رحم الله الأستاذ الكبير العم صلاح عيسى

بـلال فضـل

وقعت في غرام كتابته في سنتي الجامعية الأولى، حين قرأت كتابه الأقل شهرة (تباريح جريح) الذي ضم بعضاً من أروع مقالاته في جريدة (الأهالي) خلال سنواتها الذهبية القليلة والوحيدة في الثمانينات، ولم أفوّت له سطراً كتبه بعد ذلك، وبسببه حلمت بأن أكون كاتب مقالات، وحلمت بالعمل معه، وتحقق الحلمان وإن لم يكن لهما فيما بعد نفس الزهوة المرتجاة.
أول لقاء لي به كان سنة 93 في قاعة المطالعة بدار الكتب وأنا في سنتي الثالثة الجامعية، بعدها بعامين، كنت سكرتير التحرير المكلف بالتواصل معه لتنسيق واستلام بابه الأسبوعي الذي كان ينشره في (الدستور) وينشر فيه بعضا من مختارات الصحف القديمة، بل وسحيقة القدم، وكان قد سبق أن بدأه في مجلة (الدوحة) في السبعينات، كانت المكالمات الأسبوعية بداية لصداقة وتتلمذ مباشر، ليصبح من ساعتها (العم صلاح)، قبل أن يتحقق حلم العمل معه عام 98 في تجربة مجلة (القاهرة) الشهرية الصادرة عن وزارة الثقافة، والتي اختارني للعمل فيها أستاذنا رجاء النقاش، وكان العم صلاح مديرا لتحريرها، قبل أن تعصف الخلافات الإدارية بالتجربة، لتتحول بعدها بسنة إلى صحيفة أسبوعية، ويصبح عم صلاح رئيسا للتحرير ويختارني مديرا للتحرير أو محرراً عاماً كما نُشِر في الترويسة، وأعيش تجربة من أمتع وأغرب تجارب حياتي، كانت بعد فترة قصيرة سببا في تركي العمل بالصحافة تماماً، بعد خلافات عاصفة في المواقف، صرت مع مرور السنين قادراً ـ وعازماً ـ على أن أحكيها، ليستفيد منها من أراد.

كانت زيارتي الأخيرة لمكتبه في القاهرة بعد رحيلي عنها بسنوات زيارة عاصفة، بعد أن رفض نشر النص الكامل لرد غاضب ـ جدا ـ على مقال كتبه السيناريست الكبير مصطفى محرم، وكان ذلك آخر عهدي برؤيته وجها لوجه. حين عدت بعد سنوات لكتابة المقالات، كتبت مختلفاً معه مرتين حول مواقف اتخذها، وكان عم أحمد فؤاد نجم يقول لي من حين لآخر: "ما تيجي أصالحك على أبوك ياله"، فأقول له مكابراً بقسوة الشباب: "محا الموتُ أسبابَ العداوة بيننا"، يفهم مقصدي فيضحك ويضرب كفاً بكف، ولحسن الحظ لم يكن الموت هو الذي محا أسباب العداوة بيننا، فقد كانت قيمته بداخلي أكثر حياة ورسوخاً، فأصبحت مع مرور السنين والتجارب، وبعد أن عرفت نماذج بشرية مختلفة، أنظر إلى ما جرى بيني وبين العم صلاح بوصفه تجربة إنسانية مهمة، لم أتعلم في حياتي مثلما تعلمته منها، وأصبحت قادراً على فهم مواقفه الجديدة وتناقضاته دون أن أتفق معها، خصوصاً بعد أن أصبح لي أنا أيضاً تناقضات ومواقف تغضب من يحبني.
