لما غضب منّي محمود الورداني، الروائي الهادئ مثل بحيرة، لم أسترح قبل استرضائه ونوال عفوه، لأنني اكتشفت أن الذين أحبهم منذورون للطفولة، وبسبب الخوف منهم والخوف من الحرية، أحسست أن قلبي ينفرط أمامي مثل الشارع الجديد، وفي أثناء اجتيازي هذا الشارع، رأيت أبي ورأيت أمي في لباسين بلون واحد، ورأيت المازني يمشي بمفرده، وأدونيس وأنسي الحاج يطردان معاً الآلهة من الجنة، ورأيت سعدي يوسف يحشو جيوبه بقصائده العالقة في حجارة البصرة ليقذف بها الأنظمة كلها، ورأيت الشيوعي المصري أحمد القصير يهتف ضدي وضد الورداني وضد صنع الله إبراهيم.
آنذاك ظهر صنع الله، ثم سمعت صوتاً يهتف بي: إياك أن تخونه باللغة البيضاء، فارتبكت، ومثل شخص طائش أزحت عن طريقي الشعر القديم كله، إن الثمانين، وبُلّغتَها، عيد بأية حال، وعمدت إلى تثبيت الكادر على صورة صنع الله في قلبي، بجسده النحيل وشعره الهائش ونظراته النافذة، ورأيته على الرغم من بروز الثلاثة: الجسد والشعر والنظرات، عفريتاً من الجن، قلت: لعله إسقاط الحدود، لكنني قبل أن أتمّ قولي، سمعت صوتاً آخر يخرج من حلقي: لعلها صورة الفنان في شبابه، فاتكأت على نفسي، وحرصت على كتابة اسمه تحت الصورة، وتذكرت أنني في أول معرفتي باسمه، صرت كالممسوس أردد كأنني أزهو، إن صنع الله في عامه، في العام التاسع عشر، دخل الزنزانة، وبينما كان يرسم صورة مبتكرة لفجر جديد سوف يصادفه، رأى العسكر يقتلون شهدي عطية الشافعي، ورأى الله يغفر لهم، ورأى الصحراء تحاول أن تغزو قلبه لتحتله وتحرره من أحلامه.
وعلى الرغم من انتصار الأحلام، استمرت غربته الغربية وغربة الواحات مثل شوكتين حتى استرختا وأصبحتا مكاناً مبسوطاً تحت جلده، لم يتخلص منه إلا بعدما فرده على الورق في كتابيه «يوميات الواحات» و«برلين 69». في سبعينيات القرن الماضي، بدأنا قراءة صنع الله، قرأناه منجماً، تلك الرائحة أولاً ثم نجمة أغسطس ثم اللجنة ثم بيروت بيروت، واختلفنا حوله، وشغلتنا بعض التقابلات والتقاطعات بين رواياته تلك وروايات «الغريب» لألبير كامو و«القضية» لفرانز كافكا و«الولايات المتحدة الأمريكية» لدوس باسوس، وظللنا نحفظ له مكاناً أثيراً بعيداً عنهم وقريباً منهم، وقرأناه مجمعاً بين أقرانه الستينيين، ولأنه كان أكثرهم برّيّةً، لم نستطع أن نضعه في خلاء واحد مع أحدهم، باستثناء غالب هلسا، الذي ظننا أغلب الوقت أنه يحمل في حقيبته صورة صنع الله، وأن صنع الله يخفي اسم غالب في أماكن سرية من ذكرياته.
