تجمع (الكلمة) في هذا الملف مجموعة من النصوص التي تضيئ جوانب مختلفة من حياة وإبداع سليمان فياض الذي رحل في نهاية شهر فبراير 2015، ووعدنا القراء بإعداد ملف عنه في عدد هذا الشهر. وهو ملف حرصنا على أن يجمع بين بعض كتابات سليمان فياض نفسه، وعدد من الشهادات والدراسات عنه.

ملف عن الراحل الكبير سليمان فياض

يمكن القول الآن إن سليمان فياض قد عمل منذ البدء على مشروع أدبي واسع  يتكون من ثلاثة محاور: أولا الكتابة الإبداعية في القصة القصيرة والرواية، وثانيا التأليف اللغوي والفكري، وثالثًا إعادة كتابة التاريخ العلمي للعلماء العرب القدامى للناشئين. وقد ساعده على تحقيق مشروعه امتلاكه لرؤية للواقع والتاريخ والوجود البشري نجد فيها عناصر الرؤية للعالم كاملة: المطلق، والطبيعة، والإنسان. ولعل دراسة الكاتب للغة والتراث في الأزهر الشريف، وتفاعله مع الواقع اليومي وهمومه، فضلا عن دأبه في الاطلاع على إنجازات الإبداع الإنساني في الآداب والفنون، لعل ذلك كله قد مكنه من  تحقيق هذا المشروع الكبير.

وقد كشفت قصصه القصيرة والطويلة على حد سواء عن انغماس عميق في الواقع اليومي المصري في القرى والمدن، في مصر وخارجها معًا، وعن قدرة هائلة على رصد ما يمور به هذا الواقع الكثيف من تناقضات، من خلال عين مدربة على التقاط ما هو دال وغني، وعبر أشكال فنية مكتملة، ولذلك يقول عنه الناقد الكبير محمود أمين العالم في كتابه أربعون عاما من النقد التطبيقي: "إن رؤيته تعبير عميق عن المعاناة التي يعانيها الإنسان في نضاله ضد الخوف والمهانة والفاقة، في نضاله من أجل السعادة والاستقرار من خلال الحدث المباشر الدال الذي يعبر تعبيرًا ينبض دائما بالانفعال الفاجع النابع من الحدث نفسه، ومن عشرات التفاصيل الصغيرة الذكية التي تسهم  في تغذية الحدث الرئيسي"

ذلك أن سليمان فياض يعتبر الواقع المادة الأولى للكتابة، لكن ذلك الواقع لا ضفاف له، فالكاتب الواقعي هو مَن يستطيع اقتناص جوهر هذا الواقع برغم تعقده وتشابكه وتأبّيه على الاختزال. إن الواقع المصري والعربي من العمق والامتداد التاريخي وتراكم الخبرات بحيث لا يمكن إخضاعه لرؤية بسيطة وأحادية، بل على الكاتب أن يخوض صراعًا مريرًا مع اللغة والحبكة وآليات السرد حتى يتسنى له إدراك هذا الواقع والتعبير عن تعقيده، لا لامتلاكه فقط، بل للكشف عن ما هو إنساني مرتبط بمعضلات الوجود من خلال الموت والحياة، والحب والكراهية، والعوز والشبع. وقد أشار النقاد إلى بعض هذه القضايا في قصصه القصيرة والطويلة، فغالي شكري في مقاله: الأسطورة والقصة القصيرة يشير إلى استخدامه للأسطورة استخدامًا فنيًّا رائعًا.  أما الناقد والروائي إدوار الخراط في مقاله: الرؤية الشاملة والصياغة المتكاملة فقد حدد علاقة الواقع بكتابته قائلا: "إن فياض لا يضرب في شطط اللاواقعية بل يظل محكومًا ومنضبطًا في سياق توازن كل العناصر وكل الأرصدة الفنية، ينصهر بتلك السمات ولا يفارقها أقنوم واحد مندمج فيها جميعًا. إحكام اللغة وصفاؤها وعراقتها تصبح في يدي الكاتب الصناع، معاصرة وقريبة، وسلسلة المذاق".

