يستقصي الناقد المغربي رواية صدرت حديثا، تهتم بالواقع وما يمور فيه من صراع بين قوى التحديث وبين قوى التخلف. نص انحاز إلى ما يسمه الناقد بصف الرواية التربوية التوجيهية، هنا تحليل لموضوعاتها وأنماط المحكي السردي الذي تخلل الخطاب الروائي.

الرواية التربوية/ التعليمية

محمد معتصم

مدخل لابد منه:

عرفت الحياة السياسية المغربية، في سبعينيات القرن الماضي حراكا لافتا للنظر، كان له تأثير قوي على الحياة الاجتماعية وعلى الساحة الثقافية، ومن آثاره البارزة تلاحم فكرتي الإبداع والإصلاح. لقد كان الإبداع يصدر عن فكرة مسبقة تؤطره وتوجهه، أي أن الأدب في حينها كان "وظيفيا" وأن الأديب كان "ملتزما" بدوره الاجتماعي والتربوي والجمالي في آن واحد، ولم ينكمش على ذاته إلا مع بداية تسعينيات القرن الماضي الذي تحولت فيه أشياء كثيرة وماتت فيه قيم كثيرة أو أنها انكشفت على فراغ مهول فيها وتبين بأنها دون مرامٍ واضحةٍ أو أن أصحابها سقطوا تباعا في بلادة الرتابة أو الإهمال، وأنهم سقطوا في شرك الإغراء المادي والمنصب الإداري، وبعدما كان الإبداع طريقا ملكيا للإصلاح والتوجيه وبناء مواطن مغربي جديد متنور لمغرب جديد مستقل وحر تسوده العدالة وسياسة الحق والمسؤولية والواجب، أصبح الإبداع طريقا ملكيا للتظاهر وللادعاء ووسيلة للوصول إلى المآرب الخاصة. وبعدما كان الصراع صراع أفكار وتصورٍ ومناهج ورؤى تحول إلى صراعات شخصية وإلى تناحرٍ طبقي ففقد الإبداع مكانته وفقد المبدع هيبته وقدرته على التأثير في الحياة.

ما تشهده الساحة الثقافية والسياسية والاجتماعية اليوم دليل على أن خللا بنيويا قائما في صميم الممارسة والتفكير والتأطير والتنظير، وأن الوقت قد حان لخلخلة هذه التركيبة المتكلسة ونفض الغبار عنها لاكتشاف رواسبها ولأجل طرح الأسئلة الجوهرية حول الإبداع في ذاته وفي علاقاته المتشابكة مع محيطه الفعلي وموارده الثقافية، وطرح الأسئلة الحقيقية حول المبدع ومهامه كفاعل حيوي وكمورد أيضا.

من نتائج الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي لمغرب ما بعد الاستقلال، السبعينيات والثمانينيات خاصة، انفتاح الجامعة المغربية على المناهج الجديدة في الفكر والدرس الأدبي، والإقبال على التعليم وعلى المشاركة في بناء مواطن فاعل ومتفاعل مع محيطه، ومن نتائجها تطور أشكال الكتابة وتنوعها، لكن كان التصدي بقوة من جيوب التكريس لهذا الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي وقمعه لصالح بقاء الحال على حاله. ولم يكن القمع إلا وسيلة جديدة لترسيخ الإيمان بالتغيير والبحث عن الآفاق الواسعة للتعبير عن الذات وعن الفكرة الجديدة المبدعة، وزادت قوة المنع وشراسة القمع المبدع إيمانا بمهامه ووظائفه الاجتماعية والجمالية والتربوية، بينما هجمة الإغراء وانفتاح السوق وسقوط معاقل الفكر الاجتماعي سَرَّعَتْ وتيرة سقوط المبدعين أكثر من القمع، وساهمت في صمت آخرين وانكماش بعضهم على ذواتهم.

رواية "شمس الأصيل" لرشيد مشقاقة واحدة من الروايات التي تذكرنا بالعود الأبدي، أي أن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما شهدته الساحة السياسية والثقافية في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها يعود اليوم بأكبرِ قوةٍ وَحِدَّةٍ نظرا للتغيير الكبير الذي عرفته وتعرفه الحياة عامة، من انهيار لسلم القيم أو تغيُّرِ مَعاييرِهَا عما سلف وفقدان الثقة في الخطابات والشعارات الجوفاء والوعود الكاذبة، وانخفاض كبير على مستوى الإقبال على القراءة ومتابعة الأنشطة ذات الأبعاد الثقافية والفكرية والسياسية الحقيقية والبانية، ووعي فئات واسعة بخداع "الوهم بالرفاهية" القائم على الاستهلاك بالدين والاقتراض وغياب التنمية المستدامة، واكتشاف بوار الشواهد العلمية وتراجع مفهوم الكفاءة لصالح النفوذ المالي والأسري والارتشاء وتبادل المصالح الذاتية النفع، وكل أشكال الانحلال والفساد...

