الدفعة مطلوبة!

سـناء البيـسي

قيمة عالية قوي.. موهبة فريدة بالقوي .. فارس نبيل بدرجة امتياز .. نضال قوي، سياسة قوي، ثقافة قوي، تأريخ قوي، حضور قوي، وطنية قوي، وفاء قوي، صداقة قوي، موقف قوي، حنان قوى، جريح قوي، أحزان قوي، ساخر قوى قوي .. صفات حلوة قوى افتقدناها ورحلت عن عالمنا برحيل الكاتب المبدع صلاح عيسي.

أقرأ له، وتسحبني كلماته الحبلى بالثقافات والسياسات والرؤى إلى نهايتها، وقد أكون مخالفة للافتة تعلو موقعه وحزبه ومذهبه وسكته ودواعي محابسه وأهليته، لكنني دائماً عندما أجلس إلى سطوره أجدني أرفض تصنيفه، وأستبعد بُعده، وأقترب إلى شموليته، ويقتصني عدل منطقه، وأسكن توصيفه، فبداخل الأشواك والاحتجاج والتباريح والجراح وملوحة الدمع والأوجاع والانكسارات والثورات وشظايا الذكريات يسكن الفنان والكاتب الموسوعة صلاح عيسى، صاحب القلب الرهيف الذى بدأ قارئا لأمه التي لا تقرأ ولا تكتب، لكنها تحب الإنصات إلى نبرات صوته الشجي العميق وهو يقرأ لها كتبًا مبسطة للتراث الإسلامي والسيرة النبوية، وسير كبار الصحابة وروايات مقتل سيدنا الحسين، ومن هنا جاء تأثره بقصص التاريخ الإسلامي الثرية بالتفاصيل والدراما والمعرفة، ثم انتقل تدريجيا في فترة المراهقة إلى الروايات البوليسية، فهو فرد من جيل نشأ في رحاب السلاسل الثقافية مثل سلسلة «الكتاب الذهبي» و«روايات الجيب» المترجمة، وقصص أرسين لوبين وأجاثا كريستى حيث خشى والده من شده تعلقه بتلك النوعية، اعتقادًا منه بأن المطالع للقصص البوليسية ودهاليزها سيصبح في النهاية لصًا، فنهاه عنها واعدًا بمنحه البديل وكان رواية «القدر» لفولتير من ترجمة طه حسين. وانطلق من بعدها لقراءة أعمال جميع المبدعين في مصر والعالم العربي، وذهب عيسى ليقرأ في كل مكان وكل وقت، ومن هنا فإن صفحات كتبه غالبًا ما تزيّنها بقع الطعام، لأنه يقرأ وهو يأكل أحيانًا، لكن عندما يستعد لعمل بحثى أو تأليف كتاب يقرأ على المكتب لساعات بلا طعام وبلا توقف، وحوله مجموعة من الكروت البيضاء لنقل المادة من مصادرها.

ويسخر عيسى قائلا: ومن بين عاداتي القراءة أثناء الممشى، فعندما أشترى كتابا جديدا لا أطيق الصبر حتى الوصول للمنزل، أو المكتب، وأبدأ في تصفحه في الشارع على أرض الطريق، مما يعرضني لسيل من اللعنات من أول عبارة «فتح يا أعمى» و«انت مش شايف يا بجم» وهى من الجُمل التي تعودت على تلقيها عقب اصطدامي بالمارة في سكة القراءة الماشية.

