تنطلق هذه الدراسة المهمة من مقال مهم لإدوارد سعيد عن حال العرب، ثم تسعى لدراسة أنجاز سعيد النقدي والتعرف على تأثيراته المختلفة على الثقافة العربية، متتبعة مسار تلك التأثيرات وتحولاتها، وساعية لتقديم أهم أفكاره واستقصاءاته المنهجية للقارئ العربي.

إدوارد سعيد وحال العرب

يحيى بن الوليد

تصاغ نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وفي أغلب نماذجها، الدالة، التي تصل ما بين النقد والأدب والموسيقى والفوتوغراف والتاريخ والأنثروبولوجيا...، باللغة الإنجليزية، وبما لـ"اللغة"، هنا، من دلالات تتجاوز مجال "التوصيل" نحو مجال "الصراع" على "قيم" التاريخ والجغرافيا والفكر... وكل ذلك في المدار الذي لا يحيد عن دلالات الإصرار على "التوجيه": توجيه التاريخ والمجتمعات... إن لم نقل توجيه "العالم" ككل إذا ما ذكرنا بأن الإنجليزية تستحوذ، اليوم، على 85 % من مصادر المعرفة في العالم كله. ومن ثم فإن اللغة مجال لتمفصل الثقافة والإمبريالية، وهو التمفصل الذي تسعى نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي إلى دراسة إوالياته الكامنة على مستوى "الخطاب" ذاته الذي يحقق هذا النوع من التمفصل. وفي هذا الصدد يمكن فهم "هيمنة المعجم الأمريكي"، وبما في ذلك داخل المملكة البريطانية ذاتها، التي يتحدث عنها بعض اللسانيين العرب المعاصرين أمثال اللساني المغربي الفاسي الفهري في كتيبه المكثف "اللغة والبيئة" (ص96).

وعلى هذا المستوى، وحتى إن كانت الـ"Writting Back" ("الرد بالكتابة"، الإنجليزية هنا) تشكل معظم النقد (والأدب) ما بعد الكولونياليين، فقد تمكنت نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي من "اختراق" اللغة الإنجليزية، واستدراجها ـ بالتالي ـ وفي إطار من تصور أكاديمي مختلف ـ إلى مجال تصوري مغاير أعاد النظر في "المفهوم" أو "التصور" الذي ساد حول "العالم الثالث" في عقدي الخمسينيات والستينيات. "العالم الثالث" الذي كان الغرب ذاته وراء "تشكيله" في سياق استراتيجية "تحجيم الثقافات غير الغربية" وحشرها في "قالب تمثيلي إمبريالي". ومن هذه الناحية فقد تمكنت النظرية، حتى وإن كانت نتاجا للغرب، من زحزحة "التقليد الأكاديمي" الذي ظل، ومن خلال دعاوى "التخصص" و"الخبرة"، وقبل ذلك من خلال العزل المدروس لـ"النظرية" عن "سياق الثقافة السياسة"، مهادنا وغير متحمس لفتح "الملفات اللاهبة" وفي مقدمها "ملف" أو "كتاب الاستعمار الأسود".

وقد غدت النظرية، وبسبب من إغرائها المعرفي، عابرة للقارات والثقافات واللغات... هذا وإن كان لا يزال أغلب المساهمين فيها يدرِّسون في الجامعات الغربية بعامة والأمريكية بخاصة وبما يكون لهذا النوع من "التموضع" أو "الاستيعاب"، وفي أحيان كثيرة، من تأثير على مستوى "النظرة" لما يسود في "الخارج" أو في "بقية العالم" عملا بـ"الشعار العام" القائل بـ"الغرب والبقية" (The West and the Resf). وفي الحق يصعب قياس انتشار النظرية في أقطار العالم وتلويناتها المحلية أو الإقليمية المتكاثرة، وخصوصا من ناحية إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) الذي صار له تلامذة موزعين على العديد من بلدان العالم. وكل ذلك في المنظور الذي جعل منه "مؤسسة" و"معبودا سياسيا" ورغم معارضته، الصريحة، لأن يأخذ أي شكل من هذين الشكلين في نطاق إصراره على "الاختلاف" و"الترحل" و"الانشقاق".

لا يبدو غريبا أن يتشبث العرب بإدوارد سعيد الذي قدم أكثر من جواب على "البربرية"، أو "الكارثة" بتعبيره الأثير، في أوقح تجلياتها المتمثلة بـ"الاستعمار" و"مخلفاته" التي يدرسها "خطاب ما بعد الاستعمار". غير أنه، وقبل البحث في موضوع "إدوارد سعيد وحال العرب"، تجدر الإشارة إلى أن هذا الأخير درَس في المدارس الكولونيالية (البريطانية والأمريكية) بمصر وفي مقدمها مدرسة "فكتوريا" التي درس فيها الملك الراحل الحسين والممثل المصري الشهير عمر الشريف (ميشيل شلهوب، وقتذاك) ووزراء ورؤساء ورجال أعمال بارزين... وإشارة من هذا النوع جديرة بالكشف عن الوضع الطبقي، الأرستقراطي، المميز، لإدوارد سعيد. وكل ذلك قبل أن يحط الرحال، وبعد أن بعثت به أسرته، وبمفرده، وعن عمر لا يتجاوز السابعة عشرة، في أمريكا العام 1951، ويحصل بالتالي على دبلوم من جامعة برنستون (1957) وعلى PDH من هارفارد العام 1964، وليتفرغ، فيما بعد، وعلى مدار أربعين سنة، للتدريس في جامعة كولومبيا (أمريكا) قبل أن يخطفه الموت العام 2003 وبعد صراع بطولي مع المرض الخبيث وعلى مدار يزيد على العقد من الزمن، وبعد عطاء أكاديمي وفكري وصحفي متنوع وغني ونادر. فمن الواضح، إذا، أن الرجل "نتاج" المدارس الكولونيالية على مستوى التحصيل الدراسي، و"نتاج" "الغرب" ذاته على مستوى "العطاء الفكري" حتى وإن كان قد جعل هذا العطاء رديفا لـ"مقاومة السلطة وإنتاج الحقيقة". فقد كان يتحدث عن نفسه، في أحيان، بصفته "أميركيا"، مما كان يثير امتعاض بعض المثقفين العرب. وكما يلخص محمد جابر الأنصاري في مقال "حق المفكر على المناضل!" فقد تفاعل إدوارد سعيد مع "الظاهرة الأمريكية" سلبا كلاجئ فلسطيني وإيجابا كبروفسور في جامعة كولومبيا ("الحياة"، 25/ 09/ 2004).

وحتى الفترة التي حصل فيها على الدكتوراه كانت صلاته مع العرب، وباعترافه الشخصي، محدودة للغاية. "كنت طالب أدب أوروبي وغربي على نحو كلي" كما يقول جازما في نص الحوار المتضمن في مجلة "الكرمل" (ص104). ولم يتولد اهتمامه باللغة والأدب العربيين إلا في فترة السبعينيات حيث سيأخذ في الكتابة عن الأدب العربي ممثلا في بعض نماذجه كالطيب صالح ونجيب محفوظ وإلياس خوري ومحمود درويش وغسان كنفاني... إلخ. ومن هذه الناحية فهو منجذب إلى ذلك النوع من "السرد" الذي يضاد "المراكز الإمبريالية". ونجد جانبا مهما من هذه الكتابات/ المقالات في كتابه "تأملات في المنفى" (2000). وعلى ذكر الأدب فأهم ما في الثقافة العربية، وباستثناء الإسلام، وكما يقول إدوارد سعيد نفسه، في "السلطة والسياسة والثقافة"، هو الأدب نفسه (ص57).

وأول ما تجدر الإشارة إليه، في سياق انهمام إدوارد سعيد بالعالم العربي، هو مقاله الأول الطويل باللغة العربية حول "حال العرب المأزومة" الذي عنونه بـ"التمنع والتعجب والتعرف" والذي كتبه نتيجة منحة إجازة دراسية من جامعة كولومبيا لمدة عام (موسم 1972 ـ 1973) قضاها في الجامعة الأمريكية في بيروت، تحت تأثير أنيس فريجة الذي كان متخصصا في فقه اللغة أساسا، من أجل تدارك ما كان قد فاته من تحصيل دراسي ولا سيما في مجال التراث العربي (تاريخ الفكر اللساني العربي والنزاعات التأويلية) الذي حرم من دراسته في مرحلة القاهرة... بل وحرم حتى من الحديث باللغة العربية في المدارس الكولونيالية التي درس فيها (وقد أشرنا إليها قبل قليل)، وإلا كان مصيره العقاب. وكما يقول سيدرس اللغة العربية، في هذا الموسم، من جديد. ويبدو تأثير التراث الفكري العربي ـ الذي كثيرا ما تم تجاهله في المؤسسة النقدية الغربية ـ جليا في كتابه "العالم والنص والناقد" (1983).

والمقال ستنشره مجلة "مواقف" (البيروتية، الأدونيسية) في شهر مارس من عام 1972، أي في تلك الفترة التي كانت فيها المجلة تشهد على أوج ألقها النقدي الجذري التساؤلي. وهو العام نفسه، بل والشهر نفسه، الذي سينشر فيه مقاله حول "اليسار الأمريكي والقضية الفلسطينية" في مجلة "شؤون فلسطينية". وقد افتتح المقال الأول قائلا: "ما من عربي اليوم لا تثيره فوضى الأمور في البلدان العربية؟ فالأخبار اليومية العادية تبعث هزات من المفاجآت تتبعها سلسلة كاملة من التحليلات البلاغية والعلاجات والتعليلات، ثم تمحو ذلك كله مفاجآت اليوم التالي. يعتقد معظم العرب أنهم يمثلون كجماعة نوعاً من الموقف المتماسك إزاء العالم. مع ذلك فإن مثل هذا الاعتقاد بهوية عربية متكاملة واحدة ليس أكثر من مسألة سطحية لا تخدع أحداً. وليس أفضل منه الرأي القائل بأن الهوية اللبنانية أو المصرية أو العراقية أكثر تماسكا من الهوية العربية. وسواء نظرنا إلى السلالة من الخارج أو من الداخل فإننا نجد أشتاتاً لا تعني شيئاً كثيراً لا على الصعيد الإقليمي ولا على الصعيد القومي". و"ما أشبه اليوم بالبارحة، إذ نقرأ اليوم تلك المقالة فنراها وكأنما كتبت في هذه الأيام، إذ أنها تصف أحوالنا الراهنة بكل دقة وتفصيل، وما أشيه اليوم بالبارحة، وربما بالغد أيضا" كما يقول صاحب أكثر من كتاب حول إدوار سعيد الناقد الأردني محمد شاهين. ولذلك أصر هذا الأخير على أن يعيد نشر هذه المقالة في كتاب "إدوارد سعيد ـ مقالات وحوارات" (2004)، بل وأن يخصها بحيز مهم في مقدمة الكتاب. وكما يواصل محمد شاهين فـ"المقالة تستحق عناية خاصة" و"وربما يمكن النظر إليها بوصفها مدخلاً لأغلب كتاباته (أي إدوارد سعيد) اللاحقة، خصوصاً في ميدان الثقافة والتراث والهوية، إذ تضم إشارات مكثفة إلى أفكاره التي توسع كثيراً في مناقشتها لاحقاً". فالمقال أو المقالة، تبعا لتوصيف المقدمة، تكشف أن بداية الاستشراق قد ولدت في بداية السبعينيات، بل إن صاحب المقدمة ينظر إليها باعتبارها بذرة منها نجبت فكرة "الاستشراق". وفي هذا المقال يتساءل إدوارد سعيد: "لماذا نحن على هذه الحال؟" (ص 27)، و"من المؤسف أن الناس ميالون إلى الأجوبة البسيطة" كما يضيف (ص 28)... وكل ذلك في المنظور الذي جعله يلّح على "السطحية" التي تطبع "التبادل بين الغرب والثقافة العربية" (ص 40). وفي الحق فقد "استُعْمِلَ" المقال كثيراً من قبل مفكرين وباحثين، وما يزال حتى الآن ينطوي على العديد من الأفكار التي تفيد على مستوى تحليل الأوضاع، المزرية، التي تفتك بالعالم العربي الذي يبدو أنه لم يعرف تغيرات جذرية كما يومئ إلى ذلك عنوان المقال الذي خصه الناقد فيصل دراج للمقال نفسه "الشاب إدوارد سعيد والحال العربي الذي لا يتغير" (جريدة "الدستور" الأردنية، الملحق الثقافي، 23 أيلول 2005).

وقد كان إدوارد سعيد قد نشر، من قبل، وباللغة الإنجليزية، مقالا حول "صورة العرب" ضمن كتاب "المواجهة الإسرائيلية العربية في حزيران 1967: منظور عربي" (1970) الذي أسهم في إعداده إبراهيم أو لغد. وبعد عام واحد من مقال "مواقف" سيظهر كتاب "العرب اليوم" الذي خصه بتقديم موجز ومكثف. ومنذ تلك الفترة وهو يكتب، وبجرأة نادرة، وبدون توقف، عن العرب والسياسة الأمريكية وعن العالم العربي وقضايا العرب والحق العربي السليب وعن الذهن العربي والقومية والثورة وعن واجب العرب تجاه أولوياتهم وما إذا كانوا يرغبون في السلام... جنبا إلى جنب الكتابة عن الأدب الجديد في العالم العربي وسواء في نماذجه النثرية أو الشعرية وسواء في وجوهه التي قبلت بـ"اللعبة الصهيونية" فنالت جائزة "نوبل" العالمية كما في حال نجيب محفوظ أو في نماذجه التي نأت بنفسها عن هذا "اللعبة" كما في حال محمود درويش الذي سخر، في حواراته الأخيرة، من بعض المثقفين العرب الذين يبحثون ـ وجاهدين ـ عنها. وكما كتب عن الإسلام، ومعنى الإسلام، وتغطية وسائل الإعلام الغربية للإسلام، وصلة الاستشراق بالإسلام، والشرق المتخيل... إلخ.

وتجدر الإشارة إلى أن إدوارد سعيد كتب عن العرب في سياق أوسع هو سياق الشرق الأوسط وصراع القوة داخله. وضمن هذا السياق مال أكثر إلى الكتابة عن فلسطين التي تحدر منها. وفي هذا المنظور كتب قضية فلسطين وتجربة فلسطين ومسار الشعب الفلسطيني وحيوات الفلسطينيين ومعاناتهم... وكتب عن مستقبل فلسطين ورسالة فلسطين وعن السلام وحقوق الفلسطينيين وعن تجربة الفلسطيني وصوت الفلسطيني وهوية الفلسطيني ومسؤوليات الفلسطيني... وكتب عن لبنان أو"خسائر لبنان" بتعبيره. وكما تساءل حول فكرة فلسطين ومعنى أن نقطن في فلسطين وحول من يتحدث عن فلسطين... وكتب عن قضية فلسطين في الغرب وعن السياق الأمريكي وصناعة الرأي العام الأمريكي... وكتب عن مناصري القضية داخل الفضاء الأمريكي وشارك بعضهم في الكتابة عنها وسواء من الأمريكيين كنعوم تشومسكي أو غير الأمريكيين أمثال الباكستاني أحمد إقبال (1933 ـ 1999) والفلسطيني إبراهيم أبو لغد (1929 ـ 2001). 