بعدها بدأت وحدي قراءة ترجماته لحمار ديبرون وعدو جيمس دروت، أعترف أنني لم أصحب حمار ديبرون أكثر من مرتين، ربما لأنني لست فلاحاً، وربما لطول ملازمتي حمار الحكيم وحمار خيمنيث، لكنني تأبطت ذراع «العدو«، وما زلت ألجأ إليها عندما أصطدم بالأوهام العارية، ما زلت أحلم بأنني ذلك البنّاء العظيم الذي يؤسس بناية تنشأ فوق قاعدة حلزونية تسمح بدوران البناية، لكن أهل المدينة لم يستطيعوا أن يقبلوها مكاناً للسكنى أو الإدارة، فجعلوها مدينة ملاهيهم، البنّاء العظيم الذي يصنع الحلم تواجهه الجماهير التي تمسخ حلمه. فيما بعد حاولت أن أقارب بين الاثنين، البنّاء وصنع الله، غير أنني توقفت خشية التعسف في تبجيل الوعي الشقي، وخشية الغلو في تبخيس الوعي الزائف، والخشية الثالثة كانت يقيني من اعتراض صنع الله على تأويلاتي كلها، لكنني فوجئت بأنني أقارب بين صنع الله وأبي، كلاهما آثر ألا يعمل غير العمل الذي يحبه. نظر أبي إلى العالم فلم يعجبه، وإلى نفسه فأعجبته نفسه وهتف: سأتبعها، ونظر صنع الله فلم يعجبه العالم ولم تعجبه نفسه وهتف: سيتبعانني.
لأنه كان أكثرهم برّيّةً، لم نستطع أن نضعه في خلاء واحد مع أحدهم، باستثناء غالب هلسا. كلاهما غسل يده من تراب الميري وانصرف إلى تراب الروح، ينبشه ويستخرج منه الفأس التي تخصه، كلاهما كان يتأرجح بين الحرية أو الموت، أذكر أنه في يوم الأربعاء 2 شباط (فبراير) 2011 والذي أطلقنا عليه «يوم موقعة الجمل» أذكر أنني تلقيت ضربة عصا غليظة، بعدما هاجم الرجال الجوف والخيول والجمال الميدان. ليس غريباً أن الرجال الجوف ما زالوا، أذكر أنني في أثناء فراري باتجاه مجمع التحرير والجامعة الأميركية، التقيت صنع الله داخلاً الميدان فصرخت فيه: اخرج! اخرج! وارتجفت خوفاً عليه، وخشيت أن أسقط لولا أن ثبتتني خطوته الهادئة. بعد انصرافي بخطوات، نظرت إليه عن بعد، فغمرتني ذكريات الأوقات القليلة التي جمعتنا، مما جعلني أتعالى على آلام ضربة العصا، وأغرق في نفسي، خاصة أن تجاربي العديدة في الغرق كانت من أجل صيد الأحلام.
لذا رأيتني كمن ينزل رأسه على صدره ويجهش بالبكاء، لأن المعلم الأول ماجدة فكري شعراوي ماتت. رأيتني كمن يهيم في الليل بحثاً عن ليل أبيض يخصها، وبينما فجأة أصبحت أجلس في سرادق العزاء، دخل صنع الله ولمحني، فجلس إلى جواري. كان الشيخ يقرأ قرآنه، عندها مال صنع الله ووشوشني: طبعاً أنت تحفظ كل هذا. نظرت في عينه وغلبتني الابتسامة. ولما اتسعت الابتسامة، رأيتني أترك السرادق وأنتقل إلى صالة أحد فنادق الدقي في القاهرة، حيث سنحتفل بعرس الكاتبين رانيا خلاف وياسر إبراهيم. كنا أقل من عشرين شخصاً، وكنت قد اصطحبت صديقة مغربية تدرّس الفلسفة وتعشق الرقص الشرقي وتحترمه، وتجيد المؤامرات. بنظراتنا، تواطأنا على أن نحول العرس الصامت إلى عرس له أجنحة. قمنا ورقصنا وتبِعَنا الآخرون، الأصدقاء والعروسان عدا صنع الله. دعوته للرقص فأبى وقال: إنني أرى فقط.
