يرى الناقد المصري أن وظائف السردية الأولى في الرواية تنتمي إلى عالم ممكن أو محتمل يتشكل من أطياف الكتب، وفاعليتها الجمالية، ومفردات السياق الاجتماعي الثقافي لحدث التواصل بين الراوي، والمروي عليه، أو التواصل بين الشخصيات حول طرائق التفسير المعرفي للبيانات الحسية المستدعاة من فاعلية أطياف الكتب.

تجدد العلامات، والحكايات، والرؤى الإدراكية

في الزمن الآخر في رواية «والله إن هذه الحكاية لحكايتي» لعبد الفتاح كيليطو، مقاربة تداولية – إدراكية

محمد سمير عبدالسلام

 

تتداخل الرؤى الإدراكية، والشخصيات، والأماكن، والحكايات في خطاب السارد في رواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" للروائي المغربي المبدع عبد الفتاح كيليطو؛ وكأن السرد الروائي يقع ضمن صيرورة أسبق من وحداته الأولى في العالم الإدراكي للسارد، أو يحدث نوعا من الإكمال الإبداعي لحالة التداخل بين الأماكن، والأصوات، والأحداث التي تولدت عن لقاء الواقع بأثر فعل القراءة المتجدد في الوعي، واللاوعي؛ ومن ثم فالوظائف السردية الأولى – في الرواية – تنتمي إلى عالم ممكن أو محتمل يتشكل من أطياف الكتب، وفاعليتها الجمالية، ومفردات السياق الاجتماعي الثقافي لحدث التواصل بين الراوي، والمروي عليه، أو التواصل بين الشخصيات حول طرائق التفسير المعرفي للبيانات الحسية المستدعاة من فاعلية أطياف الكتب، وبنية الحضور التي تبدو أوسع من مفردات الحقيقي؛ فهي تعزز دائما من التشبيهات، وتوليد السياقات الاجتماعية – الثقافية – الإدراكية الآنية من داخل التحول الدينامي لعلامات الماضي عبر رؤى إدراكية مختلفة، تحمل الأثر الجمالي للحكاية الأولى في سياق تجدد فاعليتها الإبداعية ضمن عوالم أخرى ممكنة، تستنزف مركزية بنية الحضور؛ ومن ثم تتشكل وحدة الخطاب في رواية عبد الفتاح كيليطو من داخل التجدد الدائري لحالة التداخل بين الشخصيات، والأطياف، والحكايات، وإنتاجية الروابط التفسيرية التداولية بين الفضاءات الذهنية وفق تعبير جيليز فوكونير؛ فالسارد ينتج فعلا كلاميا تعبيريا متضمنا في الانحياز لحالة تمازج الحكايات، والأطياف، والانعكاسات الفنية التي قد تجمع بين حسن صائغ البصري في الليالي، وحسن ميرو / البطل، وصورته المرسومة بواسطة نورا في باريس، وصوت السارد نفسه، أو حالة الاستكشاف الأول لغرف الليالي السحرية، وعبور مفتتح كتاب التوحيدي "مثالب الوزيرين"، أو إكمال نورا لصيرورة الأخت الكبرى في قصة حسن البصري من منظور أنثوي / فردي يعيد تكرار الحكاية بصورة إشكالية / جمالية مغايرة.

وأرى أن الآليات المنهجية للمقاربة التداولية – الإدراكية لرواية عبد الفتاح كيليطو يمكنها أن تكشف عن وحدة الخطاب في تجلياتها الداخلية الأولى، ثم تطورها في حدث التواصل اللساني، أو التصويري بين كل من السارد، والمروي عليه، أو بين الشخصيات؛ وذلك عبر مفاهيم الحالات الذهنية، وألعاب المحادثة، والفضاءات الذهنية لدى فوكونير، ونظرية الصلة، وإنتاجية السياق إدراكيا عند سبيربر، وويلسون، وقراءة التأشير العائدي / الأنافورا وفق العلاقات المفاهيمية الدينامية، وتحليل الخطاب، وما يتضمنه من بنى المضمر، والتلميحات، والحجاج، وكذلك تحليل المحادثة وفق أفعال الكلام، والمؤشرات السياقية، والمبدأ التعاوني طبقا لبول غرايس مع التوسع في الصلة؛ فالسارد قد بدأ عمله من داخل التشابه بين الجنية الكبرى في حكاية حسن البصري، وطيران نورا في بنية الحضور في عالم ممكن في وعي الراوي، وحالته الإدراكية؛ ومن ثم ففعل الطيران الآخر يقع في وحدة الخطاب، وما يسبقها من فاعلية جمالية للحكايات، والكتب، والأطياف، والصور داخل بنية العمل، وخارجها في الفضاءات، والعوالم الممكنة؛ لهذا لا يؤكد السارد بنية الحدوث بقدر ما يؤسس لحالة من التواصل الإدراكي اللساني، والتصويري مع المروي عليه؛ تقوم على الإحالة إلى الكتب، وأعمال الأدب، وشخصياته الفنية في سياق من التشابه مع خبرات حسية واقعية مغايرة، وكذلك التكرار المختلف، والتحول السيميائي في أزمنة، وفضاءات أخرى؛ ومن ثم فالسارد يحيل إلى ما وراء حدث الطيران؛ أي إلى تجانس خطابه الذي يصل بين ثيمات ولوج المجهول السحري، والبهجة، والرعب، ومعاينة بكارة تجدد الحدث الخيالي بصورة تفسيرية إدراكية في الموقف الاجتماعي الفعلي للتواصل، وتوقع تكرار هذه الفاعلية مع كتب أخرى، وصور أخرى، وحكايات يعلم السارد أنها تقع ضمن ذاكرة المروي عليه، ونماذج لاوعيه الجمعي؛ ومن ثم أرى أن السارد ينشئ – منذ سطور روايته الأولى – فعلا كلاميا آخر من فئة التوجيهات؛ يحث فيه المروي عليه أن يبحث عن أطياف قراءاته الأخرى، ويكشف عن فاعليتها الجمالية ضمن أحداث تقع ضمن التداخل بين آثار الواقع، والعالم الممكن المدرك بواسطة الوعي، والمراجع المكانية المحتملة؛ ولأن سارد عبد الفتاح كيليطو يلح مثلا على العقاب المتولد عن النظرة الأولى للغامض، والسحري؛ ويمثل للمروي عليه – في هذا السياق الإدراكي – بنظرة حسن البصري، ونظر الصياد إلى ديانا في الأسطورة؛ فإنه يدفع المروي عليه إلى التفكير – بشكل مغاير – في النظر إلى الميدوزا في الأسطورة اليونانية؛ ومن ثم فالسارد يترك فراغات للمروي عليه؛ لينشئ – في حدث التواصل – علاقات أخرى عن فاعلية الكتب، والحكايات في نظائرها الواقعية، أو نظائرها الخيالية الممكنة.

