كان الكثيرون من المعجبين والإعلاميين والكتاب والنقاد البريطانيين ينتظرون بشغف صدور السيرة الذاتية لكولن ويلسون، تلك السيرة المثيرة التي كتبها قبيل رحيله الهادئ بسنوات قليلة من صدورها، كونه ذلك الكاتب الذي تحوّل إلى أيقونة لجيل الستينيات الأدبي، وكونه أحد أبرز ما يسمى بجيل الغضب الذي ظهر في لندن في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهو ركن مهم وأساسي من فلسفة جديدة، دعا إليها في بعض كتبه الأدبية والفكرية والفلسفية الأولى، مثل كتابه الشهير «اللا منتمي»، الذي شكل له ضربة الحظ الكبرى في عالم الكتابة والنشر البريطانيين، حيث الناشرون الذين يسعون إلى اكتشاف المواهب الجديدة والنصوص المغامرة والكتابات والأفكار المثيرة.
وقد حقق كولن ويلسون هذا الحلم، وهذه الشهرة الخاطفة والسريعة، كالضربة المفاجئة لملاكم محترف يفوز منذ الجولة الأولى، فيحصد عبرها الأضواء ويضم إلى صفه الكثير من المعجبين والمحبين والمساندين، فضلاً عن كسب المزيد من الناشرين، وكذلك الحُساد والنقاد اللاذعين، الذين لن يتوانوا في تحطيم أهم شخصية فكرية وأدبية إن أرادوا ذلك، وبذا فقد حصل كولن ويلسون على تلك الجرعات النقدية اللاهبة التي تجرعها بمرارة، بعد شهرته، وذيوعه وسطوع نجوميته في بلدان عديدة، منها البلاد العربية، فخفت الضوء من حوله، وتهرَّب بعض الناشرين منه، وحاربته الصحافة بضراوة وهاجمه نقادها بشراسة، حتى انزوى في مكان بعيد، هارباً من الصحافة والأضواء السوداء التي ظلت تلاحقه حيثما حل، متربصة الإيقاع به وكيل أقذع الشتائم بشخصه، ولكن ويلسون الحاذق والصبور والمندفع إلى الكتابة تجاهل السهام التي أصابت منه مقتلاً، فدفعته إلى الابتعاد عن الأجواء الأدبية، تلك التي كان نجمها في يوم ما، والشخصية الجذابة في تحرّكها ورسمها لمشاريعها، ولكن الكدح اليومي المتواصل، وإصراره على مواصلة الكتابة والتفكير، وتجنبه للوسط الإعلامي والثقافي لسنوات، معزولاً وبعيداً عن أضواء لندن المخادعة، قد ساعدته على تجنب مآزق كثيرة، وحُفر كان سيقع فيها كما وقع فيها في السابق.
بيد أن ويلسون المفكر والفيلسوف والمخادع أيضاً والعبقري، كما وصفه النقاد في بداية بزوغه وأثناء ترحيبهم بكتابه المثير آنذاك «اللا منتمي» سيتغلب عليهم بصبره وحِنكته وذكائه الذي عُرِف به، مبتعداً لفترة عنهم لكي ينسوه، ولكي يستمر في مشروعه المتعدد والمتنوع كتابياً، فهو روائي وفيلسوف وكاتب وباحث في التاريخ وفي الميثولوجي والباراسايكولوجي وعلم النفس، وله تطلعات نحو الكيمياء وعلم الأحياء، ومن هنا غزارته وكتابته لأكثر من مئة كتاب، في الرواية والفلسفة والفكر والتاريخ والرواية البوليسية ورواية الجريمة ولتاريخها، ومن هنا أيضاً مهاجمة النقاد له، كونه الغزير الذي يكتب في كل شيء، ولا يتوانى عن الكتابة تحت الطلب لبعض الدور المجهولة والساعية إلى الربح والمبيع السريع، ولا سيما بعد هبوط المستوى الفني والجمالي والتقني، كما يرى النقاد في كتبه التي تلت درَّته الأولى، لتكر السلسلة الكتُبية لكولن ويلسون المسحور بالكتابة والتي أتخذ منها وسيلة للعيش، وهو الذي بدأ حياته كشاب متشرد ومتسكع، ينام في الشوارع داخل كيسه، أو حقيبة الظهر التي كان يمدُّها ليلاً، في زوايا منطقة «هامستد» العمالية المعروفة، وهو المُتحدِّر من الطبقة ذاتها، لأب عامل بأجر زهيد، ليعيل عائلة تتكون من أخت وأخوين، كانت تحيا على ما يجنيه الأب من عمله القليل.
