ومن استقبلنى بابتسامة كبيرة وأنا أخطو إلى مهنة الصحافة، وقال: مافيش تعيين يا سى محمد، «الأهالى» جريدة فقيرة. قلت: لا يهم، أريد أن أعمل معكم. فاتسعت ابتسامته التى سأفتقدها دائما.
هو كان قائد الكتيبة، «الأهالى» المرعبة في منتصف الثمانينيات. جريدة لا نصبر إلى صباح الأربعاء لنقرأها، بل ننتشر بحثا عنها قرب مدينة الطلبة مساء الثلاثاء. نتذوق الكأس التى كان يمزجها أسبوعيا فى صحة الوطن، وعماله المناضلين، وفلاحيه الفقراء، والمهنة التى كانت شريفة. «رحل القمر إلى المحاق يا حبيبى، وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر»، كما كتب فى رثاء فتحى رضوان.
وهو الوحيد الذى كنت أسلمه الموضوع، فينادينى بعد دقائق: اسحب كرسى واقعد جنبى. كان الأسطى، والصنايعى، والمُلهَم بتركيبة إبداع المؤرخ والأديب والكاتب اللاذع.
بدأ صلاح عيسى مشواره صحفيا تتلاطمه الأرصفة، وعاش سنواته الأولى مفصولا وسجينا وشريدا وصعلوكا محبوبا. كان كتابه «الثورة العرابية» كلمة أولى فى كتاب ضخم يعيد فيه قراءة تاريخ المحروسة القريب، فنسمع منه الحكاية كأنها المرة الأولى. ونفهمها كأنها لم تعبر خواطرنا من قبل. وهو الذى كان يعلق خلف مكتبه شعار عصرنا التافه، «ادينى بُنطة لحام، كوز المحبة اتخرم». وترن ضحكته الصافية وهو يترجمها للانجليزية: جيف مى وان بونتا!.
وهو الذى ترك إدارة الأهالى مع الأستاذ حسين عبدالرازق تحت ضغوط من قيادات حزب التجمع. قال لهم فى الاجتماع الأخير: اختاروا بين نشرة حزبية لنشاطكم وصوركم، وبين جريدة مهنية تنشر مزاجا يساريا عاما. واختاروا الأولى، فكتب مقاله الأخير: هذا وقت التفرغ لمشروعات كتبي المنسية، ورعاية موداتي الإنسانية الصغيرة التي أهملتها.
وجمع أوراقه من على المكتب «الإيديال» المعدنى، وغادرنا بقامته المديدة، الوسيمة.
وهو الذى طلب أن أكلم الشاعر عبدالرحمن الأبنودى ليكتب في جريدة القاهرة التي كان يرأس تحريرها. في الإسماعيلية رفض الأبنودى. سألته ألم تقل إنه الأكثر موهبة في جيلكم. رد: صلاح عبقري جيلنا، لكنه الآن لا ينتمى لنا.
كان الأستاذ قد بدأ تغريبته. كان يكتب من حضن الأفاعي، لأن الهزيمة بدأت في التسعينيات، واكتملت بانتصار الثورة المضادة ليناير.
وهو الذى رأيته في أستديوهات مدينة الإعلام قبل عامين، قليل الكلمات والابتسام. احتضنته بما يليق بمعلمي الأول، ولم أعرف أنها المرة الأخيرة.
وهو الذى لخص حركة يوليو 1952 بعبارة «كل الطرق تؤدى إلى 5 يونيو». عبارة جامعة تشير إلى الستينيات، وما أدراك ما الستينيات إذ ترفض الرحيل عن جسد الوطن.
الجمعة قبل الماضي نشر آخر كلماته فى عموده الأسبوعي، عن مشروعات قوانين تحرير الصحافة والإعلام. سجل اعتراضه الأخير عما يجرى مستعيرا جملة هاملت الشهيرة: أشعر أن هناك رائحة كريهة تأتى من الدنمارك.
هو الذى عرف قبل رحيله أن مصر ثالث أكبر دولة تحبس الصحفيين، وفى المركز 159 من حيث حرية الصحافة، وأن إعلامنا بيزنس تديره جماعات مصالح ومغامرون عابرون للحدود والتصنيفات. اعتراضه الأخير نبوءة بما سيحدث للصحافة قريبا.
وهو الذى كتب: «هذا زمن غادر وكاذب. أذاع التليفزيون نبأ الموت في سطرين غادريْن كمعظم ما يذيع من أنباء، وما يبثه من صور»، وكان يرثى أحد رفاقه.
»لا أحد يعوض الراحلين. وبالأمس أجازوا قانونا جديدا يبيح التجريف. يسأل: تجريف الأرض؟ أجيب: والعرض أيضا»، كما كتبها ووقع فى نهاية المقال الطويل، الممتع، الحزين
النبوءة الأخيرة لأستاذ التاريخ