رواية "شمس الأصيل" انحازت إلى صف الرواية التربوية التوجيهية التي تروم كشف العيوب وتقويم الاعوجاج وتصحيح المسارات المنحرفة الهدامة في المجتمع والفرد على حد سواء، وهي رواية لم تعتمد على "التجريب" القصصي الذي كان مظهرا من مظاهر التجديد سواء في نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، واختارت السرد القصصي المتواتر والمنطقي والمتسلسل القائم على مفهومي الترابط والتنامي. هذان المفهومان أساسيان في الدراسة النقدية الموضوعاتية للمحتوى السردي، والدراسات البنيوية للقصة. لذلك سأركز هنا على هذين البعدين: الموضوعات التي تحفل بها الرواية وتجعل منها هدفها وغايتها، وأنماط المحكي السردي الذي تخلل الخطاب الروائي.

الرواية التربوية/ التعليمية:

قَسَّمَ الدارسون الرواية حسب موضوعاتها إلى عدد من الأقسام والفروع المتولدة عنها، ومن تلك الأقسام الرواية التعليمية ذات المحكي التوجيهي الخطي حيث يكون مستوى التخييل في الدرجة الصفر كما يقول جون مشيل آدم، ويحل محله الإخبار والتعليق والتفسير والنهي والأمر وكل مكونات خطاب الحجاج القائم على إقناع المتلقي بمحتوى القول، وإقناع الشخصية الروائية المخاطبة والمستهدفة في/من الحكاية. وفي المحكي التوجيهي يرتدي السارد رداء المُخَلِّصِ (المُخْلِصِ) والمصلح الذي أدرك حقيقة الأشياء بخبرته وتجربته الواسعة في الحياة، ومن خلال خبرته تلك يمرر الكثير من أحكام القيمة يدعم حجة إقناعها وازع إصلاحي أو أبوي دون الاعتماد على النقد والتحليل الذي يُشَرِّحُ الظاهرة ويقف على الأسباب الجوهرية لاستئصالها، وهذا ديدن كل أشكال خطاب الإقناع.

تعلن رواية "شمس الأصيل" عن خيارها ومقصديتها في عتبة الإهداء التي جاء فيها:" إلى ولدي: عمرو، ربما أردت أن أقول لك شيئا...!!". المؤشرات في الإهداء قوية فالخطاب موجه من والد إلى ولده، بهدف نقل خبرة ومعرفة وتجربة تساعد الولد على فهم أفضل لحقيقة الحياة وخباياها خارج الأسرة وعلائقها، لكن لا يمكن هنا إغفال نوع المحكي السردي المهيمن والمتمثل في الاعتراف، وهو دعم قوي لمحكي الذات. إن الوالد سيروي خبرته وتجربته أي أنه سيروي "حكاية حياته" التي لا يدركها غير هو ومحيطه الضيق. والاعتراف يتضمن الإخبار والتفسير والتعليق على الأحداث والتعقيب على الأفكار والآراء والتصورات الخاصة الواردة في خطاب الاعتراف، وهي أفكار منتقاة سلبية كانت أو إيجابية لأن من بين أهم أهداف خطاب الإقناع عرض الفكرة ونقيضها لإبراز هشاشة إحداهما وتقوية اليقين بالأخرى النقيض. يضاف الاسم العلم في الإهداء إلى المؤشرات الدالة لأن عمرو الابن في الإهداء تقابله شخصية عمرو الروائية في المتن الحكائي. يقوي مؤشر تطابق الاسم العلم بدوره حظوظ محكي الذات وهيمنة الصوت الواحد للسارد العالم بكل شيء في هذا النوع من المحكي السردي في الرواية المغربية.

لا تشذ رواية "شمس الأصيل" عن التوجه الجديد الذي اختارته الرواية المغربية بداية الألفية الثالثة، وهو تيار كان متواريا أيام اكتساح "التجريب الروائي" ساحة الإبداع، وأقصد الرواية ذات المنحى المضموني القائم على الحكاية المنطقية المتواترة المسترسلة في ترابط المتواليات السردية وتناميها الطبيعي.        