تؤكد آن ريبول – في حديثها عن التداوليات الإدراكية في القاموس الموسوعي للتداولية – إلى رأي دان سبيربر، وويلسون حول طرائق بناء المعلومة، وانتقائها؛ إذ يقترحان بناء النظام الطرفي اللساني تأويلات لمكونات الجملة، وأن هذه التأويلات تخضع، مع التقدم التأويل اللساني تدريجيا إلى النظام المركزي الذي ينتخب من بينها؛ ومن ثم لا يختلفان كثيرا عن تصور فودور الإدراكي. (1)

وسنعاين طرائق بناء النظام المركزي لرؤيته الإدراكية في دماغ السارد منذ الجمل الأولى في خطابه السردي من جهة، وإحالاته للخبرات الحسية، والخيالية النفسية الأسبق من تشكيل خطابه المعرفي في النص من جهة أخرى؛ ومن ثم فنحن أمام أنظمة إدراكية لتفسير حدث الطيران، أو أمام مراوحة تصويرية بين تخييل فراغ السطح، وفعل الطيران في السياق الفعلي للحظة الحكي، أو فعل طيران مزدوج في عالم ممكن يحمل أصالة الحكاية الأولى، وصورها، وعلاماتها، وبعض صور الحاضر، أو أمام طيف يتجسد في نورا، ويستبدلها.

يحيلنا السارد – في بداية الرواية – إلى تكرار حدث الطيران، ولكن فوق سطح بيت والديه في ساحة مربعة مفتوحة على السماء؛ حيث تصعد نورا، وتحمل طفليها، وتنتظر قدوم حسن؛ لتودعه، وتطير بعض الوقت فوق البيت، ثم تختفي. (2)

يتضمن الخطاب هويتي السارد، والمروي عليه، والمرجع المكاني إذا في نموذج التواصل الأول؛ فالسارد يعرف حكاية حسن ميرو / البطل، وكل منهما مثقف، ويحب القراءة؛ ومن ثم يختار السارد التبئير الداخلي المتنوع طبقا لتعبير جينيت؛ ويراوح بين عالمه، وعالم حسن، وبعض الشخصيات الأخرى؛ مثل موريس، ونورا؛ فدور السارد هنا هو تمثيل العوالم الداخلية للشخصية؛ فضلا عن معاينة الحالات الإدراكية، والأنظمة التفسيرية المعرفية، وإنتاج أفعال الكلام التي تدفع المروي عليه إلى إقامة الصلات المحتملة بين المراجع الشخصية، والأدبية، والمكانية الواردة في النص، وتحولات السياق الاجتماعي، والثقافي الواقعي للشخصية؛ ومن المراجع الوفيرة في حكايات الليالي، وبعض رواتها الشعبيين، ومثالب الوزيرين للتوحيدي، وبعض كتابات لافكرافت الروائية، وأسطورة ديانا، ومقامات الحريري، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وغيرها؛ أما المروي عليه فيتجلى دوره في إنتاجية الروابط التي يقيمها الخطاب بين الأماكن، والأصوات، والحكايات، أو معاينتها وفق تأويل الراوي المعرفي؛ ومن ثم تخرج المراجع من كونها متفرقة في المكتبة، أو الدماغ إلى نوع مختلف من الاتصال الإدراكي الممكن من جهة، وإمكانية إنتاج صلات أخرى، ومراجع أخرى، وأثر إبداعي آخر قد يختلف عن الأثر الجمالي للعقاب، أو الرعب المقترن ببهجة خيالية من جهة أخرى؛ فحين يصدق المروي عليه حجاج الراوي مثلا قد يعيد إنتاج رواية مثل البحث عن الزمن المفقود لبروست ضمن فضاء آخر يختلف عن فضاء مارسيل، وشخصية سوان، وقد يقيم علاقات متداخلة بين الأماكن، والعوالم الممكنة، وقد يستدعي المروي عليه وفق مبدأ التوسع في الصلة عند سبيربر وويلسون أشكالا أخرى من الطيران؛ مثل طيران كل من ديدالوس، وابنه إيكاروس في الأسطورة اليونانية؛ ومن ثم شخصية ستيفن عند جويس في صورة الفنان في شبابه، أو أوليس، وعلاقة كل منهم بالإبداع، وتخييل علاماتهم الإبداعية في فضاءات ممكنة؛ وأرى أن المروي عليه حين ينتج يفهم الصلات، والحجاج الاستدلالية التي يقدمها سارد عبد الفتاح كيليطو في خطابه؛ فإنه يحقق قوة فعل الكلام؛ أما إذا قام بإنتاج روابط أخرى مختلفة، وموازية فقد حقق لازم فعل الكلام التوجيهي المتضمن في هذه الإحالات، والفضاءات المتداخلة؛ وتحيلنا وفرة المراجع، والصلات، والروابط التفسيرية في الرواية مثلا إلى تضاعف الكتب في مكتبة بابل في سداسية بابل لبورخيس؛ كما قد نسنتج وفرة العوالم الذهنية الممكنة التي قد تتولد عن المراجع الخيالية، والواقعية، والحكائية، والتاريخية المتضمنة في المكتبة الخيالية؛ وقد مزج سارد كيليطو مثلا بين سيرة التوحيدي التاريخية، وواقع السارد، وحسن، ومرجع حسن البصري الشخصي الخيالي، والغرفة السحرية، ونورا، والجنية الكبرى في خطاب تفسيري إدراكي واحد؛ ومن ثم يترك السارد للمروي عليه هوامش عديدة للفهم، وطرائق الربط، وإنتاج حجاج أخرى موازية، أو أفعال كلامية أخرى.

