تفكيك جوهر الرمز في هموم الإنسان المعاصر

عند الفنان التشكيلي ياسين عطية

محسن الذهبي

كلما انظر الى اعمال التشكيلي العراقي المغترب في الدنمارك (ياسين عطية) اتذكر مقولة مكسيم غوركي (جئت الى هذا العالم .. كي احتج) لكن احتجاج هذا الفنان من نوع خاص .

ليس صراخا بل هادئ مثل شخصيته فبالرغم من كل ما مر به هذا الفنان من ظروف صعبة مذ تخرج في معهد الفنون الجميلة ليقاد الى سجن ابي غريب الرهيب بحجة تجاوز الحدود ، وهو اذ يجتهد في احتجاجه عبر مشاهد لقصص عشق ذاتية وانثيالاث متداعية من ذاكرة تمتلئ بشتى الصور المختزنة ليعيدها خطوطا والوانا .

ليبقى فنه يرتبط بالمرئي من الأشياء ، ويظل فناً وصفياً تابعا من ذات الواقع عبر أسلوب قائم على تفكيك جوهر الاشياء المختفية وراء المظاهر الحياتية للانسان المعاصر وهمومه ، ليقوم الفنان باعطاء تعبير محسوس لهذا الجوهر في محاولة جادة لاكتشاف غير المرئي والمستتر في ذات الاشياء وطريقة وجودها

ان اعمال الفنان (ياسين عطية) هي بحث عن منفذ ينفتح على فضاء واسع في تطوير التجربة التجريدية سواء من الناحية الشكلية او التقنية ، فالتجديد عنده يعتمد بشكل اساس على التكنيك والقدرة على استعمال اللون وتكييف اتساقه معرفيا ، الى جانب اختيار المقاسات المناسبة بمختلف الأحجام وخاصة ذات الحجوم الكبيرة تلعب دوراً في عملية التلقي والتاثير .

اما الاختلاف والتنوع ففي معالجة مستوى المواضيع والاسلوبية التي تميز اعماله فكل لوحة تحمل سر وجودها . لكن اغلب اعماله تشترك في الحضور الجسدي الانساني وهو مرتبط لديه بمجموعة غير متناهية من التداعيات الجمالية في توظيف تلك الأشكال والايهامات من خلال الانسجام والتضاد اللوني ، و التوظيف المركزي للأشكال والرموز المستجلبة من ذات الواقع فهو يمتلك الجرأة في تقديم منجز بصري يحاكي مايدور في المحترفات العربية والعالم ، واعتقد ان تجربة الفنان تتطور بشكل متواصل عبر اطلاعه على المنجز البصري العالمي ، فهو يحاول ان يدخل عناصر جديدة في كل مرحلة مستفيد من سعة افق التجريب ، وهذا يقوده الى فضاء مفتوح لإيصال سلسلة من الأفكار والرؤى المستحدثة، فلم يعد الأسلوب وحده الشيء الذي يميز اعمال الفنان بل التغيير الموضوعي والبحث الدائم عن تقنيات التعبيرية التجريدية تلك التي يتوسم الفنان في ان تلبي الهدف الأساس ببصمة خاصة يشيع فيها الحس الجمالي وروح الابتكار مع الحرص على جوهر القيم التشكيلية وموسيقى العلاقات اللونية. فالفنان يؤكد دور الايحاء والتعبير فالانطباع الفكري والبصري مضاف الى الواقع وليس تجسيدا له بحد ذاتها .

انه يشكل عالماً من الألوان المتسقة مع حركة تبدأ بالمحور وتنتهي بتلاشي الاشياء وكأنه يصرخ بهدوء عن معاناة الانسان المعاصر وتتداعى احاسيسه . والفنان نفسه من الممكن ان يكون انموذجا لهذا (الترميز والتفكيك) للرموز الانسانية فاعماله تأتي بانسيابية خيالية في التوصيف البصري وهذا مايمثل محور عمله الفني. ان التجريد عند الفنان لا يعتبر محاكاة فنية لشيء ما بل هو غاية للوصول الى فن خالص يعبر عن ذات ويسعى لتقديم نماذج تحمل بين تدرجاتها اللونية معاني جديدة وإضافات مبتكرة من خلال النظر في كل جزء من أجزاء اللوحة ومدى ملاءمته خدمة للموضوع والوصول الى الهدف من تلك الاضافة وهو إظهار تجليات الغموض والقلق و الخوف و الفرح الانساني ، عبر طغيان واضح للالوان الصريحة التي تشير بوضوح لمخزون الذاكرة البصرية الشرقية المعروفة بسطوعها اللوني.

فهو يحاول أنشاء علاقة تصادمية من خلال سطح اللوحة محدثا كثيراً من التساؤلات التي تثير الدهشة ، معتمدا على المخزون الواعي واللاواعي للذاكرة الطفولية المزدحمة باشياء ومؤثرات لاتزال هي الخزين الذي يستمد منه ابداعه ، انها محاولة اللعب في توظيف خيالي للاشكال ومعالجات ذكية للمواضيع . فلا غرابة ان نجد لوحات الفنان (ياسين عطية ) تزدحم بالتفاصيل - احيانا - وكأنه يريد ان يقول كل شيء دفعة واحدة عبر خطوط سريعة متحررة من اي تقييد ، متجاوزا العلاقات الشكلية بين المسافات والخطوط والألوان مبدعا اشياءه الذاتية كمادة فنية منسجمة ومستجيبة لجمالية تثير تساؤلات واسعة لدى المتلقي . وتبقى تجربة هذا الفنان المجتهد من التجارب التشكيلية العراقية المهمة والتي ازدهرت في المغتربات كغيرها من تجارب جيله الذي استمد جذوره من عبق الوطن وتعلقه بهموم الانسان . فقد كان له حضور واضح في العديد من المشاركات بمعارض فردية وجماعية ولاسيما على الساحة الدنماركية .

 

ناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا

muhsinaldahabi@googlemail.com