وهكذا يكشف أدب سليمان فياض عن فضاء شاسع يتكون من ريف مصر ومدنها بما في هذا الفضاء من قيم إنسانية تنتقل مع أبنائه حتى حين يغادرون هذا الفضاء إلى العالم الخارجي، وتظل هادية لخطواتهم في الحياة، وهم يصطرعون مع الواقع المرير، أو يحاولون تغييره ليصبح أكثر عدلا وحرية وإنسانية. وقد أشار الناقد الدكتور علي الراعي في كتابه: الرواية في الوطن العربي إلى جوهر هذا الواقع قائلا: "إن الرؤية النافذة تصفه وصفًا دقيقًا وهو في حالة جيشان وتحول. وبذلك يتمكن الكاتب من اكتشاف جوهره والتعبير عن تعقده وتشابكه. ومما حدا بالدكتور جابر عصفور في مقالاته الأربع بجريدة الحياة عن أصوات أن يصف هذه الكتابة بأنها اقترنت بالاقتحام الجسور لعالم القرية ومساءلة هذا العالم مساءلة جذرية."

وقد أثارت قصص سليمان فياض القصيرة بدءًا من مجموعته الأولى "عطشان يا صبايا" الصادرة في 1961 حتى مجموعته الأخيرة "الشرنقة" و" كتاب النميمة (2006) وروايته الأخيرة أيام مجاور 2009 أصداء واسعة في الحياة الأدبية في مصر والبلاد العربية، إذ رأى فيها النقاد تعبيرًا عن الحياة المصرية منذ بداية القرن العشرين، ورؤية متكاملة للمطلق والطبيعة والتاريخ والإنسان، وإنجازًا فنيًّا يكشف عن  نفسه في رهافة اللغة ودقتها، وفي تعدد أشكال السرد والحبكة، وفي طرافة الشخصيات وعمقها. 

أما رواياته مثل: القرين، وأصوات، والصورة والظل وغيرها، فقد تجلت فيها فضلا عن خصائص أدبه السابقة- قدرة على ابتكار الشكل الروائي الملائم للرؤية، وتطويع اللغة وتنويعها لتعبر عن تنوع الشخصيات وتنوع رؤاها للعالم، وقد قال علي الراعي عن رواية أصوات التي ترجمت إلى عدد كبير من اللغات، وخضعت لتناول نقدي واسع في اللغات التي ترجمت إليها إنها: "جوهرة صغيرة، شديدة الألق، فصيحة العرض نافذة الرؤية. أما جورج طرابيشي في مقاله: صورة الأخرى في الرواية العربية فقد رأى فيها:" نقلة نوعية، خرقت ثوابت المخطط الذي سارت عليه روايات العلاقة بين الغرب والشرق منذ أن أعطاها توفيق الحكيم قالبها الأولي وشبه النهائي في عصفور من الشرق".

وفي نصه الإبداعي الأخبر أيام مجاور قام فياض بتجسيد حياة مجاوري الأزهر المتحدرين من أصول ريفية فقيرة، في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، من خلال تطور وعي الصبي الذي نُذر لدراسة الدين. فرأينا قسوة حياة الطلاب وشظف عيشهم، وكيف يتفاعلون مع ما يحوطهم من أحداث، إن عيني الصبي الذي تصلنا الأحداث من حلاله قادرتان على التقاط أكثر التفاصيل رهافة وأكثر الأسرار خفاء، لكنهما مع ذلك تقدران على فهم الضعف البشري. وبرغم ولاء فياض لمفهوم يربط الأدب بالواقع إلا أن الواقع الحيّ مرئي من منظور قادر على كتابته شعريًّا من خلال استبعاد التفاصيل غير الدالة، والتركيز على ما هو دقيق وإدراجه في سياق ينزع عنه الألفة، ويفجر فيه الشعر. ولعل رواية أيام مجاور تمثل ذروة حياة طلاب الأزهر كما صاغها سليمان فياض في قصص قصيرة سابقة، منجَّمة في كثير من مجموعاته القصصية. وفي هذه الرواية تتكثف خبرات الكاتب جميعها، سواء في تنظيم إيقاع الأحداث، أو في اللغة المكثفة التي تتعدد مستوياتها وتتنوع، لتكشف كيف يتطور وعي البطل الذي يغادر دفء العائلة صبيًّا ساذجًا، ثم كيف ينغمس في حياة الطلاب ومجتمع معهده الديني، وكيف يتفاعل وزملاؤه مع الأحداث السياسية. وكما ذكر الناقد محمد بدوي في مقاله بجريدة أخبار الأدب:" إنها رواية ترصد كيف تمكن أزهري من مجاوزة الثقافة التقليدية إلى ثقافة مغايرة، تنتصر للعقلانية والحرية والعدالة."

