الفنان الشهيد ياسين عطيه كان من بين الشهداء الذين تساقطوا في يوم عراقي جهنمي اختاره أعداء الحياة ليصفوا حسابهم مع كل ما هو جميل ونابض بحب الحياة، وبعد عشرين عاما من الغربة ، يعود الى وطنه ليكون على موعد مع الموت .
المدى الثقافي تكرس صفحة تشكيل هذا الاسبوع لاستذكار الشهيد الفنان ياسين عطية الذي قضى في انفجار سيارة مفخخة قرب منزله.
كان فنانا عراقيا يدعى ياسين عطية. كان قبل يوم، كان قبل يومين، كان زمنا ماضيا لا يستعاد. لكنه كان قبل ذلك يعيش بيننا. يعيش في كوبنهاكن الدانماركية، قبلها عاش في اودنسا الدانماركية. ومن قبل عاش في عمان(الملجأ، واللجوء الاختياري ـ الإجباري في زمن التسعينات). قبل تلك الأزمنة كان يعيش في بغداد عاصمة العراق. عاش فيها كما عاش الكثير منا، أيامه التي لم تكن كلها هينة. وحينما بلغت الثمالة غادرها، وكما غادرها معظمنا أيضا، ليس بطرا. فبعد ،وبعد مما كثر الحديث عنه، سواء شكوى مرة أو استغفال أو أخيرا كاستثمار. يعود فجأة لزيارة، وليس لإقامة. وما بين الزيارة وعدم الإقامة، عدم نفسه في شوارع بغداد الملتهبة. هو الذي لم يغادر تواريخه العراقية أبدا. وحتى وهو في بلاد الشمال. لكنها عدمته لمجرد ما حاول التماس معها لا الانغماس فيها مجددا. فهل هو قدر مرصود. أم هي لعنة تترصدنا أفرادا وجمعا. وان نحينا القدر جانبا، وهو مشكوك بأمره في بلد كالعراق، تسكنه ذئاب، وتحيطه ذئاب. وبشعب يتفاخر بصنع أقداره بإرادته، ولا يزال يفضل صنعها وبأسوأ ما يمكن.
لم تعد شمس بغداد ذاتها، كما لم يعد هواؤها نفس الهواء كذلك لم يعد ماؤها ماء. بعد أن أنهكتها نزاعات الأخوة والحروب. تحلل كل شيء في زمننا المشؤوم هذا. وحتى الأجساد تشظت. وما بين انفجار مرعب وانفجار ملغوم فقدنا بعض أعضائنا. أناسنا، أحبائنا. وفقدنا ياسين عطية هو الآخر، وعلى غفلة من حرصنا عليه. فقدنا شمس بغداد فيه، وهي روح ياسين التي كان يتغزل بها دوما في رسوماته ما اكتمل منها وما لم يكتمل، ونندب حظنا نحن أيضا. فهل كان ياسين يعرف مقدما بأن ارثه الفني المغترب الذي نذره لتدفئة طقس الشمال الدانماركي، سوف يتجاوز الدفء لحرائق لا تبقي ولا تذر. وسوف يبقى ظله يبحث بلا جدوى عما فقده.
منذ تعرفت على ياسين في بداية التسعينات، وثمة ظلال ما تبدو هاربة من قسمات وجهه. هو لا يحدق مباشرة بمن يحاوره أو يجاوره. وليس من السهولة استعادة ظلاله الهاربة. وثمة شجن دفين يظهر و يستتر خلفها، ولا يظهر مباشرة. لكنه يتفجر لمجرد سماعه لأصداء لحن جنوبي، لحن هو الآخر مستل من خلاصة أحزان جنوبية. ياسين أيضا مغرم باللون الأحمر، والأحمر بكل جمالياته الشرقية، أشرق من جديد، لا ليفرحنا، بل ليفجعنا بعد أن غطى قسماته دما قانيا. فهل لي بعد كل ذلك أن انظر من جديد إلى ملونته بدون أن افزع من قساوة ووحشة صبغتها الحمراء.
