مساء الخميس الماضي 21 ديسمبر/ كانون الأول، دخل الكاتب الصحافي صلاح عيسى في غيبوبة نتيجة إصابته بسدة رئوية واضطرابات في القلب، ألزمته العناية المركزة بمستشفى السلام، غير أن تدهور حالته الصحية عجّل في نقله، مساء الاثنين، إلى مستشفى المعادي العسكري بقرار رسمي، لم تمضِ ساعة على دخوله المستشفى حتى فارق الحياة تاركًا خلفه 78 عامًا في هذه الدنيا.
بدأ صلاح عيسى (1939) حياته كاتبًا للقصة القصيرة وأصدر مجموعته القصصية "جنرالات بلا جنود"، ثم انشغل بالتاريخ طوال حياته، وكان لهزيمة يونيو 1967 أثر كبير في ذلك، إذ أفاق جيل الستينات المصري كله على الهزيمة بعد أن منوا أنفسهم بأمل يوشك أن يتحقق، وهكذا أعادوا قراءة التاريخ مرة أخرى ليعرفوا حقيقة ما حدث ومآلاته في القريب الذي ينتظرهم، وكان عيسى أحد أبناء هذا الجيل، ولذلك خرج كتابه "الثورة العرابية" مختلفًا عن غيره من الكتابات التي تناولت تلك الفترة، إذ إن ثمة تشابهًا قرأه عيسى بين الفترتين، الحركة العرابية، وانقلاب 1952، للاثنين نفس القوة في المطالبة بتغيير أفضل، وللاثنين نفس النتيجة في كسر الأمل والوصول لنهاية أسوأ من كل الخيالات.
اعتقل صلاح عيسى لأول مرة فور أن أنهى دراسته الجامعية والتحق بوظيفة بوزارة التضامن الاجتماعي، تأثر باليسار المصري وانضم لمنظمة وحدة الشيوعيين التي ضمت مبدعين كثرا إلى جانبه واعتقلوا جميعًا على خلفية معارضتهم لنظام عبد الناصر.
كان عيسى يقف على يسار عبد الناصر تمامًا، ومقالاته في مجلة الكاتب التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة خلال حقبة الستينات حققت ردود أفعال صاخبة وقتها لدرجة أن تغيرت هيئة تحرير المجلة بالكامل، بسبب المقالات التي كانت تنتقد، بلسان لاذع وساخر أيضًا، المؤسسة الفكرية الناصرية، وكان معارضًا كبيرًا لسياسات نظام يوليو القمعية وكان يرى فيها امتهانًا للإنسان وإهدارًا لحقوقه وحرياته وآدميته. جمع عيسى هذه المقالات بعد ذلك في كتابه الشهير "مثقفون وعسكر" الذي تطرق للعلاقة بين المثقفين والسلطة الحاكمة لنظام 1952.
كانت تجربة المعتقل مفيدة لعيسى: "السجن تجربة جميلة. فيها أنتجت أول مجموعة قصصية. تمنيت لو أن الحكومة تعتقلني كل عام شهراً ونصف الشهر للتأمل، والتفكير في الكتابة أكثر".
مع السادات لم تتغير فلسفة عيسى الذي كان يردد مقولة غوركي: "جئت إلى الدنيا لكي أعترض". استمر في انتقاده لسياسات السادات ونشر مقالاته في جريدة الجمهورية ولكنها منعت سريعًا ليعود للمعتقل مع انتفاضة يناير/كانون الثاني 1977 ثم اعتقالات سبتمبر/ أيلول 1981 الشهيرة التي اجتمع خلالها في زنزانة واحدة مع الصحافي المصري الأشهر محمد حسنين هيكل والقيادي الوفدي البارز فؤاد سراج الدين.
في السبعينات تشكلت نجومية صلاح عيسى كصحافي كبير له آراؤه المهمة من خلال جريدة الأهالي التي احتل فيها عيسى موقعًا مرموقًا وحققت كتاباته المنتظمة فيها ردود أفعال واسعة الانتشار على المستويين المصري والعربي، وخاصة ما كان يكتبه في زاويته من سخرية من تصرفات وردود أفعال وجوه السلطة الرسمية وقتذاك.