وتجدر الملاحظة إلى أن إدوارد سعيد نشر مقالاته، وحواراته أيضا، بخصوص العرب، في كبيرات الجرائد والمجلات، في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، مثل "نيويورك تايمز" و"كومنتري" (Commentary) و"لومند" و"الكوارديان" Guardian البريطانية و"مجلة الدراسات الفلسطينية" ومجلة "اليسار الجديد"... ودون أن يتغافل عن النشر في مجلات عربية مثل "الكرمل" (الفلسطينية). غير أن المجلة التي نشر فيها، أكثر، هي مجلة "المجلة" التي وجدت مترجما "بارعا على مستوى العالم العربي بأكمله"، كما قيل عنه، وهو الأستاذ محمد حسين القزيّري (1937 ـ 2007) الذي نقل مقالات إدوارد سعيد إلى اللغة العربية بل جعل هذه المقالات وكأنها تكتب بهذه اللغة الأخيرة، مما مكّن إدوارد سعيد، وعلى مدار النصف الثاني من الثمانينيات، من مخاطبة شريحة من المثقفين ومجموعات قرائية واسعة ظنت في البداية أنه إنجليزي. مقالات كثيرة عالج فيها مشكلات عديدة ذات صلة وثيقة بهموم الفلسطينيين والعرب بعامة ومدى تأثير أمريكا على هذا المستوى كما في مقال "الصبر العربي" (العدد 15، أكتوبر 1986) و"أسباب التراجع العربي" (العدد 11، سبتمبر 1987) و"قصتنا التي لا يعرفها العالم" (العدد 30، ديسمبر 1987) و"الاستشراق والصهيونية" (العدد 2، ديسمبر 1987) و"ثلاثة وجوه لأمريكا" (العدد 9، سبتمبر 1986) و"القضية الفلسطينية في الانتخابات الأمريكية" (العدد 17، غشت 1988) و"العرب في أمريكا ـ خريطة مصححة" (العدد 5، فبراير 1987)... إلخ.

فالقضية الفلسطينية، أو "القضية المعيار" على حد تعبير إدوارد سعيد ("تأملات في المنفى"، ص41)، هي التي ستجعله يلتفت إلى حال العرب، ولا سيما من خلال الإصرار على "السرد" الذي هو قرين الحصول علي فضاء نقدي وفكري يمكّن الفلسطيني من إعادة "سرد الحكاية الفلسطينية" و"تكرارها" ومن "وجهة نظر الضحايا" وبحثا عن "تاريخ بديل". وقد كانت هذه القضية، التي ندب نفسه و"طوعا" للدفاع عنها كما قيل عنه، وراء "تفرد" إدوارد سعيد وكانت وراء "خطابه المؤثر" في العالم. بل لقد كان لها تأثير أعمق في منجزه أو مشروعه الذي جلب له بعضا من "التضامن" على الرغم من "العداء" الذي ناصبه له الكثيرون. ويوضح الناقد الهندي إعجاز أحمد هذه الفكرة قائلا: "(...) إدوارد سعيد ليس ناقدا ثقافيا وحسب، بل وفلسطيني أيضا. وقَدْرٌ كبير ممّا هو رائع في عمله مرتبط بواقعة أنه قد حاول أن يشرف هذا الأصل(...)" ويضيف هذا الأخير: "ولعله حين يهدأ غبار السجالات الأدبية الراهنة سوف يظهر أن المساهمة الباقية التي قدمها سعيد ليست تلك التي قدمها في الاستشراق، هذا الكتاب المتصدع على نحو عميق، أو في تلك المقالات الأدبية التي جاءت في أعقابه، بل في أعماله عن قضية فلسطين (...)" ("الاستشراق وما بعده"، صص22 ـ 23).

وحتى إن كان لا يهمنا أن نستعيد ذلك النقاش الذي يفضي إلى التشديد على بعض كتابات إدوارد سعيد النقدية النظرية ("البدايات" (1972)، تحديدا)، واعتبارها أهم من "الاستشراق الذي صنع شهرته، كما دافع عن ذلك الصومالي عبد الرحمن حسين في الكتاب الذي خصه (بالإنجليزية) لإدوارد سعيد (Edward Said Society) (2002)، مشددا فيه على الجانب الأهم المتمثل بـ"الناقد" في خطاب إدوارد سعيد، فقد كان هذا الأخير مهتما بارزا بالقضية الفلسطينية، بل إنه، وبمفرده، خدمها أكثر مما خدمتها مؤسسات بل ودول عربية. لقد كان "رجلا واحدا"، ولكنه كان "جهازا إعلاميا ثقافيا" مؤثرا على مستوى التوعية بـ"البعد السياسي" لـ"المسألة الفلسطينية" في الغرب وعلى مقربة من "اليهود" وسواء في "الجامعة" (كولومبيا) التي درّس فيها أو في نيويورك التي تستوعبها كما تستوعب أهم تجمع منظم لليهود في العالم. "لقد وضع فلسطين في قلب العالم، ووضع العالم في قلب فلسطين" و"بدا حضوره انحيازا وتدخلا إلهيا لشعب "فلسطين الذي وجد فيه سببا للتباهي" كما قال عنه صديقه الراحل، بدوره، الشاعر الفلسطيني الأبرز محمود درويش (1941 ـ 2008). وفي السياق نفسه، أو من قبل، قال عنه صديقه الناقد الإنجليزي رايموند وليامز (1921 ـ 1988) "إنه لا يعرف فردا استطاع بمفرده أن يثبت قضية أمته وشعبه على خريطة العالم إلى الأبد من غير إدوارد سعيد، إنه هبة الحق في كل مكان". فلسطين التي ليست بـ"الاسم الحيادي على الإطلاق" كما يقول إدوارد سعيد في "القلم والسيف" (ص 23). وكما أنه "سمق كشجرة زيتون في غابة من العباقرة" كما يضيف تيري إيجلتون.

ويمكن أن نختم، في هذه النقطة، بأن صاحب "الاستشراق" كان نموذج الفلسطيني المنفي الذي ـ وهو ما يأخذه عليه بعض منتقديه ـ لم يجرب العيش في المخيم وحموضة اليومي فيه... كان يسكن مانهاتن، ويحب البدلات من كبار محلات المصممين، بل كان "يختار بذلته بأناقة ديك" كما قال محمود درويش في قصيدة "طباق" التي نعاه بها. غير هذا "الاختيار"، على المستوى المسلكي، لم يبعده، على المستوى النظري، عن دائرة "الالتزام" بـ"قضيته" كفلسطيني وكمنفي مثقف في العالم. هذا بالإضافة إلى أنه كان يمتلك قدرة مدهشة على التقاط الأنين الآتي من هناك ـ من فلسطين، كما قال عنه رائف زريق. والأكثر من ذلك نجح في نقل "الرسالة" الصعبة وغير المحببة عن فلسطين داخل المجال الأمريكي العام كما يقول رشيد الخالدي في مقاله "إدوار سعيد والمجال الأمريكي" المتضمن في الكتاب الجماعي "الحق يخاطب القوة: إدوار سعيد وعمل الناقد" (ص204). ذلك المجال الذي تبدو فيه "العنصرية" ضد العرب مقبولة، والذي يصعب فيه العثور على يهودي لا يتماهى مع إسرائيل، المجال الذي يرادف فيه الفلسطيني، ومنذ مفتتح السبعينيات، "الإرهابي"... إلخ. لقد أصر صاحب "الاستشراق" على "مجابهة الصهيونية" التي صارت "مقياسا للحكم على السياسة في عصرنا" كما يعلق في "السلطة والسياسة والثقافة" (ص275).

غير أن "مواجهة" إسرائيل، وعلى أرض أمريكا، لا ينبغي أن تتخذ "بعدا سياسيا" فقط. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى كتاب "القضية الفلسطينية والمجتمع الأميركي" الذي هو في الأصل محاضرة كان إدوارد سعيد قد ألقاها في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في شهري تموز وآب (يوليو وأغسطس) من عام 1979. وفي الحق لا يزال هذا الكتاب مهمّشا ومنسيا مقارنة مع كتب سعيد الأخرى مع أنه يقف على "نظام التمثيل" الذي بموجبه تتم "قولبة" الفلسطيني داخل الفضاء الأمريكي. وأهم ما يلفت إليه الكتاب هو "المجتمع المدني" الذي لا ينفصل عن "المجتمع السياسي" داخل الفضاء نفسه. وأخطر ما في الأمر أن المجتمع الأول، ويتألف من المؤسسات الثقافة والجامعية والدينية، يلعب دوراً بارزاً في توجيه السياسة الأمريكية. وقوة الصهيونية كإيديولوجيا وفكر ترتكز على هذا المجتمع، أكثر مما ترتكز على المجتمع السياسي الذي هو في متناولها. ويخلص إلى أن المجتمع المدني، لا السياسي، هو الذي ينبغي أن يكون هدفاً للتحرك الإعلامي للنضال الفلسطيني. وفي هذا السياق ربما توجبت الإشارة إلى "أمريكا الأخرى" التي لم يمهل العمر إدوارد سعيد فرصة تأليف كتاب حولها، وما يشفع له أنه خلّف مقالا تحت العنوان نفسه يكشف عن جانب من الموضوع.

قلنا إن القضية الفلسطينية، وخصوصا حرب هزيمة العام السابع والستين، والتي، وللمناسبة، وكما يتصور كثيرون، لا تزال تداعياتها متواصلة حتى الآن، هي التي ستغير عالم إدوارد سعيد الداخلي وبالقدر نفسه ستجعله يلتفت إلى ما يحدث، سياسيا، في العالم العربي، وبالتالي ينخرط، وبجسده أيضا، في الكتابة عن الموضوع... لكن من "منظور نقدي"، و"تجريحي" في أحيان، كما لا ينبغي أن نتغافل عن ذلك. ولا داعي لكي نستعيد، هنا، وهو ما قام به آخرون أيضا، نقده لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي بلغ حد الربط بينها وبين "المافيا" جنبا إلى جنب عدم تمكن الموقعين على "الاتفاقيات" مع إسرائيل من اللغة الإنجليزية...، مما جعل "السلطة الفلسطينية" تمنع تداول كتبه في فلسطين (غزة والضفة العربية) مواصلة بذلك معزوفة منعها في الأراضي المستعمرة منذ 1967. فقد هجر موقعه في المؤتمر الوطني الفلسطيني، وقطع مع ياسر عرفات. وكما أنه رفض دعوة حضور التوقيع في حديقة "البيت الأبيض"، وسخر منها واعتبر 13 أيلول 1993 يوماً لـ"الحداد القومي الفلسطيني". وأصدر، في الموضوع نفسه، مقالات كثيرة نشرت في كبريات الصحف الأمريكية والعالمية، وقد تمكن القارئ العربي من الاطلاع على الكثير منها في كتاب "غزة ـ أريحا: سلام أمريكي" (1994) الذي قدّم لها محمد حسنين هيكل. وكما قيل عن ياسر عرفات كان محاطا بعقول فلسطينية مهمة كثيرة، وكان ينصت إليها غير أنه لم يكن يعمل بأفكارها.

ويهمنا أن نركز على أن الهزيمة السالفة ستجعل إدوارد سعيد يعيد النظر في "المعرفة الغربية" التي كان صنيعتها، وفي مقدم ذلك "النظرية الفرنسية" (la French Theory) التي كان، وقتذاك، وعلى صعيد النقد الأدبي، غارقا، وحتى أذنيه، في "غوايتها". وفي هذه الأثناء سيستنتج أن رواد هذه النظرية (ميشال فوكو وجاك دريدا... إلخ) متمركزون حول أوروبا فقط، بل وفرنسا بصفة خاصة. وكل ذلك في المنظور الذي سيفضي به، ومنذ مفتتح السبعينيات، إلى "القراءة الاستشراقية" التي ستؤول، لاحقا، إلى "القراءة الطباقية"، وكل ذلك أيضا في إطار من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي دشنها بكتابه "الاستشراق" (1978) الذي سيسارع، وبعد عام واحد من ترجمته إلى الفرنسية، الناقد السوري كمال أبو ديب إلى نقله إلى العربية (1981). وما يفرض ذاته، بإلحاح، في هذه النقطة، هو أن هذه الترجمة هي التي ستقدم إدوارد سعيد إلى العالم العربي. وستتم، وعلى نطاق واسع، قراءة الكتاب/ الترجمة في السياق العربي المأزوم أو المغلوب، بل وسيتم الاستناد إليها في بعض القراءات التي سعت إلى "نقد" إدوارد سعيد. والبداية ستكون من الملف، الأول من نوعه، المعنون بـ"الاستشراق، التاريخ والثقافة والمنهج" الذي ستنشره مجلة "الفكر العربي" في عددين متتالين (31 ـ 32، 1983) والذي سيقدم صورة "مركبة" عن "الغرب" أو "الآخر" في الفكر العربي. الملف الذي خصه رضوان السيد (رئيس التحرير) بمقدمة مركزة حول "ثقافة الاستشراق ومصائره وعلاقات الشرق بالغرب".

وتجدر الإشارة إلى أن ترجمة كمال أبو ديب، الخلافية، وعلى أهميتها التي لا تنكر، ورغم ثناء إدوارد سعيد عليها، بل وتذكير هذا الأخير بإحجام الناقد أو بالأدق العلاّمة إحسان عباس (1920 ـ 2003) عن ترجمة الكتاب، كثيرا ما تم انتقادها، وبشدة في أحيان وأحيان كثيرة، بسبب من أسلوب التنطع والتقعر الذي طالها من أولها إلى آخرها، وبسبب من إصرار المترجم على اجتراح مصطلحات جديدة/ نافرة مقابل مصطلحات متداولة ومستقرة تفي، إلى حد بعيد، بالغرض المقصود، وهو ما يتكشف منذ العنوان الفرعي، "المضيء"، للكتاب، الذي استخدم فيه المترجم مصطلح "الإنشاء" الذي لا يرقى، من ناحية القوة الاصطلاحية التأطيرية، إلى مصطلح "الخطاب" (Discours) ذائع الصيت.

ولذلك سيعمد الناقد والمترجم المصري محمد عناني، وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من ظهور الكتاب، إلى ترجمة "الاستشراق" معتمدا طبعته المزيدة التي صدرت العام 1995 والتي أضاف إليها إدوارد سعيد فصلا كاملا يتحدث فيه عن وقع كتابه في العالم الغربي وغير الغربي معا. الطبعة التي أعاد فيها صاحبها النظر في بعض القضايا التي رأى أنها تحتاج إلى إعادة نظر، والتي رد فيها على بعض نقاده وما تعرض له كتابه من قبول أو رفض في الغرب بخاصة، بعد انقضاء أكثر من خمسة عشر عاما على نشر الطبعة الأولى من الكتاب.

والظاهر أن ترجمة محمد عناني لا تخلو من أهمية، ومرد ذلك إلى حرص صاحبها على "الوضوح" الذي جعله "يتحايل" على "البناء اللغوي"، بل ويضحي ببعض خصائص "الأسلوب الأصلي"، سعيا منه إلى الإتيان بالمعنى المراد. ومن هذه الناحية فهو يتصور أن "الدقة العلمية هدف نبيل". إن ترجمة محمد عناني أنقذت الكتاب من مصير أو ضرورة أن يقرأ باللغة الانجليزية بل وحتى "العبرية" التي قرأه بها مثقفون عرب في إسرائيل كما يقول الكاتب والإعلامي الفلسطيني (المقيم في الناصرة) نبيل عودة. وخلاصة القول، في هذه النقطة، أن ترجمة محمد عناني قائمة على نوع من "المسافة" ولا سيما من ناحية عدم "إقحام" ذات المترجم وبالتالي "مزاحمة" صاحب "النص ـ الأصل"، هذا لكي لا نشير إلى "التأويل" الذي يبدو عملا "ملازما" للترجمة إن لم نقل هو الترجمة ذاتها لكن في غير المنظور الذي يفضي إلى التناطح مع النص الأصلي الذي يظل، ودون التغافل عن "التناص الموجب"، هو مدار "النص الترجمي". فالتأويل، هنا، يعي بحدوده التي تضمن له نوعا من "الانفصال" الذي يفضي به، وفي الوقت ذاته، إلى "الاتصال" مع النص الأصلي.