الطريف أن عم نجم كان هو الذي صالحني عليه فعلا ـ عليهما ألف رحمة ونور ـ حين كتبت في الدستور 2007 مقالا عن كتابه البديع عن الأوراق القضائية لنجم. ومع مرور السنين، لم أفقد محبتي له برغم استمرار اختلافي معه، والذي عبرت عنه في أكثر من مقال، وكنت أتعمد مشاكسته بأن أتصل به لأقول له "في حد كاتب عنك النهارده كذا، تحب أبعت لك نسخة"، فيضحك ويقول بطريقته المميّزة حين يكون غير راضٍ عما يسمعه": ماااشي يا سيدي"، وعلى فترات متباعدة، كان يهفّني الشوق لسماع صوته، فأتصنع أو أختار مسألة تاريخية لأناقشها معه وأستزيد من معرفته الواسعة، خصوصا حين بدأت كتابة مسلسل لم يكتمل عن النحاس، وكنت حين تصل المكالمة إلى نهايتها أطرب بسماع قفلته الشهيرة حين يكون راضياً "مااااشي يا جميل"، وكنت سعيداً حين قلت له بأمانة في آخر مكالماتنا قبل سفري، أنني حين أكتب عنه، سأكتب بصدق وتقدير وحب ورغبة في الفهم، وكان بديهياً أن تنتهي المكالمة بقفلة "ماااشي يا سيدي".
قبل عامين وضعت في صدر أحدث كتبي (فيتامينات للذاكرة) إهداءا مشتركا له وللدكتور خالد فهمي، كتبت قائلا: "وإلى كتاب حكايات من دفتر الوطن وكاتبه صلاح عيسى، الأستاذ برغم كل شيء". وبسبب ظروف السفر حرصت على أن أنبه أكثر من صديق لكي يحيطه علماً بالإهداء، لعله يعرف أنني لا زلت أحبه برغم كل شيء، ولا زلت أدين بالفضل لـ(حكايات من دفتر الوطن) الذي رشحته في أولى حلقات برنامج عصير الكتب حين بدأت تقديمه أواخر 2009.
منذ يومين كان الصديق أحمد ندا يسألني عن تفضيلاتي في الكتب لتنشر ضمن موضوع يعده، فاخترت على الفور (تباريح جريح)، وبعد أن انتهينا من الحديث ذهبت إلى المكتبة وأخرجت كتابه البديع (الثورة العرابية) الذي كان واحدا من الكتب التي حملتها معي عبر الأطلنطي لأعيد قراءته، قبل أسبوع وجدت له على الإنترنت نسخة من كتاب (صك المؤامرة) الذي أصدره مع جميل عطية إبراهيم ولم يكن قد احتفظ بنسخة منه، تذكرت مكتبته العامرة والكتب التي تبادلناها سويا في أيام الدستور والقاهرة، يأخذ مني كتاباً جديداً مقابل أربعة أو خمسة كتب عظيمة من الكتب التي كنا نسمع عنها دون أن نراها، ولا زلت أتذكر موقع كتبه في المكتبة التي تركتها خلفي، في رفٍ يسميه أحد أصدقائي الطامعين في كتبي، وهو عارف نفسه كويس: رف غنائم عم صلاح عيسى.
عرفت خبر وفاته اليوم من بوست للصديق سيد محمود، "منشنني" فيه مع أصدقائي حمدي عبد الرحيم وأكرم القصاص وسعيد شعيب الذين شاركوا في تجربة القاهرة، كتب سيد: "الحزن يليق بهؤلاء بعد رحيل الأستاذ صلاح عيسى"، بكيت بحرقة لأن العم صلاح رحل قبل أن أودعه، وقبل مزيد كنت أنتظره من النقاش والجدل والتعليقات والحكايات، كان لدي أسئلة كثيرة تشغلني يا عم صلاح، أغلبها عنك وعن تجاربك وحياتك وأبناء جيلك، كنت أريد أن أستزيد منك قبل أن أكتب عنك وعني وعن الزمان الوغد، كما كنت تحب أن تسميه، وكما كنت تحب أن تستشهد بمقولة نجيب محفوظ عنه "ولكن الزمان عدوٌ لدودٌ للورود." يشتد بكائي حين أتذكر آثار التعذيب خلال حبسه في الستينات، والتي رأيتها في قدمه حين زرته مرة في بيته، لأجري معه حوارا مطولا نشرته في صحيفة خارج مصر عن تجربة اعتقالات سبتمبر، وأتمنى أن أنشره في كتاب يوماً ما، لما فيه من تفاصيل مهمة، أتذكره في يوم آخر حين حدثني عن ابنته، وعن تجربة العمل كأخصائي اجتماعي، وعن قدرته المدهشة على الجمع بين صداقة الأبنودي وسيد حجاب ونجم، قبل أن ينعم الله عليّ بالجمع بين صداقتهم والتعلم من تجاربهم بفضل مفاتيح أهدانيها للتعامل معهم.