وإذا تأملنا المرجع المكاني لحدث التواصل / السطح المربع، سنجده قد تمثل في علامة مربع تجريدي دينامي؛ فالتجريد يوحي بالكثافة، والتداخل مع غرف الليالي الغامضة السحرية، ويوحي انفتاح المربع بدلالات الفراغ، واستنزاف السطح الفييزيقي من داخله؛ فهو مربع قابل لإعادة الرسم، والتشكيل في المستقبل؛ فقد استحدث فيه السارد معطف الريش من الليالي؛ ليمنح المروي إشارة بأن المربع هو مربع ذهني قابل للتداخل مع بنية السطح الواقعي في آن؛ وليوحي أيضا بأن المرجع المكاني هو مرجع تمثيلي، وتأويلي، يستعيد الماضي، ويكمله، ويفككه في بزوغ الروح الفردية لنورا، ولطيف الأخت الكبرى في الليالي، والتي تلتبس جماليا بنورا  في الزمن الآخر.

ويشير السارد إلى متحف اللوفر كمرجع مكاني آخر في التواصل الأول بين حسن ميرو، ونورا، ثم إلى مقهى في شارع سانت جيرمان بباريس في سياق التحليل الإدراكي لخبرة مشاهدة حدث الطيران الثاني؛ فهو يفترض أنه شاهد اللوحة في منمنمة تشبه ما رسمه الواسطي لمقامات الحريري، ويخبرنا السارد أن نورا رسمت لوحة فيها وجه حسن على المقهى. (3)

يتلقى السارد – إذا – مجموعة واسعة من البيانات اللغوية من النصوص، والقراءات، والتصويرية / المنمنمات القديمة، ولوحة وجه حسن، ومقتنيات اللوفر، ويعيد إنتاجها في رؤية إدراكية بواسطة النظام المركزي وفق علاقات التشابه، والتحويل، والتفسير، والتداخل، والتضاعف العلاماتي في العوالم الممكنة التي تقع بين الوعي، والفراغ؛ فمرجعا اللوفر، والمقهي المكانيان يعززان الحوارية المستمرة بين العمل القديم، وبهجة تكراره الآخر في بنية الحضور العابرة للزمكانية في الحالة الذهنية لكل من السارد، وحسن؛ فالعالم الموضوعي، أو البيئة المحيطة بحد ذاتها تنطوي على التكرار الآخر البهيج للنص المرسوم، أو العمل الفني الذي يحمل أصداء الماضي بصورة إشكالية تتداخل مع شخصيات بنية الحضور، والموقف الاجتماعي الفعلي.

ويمكننا تحليل التجانس في بنية خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو فيما يختص بكل من تجدد فاعلية الكتاب، أو الحكاية، والأثر المتجدد للنظرة في الغرف الخيالية، أو لبعض الكتب، والتي قد تقترن بالرعب، أو ببهجة التأجيل، ومعاينة ذلك الوهج الإبداعي الآخر المتولد عن النظرة الأولى في سياق الموقف الفعلي، دون اكتمال لبنية الحدث؛ أي معاينة التجدد الخيالي لخبرة الشخصية الفنية، أو الأسطورية مع تأجيل العقاب، أو استبداله بتواصل صامت، أو كوني؛ فحسن يعود ليتواصل مع السلحفاة في منزله، ويؤجل مركزية العقاب المتولد عن النظرة، أو القراءة.

وقد تولدت الفضاءات الذهنية بداخل السارد قبل أن يحيل المروي عليه إلى طيران نورا في العالم الممكن؛ فهو يشبه حسن ميرو في حب القراءة، واكتشاف فاعليتها، ونورا تشبه الأخت الكبرى في حكاية حسن البصرة في الليالي، والغرفة السحرية الممنوعة تشبه كتاب مثالب الوزيرين للتوحيدي في أثرها الذي يقترب من الرعب، وببهجة التأجيل، والتكرار؛ ومن ثم يمكننا قراءة هذه العلاقات – في مستوى الإدراك – وفق تصور جيليز فوكونير للفضاءات الذهنية؛ إذ يرى – في كتابه الفضاءات الذهنية – أن الروابط التداولية تعمل ضمن الكيانات العقلية؛ وأن هذه الكيانات قد تقع ضمن مجالات مختلفة، ويشير إلى أن الفضاءات الذهنية تتشكل – في بنية الخطاب – وفق مؤشرات لسانية؛ ومن ثم في تتشكل بصورة دينامية في الخطاب؛ ويمثل لذلك بجملة: كلينيت إستوود يمثل دور الشرير، لكنه يعتقد أنه بطل؛ فالمجال الأساسي هو الشخصية التي تعتقد البطولة، أو أن إستوود أخطأ الفهم، أو أن إستوود نفسه اعتقد البطولة؛ والرابط  التداولي سيكون التشابه بين إستوود، والشخصية الفنية في الفيلم. (4)

