صنع الله إبراهيم (1937) في الثمانين. لا يحب الاحتفال بعيد ميلاده. يرى أنّ هذه الاحتفالات تخص الطفولة، رغم أنّه لا يزال يمتلك جرأة الطفل المشاكس الذي ظهر في روايته «التلصص». طفل يسمّي الأشياء بأسمائها، لا يخجل، ولا يتردد، يعلن في وجه الملك «أنت عارٍ!»! صنع الله في الثمانين، تتوالى المشاهد في ذاكرته، والده الذي تزوج في الستين، لم يكن يتوقع أن ينجب في هذه السن.
وعندماً علم الخبر صلى شكراً لله. فتح المصحف وهو معصوب العينين، ووضع يده على إحدى الصفحات، ليجد إصبعه على آية ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾... ليحمل المولود القادم اسماً يظل الجميع يسأله عنه: كيف يحمل هذا الاسم الغريب؟! صنع الله في الثمانين، يشعر بدين شديد لأساتذته الذين تعلم منهم: من طه حسين التفكير النقدي والشك، وعدم الارتكان للسائد، ومن نجيب محفوظ المثابرة والعمل المنتظم، ومن همنغواي العمق مع البساطة، ومن جورج سيمنون تلك اللمحة السحرية التي تغلف أعماله. بعدما صدرت روايته الأولى «تلك الرائحة» التي اعتبرها يوسف إدريس «ثورة روائية»، وظلت على قوائم المنع لأكثر من 20 عاماً، سافر صنع الله إلى برلين (1968) للعمل في الصحافة، ثم إلى موسكو (1972) لدراسة السينما. هناك، تعرّف إلى رسامة من باكو تسمّى جيولا آزيم زاده، كانت تدرس معه السينما، رسمت له «بورتريهين»: الأول وردي اللون كانت تبحث – حسب تعبير المخرج السوري محمد ملص زميله في الرحلة - في وجه صنع الله عن لحظة معينة بدت في هذا البورتريه غائرة في الشفافية العميقة المعذبة. بدا صنع الله فتياً ذا إرادة لم تهن بعد، وفي عينيه حزن يصعب وصفه. أما البورتريه الثاني الذي رسمته له، فكان باللون الأزرق، وقد بدا أكبر عمراً مما هو عليه. ورغم تثبيتها لحزن عينيه، فقد بدا مشمئزاً، يلقي على العالم نظرة مشبعة باللاجدوى والاحتقار. ربما تصلح هذه الصورة العميقة التي مضى عليها ما يقرب من نصف قرن لصنع الله في هذه اللحظة أيضاً: شفافية عميقة معذبة ونظرة مشبعة باللاجدوى تجاه العالم ... واحتقار له! صنع الله الآن في الثمانين، غاضب ومتشائم، يضع عنواناً عريضاً لحياته »حياة بلا قيمة» هكذا يقول! في شقته البسيطة التي تقع في الدور الأخير من بناية عتيقة فى ضاحية مصر الجديدة، التقيناه احتفالاً بـ80 عاماً من التمرد والاختلاف والإبداع. فكان هذا الحوار:
■ منذ أن بدأت الكتابة، ما هي ثوابت التجربة ومتغيراتها؟
ألا تكتب إلا عما تعرفه معرفة جيدة. الخيال مرتبط بتفاصيل خاصة. لو كنت تكتب عن شخصية طبيب، لا بد من أن تكون على إلمام بالمهنة وتفاصيلها، أو على الأقل قريباً منها، بحيث تكون عارفاً وملماً بطبيعة مشكلاتها، وهذه نصيحة قديمة لم أبتدعها. خلال فترة سجني (1959-1965)، وقع في يدي كتابان عن همنغواي كان لهما أبلغ الأثر في مسيرتي. الأول للناقد الأميركي كارلوس بيكر، والثاني للناقد السوفييتي كاشين (على ما أتذكر). هذان الكتابان يمثلان إحدى الحالات النادرة التي يكون فيها الناقد عوناً للكاتب. فقد تغلغلا إلى أعماق الرؤية الفنية لهمنغواي، واهتما أساساً بأدواته والقواعد التي وضعها لنفسه. وقد تقبل مزاجي الكثير من هذا القواعد، إذ وجدت فيها ما يمكن الاستناد إليه: ألا أكتب إلا عما أعرفه جيداً. أن يكون النثر واقعياً ومحدداً ذا أبعاد متعددة مثل جبل الثلج، في مواجهة السيولة العربية التقليدية. التركيز والاعتماد على الإيحاءات والارتباطات الداخلية للنثر، وحذف كل ما هو زائد أي ما يمكن الاستغناء عنه.