كان محكوما عليه بالإعدام. في زمن الإعدام العراقي الجماعي. كان ذلك قبل أن يقوى عوده وتكتمل عدته. لكننا وكما نحزر، أو نعرف، بان أمرا كهذا يشيخ المرء قبل أوان شيخوخته. فهل ولد ياسين من جديد، بعد أن نجى بشيخوخته المبكرة، من الموت الباكر المحقق. أم هو ظل يحمل عبء شيخوخة أحزان حفرة موته المفترضة. ما اعرفه أن ذاكرته السوداء تلك لم تغادر ذهنه أو مخيلته. ومن اجل خلاصه، عمل ياسين بجد لينأى عن كل عتمة، ففاضت ملونة رسوماته بكل لون بهيج. لكن بهجته لن تخدعنا، فثمة ظلال عتمة بقيت متعثرة بأذيالها، كائنات ما تحاول انتهاك فضاءاتها. ديالوك العتمة والنور، لا بد أن ينتصر لصالح احدهما عنده، وغالبا ما انتصر للنور، ربما من اجل أن يتحرر من عتمة تلك التواريخ التي أزاحها الزمن موقتا. ولم يكن يدري بان عتمة اشد تنتظره في نهاية مشوار حياته، التي لم تكن نهاية طبيعية، كنهاية بقية الكائنات الأخرى.
كنت وبدافع من فضول التقصي أتساءل: الى أين تصل مديات اشتغالات ياسين الفنية(وليس تجاربه الفنية (بما أن أسلوبيته واضحة ومعمقة). لكني لم أحزر، أو أتوقع هذه النتيجة المأسوية. ولتبقى تساؤلاتي عائمة في فضاء المجهول. ولأكتفي ويكتفي غيري من محبيه ومريديه وعشاق فنه، بحصيلة نتاج حياة مبتسرة. مما يثير تساؤلي عن عدد الحيواة الواعدة التي انطفأ وميضها مبكرا بدون سبب، الا دناءة أزمنة سياسية ملوثة بجرثومة الإرهاب والترهيب الداخلي والخارجي، المعاصر والمستعار من عصور سابقة.
نرثي بياسين كل من طالته منية الإرهاب، سواء من صاحب جثمانه، أو من جاوره أو حاذى زمنه، أو من طالته المنية عبر كل أزمنتنا العراقية الملوثة. ولا نلقي باللوم. بل ندين كل من تسبب بفواجعنا العراقية. كل من سرق ونهب وغش وزور وتحايل وارتشى، كل من ارتضى أن يتبوأ منصبا وهو غير معد أو مؤهل له، كل من أفتى واستفتى على استباحة الدم العراقي. كل من استبدل السيئ بالأسوأ. كل من استبدل حكما سيئا بأسوأ منه. وما دمنا نشاهد ونسمع لحد تصدع أدمغتنا بتبادل الشتائم والاتهامات والتجريم بحق الكل، ولا واحد من هذا الكل أدين بجرمه لحد الآن. فاقرأ على العراق السلام. عراق العلوم، عراق الفنون، عراق الآداب، عراق لا يدعي الحضارة، بل عراق حضارة الآن، وليس الماضي. عراق الإنسان الذي يأبى الوصاية عليه، من مرجع أو مسؤول، سواء منهم المجهول أو معلوم يصول ويجول.
أنا الشاهد على توقيع وثيقة عرسك. وأنا المشاهد للألق الذي غمر محياك وأنت توقع وثيقة عرسك الذي كنت تتمناه من كل قلبك. أنا الشاهد على فرح القلب والق الملامح. كيف يكون لي أن أكون شاهدا على فجيعة سفك دمك، وهل يعقل ذلك. هل يعقل ان نبادل دموع الفرح بسيل الدماء. وهل بات للعقل من معنى في زمن اللامعقول العراقي الذي خطف ولا يزال يخطف أحبتنا. فهل كان عرسك، عرس دم مؤجل، كان عليك ان توفيه نذرا غير مستحق، بعد ان دفعت استحقاقه مقدما.
سلام عليك ياسين، سلام كنت تنشده، وكان ينشدك، رغم قلق سكنك، وسكينة كانت تقلقك. سلام هو آخر الكلام.
الفنان التشكيلي الفقيد ياسين عطية من مواليد بغداد(1963)، أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد نهاية الثمانينات، تعرض للاعتقال السياسي قبل إكمال دراسته، وأفرج عنه بمعجزة. وكان من المبرزين من الجيل التسعيني التشكيلي العراقي.
لجأ للدانمارك عام(1998). في زيارته الأولى لبغداد، اغتيل بتفجير في صباح الخميس (30. 5. 2013)