عيسى الذى قضى جزءا كبيرا من عمره غارقا في كتب التراث والوثائق القديمة وهواية تحقيقها، وهى أعمال تحتاج لقراءات متأنية واطلاع لساعات متواصلة، ويرجع ذلك في جزء منه إلى تكرار فترات سجنه، واعتياده الصمت خلالها ـ حيث سُجن للمرة الأولى فى عام 1966، مع تكرار القبض عليه ومحاكمته ما بين 68 و81 ــ حتى كان الكاتب كامل الزهيري يقول له: «انت رجل اعتدت على الحبس الانفرادي، وبالتالي لا مشكلة لديك في أن تظل لساعات حبيس الجدران بجوار الكتب». وكان عيسى من المكتشفين الأوائل لمخزن الدوريات بدار الكتب، فكان يقرأ فيه طوال اليوم، وينسى أحيانًا الغرض الذى أوصله إلى هناك، ويكتشف أثناء الاطلاع على الصحف القديمة والوثائق النادرة رؤوس موضوعات، وأفكار لكتب جديدة، وعندما فصله السادات من عمله في الجمهورية عام 1973، وبعد ثلاثة أشهر من الاحتجاج، لم يصل إلى شيء، فوضع همه كالمعتاد في القراءة التي يعتبرها مع التأليف بمثابة اللعب، حيث لا تخلو من المتعة، ولذلك لم يكن أبدًا مضطرًا لقراءة كتاب لا يروق له، وبالتالي لا يكتب أبدًا موضوعًا لا يمتعه، وكان من نتاج جولاته الصاعدة إلى دار الوثائق بقلعة صلاح الدين كتاب «الثورة العرابية» و«رجال ريا وسكينة» و«دستور في صندوق القمامة» و«مثقفون وعسكر» ضمن 23 كتابًا للجريح صاحب التباريح المولود عام 1939بقرية »بشلا» التابعة لمركز ميت غمر دقهلية، زوج الكاتبة الصحفية الكبيرة أمينة النقاش، والوالد لابنة واحدة الدكتورة سوسن عيسى الأستاذ بكلية الهندسة جامعة القاهرة. صلاح عيسى زميلي في مجلس نقابة الصحفيين الذى كان يضع الأمور في نصابها عندما يستعر التباين. صلاح عيسى الذى كتب في إهدائه كتابه «تباريح جريح» لأبنى المتابع لجميع سطوره: «إلى الابن هشام كنعان المستقبل الذى نراهن عليه«.

و.. كانت أجمل ليلة .. ليلة طالت حتى خيوط الفجر عشتها أستمع إلى نوادر وذكريات وروايات الحكاء صلاح عيسى ضمن باقة من علماء الآثار والزميل الصحفي رياض توفيق عندما ذهبنا إلى فرنسا في دعوة من عالم الآثار العالمى زاهي حواس لحضور افتتاح معرض للآثار الفرعونية المنتقاة من متاحف العالم إلى جانب ذخائر اللوفر الفرعونية. حكى وروى وقال صلاح، وخشيت أن يفرش نور الصباح أركان المكان فينتبه القوم لنقوم ويسكت عيسى عن الكـلام الذى أذكر منه أنه كان في زنزانة واحدة رقم 14 بسجن ملحق طرة مع فؤاد سراج الدين باشا، ومحمد عبدالسلام الزيات النائب السابق لرئيس الوزراء وشقيق الكاتبة لطيفة الزيات ــ صاحبة رواية «الباب المفتوح» ــ وقد جمعت السلطات بين ثلاثتهم بتياراتهم المختلفة، وحقبهم التاريخية المتباينة، وسياساتهم المتصارعة في مكان ضيق ليزيد من جحيم إقامتهم.

وعلى عكس المنتظر ساد بينهم الوئام حتى أن صلاح كان يأخذ برأس فؤاد باشا الملتهب من الحمى ليوسده ساقه ليضع له الكمادات المبللة المصنعة من أكمام الفانلات، ولصغر سنه عنهما ولأنه أوفر منهما صحة كان يعفيهما من بعض ما يشق عليهما من أعمال تتطلبها المعيشة المشتركة في مكان ضيق. فكان ينوب عنهما في كنس الزنزانة ونشر البطاطين وتنفيضها، وكانا حريصين على أن يشعراه طوال الوقت بامتنانهما، وعن فؤاد باشا قال لنا صلاح إنه لم يسمعه لحظة يشكو أو يتأفف أو يضيق بظروف السجن، وكان ينتقى من طبق طعامه السيئ المفروض عليهم ما يتناسب مع أمراضه الكثيرة المتعددة، وكان لا يزيد عادة عن بعض الخضروات الطازجة، وحين كان صلاح يحاول التنازل له عن نصيبه منها، كان الأمر يحتاج إلى مناقشة مجهدة.

