فى ليلة من ليالى مايو عام 1995، مرر مجلس الشعب فى جلسة مسائية استمرت لنحو 5 ساعات القانون 93 لسنة 1995 الذى عرف حينها بقانون «حماية الفساد.«
القانون المشبوه الذى عمل على تفصيله ترزية قوانين مبارك، وعلى رأسهم الأسطى فوزية عبدالستار صاحبة أشهر «أتيليه للتعديلات الدستورية والقانونية» نهايات القرن الماضى، عدل بعض أحكام قانونى العقوبات والإجراءات الجنائية والقانون رقم 76 لسنة 1970 بإنشاء نقابة الصحفيين، وغلظت مواده عقوبات الحبس فى قضايا النشر فوصلت إلى الأشغال الشاقة لمدة ١٥ عاما، وضاعفت الغرامات ٢٠ ضعفا، وعاقبت على «الخبر الصادق والكاذب» بحسب الراحل مجدى مهنا عضو مجلس النقابة حينها.
فى ذات الليلة صدق مبارك على القانون، وفى الصباح نشر فى الجريدة الرسمية، فى اليوم التالى اجتمع مجلس النقابة فى غياب النقيب إبراهيم نافع الذى كان خارج مصر، وترأس الاجتماع جلال عيسى وكيل النقابة، واتخذ عددا من القرارات أولها الدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة فى 10 يونيو يسبقها مؤتمر عام للصحفيين فى الأول من يونيو.
انعقد المؤتمر العام للصحفيين، وحضره أكثر من 1500 صحفى، أعقبه اعتصام احتجاجى يوم 6 يونيو بمقر النقابة شارك فيه صحفيون من كل الأجيال والاتجاهات الفكرية فى أكبر حركة احتجاجية شهدتها أروقة النقابة على مدى تاريخها، اكتست خلاله حوائط النقابة بالرايات السوداء، وقررت عدد من الصحف الحزبية الاحتجاب، ثم انعقدت الجمعية العمومية بحضور النقيب وقررت أن تظل فى حالة انعقاد دائم لحين اسقاط القانون.
وفى تلك الأثناء ألقى وكيل النقابة جلال عيسى خلال الاحتفال بعيد الإعلاميين الذى حضره مبارك كلمة طالبه فيها بسحب القانون، فرد عليه المخلوع عقب الاحتفال قائلا: «هو احنا بنبيع ترمس»، وهو ما صعد من غضبة الصحفيين.
حاول رجال مبارك تفادى الأزمة المتصاعدة وتواصل أسامة الباز مستشار مبارك حينها وصفوت الشريف وزير إعلامه بعدد من كبار الصحفيين والنقابيين للبحث عن صيغة للخروج المشرف من تلك الورطة، عقد الرئيس اجتماعا مع النقيب وأعضاء المجلس النقابة، وطرح مجموعة من التصورات للحل منها تجميد إحالة الصحفيين للحبس مؤقتا، وتشكيل لجنة من المجلس الأعلى للصحافة وبعض شيوخ المهنة للبحث عن مخرج.
بعد شهور توصلت تلك اللجنة التي غلب على تشكيلها الطابع الحكومي إلى تصور تم عرضه على اجتماع للجمعية العمومية وتسويقه باعتباره حلا وسطا، هنا وقف رجل التشريعات الصحفية المخضرم صلاح عيسى طالبا الكلمة، وأخرج من جيبه ورقة «مانيفستو» مكتوبة بقلم «فولمستر» أمسكها في يده فقط ليستعين بها لكنه كان يحفظها عن ظهر قلب، وقال «الحكومة عايزه تضحك علينا وتتحايل على مطالبنا بهذا الطرح وإليكم الدليل بوجود عشر من الحابسات الباقيات«.
ووفقا لما نقله لي نقيبنا السابق يحيى قلاش عضو مجلس النقابة آنذاك، فإن عيسى أخذ يسرد النقاط ويوضح الحيل والألغام ويكشف سوء النية والالتفاف، فانقلبت الجمعية العمومية، فأعادت الكلمة التوازن لموقف مجلس النقابة. تشدد موقف المجلس مرة أخرى، وأعلن في اجتماع تال لهذه الجلسة استقالته الجماعية ليضع الحكومة في مواجهة الجمعية العمومية، وطلب النقيب إبراهيم نافع إرجاء استقالته لحين عقد اجتماع آخر للجمعية، وإذا فشل في تغيير الموقف على ضوء النقاط الكاشفة التي وضعها عيسى فسيعلن استقالته.
لم يصل نافع إلى حل وأعلن استقالته أمام جموع الصحفيين، هنا فقط انقلب الوضع وتأكدت الدولة أن الصحفيين لن يتراجعوا، والتقى مبارك للمرة الثانية بمجلس النقابة بحضور النقباء والنقابيين السابقين، وعلى رأسهم شيخ الصحفيين حافظ محمود والنقيب الأسبق كامل زهيرى، وأعلن في هذا اللقاء حل الأزمة، وطلب من رئيس وزرائه كمال الجنزوري إعداد مشروع تعديل جديد وعرضه على مجلس الشعب.
سقط القانون، وخرج الصحفيون من تلك الأزمة مرفوعي الرأس، وظل اسم صلاح عيسى محفورا في أرشيف تلك الأزمة باعتباره حجر الزاوية الذى قلب الموازين ودفع زملائه في مجلس النقابة لإعلان استقالتهم، وهو ما أجبر الدولة على التراجع.
حدث هذا، عندما كانت الصحافة صاحبة جلالة .. كانت هناك نقابة وقامات صحفية ورأى عام ضاغط، وكانت هناك حكومة تخشى من غضبة أبناء القلم.
كانت أيام .. الله يرحمك يا عم صلاح.