كنت قد بدأت حركتي من موقع التمرد على ما كان يعرف في ذلك الحين بالواقعية الاشتراكية. شعرت أنا وكثيرون غيري أنها تزيف الواقع وتزوقه. وقدّرت أنّ هذا الخداع لا يساعد الإنسان، بل يضلله. هكذا عاهدت نفسي منذ البداية أن أذكر الحقيقة. ولأن الحقيقة ليست مطلقة، لا بد من أن أبذل كل جهد، مسلحاً بالعلم والتجربة. وكان لديّ قدر كاف من الغرور وقتذاك ألا أكرر أو أقلد، وأن أصمت إذا لم يكن عندي ما أضيفه. أما المتغيرات، فقد كنت حريصاً على أن أعرف مناطق ضعفي ومحاولة تلاشيها من رواية إلى أخرى.
■ هل نقاط الضعف التي تشير إليها وصلت إليها من خلال دراسات النقاد عن أعمالك؟
لا، للأسف، ليس لدينا نقد حقيقي. يغلب النقد الصحافي على المشهد الأدبي. هناك فقط مراجعات صحافية (Review) لكن لا دراسات نقدية تحليلية عميقة تحاول الدخول إلى عوالم الكاتب أو تقدم نصيحة وإرشاداً.
■ لكن عندما صدرت «تلك الرائحة» عام 1966، كانت هناك العديد من الدراسات النقدية التي كتبت عنها؟
كل النقاد عارضوها ولم يرحبوا بها. كل الكتابات كانت تعبيراً عن الامتعاض وعدم الترحيب. الصحافي أحمد بهجت كتب في «الأهرام» مقالاً بعنوان «معدة تتكلم». حتى يحيى حقي عبّر عن اشمئزازه من الكتابة، وإن امتدح بعض جوانبها. وكذلك فعل يوسف إدريس. لم أتعلم من النقد، بل من زملائي الكتّاب. كنت معجباً بكتابات إدوار الخراط، رغم خلافي معه حول نظرته الجمالية، لكني كنت معجباً بقدرته على السيطرة على اللغة. في «تلك الرائحة»، كانت لغتي تلقائية فيها شيء من الركاكة التي حافظت عليها عن قصد، عندما وجدت لها جمالية من نوع خاص، تخدم الخطاب المقصود. كتبتها بلامبالاة باللغة وقواعدها. كانت الفكرة أنّ كسر قواعد اللغة. كجزء من التجربة التي تحاول ضرب عرض الحائط بكل القواعد والمفاهيم.
لكني أدركت في ما بعد أنّ ضرب القواعد بشكل كامل لم يكن مفيداً، لأن القواعد ليست مجرد مبنى فارغ، بل أداة للتوصيل والفهم ووسيلة لكي يصل المعنى الذي تقصده بدقة. عندما سافرت إلى ألمانيا أوائل السبعينيات، اشتغلت على لغتي، بخاصة أنني عملت صحافياً، أراجع الأخبار التي كانت تبثها الوكالة الألمانية باللغة العربية. وقد انعكس ذلك على روايتي »نجمة أغسطس» التي صدرت لاحقاً، وكانت تتطلب موقفاً مختلفاً من اللغة، بحكم الوحدة المبتغاة بين الشكل والمضمون.
■ يلاحظ عدد من النقاد أن فضاءات الكثير من رواياتك تدور خارج مصر، بين موسكو، برلين، أميركا، بيروت، سلطنة عمان ... هل هذا مقصود؟
أنا أكتب تجاربي التي عشتها، ولكن أيضاً هناك روايات كثيرة دارت أحداثها في مصر.