وعلى ذكر كتاب "الاستشراق" فإن ما أقلق إدوار سعيد، وكما عبَّر عن ذلك في نص مقدمة كتابه اللاحق "الثقافة والإمبريالية" (1993) الذي أثار هو الآخر ضجة في الغرب، وهما الكتابان اللذان كرساه رائدا للفكر العربي، هو "التأثير الضعيف" الذي أحدثه الكتاب الأول في الساحة العربية. يقول موضحا هذه الفكرة: "إن الأمر في نظري ليقع على مشارف اللغز أو السر: لماذا ساعد الإستشراق في باكستان، والهند، وإفريقيا، واليابان، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، والولايات المتحدة على إطلاق العديد من مناهج الإنشاء الجديدة وأساليب التحليل الجديدة وإعادة تأويل التاريخ والثقافة فيما ظل تأثيره في العالم العربي محدودا". وهذا في الوقت الذي ظل فيه إدوارد سعيد حريصا على التأكيد على أن "العالم الغربي" و"العالم الشرق ـ أوسطي" هما العالمان اللذان يعرفهما أكثر من غيرهما. لقد كان تأثيره في الهند هو الأهم، وخاصة في مجال التاريخ/ "دراسات التابع". إجمالا فإدوارد سعيد يشك في وجود خطاب ما بعد كولونيالي في العالم العربي، يل يشك حتى في وجود علامات دالة عليه (انظر: "السلطة والسياسة والثقافة"، ص474). والظاهر أن ما هو غائب، في العالم العربي، وتعيينا، هو "التنظير" الذي يرقي بتحليل خطاب ما بعد الاستعمار إلى مستوى "الممارسة القرائية" كما يتصورها إدوارد سعيد، وهو ما سنتحدث عنه فيما بعد.

ولا ينحصر تأثير إدوارد سعيد في الناقد والشاعر السوري كمال أبو ديب الذي سيترجم الكتاب اللاحق لإدوارد سعيد "الثقافة والإمبريالية" العام 1997، والناقد والمترجم المصري محمد عناني الذي سيترجم، وعلاوة على "الاستشراق"، "تغطية الإسلام" (2005) و"المثقف والسلطة" (2006)، بل سيمتد إلى الناقد السوري صبحي حديدي صاحب العديد من المقالات والحوارات مع إدوارد سعيد ومترجم "تعقيبات على الاستشراق" (1997) بمقدمة قوية وساخرة، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأخير كان من أوائل الذين قدموا نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي للقارئ العربي من خلال دراسته المركزة والمكثفة التي نشرت في العدد (47) من مجلة "الكرمل" (1993) بعنوان "الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية"، والدراسة وكما سيعلق عليها صاحبها (وبعد خمسة عشر عاما) "تكون أثارت بعض الأسئلة، والكثير من تقليب الشفاه حول تلك المصطلحات الجديدة، وحول الأسماء الآسيوية العجيبة التي بدت كأنما هبطت من حالق: هومي بابا، غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، عبد الرحمن جان محمد، إعجاز أحمد، قمقم سنغاري، عقيل بلغرامي وحده الراحل الكبير إدوارد سعيد كان معروفاً، لأنه كان أستاذاً مؤسسا" ("القدس العربي"، 16/ 3/ 2008).

وكما نجد المترجم السوري ثائر ديب الذي ترجم "تأملات في المنفى" (2004) و"فرويد وغير الأوروبيين" (بالاشتراك مع فاضل جتكر) (2004)، وأهم ما يميز ترجمة هذا الأخير، وعلاوة على مقالاته في الموضوع نفسه، هوامشه العديدة التي يسعى فيها، وعبر دينامية الشرح والتفسير للمفاهيم، إلى الأخذ بيد القارئ العربي في دغل القراءة. وكما نجد الناقد والمترجم الأردني فخري صالح صاحب كتاب "دفاعا عن إدوار سعيد" (2000)، وهو عنوان لا يخلو من منظور قومي حدي، جنبا إلى جنب مقالاته العديدة في الموضوع نفسه. ونجد الناقد الأردني محمد شاهين صاحب "إدوارد سعيد ـ رواية للأجيال" (2005) و"إدوارد سعيد: أسفار في عالم الثقافة" (2008)، إضافة إلى كتابه السابق "إدوار سعيد: مقالات وحوارات". وفواز طرابلسي الذي ترجم "خارج المكان" (2000) و"النقد والنزعة الإنسانية" (2005)، والناقد ومترجم "الإمبراطورية ترد كتابة" وصاحب الدراسة المتميزة حول "موسم الهجرة إلى الشمال" خيري دومة... إلخ.

وفي السياق نفسه لا ينبغي التغافل عن أسماء أخرى أفادت من منجز إدوارد سعيد وكتبت باللغة الإنجليزية ذاتها، بحكم إقامتها في المراكز المتروبولية، وبدءا من الباحثة السورية رنا قباني في كتابها اللامع "أساطير أوروبا عن الشرق" (1986) وانتهاء بالباحثة المغربية الشابة ديكا فاطمة الزهراء في كتابها "صدام الحضارات" والرد ما بعد الكولونيالي" (2008) مرورا بعشرات الدراسات والمقالات لبنات جنسهما وغير جنسهما التي يصعب عدها وحصرها وفي مقدمها دراسة أو كتاب محسن جاسم الموسوي حول "الرواية العربية ما بعد الكولونيالية" (2003).

وجميع هؤلاء، ممن ذكرناهم وممن لم نتمكن من ذكرهم، ساهموا، وبتفاوت، في "ترجمة" النظرية وفي محاولة "تأصيلها" في الفكر العربي المعاصر. ودون التغافل عن الصعوبة، المصاحبة، التي تلازم عملا من هذا النوع، وهي صعوبة قائمة على مستوى اللغة الإنجليزية ذاتها التي تصاغ بها وفيها النظرية. فالجانب الأدبي، أو الكتابي، متضمن في تحليلات وقراءات رواد النظرية، مما يضاعف من مشكلات الترجمة. غير أن الكتابة عن إدوارد سعيد لم تنحصر في هذا النوع من الكتابة التي تسعى إلى التحليل، وإنما امتد إلى الكتابة الروائية التي تعتمد تداخل "التخييل" و"التحقيق". وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى "الرواية الإشكالية" ـ كما نعتها البعض ـ "مصابيح أورشليم" (2006) التي استوحى فيها صاحبها الروائي العراقي علي بدر شخصية إدوارد سعيد حيث الصراع العربي الإسرائيلي الذي هو صراع على "السرد" وحيث معارضو إدوارد سعيد ومؤيدوه وحيث تداخل التاريخ والوجود... إلخ.  

ويفرض كتاب رنا قباني ذاته بقوة علينا ضمن هذا الجرد، خصوصا وأنه تم تثمينه من قبل العديد من الدارسين وسواء من العرب أو الأجانب. والكتاب، وللمناسبة، وجد ترجمة لائقة إلى العربية من قبل صباح قباني (1988)، غير أنه صدر عن دار نشر (دار طلاس، سوريا) لم ترق إلى تسويقه بالشكل المطلوب مما حد من "انتشاره" على نطاق واسع داخل العالم العربي. وينتظم الكتاب في الأفق ذاته الذي ينتظم فيه "استشراق" إدوارد سعيد مع فارق يتمثل في "الآلة التحليلية" التي تغطي عليها في كتاب رنا قباني كثرة النصوص والاستشهادات. هذا بالإضافة إلى "حس الشاعرة المفرط" الذي أفضى بها إلى محاولة تبيان "الوجه البشع" الكامن فيما تنعته "عقيدة الاستشراق" (ص 208) القائمة على "التركة الثقيلة من التحيز والتحامل" (ص 209). هذا وإن كانت صاحبة الكتاب قد أصرت على أن تتجاوز الترجمة العربية ما أسمته "المقاطع الشائنة" (ص 12) المتعلقة بالشرقيين.

وتتصور الباحثة أنه ما أن جاء القرن التاسع العاشر حتى برز تحول واضح في نظرة الأوروبي إلى الشرق التي انقلبت من توجس الجاهل إلى ازدراء العارف (ص 208). وفي هذا الإطار تنظر إلى "عقيدة الاستشراق" التي لا تفارق "استراتيجة شرعنة الاستعمار". تقول: "ومن المألوف دائما أن يقال بصدد الاستشراق أن الغرب يعرف الشرق أكثر مما يعرف الشرق عن نفسه الأمر الذي من شأنه أن يخلق مجرى محددا سلفا للكتابة" (ص27). وتركز الباحثة، هنا، على "أدب الرحلات" أو بالأدق، وبلغتها، "كتابة أدب الرحلات" التي "تنسل في طياتها العلاقة الاستعمارية" (ص27). وعلاوة على ما سلف ثمة تداخل بين الأنثروبولوجيا والرواية وقصص الرحلات، وكل ذلك في إطار من "الرؤية العنصرية" لـ"الأجناس الأخرى" التي تظل "واحدة" في هذه الأنواع الثلاثة والمختلفة من الكتابة (ص23). "الرؤية العنصرية" لا "الملاحظة الإتنوغرافية" التي تتخلل حكايات الأسفار، تلك "الملاحظة" أو "الملاحظات" التي تحدث عنها دانيال ريغ في كتابه "رجل الاستشراق" (ص 197). "وهكذا لم ير الكتاب والمصورون والاستشراقيون في المرأة الشرقية سوى أنها بعض من متاع إمبراطوريتهم، فهي جارية أو خطية أو راقصة أو مومس أو قاتلة أو غاوية، ولا شيء غير ذلك" كما تقول الباحثة جازمة في نص مقدمة الطبعة العربية (ص11).

فامرأة رنا قباني لا يمكنها أن تكون "ملاكا" و"حيوانا" في آن واحد كما تقول الباحثة الجزائرية مساعدي سكينة في، مقدمة، كتابها "الروائيون الكولونياليون والمرأة المستعمَرة" (1990) الذي تدرس فيه "صورة" المرأة الجزائرية في الرواية الفرنسية، الكولونيالية، التي ألحقت الجزائر بـ"الشرق الغرائبي" و"الأسطوري"... "شرق ألف ليلة وليلة". وكل ذلك في المنظور الذي جعل الباحثة تسعى، وعلى حد تعبيرها، إلى تحليل وتعرية مختلف ميكانيزمات الإيديولوجيا الكولونيالية كممارسة لـ"شرعنة" العمل الكولونيالي. والغاية من استحضار دراسة الباحثة الجزائرية، هنا، هي التأكيد على "الحدية" التي تطبع قراءة الباحثة السورية التي "ترقى" محاولتها (والتعبير لها، وهو متضمن في نص المقدمة العربية ابتداء) إلى "نزع هالة القداسة" عن الكُتّاب، ولا سيما بورتون ولورنس، في "تحاملهم" وفي "رؤيتهم"، " المخطئة"، للشرق. غير أن الأمر يتجاوز، وفي كلتا المحاولتين، "المرأة" نحو ما كان قد عبر عنه إدوارد سعيد بـ"تأنيث الشرق" ككل. ويشرح هذه الفكرة قائلا: "ما فعلته من خلال كتابتي لـ"الاستشراق" (...) هو الإشارة إلى أمرين: تأنيث الشرق إلى حد بعيد من قبل كتّاب ذكور في الغرب، والطريقة التي تماشت بها حركة الأنثويّة في الغرب يدا بيد مع الحركة الإمبريالية. لم يكن ذلك عائقا بالنسبة إليها" ("السلطة والسياسة والثقافة"، ص240).

ونجد أكثر من دراسة سعت إلى مقاربة تلقي إدوارد سعيد في العالم العربي الذي تحدر منه هذا الأخير رغم خلفيته الغربية الجلية، وخاصة من ناحية كتابه "الاستشراق" الذي كرسّه في العالم. وفي هذا الصدد لا نخفي أن الباحث يواجه بسيل من الدراسات الموضوعة جنبا إلى جنب القراءات المتناثرة في العديد من المجلات والجرائد التي لا تخلو في نماذج منها من أهمية قد تفوق أهمية الكتب في أحيان. هذا وإن كان لا يزال العديد من الدارسين، العرب، يشككون في ما يكتب في الصحافة، بل ولا يعتقدون في جدوى "المقال". ويهمنا أن نحيل، هنا، على دراسة أسعد أبو خليل "الاستشراق في السياق العربي"، وهي باللغة الإنجليزية ومتضمنة في كتاب جماعي "Revising culture, reinventing peace" (2001) مكرس لـ"تأثير" إدوارد سعيد. ويظهر أن الدراسة، ومن بعض جوانبها، بمثابة "رد" على "ثغرات" دراسة إيمانويل سيفان "إدوارد سعيد ومراجعاته العربية" المتضمنة في كتابه "تأويلات الإسلام: الماضي والحاضر" (1985).

ويتصور أسعد أبو خليل أن كتاب "الاستشراق" "ظاهرة ثقافية" أدخلت صاحبها للعالم الأكاديمي الثقافي، وأنه كان بمثابة "رد" على الغرب الجاحد والرافض للثقافة العربية. وخطورة الكتاب أنه ذهب إلى "عصب الاستشراق" المتمثل بـ"سلطة المستشرقين" الذين لم تتم مساءلتهم من قبل... لقد عد العرب تصورات هؤلاء حول الإسلام صائبة بل ونهائية. ومن ثم يكون إدوارد سعيد قد فتح الباب على مصراعيه بخصوص أعمال هؤلاء ومدى شرعيتها في معالجة أحوال الشرق. ولذلك لا يبدو غريبا أن يكون تلقي كتاب "الاستشراق"، في العالم العربي، مؤيدا ومناصرا بشكل غامر وساحق رغم عائق الترجمة العربية التي لم تكن في حجم الكتاب ودلالته العميقة، هذا بالإضافة إلى أن إدوارد سعيد ابتكر مفاهيم أكاديمية جديدة ضاعفت بدورها من مشكلات الترجمة. وعلى مستوى آخر يتصور أسعد أبو خليل أن نقد الكتاب ليس عملا سهلا طالما أن هناك بيبليوغرافيا كبيرة بخصوص "استشراق" إدوارد سعيد وبخصوص "الاستشراق" بصفة عامة. بكلام آخر: ثمة "ضخامة الحركة الاستشراقية وامتدادها على مساحة زمنية واسعة" كما يقول علي يوسف نور الدين في مقال مركز له حول "الاستشراق والاستغراب" في مجلة "شؤون الأوسط" (العدد 108، خريف 2002، ص100). وبكلام آخر: هناك "الأرشيف الثقافي الضخم للغرب" الذي يتحدث عنه إدوارد سعيد في "القلم والسيف" (ص 15). وقد أورد نجيب العقيقي في العام 1947 في كتابه "المستشرقون"، وكما يذكرنا شاكر النابلسي في كتابه "الفكر العربي في القرن العشرين" (الجزء الثاني) (ص526)، تفاصيل بيوغرافية وبيبليوغرافية مستفيضة عن أكثر من 1500 مستشرق.

ويميز أسعد أبو خليل بين أربع استجابات بصدد "استشراق" إدوارد سعيد تتصدرها الاستجابة الماركسية العربية التي مثلها كل من صادق جلال العظم في "الاستشراق والاستشراق معكوسا" ومهدي عامل في "ماركس في استشراق إدوارد سعيد". واستجابة ثانية ينعتها الدارس بـ"استجابة المحافظين الجدد" ممن يندرجون ضمن تيار"المحافظين الجدد" الذي يرتبط بأمريكا، ويشر الدارس إلى أنه "تيار العصر". ويرتبط هؤلاء بالصحافة المكتوبة، ويهيمنون على صفحات "الرأي" في أكبر جريدتين عربيتين تصدران بالمهجر، وليس من شك في أننا نقصد إلى جريدتي "الشرق الأوسط" و"الحياة" الممولتين من قبل العائلة الملكية الحاكمة بالسعودية. ويضيف إدوارد سعيد، بخصوص جريدة "الحياة" التي كتبت "منتقدة" كتابه "الثقافة والإمبريالية" (1993)، بأن هذه المطبوعة جزء من إمبراطورية "روبرت" مردوك الصحفية، وأنها في هيئة تحريرها الراهنة ذات اتجاه يميني، وناطقة باسم الاتجاه المحافظ ـ الجديد، وتستخدم إيديولوجيا للهجوم على شخوص من اليسار أمثال إدوارد سعيد (حوار "الكرمل"، ص116).