أما العنصر الثاني في مشروع سليمان فياض فهو كتابة التاريخ العربي للناشئين من خلال صياغة سير أدبية تاريخية علمية في سلسلة بعنوان "عباقرة العرب" في أربع سير عن الخليل بن أحمد، والجاحظ، وابن طفيل، وابن المقفع. وفي سلسلة علماء العرب التي بلغت ثمانية وثلاثين كتابًا عن ثمانية وثلاثين عالمًا من علماء الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى. وقد كتب فيها عن أهم علماء هذه الحضارة، من أصحاب الإنجازات العلمية في العلوم التطبيقية، مثل: ابن النفيس، وابن الهيثم، والبيروني، وابن رشد. كما كتب سلسلة للناشئين عن خمس شخصيات عربية من أبطال العرب وقادتهم العسكريين، مثل: خالد ابن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص. لقد حول فياض حيوات هؤلاء الرجال العظام إلى سرد قصصي ممتع، في لغة دقيقة، سهلة، بحيث يستطيع قراؤها من الناشئين استعادة فضاء الحضارة العربية في أوج تألقها وعطائها وسماحتها.

ذلك أن سليمان فياض مهموم بقضية الهوية العربية الإسلامية، لكن من خلال التركيز على غناها وتنوعها الإنساني. ولعل هذا هو ما جعله يكتب عن: " أئمة الإسلام الأربعة" و "الوجه الآخر للخلافة الإسلامية" و"عمالقة العلوم التطبيقية وإنجازاتهم العلمية في الحضارة الإسلامية". ذلك أن فياض يتأمل الواقع المصري والعربي في حاضره وفي ماضيه أيضًا كسلسلة متصلة الحلقات. ومن خلال التركيز على العقلانية والإنجاز العلمي للعلماء العرب، يبرز الوجه النير في تراثنا الفاعل في واقعنا المعاصر.

ولعل ذلك ما دعاه إلى العمل على طرح مجموعة كبيرة من القضايا اللغوية التي يقدم من خلالها رؤيته للغة العربية، ومشكلاتها وكيفيات تيسيرها، بحيث تصبح العربية لغة العلم والكتابة والحياة اليومية المتغيرة، وتتحرر من ركام عصور التخلف، لتكون قادرة على الوفاء بحاجات أبنائها في الكلام والتعبير والكتابة. وفي الجهد العلمي الذي بذله فياض في مجال المعاجم ودراسة الحقول الدلالية وأزمنة الفعل العربي وغيرها، ما يكشف عن  حب عميق للغة العربية، ورؤية متطورة لمنطق اللغة الدلالي، وإحساس عميق بضرورة تطويرها وتيسيير تعلمها، والحفاظ عليها بوصفها إحدى المكونات الجوهرية لهويتنا القومية الثقافية.

مشروع سليمان فياض مشروع ثقافي أدبي واسع المدى تتعدد عناصره وتتداخل مكوناته. يتجلى صياغة قصصية وروائية للواقع المصري، وإعادة لكتابة أعظم ما في الحضارة العربية والإسلامية، ويتجلى في عمل دءوب في مجال اللغة وتاريخها ومعاجمها ومعضلاتها، ومشاركة في الحياة الثقافية والفكرية. وكل هذه العناصر متضافرة كونت رؤية للعالم تنحاز إلى العدل والإبداع والعقلانية، وتهجس بالمستقبل الذي لا سبيل أمامنا سوى العمل من أجله. ومرفق ثبت بسيره الذاتية.

 

ونرجو من القراء الذهاب لفهرس الملف لقراءة مواده المختلفة