تحدث مثل هذه التداخلات بين الفضاءات الذهنية في دماغ السارد وفق روابط تفسيرية – إدراكية بين أطياف القراءة، والمشاهدة وبنية الحضور، وتصور العوالم الممكنة التي تجمع بين الواقع، والحكاية الأولى في الفراغ المصاحب للمربع التجريدي / السطح؛ فحسن البصري هو مجال أساسي، والهدف هو حسن ميرو الذي يحزن في الحكاية الثانية لطيران نورا / شبيهة الأخت الكبرى بصورة تعزز من النزعة الأنثوية الفردية في سياق ثقافي آخر؛ أما الرابط التداولي بين الكيانين فهو معاينة الجمال، واستكشاف السحري؛ وسيشير الرابط التداولي الثاني بين المجال الأساسي الآخر / الأخت الكبرى، والهدف / نورا إلى علامة معطف الريش بوصفها مؤشرا للهوية الفردية في سياقين ثقافيين متباينين؛ وسنعاين أن نورا حققت الإكمال لحضورها الفردي في العالم الممكن في سياق ثقافي مغاير؛ أما الرابط التداولي الثالث فيقع بين الغرفة الممنوعة في الليالي، وكتاب التوحيدي؛ فكل منهما يجلب الرعب، والعقاب، أو إمكانية تحقق بهجة التأجيل، ومعاينة التكرار الخيالي للخبرة الحسية، والاكتفاء ببناء الرؤية الإدراكية، دون تحقيق الأثر الكامل للغرفة، أو الأثر الكامل لفعل القراءة حين يتصل بالرعب، والعقاب من منظور السارد.

يقول السارد:

"هو الذي فتح كتابا، كتابا قديما، يعود إلى القرن الرابع الهجري "مثالب الوزيرين" من تأليف أبي حيان التوحيدي. لقد فتح حسن البصري بابا ممنوعا، أما حسن ميرو فإنه فتح كتابا ما كان له أن يقرأه. وفي الواقع لم يقرأه، بالكاد بضعة أسطر، وهذا ما قد يبدو غريبا، أن يمارس الكتاب تأثيرا على القارئ، أن يقلب حياته رأسا على عقب". (5).

لقد نشأ خطاب السارد، وتجسد لسانيا عقب حدوث التداخل بين الكيانات الذهنية في عقله؛ ومن ثم ففعل فتح الكتاب، أو فعل فتح الغرفة السحرية يتوافقان في تجانس الخطاب انطلاقا من أثر الفضاء الغامض على الشخصية، أو تأثير الكلمات على الحالة الإدراكية للقارئ؛ ولهذا استخدم السارد – في مستوى القواعد النحوية – فعل فتح / الماضي؛ فالفتح قد تم في ماض قريب في الواقع، بينما فتح البصري الغرفة في زمن بعيد في فضاء خيالي، وفي وعي الراوي الشعبي؛ ولكن كلا من الفعلين ورد بصيغة الزمن الماضي؛ ليحقق السارد التجانس، ويومئ – في تضمينات الخطاب – إلى أهمية ما وراء فعل الفتح، أو الدخول؛ وهو الأثر النفسي، وتشكيل الشخصية  / حسن لرؤية التعلق بالأخت الكبرى، وتأجيل حسن، وموريس استكمال أي مشروع علمي حول مثالب الوزيرين للتوحيدي؛ وقد تداعى حسن البصري في ذهن السارد في مرحلة زمنية تالية – في بنية الخطاب – لذكر قصة حسن ميرو، بينما نعاين أسبقية تأثير الليالي على عالمه الإدراكي؛ فقصة حسن ميرو تقع ضمن المتكرر المختلف في علاقتها بالليالي؛ أما الرابط التداولي بين القصتين فيقع ضمن تداعيات أسبق من التداخل بين أخيلة الكتب، واللوحات، والرسوم الجدارية فيما قبل تكوين الخبرات الحسية الخيالية أو الواقعية للفرد؛ ومن ثم قبل إعادة تفسيرها في رؤية معرفية بواسطة النظام المركزي.

وقد انتخب السارد – في المستوى اللساني النحوي أيضا – كلمة كتاب بصيغة النكرة، وكررها ثلاث مرات؛ ليؤكد إبهامها، وغموضها المشابه لغرفة حسن صائغ البصري من جهة، وكررها ليوحي بإمكانية توليد الرعب، أو البهجة منها حين تحدد بصورة نسبية، أو حين تتحول إلى خبرات حسية في الدماغ؛ كما نسج تأشيرا لسانيا يؤول السابق من خلال اللاحق؛ ويطلق عليه (كتافورا)؛ لماذا لم يذكر السارد اسم الكتاب أولا؟

لقد أراد أن يؤجل ذلك الذكر على المستوى النفسي؛ ليحدث توافقا إدراكيا مع حسن ميرو، وموريس بصدد أثر كتاب التوحيدي.

وقد استخدم السارد – في المستوى النحوي أيضا – الكتاب كموضوع / مسند في البداية، ثم أسند إليه الفاعلية في جملة " أن يمارس الكتاب ...."؛ ومن ثم تعزز القواعد من بنية فاعلية الحكايات القديمة في الزمن الآخر في تضمينات الخطاب؛ وتتصل تلك الفاعلية في الجملة، وفي سياق الموقف الفعلى بالموضوع الرئيسي للرؤية الإدراكية؛ وهو حالة الاتصال بين الشخصيات، والأماكن، والحكايات، والمواقف الاجتماعية المتجددة.