ويتصدر هذا التيار كنعان مكية إلى جانب زميليه حازم صاغية ووضاح شرارة، وهي أسماء متفاوتة غير أنها متداولة في الثقافة العربية المعاصرة. غير أن حازم صاغية، وهو صاحب الكتب الكثيرة حول "أول العروبة" و"وداع العروبة" وحول "العرب" و"حطام العراق" و"مأزق الفرد في الشرق الأوسط" و"صراعات شبه الجزيرة العربية"...، هو من يفرض ذاته أكثر بصدد "نقد الاستشراق" (استشراق إدوارد سعيد، تعيينا). ونقد هذا الأخير لإدوارد سعيد متعدد، وموقفه يشبه الموقف الذي اتخذه كنعان مكية. ويدرج صاغية كتاب إدوارد سعيد ضمن "الخمينية" التي مهدت للأصولية في الشرق الأوسط، بل إنه حرص على الحفاظ على العنوان ذاته في كتابه "ثقافات الخمينية" (1995) الذي عززه بعنوان فرعي "موقف من الاستشراق أم حرب على طيف". ولم تشفع لإدوارد سعيد، هنا، مهاجمته، الصريحة، لمنع كتاب سلمان رشدي في العالم الإسلامي، فمثل هذا الموقف، وفي منظور قراءة صاغية "المتناسقة"، لا يعدو أن يكون من باب "التناقض" أو من باب "الاستثناء" الذي يؤكد "القاعدة". فصاغية يحن إلى "الاستعمار" الذي حسَّن من "أحوال المرأة" وغيْر ذلك من "الكليشهات" التي تندرج ضمن "المهمة الحضارية النبيلة" و"الأمر الإلهي". فـ"غرب صاغية" "مثالي" أو "مؤمثَل" (Idealized)، غرب "إنساني"، و"عقلاني"، و"غير عنصري". إن صاغية، كما يلخص صاحب الدراسة، يخفي حجج إدوارد سعيد، ويسعى إلى تأكيد فكرة "الصواب" التي ترتبط ببرنارد لويس في مقابل فكرة "الإيديولوجيا" التي ترتبط بإدوارد سعيد.

وتفضي الاستجابة الثالثة إلى حقل الأزهريين الذين يطول الحديث عنهم أكثر. وموقف هؤلاء مسبق من الاستشراق الذي يرتبط، في تصوراتهم، بالاستغراب والتبشير بل والصهيونية. فهدف الاستشراق هو تدمير الأمة الإسلامية ونسف مبادئ الشريعة. ولذلك ينبغي أن تظل الدراسات الإسلامية وقفا على أبناء الأمة من المسلمين، لأن المستشرقين يستندون إلى خلفية دينية وقومية تقع في أساس الهدف أو المخطط سالف الذكر. ومن ثم فمهاجمة الاستشراق موقف صائب ومحمود حتى وإن لم تتم، وباعتراف أصحابها، قراءة أي عمل من أعمال هؤلاء كما هي حال المثقف الإسلامي الأشهر محمد الغزالي (1917 ـ 1996) صاحب "ظلام من الغرب" (1956) و"دفاع عن العقيدة والشريعة ضدّ مطامع المستشرقين" (1988). وقد دشن هذا الحقل محمد البهي بكتابه الشهير "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" الذي ظهر في الخمسينيات وتوالت طبعاته، بل وترجم إلى لغات أجنبية. وقد تصدى الكتاب لأفكار كتلك التي تقول بـ"بشرية القرآن" و" الإسلام دين لا دولة"... ورأى فيها "ممالأة" للغرب. ويتواجد ممثلو هذا التيار في مصر وخارجها، ولا تزال امتداداته متواصلة حتى اليوم. إجمالا إن نتائج إدوارد سعيد تظل متجاهلة، وكليا، من قبل ممثلي هذا الحقل أو التيار.

وأما الاستجابة الرابعة (والأخيرة) فتتمثل في "الرد" أو "الطرح الأكاديمي" المتمثل بـ"علم الاستغراب" الذي يمثله المفكر المصري حسن حنفي وبـ"اسم الفلسفة" كما يعلق جميل قاسم في مقال "الاستشراق والاستغراب" ("الحياة"، 25/ 09/ 2004). ويتصور هذا الأخير أن تأثير الاستشراق كان كبيرا في الفكر العربي، ولذلك يرى بضرورة تقديم نموذج بديل يحرر الفكر العربي من الإحالة إلى مفاهيم الاستشراق. فالفكر العربي يظل "ترجمة" و"تأويلا" على الرغم من "الإبداعية" التي يسعى إلى أن ينتظم فيها. فالرجل يرغب في "نظرة علمية عربية" للأشياء وفي "معاكسة" التوجه العام للاستشراق.

غير أن التلقي الذي يفرض ذاته، هنا، أكثر، ومن خارج ترسيمة أسعد أبو خليل، وبخصوص النص السعيدي، هو التلقي الماركسي الذي دشنه، كما أسلفنا، صادف جلال العظم بكتابه "الاستشراق والاستشراق معكوسا" الذي قدم فيه انتقادات عديدة لكتاب إدوارد سعيد، وخوصا من ناحية "النظرية النصية" أو "نظرية الخطاب" التي أعطاها سعيد، وباعتبارها "تشكلا" أو "تشكيلة معرفية"، دوراً محركاً أولاً وحاسماً في تحريك الأحداث وكأن الأفكار تتحدد من خلال ذاتها لا من خلال الواقع الذي تحيل عليه. وهو النقد ذاته الذي وجّه لسعيد من قبل نقاد الهند أيضا، وتلخصه آنيا لومبا في ما تسميه بـ "المغالاة بالخطاب" (ص101 102 106 232)... لكن دون أن تجرد المفهوم من وظيفته التحليلية، طالما أنه ينأى بسعيد عن الفهم الضيق والتقني للسلطة الاستعمارية (ص58).

وفي سياق الحديث عن التلقي الماركسي العربي لا يمكن القفز على الكتاب اللاحق "ماركس في استشراق سعيد" لمهدي عامل الذي ظهر أول مرة في مجلة "الطريق" (العدد 3، 1982) و"الكرمل" (العدد6، 1982) ثم في كتاب تحت العنوان نفسه صدر عن دار الفارابي البيروتية العام 1985. غير أن القراءة التي قدمّها عامل، هنا، لـ"القراءة السعيدية للنص الماركسي" كما نعتها (ص18)، لا تشبه قراءة جلال العظم التي أشار عامل إليها وأعرب عن إعجابه بها. ويمكن أن نرد هذا الاختلاف إلى ما نعتته أمينة رشيد بـ"النص الآخر" الذي يتربص بنص إدوارد سعيد أو "النص السعيدي" كما ينعته عامل في على مدار الكتاب نفسه. وتشرح الناقدة هذه الفكرة، في مقالها "في نقد مهدي عامل لإدوارد سعيد"، قائلة: "ثمة نص آخر يبدو هو النص الحقيقي لأسلوب مهدي المحتدم والمحموم فينزلق من اتهام إدوارد سعيد إلى نقد الإيديولوجية العربية السائدة، ناسجا نصا آخر، مستدعيا نصوص غيره، وكلها حلقات مختلفة، بل واحدة، متكررة، لمعركته الأساسية ضد الفكر العربي السائد، ومن أجل بلورة، إنضاج، صياغة فكر ثوري(...) وبقراءة هذا النص الآخر فقط، نستطيع أن نفهم النظام المعرفي الثوري الذي يقيمه مهدي عامل في مقابل الفكر البنيوي السائد" (الطريق (عدد خاص: حوار مع فكر مهدي عامل)، السنة 47، العددان 5/6، كانون الأول/ ديسمبر 1988، ص 348). وربما أمكننا أن نشير، هنا، وخصوصا من ناحية تأييد ماركس لاستعمار الهند، إلى ما كان قد رجحه الباحث المغربي سالم يفوت، في كتيبه حول "حفريات الاستشراق"، من أن "الرغبة في تعميم "الاقتصاد السياسي" وتعميم معاييره هي التي أفضت بماركس وإنجلز إلى الوقوف ذلك الموقف المعروف من الاستعمار عامة والاستعمار البريطاني للهند خاصة، إنه موقف لا يمكن فصله عن فلسفة الأنوار (روسو على الخصوص)، وعن نظرة هيغل للتاريخ، الذي هو حسبه نقد للعقل أو العقل في التاريخ" (ص82).

تلك، إذا، هي أهم "الاستجابات" التي أثارها كتاب إدوارد سعيد في العالم العربي، وقد لا نجد لها مثيلا في حاضر الثقافة العربية على مدار العقود الثلاثة الأخيرة. وكما نلاحظ فهي استجابات متفاوتة بسبب من تفاوت أسسها النظرية ومستنداتها التصورية، تفاوت يبلغ حد "التضارب الجذري" في القراءة والمساءلة. وما كان لكتاب إدوارد سعيد أن يثير هذه الاستجابات لولا السند النظري والتصوري الذي يلوي بالفكر القرائي الذي ينتظم فيه والذي كان في أساس نتائجه الجذرية المغايرة داخل الفكر العربي. ويقع السند النظري في أساس النقد الذي وجهّه إدوارد سعيد نفسه لتلقي كتابه، بل ومشروعه ككل، في العالم العربي. يقول موضحا: "مع الأسف، لم يكن استيعاب عملي في العالم العربي فعليا بالعمق الذي كان عليه في الأماكن الأخرى. ينظر إلي في العالم العربي على أني مدافع عن الإسلام ضد شرور الغرب. وهذا كاريكاتور. الناحية النظرية، التي يشاركني فيها المثقفون الهنود، مثلا، والأوروبيون أو اليابانيون غير موجودة هنا. لا يوجد اهتمام كبير في العالم العربي بأية مادة غير متعلقة بهم مباشرة" ("السلطة والسياسة والثقافة"، ص306).

وفي الحق فإننا نجد مثقفين (من العرب) بارزين عالجوا موضوع "الكولونيالية" و"ما بعد الكولونيالية" كما في حال المفكر المصري عبد الوهاب المسيري (1938 ـ 2008) الذي خص "الصهيونية"، وكـ"إيديولوجيا غازية" و"محتلة"، بموسوعات ودراسات كثيرة. وهو في توجهه هذا، الذي يصل الصهيونية بـ"النسق الحضاري الغربي"، وكما يقول صاحبا "دليل الناقد"، يلتقي مع باحث آخر هو حسن حنفي الذي دعا في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب (1991)، وكما أسلفنا، إلى قلب التوجه الاستشراقي بحيث يصبح الأوروبي الذي كان يدرس الشرق موضوعا للدرس (ص160). وقد أثار هذا موضوع "الاستغراب" نقاشا واسعا، وتراوح ما بين رافض وداعم له. وهذا لكي لا نشير إلى كتب أخرى، تعالج الإمبريالية من خارج الاستناد إلى مقولات "تحليل الخطاب الاستعماري"، ككتاب الهادي التيمومي "الجدل حول الإمبريالية منذ بداياته إلى اليوم" (1992) الذي خصه سمير أمين (وهو للمناسبة واحد من الذين مهدوا لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي) بتقديم مطول "الرأسمالية والنسق". وكما يقول إدوارد سعيد، في "السلطة والسياسة والثقافة"، (وساخرا)، فـ"الاستشراق المعكوس" هناك أعمال حوله في شتى أنحاء العالم الإسلامي (ص244).

ويظهر أن البروفسور المهدي المنجرة يفرض ذاته، بحدة، بخصوص "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي خصها، ومن خارج مستنداتها التصورية، بدراسات مستقلة منها "الحرب الحضارية الأولى" (1991) و"شمال جنوب ـ مدخل إلى عصر ما بعد الكولونيالية" (1992) و"تصفية الاستعمار الثقافي" (1996) و"الإهانة في عهد الميغا إمبريالية" (2004). ويميز المنجرة، في مقال "ما بعد الكولونيالية"، وهو متضمن في كتابه "تصفية الاستعمار الثقافي"، بين "الكولونيالية" و"النيوكولونيالية" و"ما بعد الكولونيالية". وترتكز الكولونيالية، في تصوره، على التدخل العسكري (المباشر) واستغلال الموارد البشرية والطبيعية، فيما ترتكز النيوكولونيالية على الاستعمار الاقتصادي، أما ما بعد الكولونيالية فترتكز على القيم الثقافية الغربية اليهودية ـ المسيحية التي يُقال بأن القيم الإسلامية ـ الكونفشيوسية تهددها. يبدو جليا أننا بإزاء ثلاث حقب كل واحدة منها ترتكز على مرتكز محدد، إذ هناك "السياسة" بالنسبة للكولونيالية، و"الاقتصاد" بالنسبة للنيوكولونيالية، و"الثقافة" بالنسبة لما بعد الكولونيالية. ويشترط المنجرة ضرورة الوعي بالخيوط أو الاستراتيجيا المتحكمة في الانتقال من حقبة، أو مرحلة، إلى أخرى، لأن مثل هذا "الوعي"، أو "الفهم" كما ينعته، شرط من شروط تحرر العالم ما بعد الكولونيالي(ص64).

يبدو جليا مدى تشديد المنجرة على سند الثقافة في تصوره لما بعد الكولونيالية، لما للثقافة من تأثير حاسم على مستوى "صناعة" العالم ما بعد الكولونيالي. فهو يجزم أن "تحرير الجنوب" يمر عبر تصفية الاستعمار الثقافي، لأن من بين أهم أهداف ما بعد الكولونيالية هي الدعاية للقيم الغربية من أجل ترسيخ الهيمنة الثقافية. وهي القيم التي لا يمكن فهمها، وفي سياق عصر ما بعد الكولونيالية ذاته، في معزل عن "القوة العسكرية" التي تستخدمها الإمبريالية الغربية (الأمريكية خاصة) من أجل ترسيم خرائطي يستجيب لطموحاتها الإمبراطورية. غير أن المنجرة، هنا، ورغم حساسيته المفرطة تجاه الهيمنة/ الإمبريالية الثقافية، وإصراره، واعتمادا على آليات النقد الحضاري، على "فك الاستعمار" على مستوى العلاقات التي تصل ما بين الشمال والجنوب، لا يستجيب لـ"التنظير" الذي يلح عليه إدوارد سعيد. ويمكن أن نشفع للمنجرة من خلال "الأرقام" ـ لا المفاهيم ـ التي تأسره باعتباره "عالم مستقبليات".

