ضمن احتفاء الكلمة بالذكرى الخامسة لرحيل المفكر الفلسطيني الكبير، يتناول الناقد الفلسطيني هنا أحدث كتبه والذي ضم كتاباته عن الموسيقى خلال ثلاثين عاما، ليضيف بهذا الكتاب الجديد بعدا جديدا لعالم سعيد الثرى ونحن نحتفي بالذكرى الخامسة لرحيله.

إدوارد سعيد : عشق الموسيقى والكتابة عنها

عن أحدث كتبه «الموسيقى في اعلى تجلياتها»

إبراهيم درويش

 

مرت يوم الخميس 25 سبتمبر الماضي الذكرى الخامسة لوفاة الناقد والاكاديمي الفلسطيني الامريكي الكبير ادوارد سعيد (1935 ـ 2003)، ومنذ وفاته تصدر كتب اما تذكارية او دراسات عن حياته ومشروعه النقدي، واما دراسات لم يكملها كما في كتابه «عن الاسلوب المتأخر» الصادر العام الماضي. وفي هذا العام تقدم دار نشر جامعة كولومبيا في امريكا ودار نشر بلومزبري في لندن «الموسيقى في أعلى تجلياتها» (وهذه ترجمة تقريبية للعنوان) مجموعة مقالاته النقدية التي كرسها خلال عقود ثلاثة للكتابة عن الموسيقى والنشاط الموسيقي الذي شهده وشارك فيه، وهي مقالات نشرت في مجلات نقدية وفي نشريات يومية ومجلات، ذلك انه كان الناقد الموسيقي لمجلة "نيشين" الامريكية ذات التوجه اليساري. وسعيد عندما كتب عن الموسيقى كان يشغله منها الموسيقى الكلاسيكية بالتحديد، وكان عندما يكتب يكتب كواحد من اهل الفن وكمرجعية في مجاله. وما يميز سعيد في كتاباته الموسيقية انه كان قادرا بصفته ناقدا ادبيا على ربط الموسيقى ببعدها الثقافي والسياسي. وكان يفهم معنى الموهبة والعبقرية الموسيقية وعلاقتها المضطربة بالحياة او السياسة، ولكنه كان يحاول ان يفصل في فهمه الموسيقي وحياته الخاصة ومواقفه عن عبقريته الموسيقية. لكن سعيد المنشغل بالنقد كان باحثا في الموسيقى من ناحية محاولته فهم ابعاد الفنان وحياته وما يشكل فهمه من مؤثرات، اجتماعية وسياسية وثقافية.

وكان سعيد منغرسا في الموسيقى باعتباره عازفا ماهرا او قل محترفا على آلة البيانو. وفي مذكراته «خارج المكان» كتب بشكل مؤثر عن طفولته وكيف شكلتها الموسيقى فهو يقول "كانت الموسيقى باتجاه، غير مرضية وسلسلة من تمارين البيانو المملة، ولكنها كانت في اتجاه اخر غنية، عالماً عشوائي التنظيم من الاصوات والصور الفائقة". وتشكلت ذائقة سعيد كما تقول ارملته مريم في مقدمتها لمجموعة المقالات، عبر مجموعة الاشرطة المتنوعة التي كانت بحوزة والديه، وعبر استماعه لبرامج الموسيقى على "بي بي سي" هيئة الاذاعة البريطانية "ليلة في الاوبرا" البرنامج الذي كان يبث كل احد. ومع ان سعيد شغف بالموسيقى الا انه كان عارفا بمجريات الموسيقى العربية واظهر في مقاله الذي نشر في مجموعة مقالاته "تأملات في المنفى" عن الراقصة تحية كاريوكا "تحية لتحية كاريوكا" الذي يظهر معرفة بعالم الموسيقى والغناء والرقص العربي وابعادها الثقافية والاجتماعية. لكن شغف واهتمام سعيد كان في الموسيقى الكلاسيكية وكبار الموسيقين من باخ وموتسارت وبيتهوفهن وفاجنر وحتى اعمال الموسيقار الكندي غلين غولد الذي طور اهتماما كبيرا به، وجمع كل ما كتب عنه، واستمع لكل اعماله، وشاهد كل ما قدم عن حياته.