ويحيلنا السارد إلى المؤشر السياقي الذاتي حين تبدو تمثيلاته، وتأكيداته المتعلقة بفعل القراءة لدى حسن متوافقة مع ميوله، ومزاجه، ورؤيته الإدراكية التي تنسج فعلا كلاميا تعبيريا ينحاز إلى بنية انتظار حدوث شيء ما عقب القراءة، ولو في العوالم الممكنة التي يعتقد بصحتها، أو باحتمال صحتها، أو بتداخلها مع الحقيقي في ممارساته الأدائية الغامضة التي تشبه ظواهر الليالي، وغموض مصير التوحيدي، ومزاجه المتمرد على رجال عصره.

تأتي الإشارة هنا أيضا إلى الآخر / التوحيدي، أو طيفه المصاحب لحدث القراءة، أو حدث المشاجرات التي حدثت بسببه حين أراد حسن التوقف عن قراءته، أو حين أراد موريس التوقف دون مبرر منطقي؛ يتعلق مزاج التوحيدي الغامض إذا ببنية قراءة كتابه في الزمن الآخر؛ وكأن الرابط التداولي بين الكيانين العقليين الكتاب، وسيرة المؤلف قد تحقق لسانيا في بنية الخطاب في استخدام المفردة النكرة المبهمة كتاب / وتشابهها – في التأثير الغامض – مع سيرة التوحيدي نفسه؛ وما تحدثه من تأثير جمالي في فعل القراءة عند حسن، وموريس.

ويراوح السارد – في خطابه – بين فعلي التمثيلات، والتعبيريات في مستوى الأفعال الكلامية للخطاب طبقا لتصنيف سيرل، ويتضمن – بصورة دينامية – فعلا كلاميا آخر من فئة التوجيهات؛ وبهذا الصدد أتفق مع دان سبيربر، وويلسون في رؤيتهما الدينامية للأفعال الكلامية – في كتابهما الصلة، والتواصل، والإدراك – إذ يشيران إلى أن الأفعال الكلامية ترتبط بالتضمينات، وموقف التواصل الفعلي بصورة إدراكية دينامية؛ فحين نقول "نفد شحن البطارية" فنحن نستخدم فئة التأكيدات، والتي قد تشير إلى اتهام، أو طلب إعادة الشحن، أو تنطوي على توبيخ للمستمع معا حسب موقف التواصل. (6)

تتوالى في الخطاب – إذا – التمثيلات والتأكيدات التي تقوم بتحوير خبرات المروي عليه الإدراكية نحو قوة فعل الكلام التي تتمثل في إدراك المروي عليه للصلة بين كتاب التوحيدي، وسيرته، ومزاجه، والصلة بين فتح حسن للكتاب، والشروع في قراءته، وفتح حسن البصري، واستكشافه للغرفة المحرمة في الليالي؛ ويتضمن الخطاب انحياز السارد في فئة التعبيريات لحالة الاتصال بين الأماكن، والأصوات فيما يسبق تشابهها في الخبرات الحسية، وقد تتحقق قوة فعل الكلام إذا تبنى المروي عليه الموقف الذاتي نفسه؛ أما الفعل الكلامي المتضمن فهو النهي عن استكمال الموقف الأول المتكرر في الزمن الآخر للعمل الأدبي؛ ولهذا قامت نورا المتخيلة بتفكيك حدث زواج حسن البصري من الأخت الكبرى باستعادة ثوب الريش، واختفت في العالم الممكن فقط دون تطور للحكاية الأخرى، بينما توقف موريس عن نشر كتابه عن التوحيدي، وقام حسن ميرو بتأجيل إكمال الكتاب؛ ليكتفي بما تولد عنه من الرعب، وبهجة التأجيل؛ ونلاحظ ورود اسم الروائي الأمريكي لافكرافت في أثر كتاباته أيضا؛ وقد عرف باستعادته للمدن القديمة، وأشباحها الصاخبة في أزمنة تالية، وحضارات أخرى أيضا؛ وهو ما يعزز نهي السارد للمروي عليه بأن يستكمل التجارب القديمة نفسها حين تتكرر في بنية الحضور؛ وقد يتحقق لازم فعل الكلام التوجيهي إذا مارس المروي عليه التفسير، أو القراءة ثم توقف؛ لأجل الأسباب نفسها.

وينطوي خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو أيضا على المضمر؛ وأرى أن المضمر هنا يشير إلى إمكانية حدوث إنتاجية إبداعية دائرية بين المراجع الأدبية، والشخصية، والمكانية في أفعال القراءة، والمشاهدة، والاستماع؛ أو مضاعفة هذه العلامات في سياق فانتازي، أو توليد تشبيهات تحاكيها وفق آليات التكنولوجيا المعاصرة؛ وقد أشار جان بودريار من قبل إلى تشبيهات الخرائط، والتليفزيون، وألعاب الفيديو في التشبيهات والمحاكاة؛ أما سارد عبد الفتاح كيليطو فيعزز من النسخ الواقعية – الخيالية في الحالات الذهنية، والعالم الممكن؛ ومن ثم يحفز إنتاجية التشبيهات في مضمر الخطاب بين السارد، والمروي عليه في حدث التواصل الأول.

ويربط السارد – في خطابه أيضا بين النظرة، والاكتشاف، والانتهاك؛ ومن ثم الأثر الذي قد يكون سلبيا؛ إيستعيد جملة الليالي بأن نظرة المجنحة تؤدي إلى الهلاك، ويمزجها بحكاية الصياد أكطيون الذي شاهد ديانا، وصديقاتها ثم مسخ، والتهمته كلابه، وعقوبة أوديب بالعمى عقب إدراكه للحقيقة، وذهول حسن البصري عقب ولوجه للغرفة. (7)

يقوم السارد هنا بعمل تداخلات تفسيرية جديدة تقوم على محور ارتباط النظرة إلى الغامض، أو المفرط في الجمال، والعقاب عبر فعل كلامي يقوم على التأكيدات، والانحياز الذاتي للفكرة نفسها؛ وهي ما يتولد عن النظر عقب ما تولد – في المقاطع الأخرى من الخطاب – عن أثر القراءة، وفاعلية الحكاية القديمة.