ومن هذه الناحية، ناحية التنظير، ورغم النقد الذي يوجه للمفكرين العرب، يمكن الحديث عن شبه تيار أو مدرسة لإدوارد سعيد في العالم العربي رغم "الشحوب" الذي يطبع "التعامل العربي" مع "النص السعيدي". لقد كان من المفروض أن يتم تداول هذا "النص" على نطاق واسع في مجاله الأصلي المتمثل بالشرق الأوسط والعالم العربي وفلسطين، غير أن ما حصل على هذا المستوى، وبسبب من "الأساس النظري" سالف الذكر، لا يمكن مقارنته البتة مع "التلقي ما بعد الكولونيالي" للنص في الهند ("مجموعة دراسات التابع" (Subaltern Studies Group)) وإسرائيل (بعض المؤرخين الجدد). ورغم ذلك فكتاب "الاستشراق" أثار ضجة كبيرة لأنه استجاب لتوقع صدر على ما يظهر من جانب العالم العربي ـ الإسلامي كما يتصور جيرار ليكلرك في كتابه "العولمة الثقافية الحضارات على المحك"، (ص399). ويكمن مصدر الاستجابة في كون كتاب سعيد لم يتعامل مع "الاستشراق" كدراسة للغات الشرق وآدابه فقط، وإنما بحث في "الموقف" الذي يتخذه الغرب من الشرق اعتمادا على "آليات التمثيل" التي لا تفارق "ماكينات القوة". وجيرار ليكلرك كان العالم العربي قد عرفه، من قبل، من خلال كتابه "الأنثروبولوجيا والاستعمار" (1972) الذي اطلع عليه القارئ العربي أول مرة في مجلة "الفكر العربي" (1982) وبعد ذلك في كتاب مستقل لجورج كتورة (1990). الكتاب الذي سيليه، وبعد عام واحد، وباللغة الإنجليزية، كتاب "الأنثروبولوجيا والمواجهة الكولونيالية" لصاحبه الأنثروبولوجي طلال أسد المعروف بأبحاثه حول عدم التناظر بين الغرب والمجتمعات غير الغربية وحول مفاهيم السلطة والدين في الإسلام والمسيحية.

وفي الحق فموقف جيرار ليكلرد، من "استشراق" إدوارد سعيد، كان قد عبر عنه مثقفون عرب من قبل. وفي هذا الصدد يتصور رضوان السيد، في تقديمه السابق، أن "الاستشراق" "كتاب سياسي من الطراز الأول". ويذهب شاكر النابلسي، في كتابه "الفكر العربي في القرن العشرين" (وقد سلفت الإشارة إليه)، إلى أنه كان أولى بسعيد أن يسمي كتابه "الاستشراق السياسي" أو "الاستشراق الاستعماري"،لأنه ركز، في "الاستشراق"، على الاستشراق السياسي في فرنسا وبريطانيا في الدرجة الأولى، وأهمل الاستشراق المعرفي خاصة، والمجرد عن أية أهداف استعمارية (...) ولعل هذا كله كان سببا رئيسا في شهرة كتاب سعيد في الغرب وفي العالم العربي وفي آسيا، من حيث إنه ركز هجومه على الجانب الاستعماري في الاستشراق البريطاني والفرنسي على وجه الخصوص، وأرضى بذلك أعداء الاستشراق وهم كثر في الشرق والغرب(ص564).

لقد نال إدوارد سعيد موقعا مرموقا في العالم الغربي، بل وتحول، وهو العارف بتفاصيل الصحافة والإعلام الأمريكيين ومدى صلتهما بصناعة القرار، إلى ناطق باسم الفلسطينيين والعرب عامة في كبريات القنوات الإعلامية الأمريكية، فهو "صوت العرب" أو "homo Arabicus" وهو "الفارس الفلسطيني" و"مستر فلسطين" و"القائد" و"بروفيسور المقاومة" و"المثقف العربي الفدائي الوحيد" و"الرجل الذي نباهي به الأمم"... إلخ. وما ساعده على ذلك اطلاعه النهم على النظريات والمناهج، ومواكبته النشطة للأحداث والمستجدات، ومداخلاته الرصينة، وأحاديثه الفطنة، وتعليقاته النابهة، بل إن أسلوب حديثه كان يفوق أسلوب كتابته كما يرى البعض.

وكما أن اعتماده "المقال" و"سفره المكثف" (وفي أثناء مرضه أيضا) وأحاديثه في "الراديو" و"التلفزيون"... وحضوره العام أمام الكاميرا الذي كان آسرا للانتباه وباعثا على الثقة كما يقول رشيد الخالدي في مقاله السابق ("الحق يخاطب القوة"، ص208). كل ذلك، وعلاوة على شخصيته الجذابة، ساعده على "الانتشار" و"التأثير". لكن دون أن نتغافل عن المتاعب والمتابعات بل والتهديدات بالقتل التي طالته، ومن جهات سبق لها أن اغتالت رموزا فلسطينية، بسبب من إصراره على هذا النوع من الأداء الذي هو "أداء المثقف النقدي" وداخل فضاء لا يخلو من عداء لكل ما هو عربي، ذلك العداء الذي يتغلغل حتى داخل الثقافة الشعبية بأمريكا كما أسلفنا. وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى أليكس عودة (مدير مكتب كاليفورنيا للجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز) الذي قتل من جراء قنبلة انفجار كانت مربوطة بباب مكتبه في الحادي عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1985 وبعد أن كان قد ظهر في الليلة السابقة على برنامج محلي نفى فيه تورّط ياسر عرفات في قضية (خطف الباخرة) "أكيلي لاورو" ("السلطة والسياسة والثقافة"، ص98). ولا داعي للتذكير بكليشيه "بروفسور الإرهاب" الذي طال إدوارد سعيد في حياته داخل الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن قطع على نفسه الارتماء في قضية فلسطين. وهذا "التوصيف" في الأصل عنوان مقالة "هجومية فظيعة"، كما يصف سعيد، نشرت، قبل حرب الخليج بفترة وجيزة، في مجلة "كومنتري" في أغسطس 1989. وكان الهدف منها، وكما يشرح، استفزازه كي يرفع دعوى تشهير، من شأنها أن تشغله عشرة أعوام، وتمنعه من فعل أي شيء آخر، ولذلك لم يرد عليها. "لكنك عليك الاستمرار، وهذا هو الأهم" كما يحسم (ص 250). ولا نظن أن هذا الكليشه سيفارقه في الممات، لأنه من الشخصيات المزعجة سواء في الحياة أو الممات. ومن قبل حرق مكتبه، إضافة إلى أنه كان، ومنذ العام 1971، مراقبا من قبل "مكتب التحقيقات الفيديرالي" (أف بي آي) الذي له تقاليد طويلة في رصد أهمّ المثقّفين الأمريكيين وإزعاجهم.

وقد قاتل إدوارد سعيد على مستوى فك "الالتباس" عن "التهديد" أو "الخطر الإسلامي" (المزعوم) أو "السعار الإسلامي" كما نعته برنار لويس في مقال له يحمل العنوان نفسه نشره في مجلة "الأطلانتيك" صيف 1990، وهو المقال الذي سيمهد لأطروحة "صدام الحضارات" التي أشاعها صامويل هنتجتون في مقال يحمل العنوان نفسه، نشره في مجلة "فورين أفير" (صيف 1993) وبعد ذلك سيظهر في كتاب، وكل ذلك بناء على سؤال "إن لم تكن الثقافة، فماذا إذا؟". والظاهر أن مفهوم "الصدام" لدى برنارد لويس كان قد ظهر منذ كتابه "الشرق الأوسط والغرب" (1964) كما يشير إلى ذلك غسان سلامة في كتابه "أمريكا والعالم إغراء القوة ومداها" (ص372). وقد ألح إدوارد سعيد على أن نظرية صامويل غير مقنعة على الإطلاق ("الاستشراق"، ص526). وهي، وإلى جانب أطروحة فوكوياما حول "نهاية التاريخ"، تحيل إلى مجال سياسي إيديولوجي أكثر مما تحيل إلى مجال تاريخي ثقافي.

وكما أن الأطروحتين، وكما بواصل سعيد، في مقال "أمريكا الأخرى"، ومنتقدا، تفترضان أن تاريخ الثقافات يختزل إلى قضية عتبات محددة، وتزمنات (Temporalités) محددة بدورها، مما يفضي إلى تلك النظرة الضيقة التي بموجبها يغدو التاريخ ذا بداية ووسط ونهاية. في حين أن الحقل الثقافي/ السياسي هو مجال للهويات المتصارعة والتمثيلات الذاتية والإسقاطات المستقبلية. ثم إن ثقافة، والأمريكية منها بخاصة، متشكلة من مجموعات هجرات متتالية جنبا إلى جنب مخلفات العولمة اللاإرادية المتمثلة بظهور مجموعات متحررة من الهويات القومية ومهتمة بالقضايا الكونية مثل حقوق الفرد وحقوق المرأة ومناهضة الحرب. فالولايات المتحدة لا توجد خارج هذا السياق الذي يرتبط به، وبشكل وثيق، العديد من الأفراد، وهذا السياق، ومن حيث هو سياق خصومات، عادة ما لا تكشف عنه الواجهة الأمريكية.

وكما أن إدوارد سعيد قاتل على مستوى فك الالتباس عن "الربط الجزافي" ما بين "الإسلام" و"الإرهاب" الذي صار "مسلمة" في "الكتابات الغربية" ولا سيما في الدوائر الإعلامية ذات الصلة المباشرة بمصادر صناعة القرار في أمريكا وفي سياق ما سمّاه ويليام بلايْك بـ"الحرب الثقافية" بين الإسلام والغرب. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن النسبة الغالبة من الذين تناولوا الموضوع، عبر وسائل الإعلام المختلفة، هم من اليهود والمعنيين منهم بإسرائيل بصفة خاصة. لقد تم ربط اصطلاح "الأصولية" بشكل مؤذ بالإسلاميين فقط، مع أنها موجودة بالتأكيد لدى اليهود والمسيحيين، وفي الولايات المتحدة في الوقت الحاضر ("السلطة والسياسة والثقافة"، ص200). وكما انتقد سعيد من سار في فلك برنارد لويس، الذي يعده جزءا من المناخ السياسي الراهن لا المناخ العلمي الحديث ("الاستشراق"، ص520)، من "عرب البيت الأبيض"، ومن "الدارسين المقاتلين" كما يضيف، ولا سيما في سياق "عراق ما بعد صدام حسين" الذي مات سعيد مفجوعا لحاله كما تحكي زوجته. ولا يمكن فهم موقف إدوارد، هنا، وكما يشرح البعض، إلا باستيعاب نقيضه، أي أولئك الذين استقروا مثله في الولايات المتحدة، وأصبحوا أساتذة في جامعات كبري، لكنهم سرعان ما انسلخوا عن جذورهم وأخذوا بالتالي يضطلعون بدور المثقف ـ النقيض الذي لا يكف، وطوعا، عن تبرير السياسات الأمريكية المعادية للثقافة العربية وقضايا الشعوب العربية عامة. ومن بين هؤلاء اللبناني فؤاد عجمي، والعراقي كنعان مكية ومواطنه سمير خليل، والسوري نبيل الصايغ... إلخ. وقد تصدى إدوارد سعيد، وبجرأة نادرة، وكمثقف نقدي وإنساني، لجميع هؤلاء... مشرّحا مستويات "عمالتهم لأمريكا" و"خيانتهم" لـ"تمثلات المثقف" التي رسمها في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه.

ويمكن أن نشير، هنا، إلى ما نعته البعض بـ"النقد الحاد غير المسبوق" الذي وجهه إدوارد سعيد، في جريدة "الحياة" (03/ 12/ 2002)، إلى كنعان مكية (رئيس قسم الشرق الأوسط في جامعة "براندايس" بجوار بوسطن). وقد أصبح هذا الأخير بعد 11 أيلول (سبتمبر)، وفي سياق تحضيرات الحرب على العراق، من مستشاري الحكومة الأمريكية ومن أهم ضيوف مؤسسات اللوبي الصهيوني والمؤسسات المحافظة في الولايات المتحدة، يحاضر فيها عن "قسوة" العرب و"تحجرهم". وقد عرض لذلك في كتابين، هما: "جمهورية الرعب" (1989) و"القسوة والصمت" (1993). وقد أثار نقد إدوارد سعيد لكنعان مكية، وهو النقد الذي أذاعته العديد من الأوساط الإعلامية العربية، ردودا، أو بالأحرى ردود فعل، عنيفة من قبل مؤيدي كنعان مكية بدءا من الليكودي الإسرائيلي مارتن كريمر وانتهاء بـ"المعارضين العراقيين"، بل امتدت الردود إلى غير هؤلاء من بعض المثقفين العرب من "المحافظين الجدد". وقد رأى البعض، من المهتمين بخطاب إدوارد سعيد، في نقده لكنعان مكية نوعا من "تدني الخطاب" ونوعا من "التجريح الشخصي"... إلخ. وكما يلخص عبد الوهاب الأفندي، في مقاله "ما بين إدوارد سعيد وكنعان مكية: المثقف والخيانة العظمى للعلم والأخلاق والشرف"، وهو مثبت في شبكة الاتصال الدولي، "فإن إدوارد سعيد قد خرج عن منهجه الأكاديمي الرزين، وانخرط في هجوم شخصي حاد علي كنعان مكية ربما أعطي المعارض العراقي حجما أكبر من حجمه". وكما تجدر الإشارة إلى مقال آخر يعرض، وبتفصيل، للموضوع نفسه وللردود التي أثارها في الثقافة العربية، وهو لصاحبه محمد الأتاسي، ومعنون بعنوان عريض "معلومات مضللة عن إدوارد سعيد: رد علي كنعان مكية واليمين الأمريكي الجديد: خطاب عراقي معاد للعروبة مليء بالشوفينية والعداء ويدعو لاستقبال بوش بالورود/ المثقف الفلسطيني ليس انتحاريا أو مكارثيا أو متواطئا ولكنه معني بتعرية المثقف وخيانته"، ومنشور بجريدة "القدس" (14/ 03/ 2003). ويبقى أن نختم، في هذه النقطة، بأن كنعان مكية، ومن يسير في فلكه، واحد من الأمثلة الدالة، وبوضوح، على ما يسميه سعيد نفسه بـ"تأثير الاستشراق (الجديد أو العملي) في الكتابة العربية" ("الاستشراق"، الترجمة العربية، ص448).

غير أنه لا ينبغي أن نتغافل، بخصوص موضوع "الإسلام والإرهاب"، عن "تاريخية القراءة" التي جعلت إدوارد سعيد، المثقف النقدي، ورغم خلفيته العلمانية سالفة الذكر، يتحدث عن "صعود" المجموعات الإسلامية، في بلدان العالم العربي، و"بكثير من الحق" كما يصف ("صور المثقف"، ص51) نتيجة إفلاس المشاريع الإيديولوجية الوطنية والقومية على مدار العالم العربي وبما في ذلك داخل فلسطين التي حفز فيها ما يسميه "اليأس الدنيوي" ("تأملات في المنفى"، ص305) على صعود الحركة الإسلامية ("حماس" بخاصة) التي لم يكتب لسعيد أن يدرس وصولها إلى "السلطة" في فلسطين. فالملف الاجتماعي يفرض ذاته بقوة هنا، وليس الاحتلال فقط، وهذا ما أشار إليه إدوارد سعيد قبل أن يستفحل الوضع ("القلم والسيف"، ص 135). وعلى ذكر "حماس" لم يعترض إدوارد سعيد على الناشر الذي اختار لغلاف أحد كتبه شعار لـ"حماس" على جدار فلسطيني، وحجته أن الصورة لا تتعارض وموضوع كتابه الذي يتمحور حول الاحتجاج، هذا بالإضافة إلى أنه يريد أن يبقي الظلم والاضطهاد في مركز الانتباه كما تقول البروفيسورة غاوري فسواناثان في تقديمها لكتاب "السلطة والسياسة والثقافة"(ص22).

