الذي لا بد أن يكون.