أول القول في أمر الكاتب والصحافي المصري، صلاح عيسى، الذي رحل الأسبوع الجاري عن 78 عاما، هو وجوب وفائنا، نحن العاملين في الصحافة، له. ليس فقط من باب الزمالة، وإنما أيضا تقديرًا لتجربته المحترمة في مهنتنا هذه، سيما أن الرجل يُشهد له أن صحيفة الأهالي، اليسارية والحزبية معا، في فترة توليه رئاسة تحريرها، في الثمانينيات خصوصا، توفّرت على مقادير عاليةٍ من الجاذبية، فمع حيثيّتها ناطقةً باسم حزب التجمع الوطني التقدّمي الوحدوي (هذا هو اسمه)، ومع انتسابها إلى منظور ماركسيٍّ ظاهر، إلا أنها نجحت، في أثناء رئاسة صلاح عيسى تحريرها، في أن تشدّ إليها مروحةً عريضةً من القرّاء المصريين ليسوا من أصحاب هذا الهوى، ما يعود إلى إتقانها فن الاعتراض والاحتجاج، وإلى مقادير ملحوظة فيها من الانفتاح على أمزجةٍ وحساسياتٍ فكريةٍ أخرى، فضلا عن شجاعة خطابها وجرأته في مناوأة السلطة، وفي تعيينها أوجه العوار المهولة في أداء الحكم على غير صعيد. ولا تزيّد في التأشير هنا إلى أنه تيسّرت للصحيفة، في طوْرها ذاك، مقروئيةٌ ليست قليلةً من جمهور عربي، على الرغم من مشاغلها المحلية المصرية، ومن حزبيّتها، دلّ على ذلك بيعها في غير عاصمةٍ عربية.
كثيرٌ من هذه المزايا التي أقامت عليها "الأهالي"، لمّا كانت تبعث على الإعجاب بها (ما أخبارها الآن؟)، متحقّقٌ أساسا في صلاح عيسى نفسه، كاتبا ومثقفا وصحافيا، وهو الذي ظل يتصف بالحيوية الدائمة، والحضور في أكثر من شأن ومسألة. ولئن انعطف إلى خياراتٍ لم نحبّها له، في السنوات القليلة الماضية، فإنه، مع ذلك، حافظ على اليسارية المنحازة إلى الهوامش الاجتماعية، وواظب على دفاعه من أجل الحرية، ولم يتنازل عن عروبيّته والسمت القومي الذي انطبعت به ماركسيته عقودا. ولا يتغافل التنويه بهذه الشمائل في تجربة صلاح عيسى الغزيرة، وهو الكاتب الحاذق عن حق، عن اصطفافه مع العسكريّ الحاكم الآن في مصر، من باب خصومة اليسار التقليدية مع "الإخوان المسلمين"، ولا عن صمته عن مباذل النظام الراهن بشأن الحريات العامة، وإنْ لم يغالِ في الأمرين، وبدا حريصا على ثوب الاعتدال فيهما. وأيا يكن الأمر، لا يحسن اختزال الرجل، ومسيرته مناضلا و"مشاغبا" حقيقيا، ومناهضا للاستبداد ومنحازا للديمقراطية، في هذه الخاتمة التي تورّط فيها يسارٌ مصري وعربي واسع. كما أن شيئا من التحفّظ يمكن إشهاره هنا بشأن استسهال رمي صلاح عيسى بأنه ارتمى في حضن السلطة في أواخر زمن حسني مبارك، وفي حظيرة فاروق حسني، لما تسلّم رئاسة تحرير صحيفة القاهرة التي تتبع وزارة الثقافة. ومع احترام وجهة النظر التي تنتقد الراحل، لاستقباله مغازلة النظام هذه له بإيجابية، ومع التسليم بأن ثمّة شيئا من وجاهةٍ في هذا الانتقاد، فإن "جذريةَ" كهذه قد لا تصلح، بالضرورة، في هذا المطرح. والأدعى ربما أن يُنظر في الذي أدّاه صلاح عيسى في هذه الصحيفة الثقافية، وفي ما كتب وأعلن من مواقف وآراء، وفي الوسع العثور هنا على كثيرٍ للرجل وقليلٍ عليه.
يجوز الزعم إن صلاح عيسى كان، في خريف حياته، نموذجاً دالا على قعود اليسار المصري (والعربي) في غير الموضع الذي كان يلزم أن يُقيم فيه، وفاءً للقيم التي ناضل من أجلها يساريون كثيرون، وضويق عليهم بسببها، ودخلوا السجون جرّاء اعتناقهم لها، ومزاولتهم إياها في العمل الأهلي والمدني العام. وفي سيرة صلاح عيسى، لا تجد منازلةً واحدةً مع أنظمة جمال عبد الناصر وأنور السادات ومبارك إلا وكان في طليعة ناسها، وقد استوحى من السجون التي احتجز فيها أفكارا وتأملاتٍ حضرت في غير كتابٍ له. وبالمناسبة، ثمّة متعةٌ ضافيةٌ في مطالعة كتب صلاح عيسى (23 كتابا)، المتنوعة في مقارباتها التاريخ والراهن، وهي التي اعتنت كثيرا بالفضاء الاجتماعي والسياسي للوقائع التاريخية التي خاضت فيها. أما مقالاته، وهو "آخر أسطوات الصحافة المصرية"، فتكشف البساطة فيها عن ذكاءٍ بيّنٍ في جدّية معالجاتها وأفكارها، وتشيع ارتياحا لدى من يقرأها، وإن خالف مقصدَها ووجهة النظر فيها. ومقالات كتابه "مثقفون وعسكر" (1983) وغيرها في كتبٍ أخرى، تعجبك فتحبّها، ليس كما بعض مقالاتٍ متأخرةٍ له، قد لا تعجبك ولا تحبّها.
موجز عن صلاح عيسى