ومن قبل فقد تصور بعض نقاد إدوارد سعيد أن كتاب "الاستشراق" يشجّع "جدول الأعمال الإسلامي"، بل ذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك حين حمّله ـ وإن إلى حد ما ـ مسؤولية صعود الأصولية الإسلامية المناوئة. وهو ما يرفضه إدوارد سعيد بسبب من "مرجعيته العلمانية الصريحة" التي دافع عنها في وضوح تام. هذا بالإضافة إلى إشاراته، المتكررة، إلى أنه لا يهتم بموضوع "الإسلام" وإنما بـ"صورة الإسلام في الغرب". ودون التغافل عن أن الكتاب عزَّز "أصولية" من نوع آخر تتمثل في "الاستغراب" الذي دافع عنه البعض في نطاق الرد على الاستشراق الأكاديمي، وحصل ذلك مع أن الكتاب أصر في صفحاته الأخيرة على عدم نجاعة "الرد" على الاستشراق بنوع من "الاستشراق المضاد". وقد تكون هذه من "مفارقات" كتب أو كتابات سعيد كما تحدث عنها جميل قاسم في "الاستشراق والاستغراب" ("الحياة"، 25/ 09/ 2008).

وحتى على مستوى الصراع مع فلسطين فثمة "خلفية ثقافية" تحرك هذا الصراع، وهو ما لا يتم الالتفات إليه في ظل الهياج القرائي القومي العاطفي لمنجزه داخل السياق التاريخي العربي المغلوب. أجل لقد أكد إدوارد سعيد أنه لا يجوز النظر إلي الحركة الصهيونية علي أنها حركة تحرر وطني يهودية، كما هو شائع في أوروبا وأمريكا، وإنما يجب النظر إليها بوصفها "ظاهرة "كولونيالية" بحثت عن مستعمرة لها في الشرق كما بحثت الدول الاستعمارية عن مستعمرات لها في آسيا وأفريقيا. بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين قال إن ما يميز هذه الإيديولوجيا، عن غيرها من الإيديولوجيات الأوروبية، أنها "عنصرية استثنائية متصلبة". غير أن الصراع، في فلسطين، في نظره، وفي أساسه، "صراع ثقافي" خاص بقضية "اللاسامية"، ومعنى ذلك أنه أكثر مما هو صراع قومي ظاهر. ونحن، كما يواصل سعيد، "ضحايا الضحايا"، لأننا تحولنا لنكون ورثة اللاسامية الأوروبية.

وبفضي بنا ما سلف إلى الربط الذي أقامه سعيد، في تمهيد طبعة أغسطس 2003، احتفالا بمرور ربع قرن على صدور الاستشراق، بين "النزعة الاستشراقية" و"العداء الحديث للسامية". وفي هذا السياق، كذلك، وبناء على "السند الثقافي" في الصراع، أمكننا استحضار مقالة أدورنو الشهيرة "النقد الثقافي والمجتمع" (1949) التي يعدها البعض واحدة من الدراسات التي مهدت لـ"النقد الثقافي" الذي يتأطر داخله نقد الاستشراق وخطاب ما بعد الاستعمار. وفي هذا المقالة انتقد أدورنو، ومن موقع خطاب يهودي أقلوي، "الثقافة الغربية" (الألمانية بخاصة) التي بدت متسامحة تجاه "الإبادة" التي تعرضت لها بعض الأقليات. و"النازية"، وباعتبارها أبشع نظام شمولي في القرن العشرين، كما وضّح ذلك تودوروف في كتابه "الذاكرة والأمل"، كانت، وكما كان قد قال آلان باديو، في "بيان الفلسفة"، "فضيحة فلسفية". فمفهوم "الكارثة"، الذي يردده سعيد كثيرا في كتاباته وحواراته، لا يخلو من "مسحة أدورنية"، بل إن سعيد ختم حوارات "السلطة والسياسة والثقافة" قائلا: "لذلك أنا الأخير: تلميذ أدورنو الوحيد. دعني أقلها كالتالي: أنا يهودي فلسطيني" (ص496).

يظهر أن الثقافة العربية لم تستوعب سعيد حقيقة، لأنها لم تقف عند تلك "المضامين المتوارية في خطابه أو عند إشكالية الانتماء لديه وتأثير ذلك على منجزه الفـكري والنقـدي الضخم والبالغ الأهمية" كما يتصور سعد البازعي في مقاله "أنموذج أساسي لبعض مثقفي العالم الثالث في الغرب" ("الحياة"، 25/ 09/ 2004). إنه أشبه بـ"الملاّح القديم" الذي أتى إلى هذا العالم من دون "هوية محددة"، وهو ما خص به نفسه في أكثر من حوار. ورغم ذلك فالعرب يشدّدون على إدوارد سعيد الذي يبدو تأثيره في الفكر العربي المعاصر، ومن وجوه كثيرة، قويا. وربما في هذا السياق تجدر الإشارة إلى تكريم مؤسسة الفكر العربي له كرائد في مؤتمرها الأول في القاهرة العام 2002. ودون أن نتغافل عن بعض الدراسات التي تدرجه ضمن تيارات الفكر العربي المعاصر على نحو ما فعل، وعلى سبيل التمثيل، إبراهيم محمود في كتابه "البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر" (1994) الذي يدرج فيه منجز إدوارد سعيد (متمثلا في "الاستشراق" و"تغطية الإسلام") إلى جانب منجزات علي حرب ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن قبيسي ومهدي عامل ومحمد حسين دكروب ومحمد حافظ دياب... إلخ. وحتى إن كان صاحب الدراسة لا يستند إلى مقولات نظرية ومرتكزات تصورية فإنه ينطلق من ثلاث افتراضات: أولها "التشكيك" في "الخلفية العالمية" لـ"البنيوية"، وذلك حين يقول: "وتكشف البنيوية لمن يقرأها أنها تسع العالم بكل تنويعاته وتشكيلاته، فهي فوق الطبقات، فوق التفاوتات الاجتماعية، خارج كل إثنية معنصرة" (ص 31). وثانيها: عدم تصدي المفكرين العرب، وعلى صعيد الدرس النقدي، للنزوع الأوروبي للبنيوية إذ لم يجر "تدقيق وتمحيص في السلطة المرجعية لهذه (البنيوية) التي تقدم (الإنسان الأبيض) الأوروبي الغربي المتروبولي، باعتباره النموذج الأوحد الذي يجب أن يحتذى" (ص31). ورغم كل ما سبق، وهذا هو الافتراض الثالث، فقد شكلت البنيوية "مأدبة فكرية"، وشغلت "حديث الثمانينيات"... في الفكر العربي.

غير أن القسوة التي يبديها صاحب الدراسة تجاه معظم المفكرين العرب تتلاشى كليا أمام منجز إدوارد سعيد الذي يعالجه انطلاقا مما نعته، وعلى مستوى العنوان الفرعي، بـ"بنونة الاستشراق". ومن هذه الناحية فهو يعد "الاستشراق" "عملا تاريخيا فكريا"، ويرد ذلك إلى "اللغة المكثفة" التي شكلت بالنسبة للعمل "قيمة مضافة". غير أن مصدر "التأثير" في الكتاب هو "المنهج البنيوي" الذي جعل إدوارد سعيد يتقصى كيفية انبناء الفكر والأدب والفن وأدب الرحلات والجغرافيا والأنثروبولوجيا والإتنولوجيا والمذكرات والتاريخ والفلسفة والفيلولوجيا... وغير ذلك من الأنواع ضمن "عمل" أو "سياسة الاستشراق". والخلاصة، هنا، أن صاحب القراءة لا يقدم "جديدا" مقارنة مع قراءة مهدي عامل، للنص السعيدي التي أشرنا إليها من قبل، ولا سيما من ناحية "التأثير الفوكوي" الذي يخلخل "التصور الأحادي" أو "المسطح" للبنيوية.

وقد يتضاعف، أكثر، التشديد على إدوارد سعيد بالنظر إلى هذا الظرف الذي يشهد تدافع هجمات الحلف الأميركي/ الإسرائيلي/ البريطاني الذي بدا تأثيره حتى داخل فرنسا التي أخذنا نقرأ فيها عن "رهط من الفلاسفة الجدد"، كما نعتهم صبحي حديدي، من أمثال ألان فنكلكراوت وأندريه غلوكسمان وبرنار هنري ليفي، والثلاثة "يهود"، من الذي راحوا يصوغون مواقف من العرب لا علاقة لها بما كان قد ارتفع داخل فرنسا ذاتها من قبل من أصوات جان جينيه وجيل دولوز وفيليكس غاتاري وميشال فوكو وجان بيار فاي... لنصرة الفلسطينيين والمهاجرين العرب والثورة الإيرانية. وقبل هؤلاء جان بول سارتر، أيقونة العصر، الذي لم يكن يخفي عداءه لأمريكا حتى وإن كان قد التزم الصمت حيال جرائم إسرائيل في فلسطين. سارتر الذي كان قد قدم لأهم الكتب التي ستمهد لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي ("أروفي الأسود/ منتخبات الشعر الأسود"، "صورة المستعمر" لألبير ميمي، "السؤال" لهانري علاقة و"معذبو الأرض" لفانون)، وهي المقدمات التي أقدم محمد معراجي على ترجمتها ضمن كتاب "مواقف مناهضة للاستعمار" صدر بالجزائر العام 2007.

فعلى هذا المستوى الأخير صار العرب، وأبناء العالم الثالث بعامة، يشعرون بنوع من "اليتم السياسي" داخل "الغرب" الذي صار، ومن وجوه عديدة، "متصهينا". والتصهين، هنا، ليس سطحيا، وإنما هو متغلغل في "مفهوم الغرب" ذاته في تعاطيه للقضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى كتب عديدة تدرس الموضوع نفسه من بينها كتاب بشير موسى نافع "الإمبريالية والصهيونية والقضية الفلسطينية" (1999) الذي يتحدث فيه عن "المشروع الصهيوني" الذي هو وليد الضرورات الجيوبوليتيكية لعصر الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية واصطدامها بطموحات التجديد والنهوض الإسلامي.

أجل يشير إدوارد سعيد، وفي مواقع عديدة، إلى "خلفيته الشرق الأوسطية" وإلى أنه "شرقي يرد كتابة على المستشرقين"... إلخ. غير أنه، ورغم الموقع الذي يحظى به بين العرب، تصور أن إسمه، في العالم العربي، وفي ذلك نوع من "المفارقة"، أشبه بـ"النكتة". وما ينبغي التركيز عليه، أكثر، هنا، هو "المعيار" المتمثل في "أمريكا"، أو "شرط أمريكا"، الذي استند إليه في النظرة إلى "العرب". ومن هذه الناحية فقد سخر من العالم العربي الذي لا يدْرس أمريكا، بل وسخر من مفكرين عرب قدموا إلى أمريكا ودرَّسوا، وكما في حال صادق جلال العظم، ولـ"صغار الأمريكيين" (والتعبير له، أي إدوارد سعيد)، "الشرق الأوسط". فدور المثقفين العرب في الغرب، في أمريكا تحديدا، وفي تصوره، دور فأر المختبر الشاهد ("السلطة والسياسة والثقافة"، ص 395). وهي السخرية ذاتها التي واجه بها مفكرين ونقادا يكتبون باللغة الفرنسية عن قضايا العرب وتعلق كتبهم في واجهات مكتبات باريس. فهؤلاء، في نظره، يتحولون إلى "مخبرين محليين" (حوار الكرمل، ص114). وهو ما سيسحبه على الكتاب باللغة العربية كذلك إذ نادرا ما يتم العثور، في نظره، على نصوص تخييلية تعرض لأمريكا. ومن البدهي أن يميل، هنا، إلى مؤرخ "مدن الملح والحداثة الفاسدة" عبد الرحمان منيف.

ولا يبدو غريبا أن يميل إدوارد سعيد، وبسبب من معادلة "الثقافة والإمبريالية"، وعلى أرض النوع الروائي ذاته، إلى المنجز الروائي الضخم لعبد الرحمان منيف الذي تضافر فيه، ومن هذه الناحية بالذات، "التنظير" و"التخييل". وقد عرض عبد الرحمان منيف، في "مدن الملح" و"سباق المسافات الطويلة"، لـ"مسألة النفط" وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية التي كانت في أساس "تشكل الخليج" و"ارتهان" هذا الأخير ـ وبالكامل ـ للغرب". مما جعله في قلب الحديث عن "الاستشراق" كما يتصور صالح إبراهيم في كتابه "أزمة الحضارة العربية" الذي خصه لأدب عبد الرحمان منيف. ويشرح هذا الأخير أن منيف كان وكأنه يتعمد ملاحقة الاستشراق البريطاني عبر مدة زمنية طويلة وفي أمكنة متعددة من "الشرق" موازاة مع الاستشراق الأمريكي الذي كان امتدادا طبيعيا للاستشراق البريطاني من حيث العمل والنتائج على السواء، هذا وإن لم يتوسع في رصد الاستشراق الأمريكي (صص 286 ـ 287). وقد جعل بعض الشخوص تتقمص "دور المستشرق" (ص 281) حيث "الاكتشاف" الذي يتداخل مع "المهمة السياسية" (ص 284). وإحدى الخلاصات الكبرى "ما أقبح لغة المستشرقين" كما ما قال منيف بلسان منصور عبد السلام في "الأشجار واغتيال مرزوق".

والجديد الذي قدمه عبد الرحمان منيف، في هذا الموضوع المتمثل بالنفط وتداعياته، وكما يواصل صاحب الكتاب، أنه قدمّه روائيا. عالج انعكاساته على الغالبية العظمى المنسية من الناس. حكى عن الفقراء وأرّخ لمن تهملهم كتب التاريخ.. ويَسّر المسائل المطروحة، بشكل معقّد على المستوى الفكري التنظيري، إذ "رواها"... "أعاد، إلى جانب ذلك، الحياة والوهج لأسئلة مصيرية كدنا نحسبها بسيطة لكثرة ما كرّرناها في خطابنا "النهضوي": لماذا تخلّف الشرق؟ لماذا أخفق العرب؟ هل هناك "عقل عربي" بدائي ـ متخلّف؟ كيف السبيل إلى النهوض؟.. "يمكننا فعلا إدراج محاولاته ضمن "الخطاب الفكري" العربي الذي تبلور بعد النكسة، على الرغم من طرحه روائيا. هل ستشكل خطوته، هذه، فاتحة لدور عظيم، تؤدّيه الرواية على المستويات الفكرية المصيرية المطروحة بجدية متعاظمة؟ وهل سيسهم هذا الخطاب القديم المتجدد، بمجمله، في عملية نهوض "حقيقية"؟ !" كما ورد في نهاية الكتاب (ص 351)، هذا وإن كانت القراءة الناظمة للكتاب أعطت أولوية للفكري، مما جعل صاحبها يجهد في البحث عن مقابلات له في عالم منيف الروائي الشاسع. ومن ثم كان منطق "التجزيء" في سياق "البرهنة" على الأفكار، مما كان له تأثير على مستوى رصد "التباس" التخييل بالتحقيق.

وفيما يتعلق بإشارات إدوارد سعيد إلى نقاد الأدب العربي من جماعتي "فصول" و"مواقف"، في "تأملات حول المنفى" (ص152)، فهي لا تخلو من "مداهنة". ونادرا ما وقع في مثل هذا الموقف. وتجدر الإشارة، هنا، إلى "النقد" الذي وجه له على مستوى البعد العربي لثقافته ذات الطابع الغربي الغالب، ولا سيما من ناحية "القناة" التي قدمت له من خلالها الثقافة العربية. وفي هذا الصدد يتصور عز الدين المناصرة، في دراسة له معنونة بـ"إدوار سعيد والأدب الثقافي المقارن"، أن الأمر يتعلق بـ"(مجموعة صغيرة) من المثقفين، تنتمي للتيار (الحداثي الميتافيزيقي) في الثقافة العربية، قدموا أنفسهم له، على أنهم هم الممثلون (العلمانيون الحقيقيون) للثقافة العربية!. وهذا طبعا غير صحيح، بإجماع معظم المثقفين العرب الكبار. لهذا كله، جاءت كتابات سعيد عن الأدب العربي الحديث، سماعية، والمشكلة هنا هي أن (سعيد)، استسلم لهذه القنوات، انطلاقا من منظور برجماتي محض" ("فصول" (ملف خاص عن إدوارد سعيد)، العدد 64، صيف 2004، ص147).