■ بهذا المعنى، هل كل رواية سيرة أو تحمل ملامح من السيرة؟
لا تستطيع أن تسميها سيرة ذاتية. بالتأكيد كل عمل له علاقة بتجربة ذاتية، لكن لا يمكن محاسبته أو النظر إليه باعتباره سيرة. عندما أقول لك إن ما تقرأه الآن هو رواية، إذن أنت أمام «كذبة». الرواية كذبة، أنا أكذب عليك، أخلط الواقع بالخيال، بما حدث وبما لم يحدث، وبما تمنيت أن يحدث. أحكي حكايات. حكاية مؤلفة ومتخيلة، ومن حقي أن أستخدم كجزء من هذا البناء تفاصيل حقيقية في الحياة والتاريخ والجغرافيا وأي مجال. هذا يغني عملية التخييل، عملية الكذب التي تتم، وفي الوقت نفسه يجب ألا تؤخذ ككتاب تاريخ، لأن التاريخ مجال آخر. التاريخ علم، يمكن أن نختلف حول صدق هذا التاريخ أو عدم دقته، لكنه مجال فيه تطور وأبحاث وإضافات وخلافات وتفسيرات. الرواية مجال إمتاع، أنا أمتعك بأن أحكي لك حكاية، ومن حقي أن أستخدم مادة معينة، وهذا ما يجعلني مختلفاً عن أي روائي آخر.
■ خلال ثمانين عاماً، ما هي التجربة التي هزتك وصنعت منك كاتباً؟
السجن والتعذيب.
■ هل السجن هو الذي قادك إلى الكتابة؟
لا، أنا بدأت الكتابة قبل السجن. كنت أعمل في مكتب ترجمة، وكنت مكتئباً وقتها، فكنت أسير في الشوارع بلا هدف محدد، وقررت أن أكتب ملاحظات عن الشارع الذي أسكن فيه. كانت لديّ رغبة منذ البداية في التعبير عن مشاعري مثل كثير ممن هم في سني.
■ كنت تكتب وقتها قصصاً؟
كتبت قصصاً عدة من بينها قصة بعنوان «الأصل والصورة». حصلت بها على «جائزة عزيز أرماني»، وهو كاتب مصري له رواية شهيرة حققت أعلى المبيعات في تلك الأيام بعنوان «خذني بعاري». كانت أول جائزة حصلت عليها في حياتي، وكان عمري وقتها 15 عاماً. لكن لم أتسلم قيمتها المالية. كان أرماني يصدر مجلة صغيرة، ونظم مسابقة للكتاب الشباب. تشجعت وكتبت قصة، وعرضتها على أبي الذي أعجب بها كثيراً، وتقدمت للمسابقة، وفزت بالجائزة التي كانت قيمتها ثلاثة جنيهات. كانت الصدمة أننا لم نجد أي عنوان للتواصل معه لاستلام الجائزة، ما جعل أبي يبحث عن عنوان صندوق البريد، ووصلنا في النهاية إلى العنوان. ارتديت بدلتي وذهبت لزيارته، لكني لم أجده، لكن زوجته طلبت مني أن أنتظره. عندما جاء وعرف أنني الفائز، قال لي: «فوت علي وقت تاني، أو أنا هبعتلك الجايزة»، وقد كانت تلك آخر علاقتي بالجائزة.
في تلك الفترة بدأت أقرأ ليوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي، ومجموعة من كتاب الموجة الرومانسية الواقعية. كتبت قصصاً عدة منها واحدة قرأها يوسف إدريس عام 1954 ووعد بنشرها في مجلة «روز اليوسف» بعدما أصبح مسؤولاً عن تحرير باب القصة هناك، ولكن تم إلقاء القبض عليه. وقتها، انضممت إلى «حركة حدتو» («الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني»، إحدى التنظيمات الشيوعية المصرية) ومزقت كل القصص التي كتبتها، وكل ما له علاقة بالأدب. اعتبرت أنّ ذلك طريق مغلق، وأن طريقي الحقيقي هو السياسة عبر التنظيمات السرية. المضحك، أنّه كان لـ«حدتو» جريدة سرية عبارة عن كراس صغير ننشر فيه بعض الأخبار والتحليلات والمقالات، وتم اختياري عضواً في لجنة التحرير. وأتذكر أنني كتبت قصة أيضاً عن مناضل لديه موعد مع زميلته لتسليمها منشورات لتوزيعها، ويقع في حبها. هذه هي القصة، أي أنني لم أتخلَّ عن قدرتي على التعبير القصصي حتى داخل التنظيم السياسي السري.
