يظل سليمان فياض رائداً? ?فذاً? ?من رواد? «?الواقعية الجديدة?».? فيم تمتاز كتابته عن? «?الواقعية?» ?التقليدية التي تمضي في دروب مطروقة ومألوفة؟ لعل هذا هو السؤال الفارق،? ?ولعل في تلمس الإجابة عنه،? ?ما ينير محوراً? ?رئيساً? ?في كتابة سليمان فياض خاصة،? ?وفي الكتابة الحديثة عامة?.?

الرؤية الشاملة والصياغة المتكاملة

إدوار الخـرّاط

يظل سليمان فياض رائداً فذاً من رواد «الواقعية الجديدة». فيم تمتاز كتابته عن «الواقعية» التقليدية التي تمضي في دروب مطروقة ومألوفة؟ لعل هذا هو السؤال الفارق، ولعل في تلمس الإجابة عنه، ما ينير محوراً رئيساً في كتابة سليمان فياض خاصة، وفي الكتابة الحديثة عامة.
أتصور أن سليمان فياض في حسه بشخوص القرية،
يسكنه جوهر له أخفي وأدق وأرهف من مجرد الحكاية أو الحكي أو التصوير أو حتي استشراف إمكانات كامنة، أو تقدير علاقات قائمة.
في قصص لا تنسي مثل
: «يهوذا والجزار والضحية»، «وبعدنا الطوفان»، «رغيف البتانوهي»، ومن خلف الشخصية المرسومة بدقة، وعطف حميم و(فكاهة خفية وفقاً له ما أندر أن تجدها في ركام الكتابات «الجادة» و«الجدية» وأزمة الوطأة) أجد قامة تُشفي علي الأسطورية، تشارف بُعداً لا زمنياً ولا تاريخياً مع الارتباط بل الالتصاق بالزمنية والتاريخية.
وفي قصصه التي تعالج أوضاع القهر،
أو الشطط الاجتماعي، حس عميق بإدانة أشكال القمع وإضاءة- ليست صارخة- لأصوات وآليات هذا القمع، أو الشطط، المهم في هذا هو صحوة النبرة، من غير أدني مغالاة «الامتلاء» (لا أريد أن أقول «الاحتشاد»، أو «الكثافة» أو بذخ التلوين والتكوين) بل الإشباع لكل عناصر المعرفة الفنية، إعطاء كل عنصر منها حقه الكامل دون تحيف منه، ودون سرف فيه، دون انتقاص أو تزيد. وسمات عمله الأخرى قوة الحضور، أو المضارعة، بالرغم من صيغة الفعل الماضي الذي لا يستخدم إلاها تقريباً. أعني بذلك قوة الابتعاث أو الإيحاء بالمزامنة، فنحن «مع» القصص لا ننظر إليها من بعد، ولا من بعدُ، ونحن «نضارع» ونعايش الأشخاص والمواقع والسياق الزمني نفسه، كما نضارع تدفق المشاعر والأفكار.
لا يصعب أن نتبين عند فياض إحكام الحبكة،
لا بالمعني التقليدي فحسب، بل أساساً علي مستوي البنية القصصية الشاملة التي أسلفت تصوري إياها، مستوي التوازن والحضور والامتلاء، وليس مجرد «حبكة الأحداث» بل هي حبكة التطور والتنامي القصصي بعناصره جميعاً، وهي حبكة أقرب إلي «الروائية» حتي في قصصه القصار، بمعني التلبث لا البطء، والإمعان، لا الخلف ولا الثقل، والمقدرة الملحوظة في تسيير وتوظيف مقومات العمل القصصي (الروائي في نفسه العميق) فليس عنده- مثلاً- توهج الخطفة اللامعة أو شدة قتامة لحظة ما، (وليس بالضروري- بداهة- أن تكون عنده)، وليس عنده في أغلب الأحوال تركيز يكبر حجم الأشياء تحت مجهر ساطع، ومن ثم فأظن أن ليس عنده «مزاج» صاحب القصة القصيرة (مع أنه كتب القصة القصيرة وحدها باستثناء «أصوات») فالقصة القصيرة في مفهوم غالب هي تلك الشريحة الدقيقة التي تتضخم بين يدي الفنان فتملأ حقل الرؤية وتحتل مركز عالم الحساسية ولا تمجيد ولا استعلاء مستخفي به (كما يحدث كثيراً في علاج الكثيرين للموضوعات ذاتها)، وهو في ذلك لا يحتاج لإثبات الجرأة، لأن الجرأة هنا مقوم أساسي لصدق الرؤية وأمانتها، قائمة ومسلم بها دون ضجيج.
أما مقدرته علي الصياغة والتشكيل صفاء لغته وجزالتها مع سلاسة وشدة،
فليست ولا يمكن أن تكون منفصلة عن قوة الرؤية ومتانة أسرها (أي حديث عن «اللغة» مفصومة عن «الخبرة» الفنية محض لغو).
وفي تصوري أن سليمان فياض