وعلى مستوى آخر ألم تكن أحكام إدوارد سعيد على الليبراليين في العالم الثالث قاسية؟ وألم يتجاهل ماركسي العالم الثالث؟ بل وسخر منهم ونعتهم بـ"الدوجمائيين"؟ وألا يحق لناقدة وباحثة عربية في حجم أمينة رشيد أن تقول، في ندوة "إدوارد سعيد" (فصول، العدد نفسه، ص103)، بأن هناك "مسافة تفصلنا عنه"؟ ومن هذه الناحية ألا يحق أن نقول بأن إدوارد سعيد سقط في الدائرة التي كان يخشاها: "مستشرق إضافي" أو "مستشرق معكوس" بسبب من "التقارب بين إجراءاته وإجراءات خصومه؟" وأنه "يبقى أمريكيا لا ينقض بل ينقد، ولذلك ينبغي الحذر منه!!" كما أخذ عليه صادق جلال العظم في "الاستشراق والاستشراق معكوسا"، هذا لكي لا نقول بأن موقفه من الشرق كان أكثر "سلبية" من المستشرقين كما أخذ عليه خصمه بطريرك الاستشراق برنارد لويس؟

وكما أنه ينتقد، وبشدة، "مقولة إفلاس الغرب". ثم إن ما يعيبه على العالم العربي الإسلامي أنه لم يبد اهتماما كافيا بأهمية "المثاقفة" وضرورتها، ولا يتوانى عن توجيه أصابع الاتهام إلى النخبة المثقفة العربية التي لم تبذل، في تصوره، جهودا كبيرة في معرفة الغرب وبالتالي مخاطبته ونقده. ويجزم أن التفاعل بين العرب والغرب كان "سطحيا"، ويرد ذلك إلى يمكن نعته بـ"آليات المناقلة" التي تطبع "نقل" المعرفة من الثقافة الأوروبية إلى المجال العربي. يقول عن هذه المناقلة: "يساورنى الانطباع بأننا في العالم العربي نقوم بالنسخ المباشر... فما أن يقرأ الواحد كتابا من تأليف فوكو حتى يرغب في التحول إلى "فوكوى"... لا توجد محاولة لتحويل الأفكار إلى شيء ذي صلة بالعالم العربي... نحن ما نزال تحت تأثير الغرب من موقع اعتبرته على الدوام دونيا وتتلمذيا. إننا دائما تحت تأثير فهم ناقص للغرب" (حوار "الكرمل"، صص 110 ـ 111). وهو النقد الذي كان قد وجهّه منذ مقاله المبكر الذي تحدثنا عنه، غير أن هذا النقد بلغ حد القسوة في السنوات الأخيرة من حياته.

فـ"الإله الجديد، بالتأكيد، هو الغرب" كما يقول في "صور المثقف" ( ص120)، وكما قال العروي ذات يوم: "بالثقافة لم يفرض علينا الغرب تقنيته فقط، وإنما فرض علينا آلهته أيضا". ورغم معرفة إدوار سعيد بلغات أخرى من غير الإنجليزية يظل "المعيار" هو "أمريكا". يقول موضحا هذه الفكرة: "نحن لا نستطيع دراسة الغرب دون معرفة الكثير عن أمريكا أساسا لأنها صاحبة التأثير الأعظم ليس على العالم الغربي فحسب، بل على العالم الحاضر بأسره... رغم هذا لا توجد كلية واحدة في أي جامعة عربية تتخصص في الدراسات الأمريكية. أليس هذا أمر مدهش!... على أن هذا ليس ضدهم، بل ضدنا نحن... فنحن لدينا واحد من إثنين إما شعارات عريضة حول الغرب (استعمار، إمبريالية،...) أو مدارس صغيرة من المقلدين..." (الكرمل/ ص 111). فـ"المعيار" هو أمريكا، وقدر المثقف أن يدْرسها وأن ينخرط في "النقاش" الذي يدور حولها. ومن دون شك فإن عملا من هذا النوع لا يمكنه التحقق إلا من خلال "الإقامة" في أمريكا غير المتاحة للعديد من المثقفين العرب وإن في غير حال "شرف المنفى" أو "لذة المنفى" أو "المنفى الكريم".

ولا يبدو غريبا أن لا يوافق إدوارد سعيد على"المنظور العربي القرائي القومي الأصولي" في تعامله مع "الاستشراق" باعتباره "استجابة ثقافية" لـ"الغرب"، مما يستلزم ضرورة وضعه "في الميزان" والبحث ـ بالتالي ـ في "تاريخه وأهدافه". وكل ذلك في المنظور ذاته الذي يموضع الاستشراق في "الغزو الفكري" تارة وفي "الاختراق الثقافي" تارة أخرى... وقبل ذلك في دائرة "التبشير"، أو بالأدق "أحقاد التبشير"، التي لا تحيد بدورها عن دائرة "التنصير" و"التغريب" و"المذاهب الهدامة" و"الحركة الصليبية"... إلخ. إجمالا فالاستشراق، هنا، "وجه الاستعمار الفكري"، بل إنه "رسالة استعمار" و"إمبريالية عالمية". وفي السياق نفسه فالاستشراق يطرح مسألة "تطور الصراع الغربي مع الإسلام"، مما يستلزم ضرورة "المواجهة" مع الغرب التي كان قد تحدّث عن "ضعفها" العالم المصري الأزهري محمد البهي في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" (1957) الذي أشرنا إليه من قبل والذي يعد من الكتب الأولى الدالة على "النمط القرائي العقائدي" لـ"ظاهرة الاستشراق". من المؤكد أنه لم يكن إدوارد سعيد أول دارس عربي يعالج قضية تحيز المستشرقين وغطرستهم، فقد سبقه إلى ذلك دارسون وكتاب آخرون، إلا أن كتبهم لم تزعج الغربيين كما أزعجهم كتاب إدوارد سعيد. هذا وإن كانت مقالة المفكر المصري أنوار عبد المالك "الاستشراق في أزمة" (1963) قد حمَلت بذرة النزاع المعرفي في الاستشراق كما يسجّل محسن جاسم الموسوي في كتابه "الاستشراق في الفكر العربي" (ص47).

ولا يرجع تأثير إدوارد سعيد، في تصورنا، إلى كون أنه "المثقف الحر الوحيد في العالم العربي" كما ذهب إلى ذلك خوان غويتسولو (أو "إدوارد سعيد الإسباني" كما ينعته البعض) ولا إلى كون أنه "يكتب بالانجليزية بمضمون عربي" ولا إلى كون أن "الساحة العربية لا تخلو من مفكرين أفذاذ، لكن حجم المشكلة أكبر منهم" كما يتصور هاشم صالح... وغير ذلك من التفسيرات. تأثيره يعود إلى ما كان قد نعته هو نفسه، في "تأملات في المنفى"، بـ"لغة المكان" (ص333). لقد كتب من داخل الغرب، وما قاله لم يكن قد قيل من قبل بالإنجليزية في كتاب مستقل، وفي الوقت نفسه سعى، وابتداء، إلى مخاطبة الغرب نفسه. وقد كان هناك تحفظ في الغرب حول فتح ملفات الاستشراق، وبعد صدور كتاب سعيد فإن مسائل التاريخ والصورة والمنهج في الاستشراق طرحت في كل مكان كما يقول رضوان السيد في تقديمه أو بالأحرى دراسته السابقة (الفكر العربي، ص21).

لقد كتب أنوار عبد الملك، ومنتقدا، في مقاله السابق، عن "العرب كموضوع سلبي"، وكتب عبد الكبير الخطيبي عنهم كـ"نكهة شرقية"، وكتب العروي عنهم كـ"بازار"، وكتب الكاتب والأكاديمي السوري عبد اللطيف طيباوي عن المستشرقين الناطقين بالإنجليزية، وكتب المؤرخ التونسي عن الطريقة التي يقدم بها الأوروبيون الإسلام... وكما انتقد آخرون تلك "النظرة الاستشراقية" التي تحرم "العرب" من "التمثيل القومي" لذواتهم، والتي تتصورهم "خطيرين" و"كسالى" و"غامضين" و"ضعفاء" و"همج" و"غير عقلانيين" و"غير أوفياء"... و"ضد الغرب العقلاني والحضاري...". فنقد الاستشراق "مسبوق"، بل وانطوى في حال الكثير من هؤلاء على "إسهامات نصية هائلة" كما يشرح زيزدين ساردار وبورين فان لون في كتابهما المشترك "الدراسات الثقافية" (صص 114 ـ 115). غير أنه في حال إدوارد سعيد انطوى على "جديد" كما تقول آنيا لومبا في كتابها السابق (ص57) جنبا إلى جنب "لغة المكان" سالفة الذكر، مما جعله يستحوذ على جل الاهتمام في حين ظل كل من طيباوي وعالم الاجتماع الماليزي سيد حسن العطاس وهشام جعيظ... مجهولين إلى حد كبير في الغرب.

فالفرق بين عمل إدوارد سعيد وغيره من الأعمال التي نقدت الاستشراق، وما أكثرها، كامن في الأفق التحليلي النقدي الصارم الذي ينتظم في إطاره كتاب "الاستشراق"، لكن دون أن يفيد هذا انتفاء هذا الأفق في بعض الكتابات العربية كما في حال ـ وعلى سبيل التمثيل ـ المفكر المغربي الأبرز عبد الله العروي، وهو الموضوع الذي كنا قد سعينا إلى معالجته في دراستنا الموسومة بـ"عبد الله العروي ونظرية الخطاب الكولونيالي" ("نزوى"، العدد 54، 2008). ويهمنا، الآن، أن نشير، وبخصوص الفكرة ذاتها، إلى ما كان قد ذهب إليه منير شفيق في كتابه "في الحداثة والخطاب الحداثي" (ونستحضر نصه على طوله لأهميته) من أن "الفرق بين هذا العمل (أي عمل سعيد) وغيره من الأعمال التي نقدت الاستشراق تكمن في منهجيته، ودراسته لجانب من جوانب فكر الغرب من داخله، بل ضمن معاييره العلمية والأكاديمية في البحث والتنقيب والنقد. فالذين يطمحون في نقد الحضارة الغربية وتقديم مشروع حضاري بديل لا سيما من الإسلاميين، عليهم أو في الأصل على بعضهم أن يفعلوا ما فعله إدوارد سعيد في دراسة الاستشراق ونقده، أي دراسة حركته الداخلية والنفاذ إليه من خلال ذلك" (ص202). هذا بالإضافة إلى أن كتاب "الاستشراق" يشكل "عملا لما يجب أن يعمل في المجالات الأخرى" (ص204).

وفي الحق لا تزال الكتب التي تبحث في "سموم الاستشراق والمستشرقين" و"شبهات المستشرقين" هي المهيمنة في الفكر العربي المعاصر مقارنة مع الكتب التي تنظر إلى "الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف" و"بين الحقيقة و التضليل" و"بين الموضوعية والافتعالية" و"بين دعاته ومعارضيه" و"بين الاستعمار والنزعة الإنسانية"... هذا لكي لا نشير إلى الدراسات التي تبحث في "موسوعة المستشرقين" و"حفريات الاستشراق" و"نقد العقل الاستشراقي" و"نقد الخطاب الاستشراقي"... التي لا تزال ضئيلة الحضور مقارنة مع ذلك السيل من الكتب التي تتحدث، وعلاوة على "سموم" المستشرقين و"شبهاتهم"، عن "أباطيل الإستشراق" و"أخطاء المستشرقين و خطاياهم" و"طبقات المستشرقين" و"الأساليب الخفية للاستشراق" و"نور الإسلام وظلام الغرب" و"التبشير والاستعمار" و"الاستشراق والمستشرقون مالهم وما عليهم" و"الإسلام والمسلمين بين أحقاد التبشير وضلال الاستشراق" و"أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها" المتمثلة بـ"التبشير، الاستشراق، الاستعمار" و"الاستشراق والتنصير في مواجهة الإسلام"...إلخ.

ورغم تصور إدوارد سعيد أن اسمه، في العالم العربي، وفي ذلك نوع من "المفارقة"، أشبه بالنكتة، ورغم تشديده على "معيار أمريكا"، فطروحاته ما تزال تمتلك قابلية لأنْ يتم الاستناد إليها في تدبر العديد من القضايا الحارقة التي تعصف بالعالم العربي. وفي مقدم ذلك "درس المثقف" الذي ينبغي أن نأخذه منه، وقبل ذلك بفرضه العصر علينا... المثقف المنخرط في الدفاع عن الشعوب المغلوبة والهويات المهددة بالانقراض وعن المظلومين والمضطهدين حتى يكون صوتا قويا لهم وصوتا داعما لمطالبهم، وكل ذلك بالاستناد إلى منظور يتعالى عن الفوارق الدينية والعرقية واللغوية. ولعل هذا الإحساس بالحاجة، الملحة، إلى المثقف ما يفسر الترجمات الثلاث لكتابه حول موضوع "تمثلات المثقف" (1994) التي ظهرت تحت ثلاثة عناوين مختلفة، هي: "صور المثقف" (ترجمة غسان غصن/ بيروت،1996)، و"الآلهة التي تفشل دائما" (حسام الدين خضور/ القاهرة، 2003)، و"المثقف والسلطة" (محمد عناني/ القاهرة، 2006).

غير أنه لا ينبغي المبالغة في "انشقاق" المثقف و"ترحله" و"عزلته"... كما يُنظِّر لذلك إدوارد سعيد في كتاباته وحواراته. وكما تجدر الملاحظة، هنا، إلى شرط "تبيئة" المفهوم، مفهوم المثقف، وبالتالي "تأصيله" في الفضاء العربي لا الأمريكي. ومن هذه الناحية فقد كان سعيد "مثقفاً عربياً ـ غربياً، وارثاً للتفاعل المعقد والمؤلم في كثير من الأحيان بين العالم العربي والغرب"، وعلى صعيد "أطروحة المثقف" ـ التي تهمنا هنا ـ فقد سعى من خلال "مخاطبته السلطة بلسان الحقيقة" إلى "إحياء تقليد عربي في الخطاب" كما ذهب إلى ذلك الناقد والباحث صبري حافظ في دراسته المركزة حول "ميراث إدوارد سعيد الثقافي في العالم العربي" (مجلة "الدراسات الفلسطينية"، المجلد 15، العدد 59، صيف 2004). وهي فكرة نادرا ما تم الالتفات إليها مع أن إدوارد سعيد كان له اطلاع معين على التراث العربي. ويمكن أن نلخص، من جهتنا، "التقليد العربي" السالف بما كان قد ذهب إليه الجاحظ من أن "الصمت عن قول الحق هو في معنى النطق بالباطل"، الجاحظ الذي مثّل بدوره حالة فريدة لـ"صور" أو "تمثلات المثقف" في التراث العربي. غير أن تصور سعيد للمثقف، هنا، وخصوصا من ناحية عبارته الشهيرة "قول الحق في وجه السلطة"، والتي تبدو متناغمة مع عبارة الجاحظ، يظل، في سياقه الأنجلو ـ أمريكي، مشروطا بتقليد ثقافي سياسي راديكالي لا يخلو من مسحة أو نبرة أخلاقية ـ دينية واضحة كما تتحدث عن ذلك نادية مرزوقي في مقالها "النظرية والالتزام عند إدوارد سعيد".غير أن القول بأن علاقة المثقف بالسلطة، وسواء كان هذا الأخير معها أو ضدها، راجعة إلى "اختيار" أو "إرادة" هذا الأخير كما ذهب إلى ذلك إدوارد سعيد، في مختتم كتاب "صور المثقف"، نظرة لا تراعي، في تصورنا، طبقات الاستبداد السياسي والحصر الاجتماعي ومجموعات التأسلم السياسي... أو ـ وبكلام جامع ـ "السياق المعكوس" و"الخانق" الذي يستوعب المثقف العربي المأزوم وبدءًا من وضعه الاجتماعي الذاتي، المفلس، الذي يدفعه إلى تغيير مواقفه في أي لحظة وبما يفوق سرعة الضوء. إلا أن ذلك لا يعفيه من أن يؤدي دوره وعلى الأقل من ناحية "قول الحق في وجه السلطة". و"إذا كانت للمثقفين من قضية مقدّسة، في هذه المرحلة، فهي رفع الحظر عن حقهم في الكلام" كما يقول الكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه "نهاية الداعية".