تحت هذا الظرف، عمل ويلسون في مهن متدنية لا تحصى في بداية حياته، وذلك كان قبل طيران شهرته في المجتمع المخملي، وهيمنته على أجواء لندن الساحرة، وبهذا حصل، على تجارب حياتية مرة وصعبة وقاسية، نتيجة عمله في مهن لا ترحم موهبته الكبيرة. ففي بداية عهده تطوع كجندي في القوة الجوية، ثم تهرَّب منها وتركها، وعمل بنّاءً في قطاع البناء، من أجل ان يجمع عشرة جنيهات ليذهب ويتلمس عن كثب ما كان يصبو إليه، ألا وهو شغفه بالبوذية وبتعاليم الغيتا، ولكنه لم يفلح، فانخرط بعد ذلك في العمل كبائع بطاقات لمعرض افتتح حديثاً. ويبدو أن هذا الأمر قد أدى به إلى الوقوع في حب إحداهن بعد أن عرض عليها شراء بطاقة، فأجابته: هل تود أن تبيع نفسك، تلك الإجابة كانت كافية لكي يرتبط بتلك الفتاة المراهقة التي كانت تحلم بالجنس، وكان هو بفارغ الصبر يرغب في إشباع رغباته الجنسية، حتى تزوجها وهو مفلس تماماً. كانت تلك الفتاة هي ماري، الزوجة الأولى له، زوجة عالم المراهقة والطيش والعبث، لكنه تركها بعد عامين بعد أن أنجب منها ولداً، كان عليه أن يدفع نفقاته. كان ظرفه صعباً وعليه أن يلبي ما يقرِّه القانون، ولكي يتخطى هذه الأجواء الكئيبة، فرّ إلى باريس، وكان في جيبه حينذاك نصف جنيه استرليني، ليعيش هناك حياة رومانتيكية، عدمية، في مبيت متنقل وغير ثابت، مع ثلة من الأصدقاء البوهيميين والحالمين، وهناك سيتعرَّف على بعضهن في حب غير ثابت ومتقلب، حب الأسفار السريعة المليئة بالمتع اليومية والبعيدة عن الوثاق المستقبلي. وقد عمل في فرنسا في عدة مهن يدوية وفنية وذهنية، من بينها عمله لدى ناشر شبه مليونير، لديه منزل أقام فيه ودعاه لتعلم الطباعة، وكتابة المسرحيات، ومن ثم طبع كتبه في هذا المكان، وحين أنهكته الليالي الباريسية وحياتها غير المستقرة، عاد أدراجه مرة أخرى إلى ميناء «دوفر» البريطاني.
حين عاد بدأ العمل بواباً في مستشفى، وفي مهن أخرى كثيرة ولكنها موقتة، كان يحصل عليها من مكاتب العمل البريطانية التي توفر العمل للعاطلين، وهي تابعة للدولة لا تزال قائمة حتى الآن، ولكن ويلسون سيترك هذه الأعمال إلى غيرها وغيرها، إلى أن تعرف إلى بيتي، فأحبا بعضهما وكانت مخطوبة لشخص يعمل في كندا، ولكن كولن ويلسون استولى عليها وتزوجها رغم معارضة أهلها، إذ ثمة فارق طبقي بينه وبينها، فهي متحدرة من طبقة متوسطة ميسورة الحال. وكانت بيتي قارئة نهمة ومطلعة على عالم الكتابة والكتاب، فارتبطا وأنجبا طفلة، وسكنا غرفة صغيرة، في منزل لامرأة لا تتحمل بكاء طفلة، فقرَّرا السكن في مكان آخر وآخر حتى استقر بهم الأمر في أحد الأماكن.