ويؤكد صلاح أنه خلال الأسابيع التي أمضاها مع سراج الدين وراء القضبان أتيح له التعرف إلى مزاياه الإنسانية، وفوجئ به رجلا ألوفاً في غير ترخص، متواضعًا في غير صنعة، وكبيرا بلا تكبر، يملك قدرة تؤهله لاكتساب مودة الآخرين، ولا يترك فرصة تمُر بدون أن يجد أرضية مشتركة تجمع بينهم وبينه.. ومن الزنزانة 14 خرج العدد الأول والأخير من المجلة الإذاعية «الزنزانة» التي رأس مجلس إدارتها وتحرير بابها الرياضي فؤاد سراج الدين، وكان رئيس التحرير الزيات، أما مدير الإعلانات والتحرير ومذيع الربط فكان صلاح عيسى الذى حصل بمساعدة سراج الدين على موافقة محمد حسنين هيكل ـ زميل المعتقل ــ لإجراء أول حديث معه على الهواء .. ويمضى صلاح في جلستنا التاريخية يسامرنا يحادثنا يسلينا، يجرى لنا اختبارًا حول مدلول الكلمات الشعبية المتداولة التي قابلته أثناء تحقيقه لكتاب «مذكرات فتوة» تأليف المعلم يوسف أبوالحجاج، أذكر منها عبارة «قلتله»: أي قلت له.. و«إوعك» أى اوعى لنفسك، وإوعى يسرقوك، ويوصف الشخص اليقظ بأنه واع .. وكلمة «الملعوب» بمعنى الحيلة، و«اللطخ» أي الرجل الأحمق الذى لا خير فيه، و«شاخط فيه» أى نهره، و«بلّها واشرب ميتها» بمعنى الاستهانة بالشيء، و«أونطجي» أي مخادع ونصاب وأصلها يوناني «أفانتا» بمعنى حيلة تحولت إلى أونطة وفلان أونطجى، ولفظة «يكركع» أي يقهقه، و«تقّل جيبك» أي تعالى بجيوب ملآنة بالنقود، و«متنطورين فى كل حتة» أي متناثرون في كل مكان، و«ركبى سابت» بمعنى تفككت أوصالى من شدّة الخوف، و«صِنْ شوية» أي اسكت قليلا، و«كلمة منه كلمة منهم» أي حوار دار بين طرفين، و«عان يده» أي رفعها، و«اللى سبق أكل النبق» بمعنى المكافأة لمن يحوز كأس السبق، و«وجب» للموافقة على شيء، «صافية لبن» انتهاء الخلاف، «فين وفين» للإشارة إلى زمن طويل انقضي، و«بداله» أي بدلا منه، و«روخره» أي هي الأخرى، و«فهمت الفولة» كشفت الحيلة، و«البطحة» أي الجرح في الرأس، و«قلِّبته» بمعنى فتشته بلغة النشالين، و«التلاحة والتلامة» بمعنى البرود، و«يفتح اللـه» للاعتذار، و«ضبّع» أي توغل فى الأمر بدون مراعاة للحق، و«لِم نفسه» أي التزم حدوده، و«على سهوة» أي بشكل مفاجئ، و«فالفوس» أي فيلسوف، و«أولت امبارح» أي أول أمس، و«ننسخط» أي نعود أطفالا، و«سفخنى قلم» أي صفعني على وجهى، و«بشويش» أى بهوادة ورفق، و«راميين طوبتها» بمعنى أصبحت لا تثير اهتماما، و«يبستفوه» أي يسخرون منه. وطوال رحلة العودة مكثنا نمتحن بعضنا، ونسمَّع لبعضنا، ونزايد على بعضنا، ويحكم ما بيننا أبو صلاح الجدع الأسمراني المشاغب رائدنا وكاتبنا وسامرنا.