كانت الموسيقى جزءا من حياته وضرورة مثل الماء والهواء فقد استمع لها وهو يقرأ ويكتب وفي اوقات راحته، وجمع الكثير من مؤلفاتها وادبياتها، وطور معرفة واسعة وضخمة في علم الموسيقى، وكانت له صداقات ومعارف مع كبار ملحنيها، لعل اشهرها صداقته مع الملحن دانيال بارينباوم. اعمال سعيد النقدية لا تخلو من الاشارات للموسيقى لكن وفاة غولد عام 1982 كانت المحفز الاكبر له كي يكتب بشكل جدي عن الموسيقى كما تقول ارملته مريم. فوفاة غولد عن خمسين عاما، ونهاية حياة موسيقي وعازف بيانو يوصف بالاستثنائي وذي عادات غريبة، ادت بسعيد للبحث وبعمق عن حياة وانجاز هذا العازف الماهر. واصبح هذا العازف شغلا شاغلا لسعيد، وانهماكا دائما وصل حتى الهوس. لكن الموسيقى لم تكن بالنسبة لسعيد محاولة للمعرفة والاستمتاع بل مثلت له علاجا وخروجا من القلق والهموم وهنا تشير مريم الى حكاية عن اثر الموسيقى، عندما تعرض ولدهما وديع الى حادث والتهاب خطير وجب نقله للمستشفى، وفي الوقت الذي كان هناك قلق وخوف على حياة الولد، تقول مريم انه بعد ان استوعب زوجها الخبر، خبر مرض ابنه، جاء بعد ساعة وذكرها بضرورة الاستعداد للذهاب لحفلة موسيقى كانا قد حجزا تذاكرهما فيها. ومع انها بقيت تلك الليلة في البيت وذهب هو وحده، فقد علمت بعد سنوات اهمية الموسيقى له، باعتبارها طريقة للتغلب على الخوف من المرض والموت. ونفس الامر حدث فقد تغلب على قلقه بعد ان علم بمرض والدته بالسرطان من خلال الموسيقى. وكانت الموسيقى مهمة له في هذه الفترة لان والدته هي التي كونت ذائقته الموسيقية. وبعد وفاتها عام 1990 اصدر كتابه "متتاليات موسيقية" الذي كرسه لذكراها.

كتب سعيد اول مقال في سلسلة مقالاته عن غولد ونشره عام 1983 وفي هذا العام اصبح الناقد الموسيقي لمجلة "نيشين" ومنذ تلك الفترة اصبحت الموسيقى اهتمامه الخاص، جمع كما قلنا ادبياتها وحرص على مشاهدة العديد من حفلاتها على جانبي الاطلنطي. بعد عام من وفاة والدته اكتشف الاطباء ان سعيد يعاني من مرض اللوكيميا، ومنذ تلك اللحظة وحتى وفاته كانت الموسيقى رفيقه الدائم. وتحكي مريم انه عام 1998 كان على سعيد ان يخضع لعدد من العلاجات التجريبية المتعبة وفي نفس الوقت كان كريستوفر هيريك سيبدأ تقديم 14 عملا لحنها عن باخ. وقد رتب سعيد عمليات العلاج حول الحفلات التي لم يشاهدها كلها فقط بل كتب عنها عرضا. في الاعوام الاخيرة من حياته بدأ سعيد يستكشف فكرة الاعمال الاخيرة للملحنين وكبار الموسيقيين، وكذا الكتاب التي رأى انها تتميز بالتناقض والتشوش وغياب الانسجام. تقول مريم ان الموسيقى ارتبطت في حياة سعيد كمعادل للزمن، وتشير الى انه قبل وفاته اتصل بابن عم له يعمل قسا وسأله عن المكان الذي يتحدث فيه الانجيل عن ان "الساعة اتية وهي الان"، وتقول انه بعدما استمع لاجابة ابن عمه، التفت اليها وقال لها إنه قلق من انها لن تعرف اي موسيقى ستعزف في جنازته. ومع انها تريثت قبل الاجابة الا انها عرفت انه كان يخبرها أن هذه هي بداية النهاية وانه كان يموت.