وإذا قرأنا تلك الصلات التأويلية التي أقامها النظام المركزي عقب تخييل الخبرات المشار إليها من الذاكرة الجمعية وفق مفهم التأشير العائدي / الأنافورا بصورتها المفاهيمية، سنجد أن السارد يحيلنا إلى منطقة غائبة من الخطاب أسبق من تجسده اللساني، أو إحالاته التصويرية؛ وهي مسافة إدراكية تتعلق بالمشاهدة الأولى للغموض التكويني في ظواهر الوجود، وغموض رؤى مصائر الشخصيات الحقيقية، والخيالية في الوقت نفسه؛ ومن ثم غموض تكرارها المختلف في المشهد اليومي، والعوالم الممكنة أيضا؛ أما التجسدات الأولى فقد سبقت طيران نورا في استعادة الذهول الأول لحسن، ونظرته لغرابة الغرفة، وغرابة تكوين الأميرة، وكينونتها الوجودية؛ ومنها تأتي فسحة التأجيل، ومساحة الإكمال التي تقف عند بهجة المعاينة، وانتظار تحقق الرعب الخيالي المحتمل، والتباسه بمضاعفة التشبيهات، والصلات التفسيرية الممكنة، دون نهايات حاسمة.

إن السارد يبني حالته الذهنية، ويقوم بتعديلها وفق التكرار الآني للأطياف المتولدة عن أصوات الشخصيات الفنية، وأماكنها، أو من السير الشخصية التاريخية؛ ومن ثم تتشكل الحالة الذهنية وفق تشابه جزئي بين الواقع الموضوعي، والعالم الممكن الآني في خطاب الحكاية.

ويشير برانو جيي. بارا - في كتابه التداوليات الإدراكية – إلى أن الحالات الذهنية تتشكل من خلال قدرة البشر على تمثيل المواقف من خلال توظيف النماذج العقلية، وتعديلها، واشتقاق النتائج من المعتقدات المشتركة في التواصل. (8)

لقد عاين السارد صورة نورا في العالم الممكن انطلاقا من استنتاجاته لكل من الموقف الموضوعي للتواصل؛ وهو فضاء السطح الفارغ المربع؛ وما ينطوي عليه من اتصال بين المكان واتساع السماء في المخيلة التي تمتلئ بأطياف الحكايات، وأصواتها؛ ومن ثم فالفضاء الموضوعي ليس مستقلا تمام عن الفرضية التي يؤمن بها الراوي؛ وهي تشابه الكيانات العقلية، وإمكانية تداخلها حين يقوم النظام المركزي بتوظيف خطاب الحكايات، والكتب، والسير القديمة في تأويل الموقف الموضوعي، والخبرات الإدراكية المشتركة مع الشخصية أو مع المروي عليه؛ وسنجد أنه بمجرد ذكر الراوي للمراجع الأدبية؛ فإنه يعلم أن المروي عليه على دراية بها؛ وهو أيضا يمنحنا الإشارة بأن شخصية حسن تحب القراءة، وتؤمن بفاعليتها الخفية؛ وكأنه يواصل حكي شهرزاد نفسها، ومعارفها التي يبدو أن الرواة الشعبيين أصبحوا يوظفونها ضمن نظامهم المركزي في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية أيضا.

وأرى أن الحجة الرئيسية المتضمنة في خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو هي حجة استدلالية تتبع السلم الحجاجي طبقا لديكرو؛ والذي أشار إليه جاك موشلر في القاموس الموسوعي للتداولية؛ ويقوم على الاتصال بين مقدمتين منطقيتين مثلا، ويصل بينهما برابط لغوي؛ وتكون المقدمة المنطقية الأقوى هي الأقرب إلى النتيجة في نهاية السهم الذي يبدأ من الأسفل، وينتهي إلى النتيجة في الأعلى. (9).

إن السارد - في المقطع الخطابي الأسبق- يفترض الصلة بين أثر قراءة الحكايات القديمة، والكتب الأدبية على القارئ؛ مثلما تؤثر على مخيلته الفضاءات الخيالية الغامضة، أو السير التاريخية التي اتصلت بكتب أدبية وفلسفية وثقافية؛ مثل كتب التوحيدي؛ ويربط بينهما لغويا بعطف الأفعال، والهويات، وأشكال المسند إليه في بنية الخطاب؛ ومن ثم فالمقدمة المنطقية التي تقع في سهم السلم الحجاجي من أسفل هي أثر الحكائي على الشخصية أو على القارئ؛ وتقوم على تأثير الحكايات الخيالية، أو الفضاءات السحرية الغامضة؛ وهو تأثير طبيعي ينبع من فعل التخييل؛ وتلقي الدماغ لخبرة حسية فائقة، وقدرته على تفسيرها في الحالة الذهنية حسب درجة التفاعل، والمزاج، ونرمز لها ب ق1؛ أما المقدمة المنطقية الثانية فهي الأقوى؛ ونرمز لها ب ق؛ لأنها تتصل بكتاب أدبي متداخل مع سيرة تاريخية لشخص حقيقي؛ وهو أبو حيان التوحيدي؛ ويتلقى النظام اللساني الطرفي مثل هذه السيرة كبيانات حسية أقوى، ويعيد تفسيرها وفق آليات النظام المركزي وفق دمجها في الفضاءات الذهنية وفق منهج فوكونير الإدراكي – بصورة استعارية تشبه سيرا أخرى متجددة، أو مواقف وجودية أو يومية آنية؛ ثم نصل إلى النتيجة؛ وهي الفاعلية المتجددة للحكايات، والشخصيات الأدبية في بنية الحضور؛ أما ما يتعلق بالآثار الذاتية التي أشرنا إليها سابقا، والمتعلقة بأثر الرعب، أو أثر بهجة التكرار البكر للتخييل؛ فهي تنتمي بدرجة أكبر للحجاج الاستقرائية، أي الحالات التي يمكن القياس عليها في حالة الوفرة.