وإذا ما كان صلاح عيسى قد هَامَ بالبحث وغرق في بحور الوثائق ليخرج علينا بأكثر من 23 كتابا كان أولها «الثورة العرابية» الذى قام بنشره عام 1972 ليحتوي ضمن وثائقه على خطاب نادر أرسله عرابي في 25 فبراير 1888 أي بعد نفيه بست سنوات إلى زوجته في القاهرة التي ترعى عشرة أبناء أكبرهم محمد الواثق، وكان عند نفى والده في العشرين، والابنة الثانية أم كلثوم التي كانت وقت نفيه في الثانية عشرة:

إلى حضرة صاحبة العفة والعِصمة حرمنا المحترمة رعاها اللـه آمين.

بعد إهداء عاطر السلام وباهر التحية قد حظيت بتلاوة رقيمكم، وحمدت اللـه على صحتكم التي هي غاية ما أتمناه، هذا وقد سررنا بما منحنا اللـه سبحانه من ولادة المولود لولدنا محمد بك، جعله اللـه فاتحة الخير والبركة، نخبركم بأن كريمتنا أم كلثوم أرسلت لنا جوابا ولأخيها معنا جواباً آخر بتاريخ 18 فبراير 1888 وبتلاوتهما حصل لنا كدر شديد، إذ إنه علمَ لنا منهما أنها تخلقت بأخلاق ذميمة، وتلك الأخلاق ليست من طباعنا أصلا، بل إنها اكتسبت ذلك من مخالطتها إلى حرم أخيها التي ابتلانا اللـه تعالى بها، والغالب أن زوجة الأخ المشار إليها لم تكن مصرية، وربما كانت أجنبية تزوجها الابن في كولومبو، ثم أرسلها إلى مصر لتقيم مع بقية الأسرة عندكم، أو لتضع حملها كما هو واضح في سياق الخطاب، ومن ذلك أنها أخفت عنكم جوابنا المرسل إليكم بتاريخ 2 فبراير 1888 الذى فيه تدبير حالكم، ومنها أنها طلبت من أخيها أن يتوجه إلى دكان فلان، ودكان فلان، الخواجات الإنجليز بهذا الطرف ــ أي في كولومبو عاصمة سيلان ــ وتأخذ منهم ملبوسات حرير أنواع، كل واحدة طقمان، أعنى لها ولأخواتها وزوجة أخيها الخواجاية، ثم يرسل ذلك إلى طرفكم بدون علمي، وعند مطالبة الخواجات بحقوقهم أكون مجبورًا على دفع الثمن، ولاشك أن هذا الفساد نتيجة تعليم زوجة أخيها، إذ أنها لا تعلم أسماء تجار هذا الطرف، وليس ذلك بغريب من زوجة أخيها المذكورة، فإنها فعلت ذلك معنا مسبقا، وظهر الآن أن الخواجات بهذا الطرف يطالبوننا بمبلغ يزيد على مائة جنيه، بمقتضى طلبات محررة منها بدون علمنا، وللآن جار تسديد هذا المبلغ شيئا فشيئا، ومنها أنها تتعلم عليها الكتابة الإنجليزية وتوقع اسمها على الجوابات المرسلة لنا بالقلم الإنجليزي والأمر الذى يستوجب عليه قطع أياديها. فهي أولا خانتكم وإياي بإخفاء الجواب عنكم، ثانيًا طلبت من أخيها خيانتي، ثالثًا تتعلم كتابة قوم لا يعود علينا وعليها منهم إلا الضرر أو الفضيحة والعار، فيقتضى تفهمها بذلك بحضور إخوتها جميعاً، وتعرفوها بأن ذلك أول غضب صدر منى عليها وعلى إخواتها الهوانم بعدم وجودهن بطرف زوجة أخيها مطلقا، حتى لا يسرى فيهن فساد الأخلاق وسوء الأدب بمخالطتهن لها.

