رحل يوم الخميس 16/6/2011 في دمشق عن ثمانين عاما عندليب فلسطين الشاعر الكبير يوسف الخطيب، صاحب العطاء الثرّ، والمجدد الأكثر إصرارا على إعطاء الشعر قوة لا تفتر ولا تذوي.. قال لي ذات لقاء معه، وما أكثر اللقاءات الرائعة مع شاعرنا الكبير يوسف الخطيب، الصديق والمعلم والشادي «أنا مواطن عربي فلسطيني، رأيت نور الحياة أول مرة في دورا الخليل يوم السادس من آذار عام 1931، وأستطيع أن أتذكر الآن جيداً أن طفولتي المبكرة كانت مفعمة بالحيوية والإثارة، وأنني ذقت حلو الحياة ومرها في جرعة واحدة.. كان أول ما وعيته من شؤون الدنيا هو استيقاظي اليومي مع آذان الفجر على صوت والدتي وهي تصلي وتقرأ القرآن بصوتها العذب الحنون، وكذلك على أصوات الجنود الانكليز وهم يقتحمون بيتنا بأعقاب بنادقهم وبساطيرهم بحثاً عن والدي لتعاونه مع الثوار، لكن والدي كان قد التجأ إلى سورية للإقامة مؤقتاً بين أبناء عمومته في كسوة دمشق..ثم في سن السابعة تقريباً بدأت أعتقد بقوة بأنني لابد أن أكون شاعراً في مقبل الأيام، حيث ساعدتني على مثل ذلك الاعتقاد عدة عوامل ذاتية، ومؤثرات خارجية، على حد سواء.. فمن العوامل الذاتية استعدادي الفطري لإنشاد القصائد والأغاني المدرسية الابتدائية بشغف عظيم، ثم محاولة تقليدها والنسج على منوالها بكلمات وأصوات شبه موزونة ولكنها بدون أي معنى على الإطلاق.»
فميلاد الشاعر الكبير كان كما ذكر في السادس من آذار عام 1931 في دورا الخليل.. أنهى دراسته الثانوية في الخليل، ثم تابع تحصيله الدراسي في جامعة دمشق- كلية الحقوق- وتخرج فيها عام 1955. عمل في مناصب مختلفة في إذاعات: دمشق، فلسطين، الرياض، صوت العرب، القاهرة، الكويت، بغداد، إذاعة هولندا العربية. وشغل منصب المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون في سورية عام 1965، وانتخب نائباً للأمين العام لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. أسس عام 1965 دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون. عضو المجلس الوطني الفلسطيني. عضو جمعية الشعر. من مؤلفاته: -العيون الظلماء للنور- شعر- دمشق 1955. -عائدون- شعر- بيروت 1958. -واحة الجحيم- شعر- بيروت 1964. -عناصر هدامة- قصص- بيروت 1964. -ديوان الوطن المحتل- دراسة ومختارات- دمشق 1965. -مجنون فلسطين- شعر- دمشق 1983.- رأيت الله في غزة – 1988...- بالشام أهلي والهوى بغداد –دمشق /1988..وقد صدرت أعماله كاملة في ثلاثة مجلدات قبل رحيله بوقت قصير..
يعد ديوان «مجنون فلسطين» لشاعرنا الكبير يوسف الخطيب وهو ديوان سمعي مسجل على أشرطة كاسيت تجربة غير مسبوقة في ميدان الشعر العربي، وحين سألت شاعرنا الحبيب الغالي عن ذلك قال:" كان هاجسي الكبير طيلة مسيرتي الشعرية المتواضعة، هو أن أحاول التجديد إلى أبعد الحدود، ولكن، على قاعدة التأصيل إلى أعمق الجذور.. ومن هنا فإن تجربتي التأسيسية في ديوان «مجنون فلسطين» السمعي، بقدر ما تمثل، من أحد وجهيها، انفصالاً شبه كامل عن جميع الطرائق التقليدية في نشر الشعر وإيصاله إلى جمهرة المتلقين، بقدر ما تمثل، من وجهها الآخر، اتصالاً كاملاً أيضاً بتلك الخاصة التراثية الفريدة للشعر العربي، من جهة حضور الشاعر المباشر بين يدي جمهوره، كما كان عليه الحال في المربد وعكاظ، أو على الأقل من جهة حضوره الذاتي هذا بين أفراد قبيلته، أو ترحاله عبر الآفاق البعيدة بسبيل أن ينشد ما قد أبدعته قريحته أمام الأفراد والجماعات على حد سواء.. وهكذا ظل حال الشعر العربي لمئات الأعوام اللاحقة أقرب إلى طبيعة النفس العربية «مسموعاً» أكثر منه «مقروءاً» حتى لكأن شاعرنا القديم قد أراد أن يشير إلى هذه الخاصة ذاتها بقوله:ـ «والأذن تعشق قبل العين أحياناً».. ولذلك أيضاً انتشر الشعر العربي «بالرواية» أكثر مما انتشر «بالتدوين» حتى في أوج ازدهار الحضارة العربية في أوائل العصر العباسي، وشيوع القراءة والكتابة في جمهرة واسعة من الناس، وظهور ألوف المصنفات النثرية في اللغة، والفقه، والفلسفة، والعلوم، فرغم كل ذلك كان لرواة الشعر ـ ولنقل الحمادين الثلاثة مثلاً ـ حضورهم القوي والمؤثر.. ولست أدري تماماً ما الذي كان عليه الحال في أشعار الأمم الأخرى، إلا أنني لم أصادف مطلقاً أنه كان لكل شاعر أجنبي «راويته» المختص بإيصال قصائده للآخرين، كما هو واقع الحال في شعرنا العربي، وحتى يومنا الراهن إلى حد كبير.
رحم الله شاعرنا الكبير يوسف الخطيب.. رحم الله شاعرا أعطى الشعر الكثير من الأناقة والجمال والرفعة والعلو.. كان شاعرا حقيقيا يصعب أن تجد مثيلا له في ابتعاده واقترابه.. في تواضعه وشموخه.. في معرفته الأصيلة العميقة للشعر.. في صداقته النادرة التي لا يمكن أن تنسى الأصدقاء مهما كانت الظروف.. رحم الله شاعرا كان ويبقى شاعر فلسطين وعندليبها بامتياز