■ هل السجن هو الذي فجر لديك أسئلة الكتابة الحقيقية؟
كان السجن أخطر وأهم تجربة في حياتي. فقد كان عمري حينها 20 عاماً، وكان حولي ناس عظام، لهم تاريخ عظيم، سواء كانوا عمالاً أو فلاحين، أو أساتذة جامعة، أو صحافيين أو فنانين. كان هذا مثيراً جداً. هذه التجربة جعلتني أفكر كثيراً وأتساءل إلى أي مدى يمكن أن نقاوم ونصمد. بدأت أشعر أن هناك شكلاً من الأشكال المهمة للتعبير عن النفس وهو الكتابة. وبدأت أشعر أني سأكون أكثر حرية لو كتبت، فأقول أشياء لا يستطيع الإنسان أن يقولها. كان في ذهني أن أحكي لحظة بلحظة عندما مات شهدي عطية، وبدأت أفكر أن ممارسة الكتابة هي الشيء الذي يمكن أن أركز عليه. في هذا الوقت، كان هناك عدد كبير من الكتّاب الكبار في السجن، منهم حسن فؤاد، وصلاح حافظ، وفتحي خليل، ومحمود العالم، وعبد العظيم أنيس، وفؤاد حداد ومحمد صدقي.
كان هناك اهتمام شديد بالنشاطات الثقافية. في هذا الإطار، كان الجو مشجعاً لأي شخص كي يفكّر ويكتب ويقرأ. لكن هذا في فترة لاحقة، فقد انتظرنا عامين من دون أن يستطيع أحد القراءة. كنا نقرأ فقط القرآن والإنجيل وهما المسموح بهما. بدأت أحاول أن أكتب وكنّا نحضر ورق الشكائر الاسمنت ونقطعه أجزاء. وعندما تحسنت الظروف، أصبح هناك تهريب للورق والكراسات ثم تهريب لورق البفرة. الموضوع بالنسبة إليّ لم يكن سهلاً. فأنا أريد أن أكون كاتباً، لكن ماذا أكتب وكيف ولمن؟ كنت أكتب يوميات صغيرة حول موضوع واحد هو الكتابة نفسها، يعني كيف أكتب وما هي مشاكل الكتابة. مررت بحيرة شديدة، وكان أول ما كتبت أنّ دور الفنان في المجتمع، هو أن لا يتناول أفكاراً مجردة ولا أن يقارب تغيرات المجتمع بشكل سطحي، بل أن يسترشد بأعماق الشعب ويغيّر الواقع، ويشترك في الحياة اليومية، لكن هذا بالنسبة إليّ لم يكن كافياً.
بعد عام ونصف العام، كتبت مرة أخرى عن حق الكاتب في التعبير عن نفسه كأسبقية، بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي أو موقفه السياسي. في نهاية الأمر إذا كان الفنان جيداً وعلى درجة عالية من الوعي والثقافة، فهو بشكل أو بآخر يستطيع أن يعبر عن الواقع الإيجابي للمجتمع. ثم كتبت أنّ لكل مدارس الفن سعياً متواصلاً للوصول إلى الحقيقة، والبحث عن أشكال جديدة. الفن ضد السياسة اليومية. وأوضحت أن ما تبقى من أعمال تولستوي الذي كتب أشياء رائعة أدبية وتعليمية، هو أدبه الذي لم يكن موجهاً، بل نابعاً من رؤية واسعة ليست خاضعة لالتزام معين.
■ هذه الأسئلة التي شغلتك في السجن، لكن كيف كانت الكتابة كحرفة؟
بدأت بكتابة انطباعاتي عن حياتي وأيام الطفولة. وهي الرواية التي لم استكملها إلا بعد 40 عاماً أي «التلصص». ثم بدأت أكتب قصصاً يحكيها لي زملائي المسجونون. وفي أحد الأيام، جاءني أحد السجناء وقال لي: سأمنحك كل يوم سيجارة شرط أن تكتب قصة حياتي. وكان هذا أول أجر أحصل عليه من القصص، بعد الجائزة المغدورة. لكني لم أستمر، توقفت عن ذلك. كان قراري بالكتابة تأكيداً لذاتي ودفاعاً عنها في ظروف بالغة القسوة. فكان الحصول على الورقة والقلم الممنوعين ثم توفير المخبأ الملائم لهما، يمثّل انتصاراً على القضبان. على الورقة، كان بوسعي أن أمارس كل الحرية المفتقدة. منذ البداية، كانت لعبة الشكل تستهويني، فالحرية التي يتعامل بها الكتاب المعاصرون مع مادة الرواية كانت تثيرني للغاية. كل رواية تصبح مفاجأة تامة ومغامرة مثيرة جديدة، لا تكرار فيها أو ابتذال.