مرسل لكم حوالة بمبلغ عشرين جنيها، فيجرى صرفها حسب الجاري، حيث رأيت تأخير مبلغ الحاج شلبي لوقت آخر، أفيدونا عن صحتكم وعن حالة نظير حسن بك، وصحة على بك، وسلموا لنا على حضرة الوالدة مع تقبيل وجنات الأنجال، ومن هنا محمد بك وأولاده بخير وعافية ويقبلون أياديكم ووجنات الأنجال ودمتم بخير وعافية.

خادم وطنه
أحمد عرابي الحسيني المصري

وما لم يعرفه أحمد عرابي ــ الذى كان يُصر على أن يضيف إلى اسمه صفة الحسيني، اعتزازًا بانتسابه إلى الدوحة النبوية الشريفة ــ هو أن أم كلثوم تعلمت الإنجليزية لتستطيع التفاهم مع هيئة الدفاع عن والدها، وكانت تتكون من شخصيات سياسية وقضائية مما كان يعرف آنذاك بـ«أحرار الإنجليز» الهيئة التي لم تكف طوال السنوات التي قضاها عرابي في المنفى عن المطالبة بإعادته إلى وطنه.

ويظل صلاح عيسى على مدى نصف قرن يبحث عن مقولة طه حسين: «لا أقنع بالاشتراكية الفاترة ولكنى أياسر إلى أقصى ما أستطيع» وكانت عبارة «أياسر» تلك يكثر ترديدها والاستشهاد بها بين اليساريين، فما بال لو قالها طه حسين نفسه، وأخيرًا قالها صلاح «وجدتها». وجدها قد جاءت في رد طه حسين في آخر عدد من مجلة الفجر الجديد الصادر في يوليو 1946 والتي كانت تنافس مجلة »الكاتب المصري» الذى يرأس تحريرها طه حسين الذى كان قد كتب في افتتاحية مجلته في أكتوبر 1945 بحثا مطولا بعنوان «الأدب العربي بين أمسه وغده» حذر فيه الأدباء من الخضوع بغواية الكتابة الشعبوية التي تفقد الأدب عمقه وتميزه وتسقطه في براثن الابتذال، ويأخذ على الراعي في تعليق على طه حسين أنه يضع الأدب الرفيع في ناحية، ويضع الشعب وما ينشئه من أدب يعبر عنه في ناحية أخري، ويعاتبه بقوله إن الأدب الشعبي العامي هو أدب المغلوبين والمضطهدين، وأن نهوض الشعوب سيخلق أدبا جديدا يعبّر عن أقوى التيارات في المجتمع، وأن الأدب الرفيع في المستقبل لن يكون إلا أدبا شعبيا حقيقيا. وسريعًا ما يرد طه حسين بقوله الذى فتَشَ عنه صلاح على مدى نصف قرن «إن كاتب التعليق وضعني في وضع لا يحبه، ولا يحبني .. فلست كاتبًا برجوازيا وما أحببت قط أن أكون برجوازيا، وإنما أنا رجل شعبي النشأة والتربية، شعبي الشعور والغاية أيضاً«.

وأضاف أنه قد يكون قد أخطأ في التعبير وقد يكون الكاتب قد أخطأ في الفهم.. مؤكدًا أن «الأدب إذا اعتزل الشعب أو نأى عنه فقد حيويته وفقد قيمته» وأن ما قصد إليه هو أن يحتفظ الأدب بمكانه الفني الرفيع وأن يتجه مع ذلك إلى الشعب ليرفعه إليه، لا لكى يهبط بأدبه إلى الشعب، وضرب مثلا على ذلك بأدب »مكسيم جوركى» وأمثاله، فهو أدب رفيع ومع ذلك فهو متصل بالشعب أشد الاتصال، وبالتالي فليس من الضروري أن ينحط الأدب ليصبح شعبياً .. وليس من الضروري أن يبقى الشعب حيث هو جاهلا غافلا.