وينهي السارد خطابه الروائي بالإشارة إلى توقف موريس عن جمع كتاباته عن التوحيدي في مصنف واحد، وتوافقه في ذلك مع مزاج حسن ميرو في عدم استكمال قراءته للمثالب، ويعود بنا إلى تواصل إيمائي صامت مع السلحفاة (10).

وأرى أنه لا يمكن فهم ذلك التواصل المتناغم الإيمائي إلا من خلال الانحياز الذاتي التعبيري للسارد للغموض الأول، أو النظرة الأولى للغامض في غرف الليالي، وفي كلمات كتاب المثالب؛ وإن جاء الغموض هنا بصورة بهيجة توافقية؛ ومن ثم يستدعي الصمت، وإعادة التفكير، وتوحيه المروي عليه للتساؤل حول مواجهة الغموض المتكرر في الفن، والكتب، والحياة.

وأرى أن فرضية السارد يمكن اختبارها أيضا في سياق ثقافي إدراكي يتعلق بما طرحه أندريه مالرو – في كتابه أصوات الصمت – الذي يرى فيه أن تسليط الضوء الفوتوغرافي على التماثيل القديمة في المتحف سيكشف عن أصالة التمثال القديمة نفسها في الزمن الآخر؛ ومن ثم يكون قابلا لإعادة تمثيله في المخيلة. (11).

يؤكد مالرو إذا وفق دلائل الصور الفوتوغرافية التي يدرجها ضمن صفحات الكتاب أن العمل الفني يتكرر تكرارا آخر في الصور؛ ومن ثم يقبل التفسير الإدراكي الموسع من قبل النظام المركزي في الدماغ عقب تسجيله ضمن الخبرات الحسية التصويرية الطرفية؛ وفد قام مالرو بالفعل – في كتابه المذكرات المضادة – بعمل حوارات عابرة للثقافات بين أطياف الأعمال الفنية؛ ومن ثم ففرضية سارد عبد الفتاح كيليطو صحيحة من الناحية الاستدلالية؛ وفي سياق بناء الخبرات الإدراكية المشتركة مع المروي عليه؛ فمواقف اليومي تنطوي على الغموض، والتشابه مع الأعمال الفنية، والقراءات تشابها مغايرا، وإبداعيا دائما.

ويمكننا أخيرا أن نستنطق محادثتين رئيسيتين في رواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" لعبد الفتاح كيليطو؛ إحداهما بين حسن ميرو، وطيف والدته، والأخرى بين حسن، ونورا، وفق المبدأ التعاوني لبول غرايس؛ والتوسع في الصلة طبقا لمنظور سبيربر، وويلسون الإدراكي، وتسلسل أفعال الكلام.

يروي السارد محادثة حسن مع طيف والدته:

" – ماذا حدث؟

لقد ذهبت، وأنت السبب. لماذا ذكرت لها أين خبأت معطف الريش؟

ويشير الراوي إلى أن نورا كرهته حين كان متيما بها" (12).

تتفاوت الحالتان الإدراكيتان لكل من طيف الأم، وحسن؛ فنجد أن يشخصية حسن هي الأكثر تصديقا لدوره التكراري الآخر / المختلف وفق استنتاجاته المنطقية الخاصة، وتحليله لمشهد طيران نورا العصري؛ ومن ثم فالتناغم – في بنية هذه المحادثة – مؤجل نتيجة اتساع مسساحة صمت الأم، وإشارة الراوي إلى رغبة نورا في الانفصال الذاتي عن فضاء منزل حسن؛ ومن ثم كان حسن هو الأكثر من جهة الكم وفق مبدأ بول غرايس التعاوني؛ فهو يمنح معلومات إدراكية أكثر مما يحتمله موقف التواصل؛ وسنجد أن هذا يمكن قبوله إذا كان حسن يشارك في ألعاب المحادثة الإدراكية؛ ليؤسس لتوسع ما في الصلة التي تتجلى لسانيا هنا في معطف الريش الذي سيحيل الطرف الآخر من المحادثة / الأم للتفكير في الليالي، وتكرارها الأدبي في الموقف؛ ومن ثم سيكون فعل الكلام التوجيهي؛ وهو سؤال الأم نوعا من الاندهاش في مواجهة غموض الظواهر اليومية، والفنية في تضمينات الخطاب؛ أما فعل الكلام التوجيهي الآخر لحسن سيكون تلميحا باللوم؛ لرغبتة الذاتية في الاحتفاظ بنورا كشبيهة للأخت الكبرى في الليالي؛ ومن ثم يتضمن فعلا كلاميا تعبيريا ينحاز لنورا في اتصالها ككيان عقلي بالأخت الكبرى المتجددة في بنية الحضور؛ ولكن مساحة الصمت تؤثر في قوة فعل كلام حسن، وتجعله متضمنا في المراجع المكانية الفنية، أو في العالم الممكن الملائم لحالته الذهنية. وقد انتظم أسلوب حسن البنائي منطقيا في السؤال الذي يومئ إلى حالة التداخل التكوينه بينه، وبين حسن كفواعل في السرد، ويتضمن الإقناع بحجة إمكانية التشابه بين اليومي، والحكائي.

ويسرد الراوي محادثة حسن مع نورا حول فاعلية قراءة كتاب التوحيدي حين تندمج إدراكيا بسيرته، ومزاجه:

"- لماذا لا تقرأينه أنت بنفسك؟

...

