لحظة الحقيقة التي لا تعني سوى الموت وفي لحظات الفقد يغيب الكلام ويصبح العثور على الكلمة المناسبة مهمة عسيرة وقاسية ، ستكون الكتابة عصية الإفصاح عن سرها. أكتب لعل الكتابة تخفف وطأة ما أنت فيه. أكتب عنه وأتذكر التفاصيل ، التفاصيل حاسمة هنا للوصول إلى ذروة النحيب، هنا اجتمعنا ، هنا جلسنا ، هنا شربنا وهنا رقصنا وهنا كان مرسمه وهنا عَلقتُ لوحته وهنا قال: "كل احنه خطيه". هنا كان يسخر من كل ما يحيط به ولكنه يهرب من دموعه حين تُذكر بغداد ، بغداده التي عشقها وأحبها يقول وعيناه تزوغان بعيداً كمن يتذكر حلما تكرر الاف المرات : ( سأعود إلى بغداد وابني مرسماً ، عالم داخل اللوحة لا خارجها ) وما أن وصل إليها حتى كان ضحيتها الكبيرة والثمينة ، حتى تشعر أن بغداد لا تستقر بعد فورة الدم المجنون أو المستباح فيها إلا بمقتله بسيارة مفخخة.
الفقد قسوة مريعة. هذيان ذاكرة تتهيأ للانهيار. انسحاب الحياة إلى ظلال العتمة والنوم الأبدي في قبر مخيف. الهروب إلى الماضي واستحضاره أو التشبث بجماليات لحظة آمنة. لحظة الحلم التي غابت عن حياتنا ، ذلك فقط هو ما يمكن أن ينقذنا مما نحن فيه .
من الصعب أن أكتب عن فقدك يا ياسين عطية، لأني وحتى هذه اللحظة أتوقع أنني أعيش في حلم طويل، ربما مثل حلمك مع الرسم والألوان واللوحات ، حيث تتناثر من روحك وروحنا ، الدماء وأشلاء الصبية والبيوت المحطمة ونساء مذعورات وأُناس فقدوا الأمان وسيارات مفخخة وأحزمة ناسفة وابتسامة حقودة تظهر على وجه الإرهابي المُفَخِخ والذي يحصي الذين أسقطهم في صولته الأخيرة. الإرهابي الذي سنتيقن إنه السياسي الذي يدعي الحفاظ على أمننا وان لحظة عناق الساسة ستكون فضيحة لعشر سنوات من الزيف والخديعة والموت المجاني.
ما أنت يا صديقي سوى إنسان مر بحياتي ولكنه ترك وشماً كبيراً فيها، لم يكن جرحاً غادراً أو لوثة أو وشاية ، وشمك كان ضحكة من الأعماق" من كراعة القلب" كما تقول أمهاتنا المحزونات بالفقد والسواد. كان لوحة فارهة المعنى والجمال و صخب الألوان وقدرتها على تصوير اضطراب الروح.
مشكلتي يا صديقي أنني وفي لحظة ما أستحضرهم جميعا، أولئك الذين سينتظرون وصولك إليهم، أولئك الذين افتقدتهم وتركوا في حياتي أوشامهم وجوههم، وضحكاتهم وصخبهم ونداء استغاثتهم الأبدي، الذين سيكونون صحبك وندماءك، وستكونون جميعا عالمي الذي أحن إليه.
ثمة أوشام لا تمحى صديقي ياسين عطية .