ويختم «طه حسين» رده قائلا: «للكاتب أن يصفني بما يشاء إلا أن أكون أرستقراطي النزعة أو برجوازي التفكير، فلست من هذا كله في شيء، وإذا لم يكن من بد أن أبيّن له عن مذهبي في الحياة السياسية والاجتماعية، فليعلم أنني لا أحب الديمقراطية الفاترة ولا المعتدلة. ولا أقنع بالاشتراكية الفاترة.. وإنما أياسر إلى أقصى ما أستطيع»! وارتاح صلاح عيسى بعدها لقول طه بأنه «أياسر» أي يساري مثله، وأيضًا غير مقتنع بالاشتراكية الفاترة!! وكان طه هو المثل الأعلى لديه من بين كل مفكري عصره الذين أثروا فيه .. طه حسين الذى قامت الثورة وهو يدرس في باريس ويجئ سعد زغلول إليها من منفاه حاملا آمال مصر في الحرية والتقدم ويلتقيان اثنان من أرض مصر من قرية واحدة رغم تباين الأسماء، جاورا زمنا في الأزهر وعلا في الصحافة ردحا من الزمن وعاشا بالقرب من زمن التنوير المصري على تعقد خريطته .. بين الاثنين يدور حوار غريب.

كان سعد حزينا. خفتت أحلام الاستقلال وأوصد مؤتمر الصلح أبوابه أمام الوفد المصري، الذى سافر يحمل آماله إلى ضمير العالم ويطلب تنفيذ مبادئ «ولسن»، كشف ضمير العالم عن خدعة كبرى، ويعرف «سعد زغلول» أن «طه حسين يدرس التاريخ فيسأله: أو مؤمن أنت بصدق التاريخ؟ ومن لهجة السؤال يرد «طه حسين» بعلامة استفهام أخرى:

- لماذا اليأس والشعب قد استيقظ؟..

ويقول سعد بأسى بالغ: وماذا يستطيع الشعب أن يصنع وهو أعزل لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلا عن أن يثور على أصحاب القوة والبأس.

ويؤكد طه حسين أن الشعب إذا كان اليوم أعزل فسيجد السلاح غدًا..

فيسأل الزعيم: وأين يجده؟! من يأتيه به وهم يحرسون الحدود؟

وبسخرية مريرة يقول طه حسين: إن الذين يهربون لنا الحشيش يستطيعون أن يهربوا الأسلحة.

ويغرق سعد فى الضحك .. ويقول وهو ينهض: ألا تعلم أن الذين يسمحون بتهريب الحشيش سيراقبون تهريب الأسلحة.

ويفترق الرجلان العظيمان .. وقد وضعا القضية في وضعها الصحيح .. يتركان درسهما الكبير: فكروا .. استبدلوا الوعى بالحشيش..

ويكتب أبوصلاح ويظل يكتب ويكتب، ويلح البعض عليه ليكتب سيرته الذاتية الخالصة تأريخا لتجربته الذاتية مرورًا بظروف دراسته الخدمة الاجتماعية، ثم العمل في الصحافة بجريدة الجمهورية، حتى تفرغه للعمل في صحيفة الأهالي التي تمثل منبر اليسار المصري، وبعدها جريدة القاهرة الثقافية التي صدرت عام 2000 ليُشرف عليها لمدة 15 عاما، إلا أنه كان يرى أن سيرته موزعة في مؤلفاته وصحافته حيث اعتبر الصحافة منصة نضالية هدفها تحسين شروط العيش الإنساني، وكان من أبرز القامات التى واجهت محاولات النيل من حريتها من موقعه النقابي، وقبل وفاته وبعشرة أيام كتب مقاله الأخير ليقع بعدها فى غيبوبة طويلة استمرت خمسة أيام لم يأت لنا أبدًا منها، وكان عنوان المقال »أين اختفت قوانين حرية الصحافة والإعلام«.