أفكر في طريقة لإرسال تعزيتي للأستاذة أمينة النقاش أعانها الله وصبّرها، أتذكر العم رجاء في أيام رضاه على العم صلاح وأيام غضبه عليه. وعلي لأنني واصلت العمل في (القاهرة) مع صلاح، قبل أن يرضى عني، ويحضر زفافي فأسعد به كما لم أسعد بأحد من ضيوفي، ويرحل وهو راضٍ عني.
أتذكر الملاحظات التي يرسلها لي على أوراق الموضوعات المقدمة للجريدة، والتي لا زلت أحتفظ ببعضها، تعليقاته على لائحة العمل في القاهرة والتي أعددت مشروعها، أتذكر اللحظات التي ينتقل فيها زميل لنا من مرحلة "أهلاً يا زميل" إلى "أهلاً يا جميل"، أتذكر مذكرات شاعر البؤس عبد الحميد الديب عن تجربته في مستشفى المجانين، والتي أرانيها في مجلدات الصحف القديمة التي يحتفظ بها، وكان يفترض أن ينشرها بتحقيق ومقدمة وافية في كتاب، لكنه لم يتمكن من ذلك، لانشغاله برئاسة التحرير والكتابة والمشاركة في البرامج، فحرمنا من عشرات الكتب المدهشة التي كانت مادة بعضها شبه مكتملة لديه، أقول له: لو كنا في بلد محترمة لمنحك المسئولون فيها مرتبا شهريا ضخما، لتتفرغ لإنجاز كتبك، لم أكن أفهم سعادته بموقع رئاسة التحرير الذي حصل عليه من هم أقل منه موهبة وتاريخاً وعطاء، أقول لنفسي: يوماً ما سأفهم، ولا زلت أحاول فهم ما تورط فيه من مناصب ومواقع عطّلته عن الكتابة، وعطّلتنا أيضا عن القراءة له.
أتذكر الخناقات العاصفة والضحكات المجلجلة والكتب المدهشة ومنافستي الطفولية له في اقتناء الكتب النادرة وحكايات النميمة التي تنتهي بضحكة خاصة مميزة تنقلب أحياناً إلى سعال يطول حسب درجة "النمّاية"، ألعن الزمان الوغد الذي لم يجعل ناشرا يتبنى نشر كل أعماله، ليسهل وصولها لقرائه، وأفكر أن الوقت قد حان لإعادة قراءة ثالثة لـ (شخصيات لها العجب)، وأن الوقت لن يكون مناسباً الآن لإعادة قراءة (مثقفون وعسكر)، متمنياً أن يفتح الله على أحد مصوري الكتب فينشر النسخة الكاملة من (حكايات من دفتر الوطن) بدلاً من النسخة الناقصة الموجودة على الإنترنت، ليقرأها من لا يجدون إليها سبيلاً، ثم أفكر بعد ذلك كله في أن غاية ما يتمناه الكاتب أن يترك خلفه كتابة لها أثر راسخ يكفي لأن يغفر له محبوه كل ما سواها.
ألف رحمة ونور عليك أيها العم والصديق والأستاذ، برغم كل شيء.
للأصدقاء الذين سيحضرون الجنازة: السلام وقراءة الفاتحة أمانة والنبي.