بعيدا عن السؤال حول: هل تراجعت فعلا الرواية التجريبية في المغرب؟ أفضل السؤال: ما هي خصائص المحكي التوجيهي في الرواية التعليمية؟ لأن رواية الكاتب رشيد مشقاقة في نظري تعتبر حقلا تَخَيُّلِيًا خصبا للإجابة عنه، وبالتالي تمكننا من تحديد وجهٍ من أوجه "المتخيل المختلف" الذي يدرس فنيا عالما منحطا خفيا يقف حاجزا بين الحرية والتقدم والعيش الكريم للمواطن.

يقدم الكاتب في روايته "شمس الأصيل" صورة عن عصابات المال والأعمال التي تحتكر السوق وتسهم في تردي أحوال البلاد والعباد، وتقف حجر عثرة أمام الكفاءات الجادة والوطنية التي تخدم بلادها بشرف وتفان بالغين، وتضع أياديها على كل الموارد الحيوية، وتستحوذ على مناصب المسؤولية بشهادات مهنية وجامعية مغشوشة، وبتدخلات مشبوهة ليستتب لها الأمر وتفعل ما تشاء دون حسيب أو رقيب، ولتمتص دماء وعرق الأبرياء بل تسرق منهم أحلامهم وحياتهم. إنها رموز عالم منحط لا مكان فيه لقيم النبل والشهامة والكرامة والكبرياء والتفاني وحب الوطن. إن متخيل العالم المنحط في هذه الرواية كمثله في رواية "دمية النار" لبشير مفتي لم يركز على العوالم الهامشية للفقر كما عند محمد زفزاف ومحمد شكري، بل يركز على هامش الأحياء المتخفية وراء الرقي الظاهر الذي لم يؤسس قيمه وأخلاقه الاجتماعية "الطبقية" الخاصة التي تناسب الظاهر، وهو ما يدل على أن هذه الفئة ليست سوى فئة هجينة ظاهرها عكس باطنها كما تبين الرواية الكاتب رشيد مشقاقة.

لم يحصر الكاتب عالم خطابه الروائي في التأسي على الهدر الذي تعاني منه البلاد، واستهتار عصابات الدمار والمجون والاستهتار والتهور، بل فتح أفق الأمل مركزا على توبة "عباس الدوائري" الشخصية المحورية والرئيسة، ومركزا على عدد من الأوصاف التي منحها لشخصيته الأثيرة في الحكاية الابن "عمرو" وخطيبته "لمياء"، وتتمثل في:

1.     العلم والمعرفة.

2.     الوطنية.

3.     التحلي بالأخلاق الحميدة.

4.     المبادرة البناءة.

5.     المحبة.

من خصائص المحكي التوجيهي:

ما هي خصائص المحكي التوجيهي الذي تقوم عليه الرواية التعليمية؟

للرواية التعليمية خصائص موضوعية وأسلوبية   

1.     تشريح الواقع

2.     انتقاد الأفعال

3.     كشف العيوب

4.     الشيء ونقيضه

5.     أسلوب الأمر والنهي

6.     خطاب الحجاج والإقناع

7.     السارد المصلح الواثق من نفسه

8.     السارد مالك المعرفة (كلي المعرفة)

أنواع المحكي في الرواية:

الرواية خطاب متعدد وغير منسجم ينهض على محكيات متنوعة تتخلل المحكي الإطار والشامل، وبعض تلك المحكيات يكون تاما ومستقلا بذاته بينما البعض الآخر يكون غير تام ويقوم بوظائف سردية ثانوية.

1.     المحكي القصصي التخيلي (واقع الحكاية): هذا النوع من المحكي يشكل أصل "القصة" أي مادة المحكي، وفي رواية "شمس الأصيل" نعثر على نوعين من المحكي التخيلي، الأول محكي مسترسل ومتواتر يتبع الأحداث في ترابطها وتناميها ليصل بها إلى نهاية الحكاية وانتهاء الخطاب، أما الثاني فهو محكي استرجاعي اعتمده السارد لدعم خطاب الحجاج ولتقوية تماسك وبناء المحكي الأول الأساس. إن المحكي التخيلي متعدد في ذاته، ويسير فيه الاسترسال مع الاسترجاع متوازيين ومتضافرين: توبة "عباس الدوائري" التي تغطي مساحة العمل الروائي، واستحضار بعض لحظات الماضي في العمل (الوظيفة) وأخرى من الطفولة بالحي الشعبي الفقير.      