كل هذا يخبرنا عن عشق سعيد للموسيقى التي كتب عنها وعن ذكرياته عنها في القاهرة وبتفصيل حيث ذهب لحفلاتها. ومن هنا يبدو النقد الموسيقي الذي قدمه سعيد ليس لكونه دليلا على حرفيته ومعرفته بالمعنى واللفظ والمصطلح الموسيقي ولكنه لانه كان مثقفا وضليعا في عدد من مساقات المعرفة فقد كان ناقدا اديبا فاهما للفلسفة واتجاهاتها القديمة والمعاصرة وسياسيا يكتب ويعلق عن السياسة، وهذه المعرفة قد تكون عادية ان لم يضف لها سعيد فهما اخر، فهو كما يقول بارينباوم في مفتتحه للمقالات كان شخصية نادرة من ناحية فهمه ومحاولته لمعرفة الاتصال بين المعارف التي قد تكون متنوعة ومختلفة. ويرى بارينباوم ان معرفة سعيد للطبيعة والروح الانسانيتين باعتبارهما نتاج تركيب مواز وبين الافكار والموضوعات والثقافة قد تحمل في طياتها تناقضا ظاهريا وليس اختلافا ولكنها محلا يغني كل واحد منهما الاخر. وهذا ما يجعل سعيد شخصية مهمة. ويلاحظ بيرنباوم ان رحلة سعيد مع الموسيقى بدأت بالضبط عندما بدأت قيمها بالتراجع. فانسانية الموسيقى والتأمل الموسيقي المتسامي هما من الاشياء التي بدأت تتراجع في عالمنا المعاصر. ويعتقد بارينباوم ان الموسيقى "الكلاسيكية" اصبحت معزولة من الكثير من مجالات الحياة، ولم تعد ملمحا ضروريا للتطور الفكري.

ولهذا فان عداء سعيد للتخصصات المجردة أدى به الى رثاء حالة الموسيقى في عالمنا المعاصر حيث لاحظ ان التعليم الموسيقي اصبح فقيرا ليس في الولايات المتحدة التي استوردت الموسيقى من اوروبا، ولكنه تراجع في هذه الاخيرة. فهنا متخصصون ضيقو الرؤية منشغلون بالتفاصيل على حساب الرؤية. وعندما نقول ان سعيد كان ضيقا بهؤلاء لا نعني انه لم يكن يعتني بالتفاصيل، لكنه كان يعجب بالموسيقار الذي ينتبه للتفاصيل وكأنها كل العمل لكن لم يكن يتعامى عن الصورة الكبيرة التي تصنع الرؤية الفنية للعمل منسجمة مع التفاصيل. ويقول بارينباوم ان سعيد كان يركز عندما يحضر عملا موسيقيا على هذه التفاصيل الصغيرة التي تصنع العمل الفني. ولانه كان مثقفا يبحث عن المعنى الباطن والعالم الفلسفي الذي ينتج عملية الاداء، فهو لم يكن يرى الحاضر امام الظاهري والمعروف بل كان يكشف في تحليله للاداء الفني اشياء جديدة تعكس طبيعة الاشياء المتداخلة. وعلى خلاف نظرائه من نقاد الفن الموسيقي فهو لم يكن يكتفي بتحليل العمل وربطه بحياة او انجاز صانعه ونظرائه من الموسيقيين، فانجاز سعيد مختلف. فمن السهل والعفوي ان ينقلك من فكرة الموسيقى الى فكرة لها علاقة بكونراد وقراءته المختلفة لدى تشينوا اتشيبي، وربط هذه القراءة بموقف اسرائيل وقراءتها لفاغنر وتقديم بيرنباوم له في القدس.

وكناقد كان يعرف انه لا انفصام او انفصال بين الحدس والمنطق، وبين العقل والعاطفة. ومع ان الانسان قد يتخلى عن العقل لصالح العاطفة الا انه في الموسيقى لا يمكن عمل هذا فلا موسيقى من دون منطق ولا منطق موسيقاً من دون عاطفة. وكما يقول بيرنباوم انه في حالة خلو الموسيقى من هذين العاملين، فاننا لا نجد امامنا الا مجموعة من الاصوات المتناقضة. فكرة البحث عن صلة وعن الجمع وليس الاستثناء هي التي جعلت من سعيد مفكرا كبيرا، وليس ناقدا موسيقيا بارعا فحسب. كتابات سعيد عن الموسيقى تظهر انه كان موسيقيا بالمعنى الحقيقي، ومثقفا استخدم معرفته الموسيقية كأساس لمواقفه السياسية التي كانت تدور حول الكفاح من اجل شعبه وحقه في الحياة. وكعادة سعيد في كتاباته يبدو احيانا اكاديميا ينشغل بالمعرفة، والمعلومات وتقديم كل ما يراه مهما لقارئه. وهو ممتع في كتاباته، سهل القراءة عندما يربط الموسيقى بقضايا الادب والسياسة والهوية. وكتاباته اصيلة في هذا الاتجاه، مرحة وفيها جوانب جديدة كان يعرف وحده كيف يتوصل اليها ويوجه انتباهنا لها.