إلا أنه لا ينبغي "ترجمة" إدوارد سعيد فقط، وإنما "محاورة" أفكاره أيضا، تلك المحاورة التي قد تدفع إلى "نقده" كما حصل في الهند مع هومي بهابها (1983) وإعجاز أحمد (1993)... حتى وإن ظل الأول، ومن وجوه عديدة، "متورطا" في نص سعيد عكس الثاني الذي حرص على تقديم نقد صارم لمنجز سعيد. وقد عرضت كل من ليلى غاندي وآنيا لومبا لهذا النقد في كتابيهما اللذين أحلنا عليهما في أكثر من مرة من قبل. ويظهر أن هذا "النقد" ضروري في حال منجز سعيد لكي لا يصبح متحفاً يعلوه الغبار. فهو الكاتب الوحيد الذي نفض الغبار عن مكتبة كاملة، لكي نتنفس نحن، ومن الأسى أن يتحول هو في ثقافتنا إلى متحف وغبار كما يقول الروائي والناقد العراقي علي بدر (صاحب "مصابيح أورشليم"). وعلى ذكر المحاورة سيكون من المفيد عدم مواجهة "نقد إدوارد سعيد"، في الثقافة العربية، بما كان قد لقيه كتاب صادق جلال العظم "الاستشراق والاستشراق معكوسا" الذي أثار، في حينه، وما يزال، ردود فعل سلبية من قبل بعض المثقفين العرب. "لقد فاجأنا صادق جلال العظم باتهمامه لإدوارد سعيد بسبب هذا الكتاب بأنه أمريكي متواطئ" كما قال ـ وعلى سبيل التمثيل ـ باقر بري في مقدمة كتابه الوصفي "إضاءات على كتاب الاستشراق" (ص 6). لقد رأى الكثيرون في كتاب صادق جلال العظم "اتهاما"ً صريحاً لإدوارد سعيد بـ"العمالة للغرب"، بل ومشاركة في "إعدام كتاب الاستشراق" كما ينقل لنا منير شفيق في كتابه سالف الذكر ("في الحداثة والخطاب الحداثي"، ص201).

ويحق لصادق جلال العظم أن يتحدث، في نص حوار أجري معه حول "استشراق إدوارد سعيد"، عن أن "استقبال" أو "تبني" المثقفين العرب لفكر إدوارد الاستشراقي جاء عن "عصبوية" أكثر مما جاء عن تمحيص وتدقيق في الكتاب. يقول: "أنا ومهدي عامل من نقد الكتاب والباقي هللوا وكبروا وتبنوا الكتاب لأسباب من وجهة نظري خاطئة لأنه مجرد نقد للاستشراق وللغرب" (الجزيرة/ المجلة الثقافية، الاثنين: 10 نوفمبر 2003). وفي السياق نفسه لقد تراجع الباحث المغربي عبد الغني أبو العزم، وبسبب من تأثير "الهوية القومية"، على نشر حوار كان قد أجراه مع المستشرق ماكسيم رودنسون في إثر الضجة التي أثارها "استشراق" إدوارد سعيد، ولا لشيء إلا لأن صاحب كتاب "محمد" فاجأ، بـ"أفكاره" القاسية في حق سعيد وأنوار عبد الملك، المحاوٍر. ولم ينشر الحوار، و"تعميما للفائدة؟"، وفي صحيفة Liberation المغربية، إلا بعد مضي أزيد من أربع وعشرين سنة وبعد رحيل رودنسون وفي العام نفسه (2003) الذي رحل فيه إدوارد سعيد.

أجل إن "العداء المسموم والعميق للقومية العربية" و"العجز العربي الفاضح" و"التدخل الاستعماري"...، وغير ذلك من "المآخذ" التي سجلها إدوارد سعيد في مقاله "حال العرب"، تحتم نوعا مخصوصا من المقاربة لمنجز إدوارد سعيد ككل. غير أنه لا ينبغي أن نحصر تلقي هذا الأخير، وإن من باب "المحاورة"، في الدائرة القومية الإيديولوجية فقط. وهي الدائرة التي لا نتصور أنها تفي بالنظر إلى منجز الرجل في وحدته السياقية الكبرى التي هي قرينة البرهنة على التعاطي الثاقب للكثير من الملفات التي لا تنحصر، وبالضرورة، في فهم أحادي لا يمت بأية صلة لجبهات الرجل المتنوعة. وفي هذا الصدد يمكن أن نستحضر الدراسة اللافتة "إدوارد سعيد وتحية كاريويكا/ البوب آرتس وبولطقيا الجسد في الدراسات ما بعد الكولونيالية" ("الكلمة" (الإلكترونية)، العدد 9، سبتمبر 2007) التي خص بها علي بدر نفسه مقال إدوارد سعيد الشهير حول "تحية كاريوكا" (1990). وتكمن أهمية الدراسة، وعلاوة على بحثها في الخلفيات المنهجية (النقد الثقافي والدراسة ما بعد الكولونيالية) والمستندات التصورية (صلة الثقافة الشعبية بالتاريخ) للمقال، في أنها تحررنا من النظرة النمطية التي عادة ما تحصر منجز الرجل في "مواجهة إسرائيل". وفي هذا الصدد تبقى صورته، وهو يرمي الحجارة، عند بوابة فاطمة، فور انتهاء الاحتلال الإسرائيلي، لجنوب لبنان، مع أطفال فلسطينيين، هي "سيدة الذكريات". دون الالتفات إلى مواقفه، الأخرى، والمغايرة، كما في حال وصفه، وعلى سبيل التمثيل، لتحية كاريوكا بـ"الراقصة الشرقية العظيمة" ("السلطة والسياسة والثقافة"، ص144). فثقافته الموسيقية، وفي علاقتها مع الثقافة الأدبية، نادرا ما تم الالتفات إليها ضمن سيل القراءات التي تمحورت حوله في العالم العربي... مع أن الموسيقى بدورها شكل من أشكال "التمثيل" الذي يبدو مفهوما قاعديا في تصوراته. وكما تتوجّب الإشارة إلى "السند النظري" أو "التنظيري" الذي يطبع قراءات إدوارد سعيد، بل و"محاورته" لـ"النظرية" و"مقاومتها". وهذا الموضوع نادرا ما تمت دراسته في سياقه الأكاديمي الذي لا يخلو من صلات مع السياق الثقافي والسياسي العام.

أخيرا، وفي حال موضوع "إدوارد سعيد وحال العرب" تعيينا، تجدر الإشارة إلى مرجعية الرجل المتفتحة وبدءا من مرجعيته الدينية ذات الأصول، وهو المواطن الأمريكي ابتداء، المسيحية. بل إنه كان يتحدر من أقلية بروتستانتية صغيرة جدا ضمن أقلية مسيحية في فلسطين. فهو عربي لكنه ليس مسلما، ومسيحي لكنه بروتستانتي وليس كاثوليكيا. ولم تمنعه هذه المرجعية من الانفتاح على الإسلام واليهودية جنبا إلى جنب انفتاحه المدهش، وعلى صعيد مرجعيته الثقافية هذه المرة، وهو الناطق بالإنجليزية دون أن يكون إنجليزيا، على الثقافات العالمية. موازاة مع "المنهج" (وبمعناه الفلسفي لا الديداكتيكي) الذي تبناه في تدبر ملفاته، المنهج الذي ينحو إلى "العالمية" لا "الطائفية" و"الإقليمية". العالمية التي هي قرينة "النزعة الإنسانية الراديكالية" التي كانت آخر موضوع يكتب فيه، وليس من شك في أننا نفصد إلى مقاله الشهير "الإنسية آخر قلعة أمام البربرية" الذي نشره في "لوموند ديبلوماتيك" (شتنبر 2003) وفي دلالة على "حياته الأكاديمية" التي نذرها لـ"النضال الإنساني العادل".

دفاعه عن العرب محكوم، إذا، بهذا "التصور" أو بهذه "الهوية الطباقية" أو "المركبة".

قائمة بأهم المصادر والمراجع المعتمدة في الدراسة:

دراسات إدوارد سعيد:
ـ الاستشراق، ترجمة محمد عناني، منشورات رؤية، القاهرة، 2006.
ـ تغطية الإسلام، ترجمة محمد عناني، منشورات، رؤية، القاهرة، 2005.
ـ الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، 1997.
ـ صور المثقف، ترجمة غسان غصن، دار النهار، بيروت، 1997.
ـ تأملات في المنفى، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2004.
ـ القلم والسيف، ترجمة توفيق الأسدي، دار كنعان، الطبعة الثالثة، 2007.
ـ السلطة والسياسة والثقافة، دار الآداب، ترجمة نائلة قليقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، 2008.
ـ الاختلاق والذاكرة والمكان/ البحرين الثقافية، العدد 28، أبريل 2001.
ـ الهويات تعددية/ حوار/ الكرمل، العدد 78، شتاء 2004.
ـ حال العرب/ جريدة الاتحاد الاشتراكي (المغرب)/ الملحق الأسبوعي/ تيارات/ 30 ماي ـ 05 يونيو 2003، العدد: 60.

مراجع عامة:
ـ أنوار عبد الملك: الاستشراق في أزمة/ الفكر العربي، العدد 31، 1983.
ـ أمينة رشيد: في نقد مهدي عامل لإدوارد سعيد/ الطريق (عدد خاص: حوار مع فكر مهدي عامل)، السنة 47، العددان 5/6، كانون الأول/ ديسمبر 1988.
ـ إبراهيم محمود: البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر، دار الينابيع للنشر والتوزيع، دمشق، 1994.
ـ إعجاز أحمد: الاستشراق وما بعده، ترجمة: ثائر ديب، منشورات ورد، دمشق، 2004.
ـ باقر بري: إضاءات على كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، دار الهادي، بيروت، 2002.
ـ بشير موسى نافع: الإمبريالية والصهيونية والقضية الفلسطينية، دار الشروق، القاهرة، 1999.
ـ برنارد لويس: الغرب والشرق الأوسط: سجال وتباين، ترجمة وتعليق سمير مرقص، مركز ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 1999.
ـ بول بوفيه (محرر): الحق يخاطب القوة: إدوارد سعيد وعمل الناقد، ترجمة فاطمة نصر، كتاب سطور، القاهرة، 2001.
ـ تزفيتان تودوروف: الأمل والذاكرة ـ خلاصة القرن العشرين، ترجمة نرمين عبد الله العمري، مكتبة العبيكان، الرياض، 2006.
ـ جابر عصفور: نظريات معاصرة، دار المدى، 1998.
ـ جان بول سارتر: مواقف مناهضة للاستعمار، ترجمة محمد معراجي، منشورات آنيبANEP،الجزائر، 2007.
ـ جماعي: الغرب والإسلام، جماعي، تقديم وتحليل منى ياسين، دار جهاد للنشر والتوزيع، مصر، 1994.
ـ جماعي: الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، 2000.
ـ جيرار ليكلرك: العولمة الثقافية: الحضارات على المحك، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004.
ـ رنا قباني: أساطير أوروبا عن الشرق: لفق تسد، ترجمة صباح قباني، دار طلاس، دمشق، 1988.
ـ زيزدين ساردار وبورين فان لون في كتابهما المشترك "الدراسات الثقافية"
ـ عبد القدار الفاسي الفهري: اللغة والبيئة، منشورات الزمن، العدد 38، 2003.
ـ علي يوسف نور الدين: الاستشراق والاستغراب قراءة نقدية/ مجلة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 108، خريف 2002.
ـ غسان سلامة: أمريكا والعالم إغراء القوة ومداها، ترجمة مصباح الصمد، دار النهار، بيروت، 2005
ـ صبري حافظ: ميراث إدوارد سعيد الثقافي في العالم العربي/ مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 15، العدد 59، صيف 2004.
ـ صبحي حديدي: الخطاب ما بعد الكولونيالي ـ في الأدب والنظرية النقدية/ الكرمل، العدد 47، 1993.
ـ صادق جلال العظم: الاستشراق و الاستشراق معكوسا، دار الحداثة، بيروت، 1981.
ـ صالح إبراهيم: أزمة الحضارة العربية في أدب عبد الرحمن منيف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2004.
ـ الهادي التيمومي: الجدل حول الإمبريالية منذ بداياته إلى اليوم، تقديم: سمير أمين، دار الفارابي، بيروت، 1992.
ـ ستيفان هاو: المسافر والمنفى/ الكرمل، العدد 78، شتاء 2004.
ـ سالم يفوت: حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1989.
ـ شاكر النابلسي: الفكر العربي في القرن العشرين (الجزء الثاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001.
ـ ليلى غاندي: إدوار سعيد ونقاده/ الكرمل، العدد 81، خريف 2004.
ـ مكسيم رودنسون: جاذبية الإسلام، ترجمة إلياس مرقص، دار التنوير، بيروت، 1982.
ـ محسن جاسم الموسوي: الاستشراق في الفكر العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993.
ـ منير شفيق: في الحداثة والخطاب الحداثي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999.
ـ مهدي عامل: هل القلب للشرق والعقل للغرب ماركس في استشراق إدوارد سعيد، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثانية، 1986.
ـ هومي. ك. بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.
ـ يحيى بن الوليد: خطاب ما بعد الاستعمار/ مجلة "الكلمة" (الإلكترونية)، العدد 16 أبريل 2008.

مجلات/ ملفات:
ـ الفكر العربي (الاستشراق، التاريخ والثقافة والمنهج)، العددان 31 ـ 32، 1983.
ـ فصول (ملف خاص عن إدوارد سعيد)، العدد 64، صيف 2004.
ـ الكرمل (ملف خاص عن إدوارد سعيد)، العدد 78، 2004.
ـ مجلة الدراسات الفلسطينية (ملف "الصهيونية، وما بعد الصهيونية ومعاداة الصهيونية")، العدد 33، شتاء 1998.

مراجع باللغة الأجنبية:

ـ Edward Said: The Arabs today: alternatives for tomorrow, ed. by Edward Said, Fuad Suleiman , Columbus: Forum Associates, cop. 1973.
ـ Edward Said: L'orientalisme - l'Orient créé par l'Occident, trad. Catherine Malamoud, Seuil, Paris, 1980.
ـ Edward Said: CRISE MONDIALE AUTOUR DE L IRAK L autre Amérique/ Le Monde Diplomatique, mars 2003.
ـ Leela Gandhi: Postcolonial Theory: A Critical Introduction, Columbia Univ Pr, 1998.
ـ Revising culture, reinventing peace: the influence of Edward W. Said
ed. by Naseer Aruri and Muhammad A. Shuraydi ; introd. by Richard Falk. New York: Olive Branch Press, 2001.
ـ Sakina Messaâdi: Les romancières coloniales et la femme colonisée, Alger: Editions ANEP, 2004.
ـ Mahdi El Mandjra: La décolonisation culturelle, défi majeur du 21ème siècle, préf. de Michel Jobert, Marrakech: Ed.Walili, 1996.