تميز صلاح عيسى في كتابته عن الحال الاجتماعي للمصريين، وتشريحه للمجتمع المصري وبحثه عن الجذور الأولى المشكلة لهويته، وكان يستخدم الصحافة كوسيلة لتوصيل هدفه وهكذا فإن عمله بالصحافة أضاف إليه ولم يأخذ منه، كما احتفظ لنفسه بموقع خاص كمؤرخ، إذ حمته الصحافة من التصنيف كمؤرخ ومن ثم التعرض لانتقادات ليست بسيطة، كتب عيسى دون أن ينشغل بالتصنيف وكان دائم القول: "أنا بكتب ورزقي على الله". تجلت كتابة عيسى عن الواقع الاجتماعي لمصر في كتابه "ريا وسكينة" الذي نزل إلى المهمشين يستنطقهم ويحكي عنهم في سردية بديعة عن المهمش والمنسي.
غير أن صلاح عيسى بدل موقعه من اليسار إلى اليمين مع جلوس الرئيس الأسبق حسني مبارك على كرسي الحكم، إذ قبل عيسى التعامل مع مؤسسات الدولة وبدا ذلك في موافقته على رئاسة تحرير جريدة القاهرة، التي نشأت خصيصًا بسبب خلافات الوزير فاروق حسني مع جريدة أخبار الأدب القاهرية ومؤسسها جمال الغيطاني. وعلق عيسى لافتة ظلت مرفوعة فوق مكتبه بالجريدة: "جئت إلى الدنيا كي أعترض". غير أنه من الواضح أنه تخلى عنها فيما بعد، ربما لبشريته، وربما لاقتناعه بعدم جدواها وأن إيثار السلامة بات أفضل.
كان موقف عيسى غريبًا وغير مبرر لدى الكثيرين الذين عرفوه بمواقفه القوية وربما الحادة مع نظامي ناصر والسادات، غير أن عيسى برر: "الحكومة ليست كلها فاسدة، لا مانع من التعاون مع من يفتح منها طاقة نور للمعارضة". ولكن طاقة النور لم تكن لتفتح في مقابل التضييق على مطبوعة ثقافية في أهمية أخبار الأدب.
ومع التدخلات المتكررة لفاروق حسني في سياسة القاهرة ورؤيتها ظل عيسى في مكانه بعد أن خاض صراعًا مع رجاء النقاش الذي كان يرى نفسه الأحق برئاسة تحرير المطبوعة التي تصدرها وزارة الثقافة، ومع تولي الصحافي سيد محمود رئاسة تحرير القاهرة، احتفظ عيسى لنفسه بمنصب رئيس مجلس إدارتها، في استمرار لتعاونه الرسمي مع الدولة ومؤسساتها، هذه الفلسفة الجديدة التي لا تكشف عن انتقاد لسياساتها أو معارضة لمواقفها.
مع نظام الرئيس السيسي بلغ الأمر مداه، حيث رحب عيسى بالنظام، وأيد قراراته، وقال بأن 30 يونيو ثورة، وسار في ركب النظام الذي أتى بالمظاهرات فشرع قانونا يمنع التظاهر وحبس على خلفيته عشرات الشباب. استمر في موقعه كرئيس مجلس إدارة القاهرة حتى وفاته، ليتحول إلى "شخصية لها العجب" كواحد من أبطال كتابه الماتع "شخصيات لها العجب" عن شخصيات لعبت أدوارًا مهمة ومؤثرة في التاريخ السياسي والثقافي المصري خلال القرنين الماضيين.
وربما مثلت تجربة صلاح عيسى في معارضة وانتقاد السلطة الحاكمة نموذجًا للنضال اليساري المصري وربما العربي بشكل عام، الذي لا يكمل الطريق لنهايته، وفق آراء ترى في هذا التحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين مشهدًا طبيعيًا كإحدى النتائج المباشرة لليأس العام، هذا التيار الذي حقق معدلات هائلة في سجل الإخفاقات فكانت النتيجة أن فقد البعض منه إيمانهم بالقضية وآثروا الانزواء وبدأوا يقبلون فكرة التعاون مع الدولة/ النظام، ولم يكن صلاح عيسى الوحيد في اتباع هذه الفلسفة، إذ سبقه رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق الذي أيد هو الآخر نظام السيسي واعترف به وكانت انتقاداته لا تعلو فوق ضرورة تقويض نفوذ رجال الأعمال وتضييق الخناق على المال السياسي لضمان عملية سياسية أكثر نزاهة. هذان اسمان من أهم وأكبر ممثلي اليسار المصري الذي يفتقر للنضال الشامل، وللمناضل الذي بوسعه أن يموت من أجل قضيته، وهي الميزة الأشهر والأعظم تأثيرًا لتيارات اليمين السياسي.