2.     المحكي المسترسل والمتأمل (مونولوج داخلي): إن وظيفته السردية غالبا ما تكون زمنية فتسرع وتيرة المحكي، ولكنها في الوقت ذاته تقوم بحصر السرد في بؤرة واحدة وتعزله عن باقي المكونات أو أنها تقوم بتبئير السارد/ الشخصية، ويكون المحكي المسترسل حميما وشعريا، وهو ما تظهره الفقرتان الطويلتان من الفصل الأخير (23)، مناجاة وتضرعا، وأسلوب نداء، كالآتي:"ولدي عمرو، أيتها النقطة البيضاء، في سبورة الزمن الرديء، لشد ما ذكرني طموحك، أنت وزوجتك الطاهرة، بماض جميل، لما كانت بذرة الأمل تنمو في نفسي رويدا رويدا..." ص (199) 

3.     محكي الذات الساردة (الاعتراف والبوح والفضح): يختلف محكي الذات عن المتخيل الذاتي، كون الأول يقوم على الاعتراف من خلال توريط الذات الكاتبة في مسار أحداث الحكاية، وجعلها محورا رئيسيا في الكشف عن العيوب والاختلال السياسيَّيْنِ، وضرورة توريط الذات الكاتبة نابع من رغبة السارد في إقناع المتلقي الخارجي (القارئ) أو الداخلي (شخصية عمرو). وقد استعمل السارد في الرواية ضميرين للاعتراف الأول سائد في الكتابة السير ذاتية أو حتى في التخييل الذاتي (أنا)، والثاني ضمير المخاطَبِ، ومثال ذلك:"كان عليك أن لا ترفض!، اعتدت على قبول ما يملى عليك، وهضمت العسير والأشد عسرا، ثم تقول لماذا حملقوا فيك، وأنت نفسك يا عباس حامل الإجازة في الحقوق، المتفوق على دفعته، المتسول على أبواب الأصدقاء والأحباب..." ص (23) 

4.     محكي المرافعة (الدفاع والإقناع): يقدم الكاتب في هذا المحكي خبرته القانونية ويدافع عن الابن ضحية البدايات وفورة الجشع والشطط والاستعلاء لتبرئته مما نسب إليه من تُهَمٍ. يمتد هذا المحكي على الصفحات بين (190) و (194). ينهض محكي المرافعة على إعادة الحكاية، وتلخيصها في آن واحد، أي أنه يقوم بإعادة ما سبق روايته، كتكرار وكتأكيد على أساليب الدسيسة والخداع و"حفر لي نحفر ليك" كما يقول في الصفحة (115):" وهكذا تسير دفة الأمور في الدواليب، لا صدق ولا حقيقة، ولا شفافية، احْفِرْ لي، أحْفِرُ لَكَ." 

5.     محكي تربوي وتوجيهي (المرجعية الثقافية): يمثل هذا المحكي مخزون النص الثقافي، ومقروء الكاتب الذي يشكل رؤيته الخاصة للعالم وللذات وللعمل الروائي، كما أنه محكي قصدي ويبرر ضرورة خطاب الحجاج المهيمن في الرواية.

إن رواية "شمس الأصيل" التي لم نجد صلة واضحة بين عتبة العنوان ومضمون الرواية، سوى التأويل الخارج نصي، الشمس كحقيقة، والأصيل كصاحب الدم النقي غير الهجين، وهي كما يبدو إشارة إلى حقيقة شخصية "عباس الدوائري" الذي تلقى تربية سليمة من والديه لكن جور الزمن زج به في لجة حياة اللهو والشطط والاستبداد والفساد قبل أن يؤوب إلى رشده/ أصله فيتخلص من كل تلك الأدران، إن رواية "شمس الأصيل" واحدة من الرواية المغربية المهتمة بالواقع وما يمور فيه من صراع بين قوى التقدم والتغيير والتحديث وبين قوى التخلف والتراجع والتقليدية الرافضة لكل أمل في الرقي والحرية.

 

سلا- المغرب 17 ماي 2011م  

 

مشقاقة، رشيد: شمس الأصيل، رواية. دار عبير للطباعة والنشر والتوزيع. ط 1. 2010م. 

ناقد أدبي من المغرب