■ أي أنك منذ البداية، اتخذت قرار الاختلاف والتجديد والخروج من القوالب القديمة؟
كل جيلي كان خاضعاً لتأثيرات مختلفة. كانت هناك حركة عالمية للتمرد والثورة والتجديد في الأشكال الأدبية والسينمائية. السينما كانت أكثر تجديداً، وفيها جرأة في التعبير، وتتناول قضايا لم يكن ممكناً مقاربتها من قبل، وبالذات في فرنسا وأميركا. هذا الجو انعكس علينا، كنا نقرأ أخباراً يومية في الجرائد عن حركات التجديد. كما كان هناك باب ثابت في جريدة «الأهرام» يحرره وحيد النقاش الذي كان يتابع الصحف الفرنسية باستمرار ويكتب عن الجديد في الحركات الفنية. وبعدما خرجت من السجن، اشتغلت بائع كتب في مكتبة للكتب الأجنبية. كنت أتابع باستمرار الملحق الأدبي لجريدة الـ«تايمز» الذي كان يقدم كل ما هو جديد.
■ كل روائي يشغله سؤال واحد يمتد معه بصيغ مختلفة في كل رواياته، ما السؤال الذي يشغل صنع الله إبراهيم؟
كل رواية مبنية على محاولة فهم، سؤال ما: في التاريخ، الاقتصاد ... مثلاً رواية «العمامة والقبعة» كانت محاولة للإجابة عن سؤال حول تأثير الحملة الفرنسية على مصر. الأكذوبة الشائعة بأنّ هذه الحملة وراء تنوير مصر. العكس هو الصحيح، لقد أدت إلى قطع التطور الطبيعي للطبقة الوسطى، إذ ظهرت طبقة من التجار المصريين الذين شعروا أنّ هناك كياناً اسمه مصر بعدما كنا مجرد ولاية عثمانية. بعد ظهور هذه الطبقة بتجارها وشيوخها حدث احتكاك بطبقة تجار إيطاليين وفرنسيين، بدأ التفكير في الانفصال الجدي عن الكيان العثماني الذي يمتص دمنا. هذه الخطوات قمعت تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، وتراجعت هذه الطبقة، ووجدت الأمل والغطاء في القديم الذي كانت قد بدأت بالتمرد عليه. كان هذا السؤال الذي شغلني، وطرحته على نفسي وسط احتفالات أقيمت في القاهرة في مناسبة مرور 200 عام على الحملة الفرنسية. كانت هناك أحاديث هزلية عن المطبعة التي أحضرها معه الشيخ نابليون بونابرت ليطبع قراراته ويوزعها على المصريين، والغريب أنّ الحملة حملت هذه المطبعة معها في العودة ولم تتركها.
كما أنّ روايتي «ذات» كانت تعبيراً عن حالة غضب من الموجود، كيف كنا نتحمل ما جرى أيام السادات ومبارك وإجراءاتهما التي دمرت الطبقة الوسطى المصرية. كنت غاضباً وساخطاً، وامتد غضبي للمرة الأولى إلى الشعب المصري نفسه: لماذا يصمت ويرضى أن يعيش في هذا الذل. لم أكن أتصور أن تأتي أيام أكثر ذلاً من تلك الأيام!
■ قلت مرة إنّ الكتابة تأتي من جرح ما، ما الجرح الذي أثّر في صنع الله؟
أزمات عاطفية عديدة.
■ كم قصة حب فاشلة عشتها؟
طوال الوقت، أعيش قصص حب فاشلة. أنا في أعماقي رومانسي رغم الطابع الواقعي الشديد في كتاباتي، وهذا التناقض ينعكس عليّ دائماً.
■ لو لم تكن كاتباً، ماذا كنت تتمنى أن تكون؟
صحافي. كان هذا حلمي عندما التحقت بالجامعة. أصدرت مجلة حائط، وكتبت عليها »لسان حال الطالب الاشتراكي» واعتبرت نفسي ممثلاً للحزب الاشتراكي الذي أسّسه أحمد حسين. ثم أصدرت مجلة على غرار «روز اليوسف» وأسميتها «أنوار الجامعة» وكانت قائمة على الرسوم الكاريكاتورية يرسمها زميل لي كان يقلد رسّامي الكاريكاتور رخا وصاروخان. وفي كل عدد، كنت أكتب ثلاثة مواضيع، وأصدرت من هذه المجلة عددين.