يحتوي الكتاب على اربع واربعين مقالة نشرت في دوريات ونشريات غالبيتها امريكية. وهو مقسم على ثلاثة محاور. مقالات مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، ومقالات التسعينات، واخيرا محور مقالات القرن الحالي 2000 وما بعدها. وتغطي المقالات دراسات عن موسيقيين مثل غلين غولد وحفلات وعروض موسيقية ومهرجانات، وقضايا لها علاقة بالموسيقى والمرأة او النسوية/ الانثوية. وهنا مقالات عن شتراوس وسيمفونيته "الخاتم" التي يحمل الكثير من الحب لها لانها تذكره بأمه، وموتسارت وحلاق اشبيلية وفاغنر واسرائيل ودانيال بارينباوم.

وتمثل كتابات سعيد الموسيقية محاولات جادة من سعيد لتقديم المعرفة حول الموسيقى الكلاسيكية الغربية. ومع ان المقالات الموجودة امامنا لا تشير الى انها قائمة شاملة لكل ما كتبه سعيد، ومع ان المقالات مرتبة تاريخيا حسب صدورها فإنها تعطي صورة عن انشغالات الكاتب الموسيقية وتطوراتها. وتخبرنا مريم سعيد ان اخر مقال كتبه كان مراجعة لكتاب صدر عن الموسيقار الكبير بتهوفن وسيرة ذاتية عن حياة هذا الملحن الكبير. ومن بين المقالات المهمة التي تعطي صورة عن الطريقة التي عالج فيها ادوارد سعيد فكرة الموسيقى، المقال الذي جاء ردا على محاولة صديقه بارينباوم، تلحين بعض اعمال فاغنر في القدس، والجدل الذي اثارته المحاولة، وشراسة الهجوم الذي تعرض له الصديق. وكان المقال مقاربة عن الهوية في اسرائيل والتعايش. فهو يشير الى ان فاغنر رسميا ممنوع في اسرائيل ولكنه ليس ممنوعا، حيث يستمع الاسرائيليون لمعزوفاته والحانه وتقدم اجزاء من سيمفونياته عبر الاذاعة الاسرائيلية. مشكلة فاغنر مع اليهود انه يعتبر معادياً للسامية وصديق هتلر. لكن الطريقة التي فكك فيها سعيد علاقة الفن في السياسة وبالضرورة فاغنر هنا، ادت به لبحث فكرة عبقرية الفنان، وكونه متجاوزا للفرز على الرغم من تبنيه مواقف سياسية، فبعيدا عن الموقف السياسي، والرفض لفاغنر الانسان، هناك فاغنر اخر وهو الفنان الذي كان عبقريا بكل المقاييس، عبقرياً كما يقول سعيد عندما يتعلق الامر بالموسيقى ومسرح تقديمها.

فقد كان فاغنر مسؤولا عن تثوير فهمنا للاوبرا. ويحاول سعيد ان يفصل اعمال فاغنر عن مواقفه باعتبارها تمثيلا لعبقرية متجاوزة مشيرا الى "الفلكيريون" التي اخذ فاغنر قصتها من حكاية تعود للفايكنج "نورس". ويقول سعيد انه ليس في الاوبرا ما يوحي بأنها معادية للسامية. محاولته لتحليل الموقف الشرس من صديقه قادته للحديث عن التعايش والفهم والهوية والهوية المتجاوزة للفنان، وان فاغنر مثل اي فنان لا يمكن النظر اليه عبر منظار تبسيطي فهو ظاهرة معقدة تماما كما يصف بارينباوم بانه موسيقي موهوب ومعقد ورمز غير عادي تجاوز هويته الارجنتينية والاسرائيلية الى هوية لا تنتمي الا للانسان. ومن هنا حذر سعيد من مخاطر التعميم عندما يتعلق الامر بالعدو. فمن حق الفنان ان يسير عكس التيار. المقال الاخير جاء كتعليق على كتاب مانيارد سولومون "بيتهوفن المتأخر" وهو دراسة لاعمال بيتهوفن الاخيرة والتي مثلت تحولا ونضجا الا انه نضج يحمل التشوش ومواجهة الموت. فالعمل المتأخر لا يعني بالضرورة انه الاجمل. والعرض هو اخر ما كتبه سعيد والمقالات في مجموعها بمثابة تحية واعادة التذكير بأهمية سعيد كناقد ادبي وموسيقي وسياسي وكاتب عنها. 


كاتب من اسرة القدس العربي 

Music at The limits
Three Decades of Essays and Articles on Music
By: Edward Said
Bloomsbury
London/ 2008