-سوف أقرؤه بكل عناية، وسأخبرك بذلك، سأقرؤه بصوت عال، عليك الإصغاء فقط  سأكتب الاقتباسات التي تحتاجها على أوراق منفصلة، وإن شئت أتولى في النهاية إدراجها في المكان المناسب من أطروحتك.

ويتساءل الراوي حول ما إذا كانت نورا تسخر من حسن أم تروم اختباره

ويقول حسن: - أنا أمنعك من قراءته". (13).

لقد كان حسن – في هذه المحادثة – هو الأكثر إيجازا وفق مبدأ الكم؛ أما نورا فقد كانت مهتمة بهويتها كفاعل لقراءة الكتاب، والاستشهاد به دون تخوف؛ ومن ثم فالمحادثة تؤجل الهارموني أيضا؛ لأن كم معلومات نورا كان أكبر؛ فهي تسعى للإقناع، وإثبات حالتها الذهنية التي تؤكد حيادية فعل القراءة؛ أما خطاب حسن فقد ارتكز على أفعال الكلام التوجيهية؛ مثل السؤال، والنهي، وتأكيد المنع ضمن فئة التمثيلات التي قد تتضمن – بصورة دينامية – فعلا من فئة الوعديات أو الالتزامات حين يهددها بحدوث أمر سيء لو فعلت ذلك؛ أما التوجيهات فتعيدنا إلى حالة الغموض، والارتباك السلبي الأول حين تواجه الشخصية تكوينا فائقا، أو فضاء متعاليا غامضا؛ فتصاب بالذهول، والتأمل.

ويؤكد حسن هنا حجة فاعلية الكتاب في المستوى الإدراكي على الأقل؛ فطريقة تحليل نظامه الإدراكي المركزي تتفق مع مزاج التوحيدي المتمرد غالبا في التحليل؛ أما نورا فتطرح حجة حيادية المقروء بصورة ديالكتيكية، ولكنها تقدر موقف حسن التفسيري رغم الاختلاف؛ وإن تبني السارد لفعل كلام توجيهي، ليدل على توافقيته مع حسن فيما يختص بفاعلية الغامض السلبية على الشخصية؛ وتبدو الحجة السيرية هنا أقوى في إثارة الأسئلة حول فاعلية المقروء في تشكيل الحالة الذهنية.

وتقوم الصلة على المستوى اللساني / الإدراكي هنا على فعل الكلام التأكيدي أنا أمنعك؛ فهو يوحي بخطورة تخييل المقروء على الشخصية حين يتعلق الأمر ب بتأويله في سياق آخر، أو استكمال التجربة وفق وهجها القديم المتجدد نفسه؛ ومن ثم سنجد أنفسنا أما شخص يقع في حالة ذهول دائرية في انتظار الأخت الكبرى، أو ينتظر مصيرا ملتبسا بعدم رضا التوحيدي مثلا، وتنتظم أفعال حسن الكلامية منطقيا في إثباته لخوض التجربة جزئيا بصورة تعكس بهجة التكرار الإبداعي دون إغراق في وهجها القديم؛ ومن ثم فقد تضمن خطابه فئة الوعديات / التهديد؛ ليحقق قوة فعل الكلام المتعلقة بالتكرار المحتمل في العالم الممكن، وأن ما ينطوي عليه هذا التكرار من تأجيل سوف يمنح الشخصية التفكير في بدايات عقد صلات إبداعية إدراكية أخرى بصورة أفقية متكررة تتجاوز مركزية الحكاية الواحدة.

وأرى أن المحادثة قد ينشأ عنها استلزام سياقي يقوم على الاتفاق الجزئي بين طرفي المحادثة على فاعلية العمل الأدبي، ولكن تطور المحادثة يوحي باختلاف الأثر الإدراكي النسبي وفق تسلسل أفعال الكلام، واختلاف الحالات الذهنية؛ ومن ثم أتفق مع تلك الفاعلية المنسوبة للعمل الأدبي في المستوى الإدراكي المؤول للأخيلة والخبرات الحسية التي تنشأ عن القراءة؛ أما الأثر فهو يخضع لتوافقات جزيئة مع امزجة بعض شخصيات الأدب، أو الخطابات، والحالات الذهنية للشخصيات الأدبية، والحقيقية المتنوعة.

*هوامش الدراسة :

(1) راجع، آن ريبول، وجاك موشلر، القاموس الموسوعي للتداولية، ترجمة: مجموعة من الأساتذة بإشراف: عز الدين المجدوب، دار سيناترا والمركز القومي للترجمة بتونس، ط2، 2010، ص 151.

(2) راجع، عبد الفتاح كيليطو، والله إن هذه الحكاية لحكايتي، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، ط1، سنة 2021، ص 11.

(3) راجع، عبد الفتاح كيليطو، السابق، ص 14.

(4) Read, Gilles Fauconnier, Mental Spaces: Aspects of Meaning Construction in Natural Language, Cambridge University Press; 2nd ed. Edition, 1998, p. 16, 18.

(5) عبد الفتاح كيليطو، السابق، ص 35.

(6) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson, Relevance, Communication and Cognition, Blackwell U.K AND Cambridge U.S.A, 1995, p. 244.

(7) راجع، عبد الفتاح كيليطو، السابق، ص-ص 65، 66.

(8) Read, Bruno G. Bara, Cognitive Pragmatics: The Mental Processes of Communication, Translated by:  John Douthwaite,  A Bradford Book, 2010, p. 69.

(9) راجع، جاك موشلر، وآن ريبول، السابق، ص-ص 298، 299.

(10) راجع، عبد الفتاح كيليطو، السابق، 140: 142.

(11) Read, Andre Malraux , The voices of Silence, Translated by: Stuart Gilbert, Paladin, 1974, p. 27, 30.

(12) راجع، عبد الفتاح كيليطو، السابق، ص-ص 11، 12.

(13) راجع، السابق، ص-ص 106، 107.

 

msameerster@gmail.com