■ لم فكرت في التمثيل وقتها رغم أن المخرج محمد ملص اختارك لأحد أدوار فيلمه الأول؟
(يضحك:) كنت مجرد كومبارس. اتخذت دور سجين يتابع أخبار العالم، ويقرأ الأخبار. لكني لم أفكر في التمثيل.
■ هل تفكر في كتابة سيرتك الذاتية؟
سيرتي ليست مثيرة، ولا مهمة. نتف منها موجود في رواياتي. بالتالي، قد أكرر ما كتبت بشكل أو بآخر، وأظن أنه من الأفضل بذل المجهود اللازم لكتابة سيرة في كتابة رواية جديدة.
■ ما الذي يشغلك الآن؟
سيناريو فيلم عن روايتي «تلك الرائحة» و«67». كما انتهيت من سيناريو فيلم مأخوذ من رواية «شرف» وتعذّر إنتاجه بسبب التمويل، وهناك رواية كبيرة أشتغل عليها منذ سنوات عن جمال عبد الناصر.
■ لماذا عبد الناصر؟ كيف تتعامل معه كشخصية روائية؟
بعد فترة صمت كرر السؤال باندهاش: ليه عبد الناصر؟ هو شخصية درامية من الطراز الأول، تستهويني عذاباته الداخلية والوجدانية، والسلطة عنده وحب الذات. لقد صاغ بجهود كبيرة وصنّع عملية اهتمام الناس به، ليعيش لذة هذا التعلق. لقد كان سعيداً بزعامته. محاولة فهم شخصية عبد الناصر وتناقضاته تحتاج إلى كتيبة من الكتّاب. الرواية محاولة تجميع صورة له، هي عن أعوامه الأخيرة قبل الوفاة. أحاول أن أتقصّى فيها علاقته بعبدالحكيم عامر، وإصراره على الانفراد بالسلطة ليصبح حاكماً مطلقاً، لكنه يراعي في الوقت ذاته الناس ويقوم على خدمتهم، وأبحث عن أسباب اختياره للسادات ... وهكذا!
■ هل سامحته وقد سجنت في عهده وتعرضت للتعذيب؟
يجيب بحدة: أنا لا أجيب على هذا السؤال! القضية ليست شخصية، أنا كنت منضماً لتنظيم سياسي، وهو اعتبر أنّ هذا التنظيم يعمل ضده ويسعى للسلطة. والطبيعي أنّ أيّ تنظيم يسعى للسلطة، وهو يريد السلطة منفرداً. طبعاً في التاريخ لا نقول «لو ... لو حرف شعبطة فى الجو» كما نقول. لكن هذا ما حدث. أنا أريد أن أفهم الظروف التي أدت إلى هذا الموقف، وهذه التناقضات.
■ أنت ترى أن عبد الناصر قد قتل؟
طبعاً، كل الشواهد تؤكد ذلك، وهناك محاولات عديدة لاغتياله تمت على فترات متقطعة. يصمت صنع الله: لا أريد أن أتحدث أكثر عن الرواية حتى أنتهى منها.
■ كنت أتوقع أن يكون هذا سؤالي الأخير: لو أعطيت لحياتك على مدى 80 عاماً عنواناً روائياً ماذا تختار؟
بعد فترة تفكير يجيب: حياة بلا جدوى.
■ الإجابة فرضت نفسها ليتواصل الحوار بعيداً عن الأدب، هل هذا يأس؟
بالتأكيد، نحن وصلنا إلى أوضاع مأسوية أشعر بالأسى بسبب هذه الأوضاع. كل أحلامنا وآمالنا تلاشت، سواء القومية العربية، أو العدالة الاجتماعية، مشروعات التحديث والتصنيع. الآن الصورة أبشع مما كنا نتخيل، وصلنا الى القتل على الهوية، المجازر اليومية التي تحدث في سوريا واليمن وليبيا ومصر. صورة بشعة والأبشع أنني لا أرى بادرة أمل على الإطلاق.