تذكرت أنه كان منذوراً لتغيير العالم وتغيير نفسه، وأن الرؤية/ الرؤيا وسيلته وغايته. يرى ما نراه فنطمئن، ويرى ما لا نراه فنستزيد. لم آسف على اختلافي مع ما يراه إلا عندما لبس ملابسه البسيطة وذهب مثل أحد المبشِّرين، علّه يرفع صوته ويأمر باحتلال المثقفين وزارة الثقافة واعتصامهم بها. أحسب أن حنجرته لم تستجب. يومها طلبني تلفونياً الشاعر سماح الأنور، وعاتبني على غيابي، فاستحييت وأنا أقول له لا أستطيع لأنني أرتاب. كان الصراع بين ديكتاتوريتين، ديكتاتورية السماء وديكتاتورية العسكر، وكان المثقفون يشعلون النار كأنهم يحاربون السحاب الأحمر، يحاربون السماء.
طردت من قلبي فكرة أن صنع الله يمكن أن يقبل أحد البديلين ويعينه على الآخر، ولم أستطع أن أبرّئ بعض الآخرين، خاصة الذين جلسوا أغلب أوقاتهم تحت المظلة، وروزنامة الأيام والليالي أُثبتت فيما بعد أننا كنا طيبين وحمقى. وبسببهما، الطيبة والحماقة، أفلتنا من لحى الشيوخ إلى بنادق العسكر. أيامها، قابلت صنع الله مرة واحدة. كان عائداً من ثكنات وزارة الثقافة، ذاهباً إلى عمله في دار الثقافة الجديدة، وكان اتجاهي عكس اتجاهه. بعدما أولاني ظهره، لاحقته بنظراتي، إنه لا يمكن أن يكون إلا الرجل الصوفي العابر في الوقت العابر، وخرقته رواياته. حكى لي أحد أصدقائي، أنه ذات يوم ركب المترو، ففوجئ بصنع الله جالساً، وكان يراه للمرة الأولى. دنا منه وانتصر على خجله وحيّاه وأخبره كيف يحب كتاباته، وصنع الله ينظر في عينيه وينتظر صمته. ولما صمت، ابتسم صنع الله وسأله: كيف عرفتني؟ وبعد فاصل سكوت، ذام صديقي وشد على يد صنع الله، وافترقا.
هكذا، أصبح صنع الله في نظر صاحبي كاتباً صوفياً عذباً، فأول التصوف عنده ألا تنشغل برؤية الآخرين لك، وآخره أن تنشغل بضرورة عدم رؤيتهم لك، وحافة اللاطمأنينة عند الصوفي أن يتهمه بعضهم بأنه من طلاب الولاية، وحافة الهاوية أن يكون كذلك. في سنة 2003، رفض صنع الله جائزة مؤتمر الرواية، وأغلب الذين اتهموه بطلب الولاية والشهرة هم أغلب الذين شاركوه فيما بعد في احتلال وزارة الثقافة. أذكر أنني يوم الجائزة، رأيت صوفيته السياسية في أوجها، خاصة أننا جميعاً لم يحدث أن ضبطناه عضواً في وفود الكتاب التي ذهبت وتذهب لمقابلة الرؤساء السادات ومبارك والمجلس العسكري ومحمد مرسي والسيسي والذي يليه والذي يليه والذي يليه.
اختار صنع الله خلوته على مقاس جسده النظيف، واختار أن يكون الكاتب فقط لا أن يكون الكاتب العمومي. آخر مرة رأيته فيها، كانت تحت راية الخيال، في أثناء قراءتي لروايته الأولى 1967، التي أعانني نشرها مؤخراً على استقبال الإشارة وفهمها. الإشارة تقول إنّه بعد خمسين سنة من النكسة الأولى، يمكن أن تحدث النكسة الثانية، وسوف تكون عمياء وخرساء وبغير عقل. وها هي، ها هي تحدث أمام عيوننا، ها هي تدهسنا، نحن بالتحديد، نحن أولاد القحبة، نحن الأعداء، والأعداء في اللغة جمع العدو. لذا، أرجوكم أن تتلصصوا على صنع الله وتراقبوا البورتريهات التي تملأ خياله، ففيها ربما ستجدون صورة الكومبرادور وصورة البكباشي وصورة الأصولي ذي اللحية وصورة العدو، فقط لن تجدوا البنّاء العظيم.
(عن جريدة الأخبار) اللبنانية