- أكثر من أي قصاص مصري مُجايل له- يتفوق خاصة في اعتماده ما يمكن أن أسميه: «البنية القصصية الشاملة» بمعني تشكيل العمل القصصي من الخارج ومن الداخل في توازن وتكافؤ دقيق، فنحن عنده نعرف «مسرح» الأحداث بالتفصيل، و«مظهر» الأشخاص وتاريخهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض، كما نعرف في الآن نفسه أفكارهم ومشاعرهم وأحلامهم وحتي نواياهم. ولكن فياض يوزع أدواته- قصاصاً- علي طول مجري قصته شيئاً فشيئاً، وفي تسلسل متدفق لا عقبات فيه، ليست عنده ولا من صنعته صدمة المفاجأة، ولا أروع انفتاح الكشف، داخلياً كان ذلك أو خارجياً، في مسارب النفس أو في مسالك السيرة، وإنما هناك عملية إضاءة مطردة، ثابتة (وهل أقول مطهرة؟) إضاءة إن جاز القول، ودون هز عنيف للمشاعر أيضاً إلا في نوع من التراكم الهادئ الذي يأتي- بقوة- في اكتمال «الخبرة» أو «المعاناة» أو «المشاركة» القصصية.
وعند فياض ميزة أخري
- في ظني- متفردة، يمكن أن أسميها ميزة كله (انظر في ذلك مثالاً مبرراً هو يوسف إدريس)، ولكن عنده إحاطة الروائي، بالفطرة، وتعدد بؤر الاهتمام الفني في أغلب الأحوال، وما يمكن أن نسميه، كما أسلفت، عدالة التوزيع، في العلاج والتناول، علي شتي العوامل التي تُجدل وتُضفر معاً، ببصيرة متأنية وعطوف، وفيها- كما قلت- لذعة الفكاهة أو السخرية الخفيفة جداً بين حين وآخر. تأتي لتهون من ثقل خاصية «الامتلاء».
سليمان فياض معني
- علي السواء- بالوصف، وبالحوار، بالنجوى الداخلية، وبتطور الأحداث الخارجية، بالتسلسل المنطقي الضروري وبشطحة الخيال، وبرصانة التدبير والتفكير وبأشواق النفس، وبمواضعات المجتمع وهواجس المسارة الداخلية، في غير إسراف علي جانب أو آخر.
هذا التوازن كله،
وسيادة الصنعة المحكمة، مع رقة الحساسية، تدعوني إلي أن أري الكاتب واقعياً جديداً، بل «كلاسيكياً جديداً». الواقعية التقليدية- في مظاهرها المتأخرة- فيها شيء من خشونة، أو علي الأقل ضربات يد إن لم نقل غليظة أو ثقيلة فهي عريضة أرضية، وهي أقرب إلي سطح الأشياء- والأشخاص إلي آخره- أو خارجها. والتوازن فيما يميل إلي أن ترجح كفته نحو الخارجي والاجتماعي والأرضي- مما لا غبار عليه في ذاته- أما عند- فياض فالتناغم قائم بين «الواقعية» و«الرومانتيكية» بأصفي مدلولات المصطلحين، وهو ما أجد أنه من سمات الكلاسيكية الجديدة، أو إن شئت «الواقعية الجديدة» مع الضغط علي الجدة في كلا التسميتين. (وليست للتسمية في ذاتها ضرورة قصوي، إنما هي عامل مساعد- في أحسن الأحوال- علي تلقي العمل الفني). يؤيد ذلك الحس الجانبي المرهف باللاواقعي أو الخرافي- أو الأسطوري أحياناً- محكوماً وموزوناً ومنضبطاً ومندمجاً تماماً في سياق متكامل مع كل العناصر الأخرى في العمل الفني.
في قصة مثل (العيون) مثلاً
نجد خرافة «العين» التي تصيب الناس والأشياء إصابة مصمية، وفي قصة مثل «التهمة» نجد القهر والجور يكاد يكون لا إنسانياً في ضراوته ولا يمكن تعويضه، وفي قصة «لا أحد» علي الأخص خواء القرية وفراغها كأنما نحن في حلم خارق. وفي أكثر من سياق نجد هذه اللمحات الدقيقة الشبيهة بالحلم تتجاوز مجرد حكي الحلم أو حكايته، تتجاوز مجرد وصف الحلم، أي تتخطي العلاج والتناول الواقعي السردي التقليدي المطروق، وتذهب إلي ذلك البُعد الذي سميته خرافياً مرة وأسطورياً مرات.
وأخيراً
أريد أن أسمي عند فياض خصيصة أخري، لعل اسمها «اليقظة» - وليس النشوة والثمل- ولعلها أيضاً من خصائص النفس الروائي، أعني بذلك اليقظة للدقائق الصغيرة الموحية وللحوافز الكبيرة المحركة للأمور، في آلام نفسه، أما الانسياق وراء الإغواء الفني فقد يكون من سمات صاحب القصة القصيرة العاكف علي كشف صغير له يملأ عينيه ويحتشد به العالم.
فياض لا يضرب في
«شطط اللاواقعية» بل يظل محكوماً ومنضبطاً في سياق توازن كل العناصر وكل الأرصدة الفنية. ينصهر بتلك السمات ولا يفارقها، أقنوم واحد مندمج فيها جميعاً، إحكام اللغة، وصفاؤها، وعراقتها التي تصبح في يدي الكاتب الصناع، معاصرة وقريبة وسلسة المذاق.