■ هل ترى أنّ الثورات العربية كانت تحمل بوادر أمل للخروج من هذا المأزق؟
بالتأكيد، لكن للأسف هزمناها بأنفسنا، لم يكن هناك تنظيم ولا برنامج ولا خطة، كل من خرج إلى الميدان تصوّر أنه ديغول زمانه، ومن هنا هزمت الثورة. في الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة، ترشحت شخصيات ليس لها أي حضور جماهيري، مثل أبو العز الحريري وخالد علي رغم نيتهم الحسنة وأدوارهم الاجتماعية، وحياتهم التي كرسوها لخدمة الناس. لكن ذلك ليس كافياً.
■ أنت تحكم على حياتك كلها بأنها بلا جدوى، رغم أن المأساة التي تتحدث عنها حدثت في السنوات الأخيرة؟
بقية حياتي هي أوضاع أدت إلى ما نحن فيه الآن، منذ إلغاء التعدد الحزبي، والدكتاتورية المطلقة، والعدوان الإسرائيلي. هناك أيضاً الدور المدمر الذي قام به السادات بعد وصوله إلى السلطة، ثم مبارك وقد خدموا أعداءنا بشكل مباشر، مقابل أثمان دفعت لهم. في السنوات الأولى من حكم عبد الناصر، حمل له السفير الأميركي 3 ملايين جنيه، أعلن عنها عبد الناصر وقتها وخصصها لبناء برج القاهرة. تخيل كم أخذ من جاء بعد عبد الناصر ولم يعلن عنه؟ أتذكر أحد هتافات الشباب في ميدان التحرير: «مبارك يا طيار ... جبت منين 70 مليار». أريد أن أعرف فعلاً!
■ لكنك تبدو يائساً رغم أن هناك فترات أشد حلكة وسواداً منذ العهد الملكي حتى الآن. هزيمة 67 مثلاً. أنت الذي كتبت «تلك الرائحة» التي كانت إنذاراً بأن كل شيء يتهدم؟
لا، في 67، كان هناك أمل، هناك معركة محدودة، وعدو معروف وأهداف، وقيادة لها عيوبها ومحاسنها، وكان لديها ثقة في الشعب، والشعب أيضاً يثق فيها. لكن الآن الوضع مأساوي. ليس لديك حتى حزب منظم تستطيع أن تقول إنّه يعبر عن الشعب في مواجهة السلطة. حتى «حزب التجمع» الوحيد الذي كان فيه أمل، باعت قياداته نفسها للسلطة منذ أيام مبارك، وبقية الأحزاب كارتونية، وهشة تحصل على معونات الدولة لكي تستمر على هشاشتها. الآن لا جريدة واحدة في مصر يمكن أن تقرأها أو قناة تلفزيونية يمكن أن تشاهدها أو تحصل منها على معلومة. ليس فقط بسبب تضييق السلطة، لكن لغياب الأداء المهني. عندما كتبت «تلك الرائحة»، كان هناك أمل بأن يحدث شيء، تغيير من خلال القوى التي أفرزتها الناصرية. الآن لا شيء.
■ لو اعتبرنا هذا المشهد اليائس نصاً روائياً، كيف تكتب خاتمته؟
المشهد الذي يخطر في بالي، ثورة عشوائية، لا أريدها. للأسف قد يتحقق حلم السادات بحدوث انتفاضة حرامية، وستقابل هذه الانتفاضة بعنف ووحشية، وهذا أيضاً ما لا أريده.
■ ألا يوجد أي بصيص أمل للخروج من هذا المأزق؟
للأسف، لا أعرف، سأكون كاذباً لو قلت لك، لكن أعتقد أن الخطوة الأولى هي اجتماع النخبة للاتفاق على طرق للخروج. نحن نحتاج إلى تغيير شامل، ليس فقط تغيير أشخاص، بل تغيير من الرصيف إلى الرئيس. وأتصور أن على النظام أن يفتح قنوات للتنفيس، ويقيم حواراً مع المعارضة. قد يؤدي هذا الحوار إلى نوع من التغيير المقبول لكل الأطراف، الحوار يمنع الانفجار.
■ أخيراً ما هي أحلامك وأنت في الثمانين؟ كنت تحلم أن تكتب رواية خالصة عن الجنس والجسد الإنساني تختار لها عنوان «الاستعراض الأخير»، هل لا تزال على حلمك؟
يضحك: حلمي أن أنتهي من المشاريع التي أعكف عليها. أما روايتي عن الجنس، فأتمنى أن أكتبها، لكنها ليست على جدول أعمالي الآن.
(عن جريدة الأخبار اللبنانية)