كان كولن ويلسون يحب الشعر والفلسفة والموسيقى وكان يعتبر هذه الأعمدة الثلاثة أهم ما في حياته. كان حين يقع في أزمة يلجأ إلى الشعر، وإلى وليم بليك تحديداً، ليخرج من عالم العمل المنهك والمضني، ومن الحياة الصعبة والمكلفة للذهن والتفكير والجسد، وهو الكاتب الحالم والقارئ النهم، والفيلسوف والمفكر الشاب، ذلك الذي أذهل العالم بفلسفته الوجودية الجديدة، الوجودية «الكولنسوية»، وهي حسب رأيه التي ابتدعها لتكون الوجودية المتفائلة المؤمنة بالحياة، وغير المتشائمة. ولقد جاء بها حسب رأيه، لتكون بالضد من الوجودية السارترية والكاموية، نسبة للفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر، والروائي الفرنسي الوجودي البير كامو، وغيرهما من فلاسفة أوروبا المتشائمين الذين لا يرون في الوجود الإنساني سوى العدم والسديم والمصير المجهول.
لقد أصدر كولن ويلسون بعد كتابه الأول كتابه «المتمرِّد والدين» وتُرجم إلى العربية بعنوان «سقوط الحضارة» وأصدر ما بعد اللا منتمي رواية «ضياع في سوهو» و»طقوس في الظلام» و»القفص الزجاجي» و «أصول الدافع الجنسي» وقد تُرجمت هذه الكتب في فترة الستينيات ومطلع السبعينيات عن «دار الآداب» اللبنانية، وقد حصل صاحب الدار على حقوق شراء جميع هذه الكتب الواردة أعلاه. وضمن هذه المناسبة، دعته الدار المذكورة إلى لبنان، فحضَّرتْ له الحكومة اللبنانية احتفاءً كبيراً يليق بشخصية، ففرشت له السجاد الأحمر حال وصوله. ويذكر كولن ويلسون هذه الزيارة بكل حب، فيصف الشعب اللبناني بالمتحضر والبلد بالجميل.
تنطوي المذكرات، وهي كبيرة وممتعة وشائقة وذاتية أيضاً، على جميع محطات حياته الأولى، وتمتد إلى اثنين وعشرين فصلاً، لتغطي جميع فصول حياته، فترة شبابه ونبوغه وصعوده الكوكبي، فهو رجل علم نفسه بنفسه، عصامي أفنى فترة شبابه كقارئ في المتحف البريطاني، قارئ نادر ومثالي، شغوف بالكتاب ومُحب له، صنع عالمه عبر المثابرة والانضباط الصارم في الكتابة، بهر الجميع بفنه وأسلوبه وأفكاره، وتنكر البعض له ووصفوه بالمتسرع والعابث، ووصموه بالمهرج والسارق لأفكار الفلاسفة واللعب عليها، أو تدويرها لخدمة مشروعه ورؤيته الفلسفية.
وعبر هذه الرؤية وهذه الأفكار وذلك الطموح الجامح والخلاق، اندفع يجوب العالم، يبشر بأفكاره، في زيارات منظمة وممنهجة، فدعته اليابان لإلقاء محاضرات حول فلسفته الوجودية المتفائلة، وحول رواياته وأفكاره حول الجنس والثقافة الغربية والأدب الإنكليزي والأوروبي، دعته السويد والدنمارك والنرويج وألمانيا وكذلك الولايات الأمريكية، لإلقاء محاضرات ودروس وأفكار حول الفلسفة الحديثة، وفلسفات العالم التي سبر أغوارها وكرَّس جل حياته لها، وكانت بعض الولايات الأمريكية تدعوه كأستاذ مقيم لمدة عام وعامين، متكفلة جميع مصاريفه، هو وعائلته المتكونة من زوجته وولديه، حيث كانت البلدات الأمريكية تجزل العطاء له، عطاء لم يكن يحلم به، مما أهله لشراء بيته المستأجر، وآخر في الريف، لغرض الكتابة والاستجمام والابتعاد عن الضجيج والفوضى، وعن ضغوط الحياة التي لا تتوقف في المدينة، منزل ريفي صغير، للقراءة والاسترخاء والكتابة وسماع الموسيقى التي كان يعشقها أيما عشق، عارفاً أسرارها وباذخاً في تجميع كل ما يمكن شراؤه، من كتب واسطوانات. كانت حياته مفعمة بهذه الفنون الجميلة، فضلاً عن انضباطه الصارم في تأليف الكتب متعددة المناحي والاتجاهات. كانت هذه الكتب التي قرأها بنهم، زائداً تجاربه اليومية والحياتية، هي التي أمدّته بكل تلك الطاقة لإنجاز إبداعاته التي تخطت المئة كتاب.
كولن ويلسون: «حلم غاية ما»
ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
دار المدى، بيروت 2016
صفحة. 586
جريدة القدس العربي