فى كتابه الدامع «تباريح جريح» ــ الصادر فى 1978 والذى أهداه لصديقه الشهيد الفنان ناجى العلى حزن بعمق جراحه الطرية التي بقيت تستعصى على الاندمال ليعلق فأسها في رقبة الذين طاروا بأشواق جيله إلى ذرى الجبال، ثم ألقوا بها بقسوة جلفة إلى جب الهزيمة والانكسار.. فى سطوره كتب صلاح عيسى عن واقعة حقيقية بطلتها امرأة من «يافا» خرجت ذات يوم من أيام الهول تبحث عن مفر.. كان الغزاة قد طبقوا على المدينة تكتيك حصار حدوة الحصان، فأحاطوا بها من ثلاث جهات .. يطلقون النار على كل شيء حيّ، فلا يبقى إلاّ الفرار.. وخطفت تلك المرأة من يافا ما استطاعته من متاع خفيف، وكومت طفتلها النائمة على الفراش فى أغطيتها، واندفعت تجرى أمام الهول، وهو يعدو فى إثرها: طلقات رصاص طائش تصيب الذين يحاولون الخروج عن النص المرسوم، أو عن طريق الخروج من فلسطين، لا العودة إليها، وتصيب الذين يتباطأون في العَدْو، فيتعثر فيهم الذين اتخذوا أماكن خلفهم في الطابور .. والكل يجرى .. وحين عبرت المرأة »جسر اللنبي» وأتيح لها لأول مرة، أن تتوقف عن العدو، وأن تتنبه إلى ما هي فيه، اكتشفت أن مابين أحضانها ليس طفلتها الرضيعة، لكنها الوسادة.

وكان طريق العودة إلى يافا قد أصبح مسدودًا..

ويعود صلاح عيسى ليؤكد على الحقيقة التاريخية التي تقول إن كل موجات الإرهاب التي ضربت مصر بواقع كل عقد من الزمان منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن، قد انكسرت في النهاية ولم تحقق واحدة منها هدفا من أهدافها، بل انتهت جميعا بانفضاض الجماهير عن الذين يقومون بها، وعن التيارات التي ينتمون إليها. والمجد للشهداء والأبطال دفاعا عن إرادة الشعب واستقرار الوطن.. وفى ٣ نوفمبر الماضي يكتب صلاح عيسى باختصار ووضوح: الشعب يريد ــ يا سيادة الرئيس ــ أن يوقع معك عقدا اجتماعيا، يكلفك بمقتضاه أن تكون رئيسا له لمدة أربع سنوات أخرى، وتتعهد بموجبه أن تقيم أعمدة بناء مصر كدولة عصرية مدنية ديمقراطية.

ومما هو واضح وجلى في المشهد الصحفي أن المهنة المهانة من بعد ما كانت صاحبة جلالة ببلاطها اللامع، انكسرت نفسها، ووقعت رقبتها فوق صدرها لتغدو مهنة مسح البلاط، وتكسير الأحجار، وأرجحة الرئاسات، وتعدد الهيئات، وزرع الأصنام، وضرب الأخبار، ومنافسات الفس والواتس والتويتر والمواقع والانستجرام والاسترحام وسانجام والإرهاب وفرق الدولار، ومن هنا ولأن لكل صاحب أجل كتاب سارعت قلاقل صحافتنا باستدعائه على عجل بدون أن يتسع وقته ليحضر شنطته أو يكتب مقالته، ليقع منا الكثير ممن على وش القفص، ومقدمة الطابور، وواسطة العقد، وذائع الصيت، وباذل الجهد، وصاحب قضية .. بالأمس رحل الأبنودى، وفاروق عبدالقادر، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، ولبيب السباعي، ومها عبدالفتاح، ومكاوي سعيد، وبهيرة مختار، وأفكار الخرادلي .. واليوم صلاح عيسى.. و.. الدفعة مطلوبة!